أ. د. عادل الأسطة - عزيزتـــي روز..

ربما، الآن، تحتفلين بعيد ميلادك الثاني والعشرين. ربما، ولا أدري إن كان هنا في فلسطين، وهناك في العراق وفي لبنان، كثيرون يحتفلون بمناسبات مثل هذه. أنا أعرف أن هناك من يحتفل بها في البلدان المذكورة، فحين أتابع بعض محطات التلفزة المحلية أقرأ إعلانات وتبريكات بمناسبة مثل هذه. وربما يحتفل بعضنا يوميا بعيد ميلاده، وليس هذا عجيبا، فالسبب يعود إلى أننا، مثل أهل العراق الآن، نولد يوميا. نحن كنا نكرر، منذ بداية انتفاضة الأقصى، المثل القائل: العائد مولود والخارج مفقود، لأن من عاد إلى بيته سالما فقد كتبت له الحياة، ومن خرج فالله وحده يعلم إن كان سيعود سالما أو جريحا أو قتيلا أو شهيدا.

وربما أنت، الآن، تعتبين عليّ، مثل عتبي أنا أيضاً عليك، فأنا منذ ثمانية عشر عاماً لم أحتفل بعيد ميلادك، لا حضوراً فعلياً، ولا حضوراً رمزيا: لم أزر عمان في شباط، ولم أهاتفك بهذه المناسبة، ولم أرسل لك باقة ورد، أو خاتماً ذهبيا، أو بطاقة معايدة، ولم أحول لك، بهذا التاريخ، مبلغاً من المال لتشتري به ما تريدين. كل ما أفعله أنني أحول لك مبالغ لأقساط دراستك الجامعية. وربما تسألين عن السبب! وقد تطلبين إجابة.
سأقول لك أنني ولدت لأسرة عادية، لم تكن احتفالات أعياد الميلاد من أجندتها، هذا إذا كانت أصلا تعرف تواريخ ميلاد أبنائها الكثر، وإذا ما كان لديها وقت لتفكر في هذا الترف، فإطعام أفواه كثيرة، تربو على الاثني عشر، كان الشغل الشاغل لرب الأسرة الفقير بن الفقير ابن الفقيرة.
وسأقول لك أيضا أنني أنا لم أكن لأكترث لهذه المناسبة. هكذا كنت أتركها تمر، كما لو أنها يوم عادي، مثل بقية أيام العام، لا فرق. ماذا يعني لي يوم ميلادي في عالم صحوت فيه على حياة لجوء وتشرد وحروب وهزائم. بيت من الصفيح يقيم فيه أهلي يتكون من غرفتين، غرفة لسبعة أشخاص أو لثمانية أو لتسعة، وغرفة لأبي وأمي. ومخيم كانت الحمامات فيه عامة، والمراحيض بعيدة عن غرف النوم، ومطعم يقدم لنا الحليب البائس، نجبر على شربه إجباراً، حتى كرهنا، منذ طفولتنا، شرب الحليب، ما دفعني، حين كبرت، وغدوت قاصا، أن أكتب قصة عنه عنوانها "درويش يتمرد"، ودرويش هو أخي رحمه الله، أخي الذي مات شاباً، في حادث سير محزن.

وسأخبرك أنني ما أن بلغت الثالثة عشرة من عمري حتى رأيت الدابابات الإسرائيلية في شوارع نابلس، لقد تفتح وعيي على أحداث السموع وهزيمة حزيران، ومنذ هزيمة حزيران وأنا أحن إلى انتصار. هل تركت عبارة الشاعر علي فودة، وهو شاعر استشهد في بيروت في العام 1982، هل تركت أثراً علي، وأخذت أكررها: بقلبي أريحا/ وكنا نحن، ولو مرة لانتصار؟ منذ العام 1967 وأنا أعيش الهزائم، القومية والوطنية والشخصية، وربما لهذا تأسرني العبارات الحزينة، وتترك أثرها عليّ، وأحفظها عن ظهر قلب. كنت، ذات نهار، أكرر أسطر ناظم حكمت الشاعر التركي: أجمل الأيام ما لم تأت بعد، أجمل الأطفال ما لم تولد بعد، وغدوت، لأعوام، أكرر عبارة منيف الروائي النجدي التي صدّر بها روايته "حين تركنا الجسر": "إلى عاصم خليفة وأحمد مدنية وحمزة برقاوي... ذكرى خيبات كثيرة مضت... وأخرى على الطريق ستأتي". وما لبثت أن كتبت ثلاثين قصة تحت عنوان "قصص الخيبة".

وربما أنت الآن، تعتبين عليّ: لماذا لا تزورني في شباط؟ لماذا لا تأتي إلى عمان، وهي مرمى العصا، والوصول إليها أقرب وأسهل من الوصول إلى غزة والقدس؟

سأقول لك لماذا؟ مؤخرا قرأت رواية إلياس خوري "كأنها نائمة" وتوقفت أمام الأسطر التالية: "قالت حسيبة أن المرأة لا تتزوج رجلا واحدا في حياتها. هذا كذب. سليم الذي تزوجته هو غير سليم الذي مرض بالأبو كعيب، وسليم المريض هو غير سليم الذي شفي وصار مهووسا بمشاكل.... الخ"، وحين قرأت قصتي "الأشياء تأتي متأخرة" وجدتني قد كتبت: "وهو الآن غير الذي كان. ثمة كهولة ما، وثمة شباب ولى، ثمة شعر أشيب يزداد تساقطه كل صباح، وثمة قلب ما عاد يخفق للأنثى، كما كان يخفق من قبل". هل قرأ إلياس خوري قصتي وقصصي ورواياتي؟ لا أدري، غير أن المنامات تكثر في نصه ونصوصي؟! ربما لهذا توقفت أمام ما كتب.

وسأوضح لك: كنت في كانون الثاني أفكر في زيارة عمان. هل تعرفين لماذا لم أفعل. الخوف من برد عمان، والضجر من الجلوس عشرين ساعة في غرفة في فندق. لو كان الموسم صيفا لتجولت في الشوارع، وجلست على الرصيف أمام الفندق. هل يصدق أحد أنني عشت في عمان ست سنوات وأخذت، الآن، أخاف من بردها الذي لا أظن أنه يشبه برد تلك الأيام.

عزيزتي روز: لا بد من أن أنهي الكتابة لأسباب فنية فقط. سأكتب لك في عيد ميلادك: كل عام وأنت بخير، وليس لدي ما أقول غير هذا، الآن على الأقل!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...