كانت الأصوات تتضارب في رأسه وهو يحاول السيطرة على يديه فوق الآلة الكاتبة وقد غشت عيناه سحابة سميكة فلم يعد يميز الأحرف.
عندما دخل هذه الحجرة منذ سنوات عديدة حدثه مدير المكتب بود مفرط عن مكانته وأهميته في العمل. ربت على كتفه قائلا: ستشعر وكأنك واحد منا.. سنعينك مديرا لقسم الطابعة.
حاول أن يكتم ابتسامته، إذ راقت له المجاملة وتخيل نفسه مديرا يأمر وينهي ثم ردد بصوت مختلج: أنا تحت أمركم .. أنا في خدمتكم.
واشرق وجه المدير بابتسامة وعيناه تلمعان كعيون القطط بينما ارتجف شارباه في ضحكة قصيرة.
كان هذا بداية مشواره الوظيفي، عندما جلس على الآلة الكاتبة للمرة الأولى وشعر كأن الأزرار تتحرك لوحدها وتطبع السطر الصحيح دون مشقة من جانبه و أدرك عندئذ أن الآلة تعرف عملها جيدا. في حينها علق المدير قائلا: إننا نعشق التطور ونحاول أن تكون التقنية امتدادا للإنسانية.
ثم أشار بيده إلى الستائر فانزاحت من النوافذ و بإشارة ثانية أسدلت من جديد. مكث مذهولا يراقب حركات المدير فبدا له أشبه ما يكون بساحر بلحيته الرفيعة البيضاء وشعره المهوش الأشيب وملابسه الداكنة، في تلك اللحظة لم يتمالك نفسه فهتف قائلا: أنت ساحر.
نظر إليه المدير شزرا ثم قال: أرجوك، لا تقلل من قيمة التطور. ثم غادر لوحده.
كان ذلك يوم العمل الأول، حيث لاحظ أن الجميع يعاملونه بمودة ويسارعون إلى تلبية رغباته ويكدسون أمامه الكعك وكؤوس العصير وهم يتحركون أمامه كدمى إلكترونية همها الوحيد هو خدمته.
نظر إليهم وقد تملكه الخجل لأنهم يرهقون أنفسهم بهذه الطريقة.. قال لهم: أرجوكم .. استريحوا قليلا.
ضحكت السكرتيرة، كان وجهها مكسوا بطبقة سميكة من الأصباغ. ردت قائلة: شعارنا هو تهيئة افضل الظروف للعمل.
ثم صفت أمامه كمية من الشطائر وأكواب العصير والحلوى وبضعة مجلات فنية فلبث ينظر إلى هذا كله مأخوذا وهو يردد كالببغاء: التطور، نعم، انه التطور.
كان يعمل بحماس منقطع النظير، واعتاد الموظفون مشاهدته عبر أروقة الدائرة ينوء بحمله الثقيل من الورق، بينما صار ضجيج آلته الكاتبة من المسلمات المعتادة ولم تفارق نغمتها حجرات المكاتب.
كل هذا وهو غارق في نشوة العمل دون أن يلاحظ انحسار التطور من غرفته تدريجيا، فالستائر كانت تتلكأ في انزياحها عن النوافذ سنة بعد أخرى حتى وجد نفسه ذات يوم مضطرا إلى أن يزيحها بنفسه ليحصل على خيط ضئيل من نور الشمس وقد بدا أحيانا وكأنه يتصارع مع الستارة ليحركها سنتمترات معدودة لا اكثر، بينما بدأت الآلة الكاتبة تصدر ضجيجا عاليا يصم الآذان وهي تكتب أشياء غريبة لم يأمر بها قط وتستخدم أزرارا لم تمتد إليها يداه، لكنه لم يتذمر قط و إن توالت عليه العقوبات القاسية لأن مطبوعاته كانت تتخللها أخطاء جسيمة من بينها عبارات بذيئة وشتائم وإحصاءات وأرقام بعيدة كل البعد عن الواقع.
ولم يشعر بتناقص الشطائر وأكواب العصير والحلويات على مكتبه، وفي فترة لاحقة كان عليه أن يكتفي بكسرة صغيرة من الخبز الجاف يبللها في قدح من الشاي الأسود ثم يمضغها باسما وهو يفكر بالتطور.
وبين الحين والحين يأتي مدير المكتب لزيارته فيوجه إليه الإنذارات والتوبيخات القاسية ثم يتهمه بأنه كسول وخامل وعاجز عن اللحاق بعجلة التطور، عندئذ يطأطأ رأسه وقد استولت عليه عقدة الذنب ثم يتمتم بصوت خفيض: أنا آسف.. آسف جدا.
ثم يحملون إلى مكتبه كمية أخرى من الأوراق أو يضطر هو إلى حملها على ظهره زاحفا نحو حجرته وتعليقات الموظفين الحانقة تداعب أذنيه:
_ يا الهي كم هو بطيء.
- انه كسول ولا يجيد التصرف.
- لا يجيد التعامل مع التقنية الحديثة.
ولكنه كان يشعر بالعرفان لأنهم يعتمدون عليه ويراكمون كل هذه الأوراق في مكتبه تلك الأوراق التي يعتمد عليها مصير المكتب بأسره ومستقبل الموظفين والدائرة. فينكب على عمله بحماس رغم أخطاء الآلة الطابعة وصرير الكرسي المرتعش من تحته وعتمة الغرفة التي آذت عينيه، كان يعمل بحماس كبير ليتمكن من اللحاق بعجلة التطور.
وبعد سنوات أخرى كتب على باب غرفته بالخط العريض" غير صالح للتطور" مما أحزنه كثيرا لأنه لم يلحق بزملائه في القسم الجديد من الدائرة وظل وحيدا في القسم القديم غارقا في أطنان الورق التي تنتظر الطباعة، فبالرغم من انتقال الآخرين إلى القسم الأكثر حداثة ظلت مسؤولياتهم قابعة على عاتقه حيث تحملها شاكرا باعتبارها كرم أصيل من جانبهم وفرصة جديدة للتطور.
وبسبب ظرفه الجديد لم يعد ير أحدا كان يصغي لحزم الأوراق السميكة يلقيها أحدهم على الأرض خارج غرفته فيبتسم لان الفرصة ما زالت سانحة ويعاود العمل بحماس اكبر واندفاع وهو يشعر بالأسف لان الأخطاء ذاتها ما زالت تقفز عنوة إلى أوراقه دون أن يفهم السبب، مما يدفعه إلى معاودة الطبع مرات متتالية حتى يتم له الوصول إلى صيغة معتدلة بعيدة كل البعد عن الكمال. وهكذا عندما وجد نفسه ذات يوم عاجزا عن العمل شعر بألم ممض في صدره لانه لم يتمكن من تحقيق ما يصبو إليه وسقط مشلولا على الأرض وهو يتوجع بسبب مفاصله المتصلبة.
وعندما مرت أيام لم يسمع خلالها أحد صوت آلته، ولجوا حجرته ليعثروا عليه راقدا على الأرض بلا حراك وقد تسمرت عيناه على ورقة في يده لم ينتهي من طباعتها بعد. أخيرا دخل المدير عابسا ونظر إلى الجسد المتخشب على الأرض فاصدر أوامره بتنظيف الغرفة حيث تراكمت حزم الورق خارجها و أحرقت مع النفايات بينما تم إلقاء الأثاث القديم و الآلة الكاتبة إلى خارج الدائرة لتباع بثمن بخس ومن بينها تمثال رخيص الثمن لرجل يحمل ورقة ممزقة بين يديه، حاولوا انتزاعها منه عنوة دون جدوى.
عندما دخل هذه الحجرة منذ سنوات عديدة حدثه مدير المكتب بود مفرط عن مكانته وأهميته في العمل. ربت على كتفه قائلا: ستشعر وكأنك واحد منا.. سنعينك مديرا لقسم الطابعة.
حاول أن يكتم ابتسامته، إذ راقت له المجاملة وتخيل نفسه مديرا يأمر وينهي ثم ردد بصوت مختلج: أنا تحت أمركم .. أنا في خدمتكم.
واشرق وجه المدير بابتسامة وعيناه تلمعان كعيون القطط بينما ارتجف شارباه في ضحكة قصيرة.
كان هذا بداية مشواره الوظيفي، عندما جلس على الآلة الكاتبة للمرة الأولى وشعر كأن الأزرار تتحرك لوحدها وتطبع السطر الصحيح دون مشقة من جانبه و أدرك عندئذ أن الآلة تعرف عملها جيدا. في حينها علق المدير قائلا: إننا نعشق التطور ونحاول أن تكون التقنية امتدادا للإنسانية.
ثم أشار بيده إلى الستائر فانزاحت من النوافذ و بإشارة ثانية أسدلت من جديد. مكث مذهولا يراقب حركات المدير فبدا له أشبه ما يكون بساحر بلحيته الرفيعة البيضاء وشعره المهوش الأشيب وملابسه الداكنة، في تلك اللحظة لم يتمالك نفسه فهتف قائلا: أنت ساحر.
نظر إليه المدير شزرا ثم قال: أرجوك، لا تقلل من قيمة التطور. ثم غادر لوحده.
كان ذلك يوم العمل الأول، حيث لاحظ أن الجميع يعاملونه بمودة ويسارعون إلى تلبية رغباته ويكدسون أمامه الكعك وكؤوس العصير وهم يتحركون أمامه كدمى إلكترونية همها الوحيد هو خدمته.
نظر إليهم وقد تملكه الخجل لأنهم يرهقون أنفسهم بهذه الطريقة.. قال لهم: أرجوكم .. استريحوا قليلا.
ضحكت السكرتيرة، كان وجهها مكسوا بطبقة سميكة من الأصباغ. ردت قائلة: شعارنا هو تهيئة افضل الظروف للعمل.
ثم صفت أمامه كمية من الشطائر وأكواب العصير والحلوى وبضعة مجلات فنية فلبث ينظر إلى هذا كله مأخوذا وهو يردد كالببغاء: التطور، نعم، انه التطور.
كان يعمل بحماس منقطع النظير، واعتاد الموظفون مشاهدته عبر أروقة الدائرة ينوء بحمله الثقيل من الورق، بينما صار ضجيج آلته الكاتبة من المسلمات المعتادة ولم تفارق نغمتها حجرات المكاتب.
كل هذا وهو غارق في نشوة العمل دون أن يلاحظ انحسار التطور من غرفته تدريجيا، فالستائر كانت تتلكأ في انزياحها عن النوافذ سنة بعد أخرى حتى وجد نفسه ذات يوم مضطرا إلى أن يزيحها بنفسه ليحصل على خيط ضئيل من نور الشمس وقد بدا أحيانا وكأنه يتصارع مع الستارة ليحركها سنتمترات معدودة لا اكثر، بينما بدأت الآلة الكاتبة تصدر ضجيجا عاليا يصم الآذان وهي تكتب أشياء غريبة لم يأمر بها قط وتستخدم أزرارا لم تمتد إليها يداه، لكنه لم يتذمر قط و إن توالت عليه العقوبات القاسية لأن مطبوعاته كانت تتخللها أخطاء جسيمة من بينها عبارات بذيئة وشتائم وإحصاءات وأرقام بعيدة كل البعد عن الواقع.
ولم يشعر بتناقص الشطائر وأكواب العصير والحلويات على مكتبه، وفي فترة لاحقة كان عليه أن يكتفي بكسرة صغيرة من الخبز الجاف يبللها في قدح من الشاي الأسود ثم يمضغها باسما وهو يفكر بالتطور.
وبين الحين والحين يأتي مدير المكتب لزيارته فيوجه إليه الإنذارات والتوبيخات القاسية ثم يتهمه بأنه كسول وخامل وعاجز عن اللحاق بعجلة التطور، عندئذ يطأطأ رأسه وقد استولت عليه عقدة الذنب ثم يتمتم بصوت خفيض: أنا آسف.. آسف جدا.
ثم يحملون إلى مكتبه كمية أخرى من الأوراق أو يضطر هو إلى حملها على ظهره زاحفا نحو حجرته وتعليقات الموظفين الحانقة تداعب أذنيه:
_ يا الهي كم هو بطيء.
- انه كسول ولا يجيد التصرف.
- لا يجيد التعامل مع التقنية الحديثة.
ولكنه كان يشعر بالعرفان لأنهم يعتمدون عليه ويراكمون كل هذه الأوراق في مكتبه تلك الأوراق التي يعتمد عليها مصير المكتب بأسره ومستقبل الموظفين والدائرة. فينكب على عمله بحماس رغم أخطاء الآلة الطابعة وصرير الكرسي المرتعش من تحته وعتمة الغرفة التي آذت عينيه، كان يعمل بحماس كبير ليتمكن من اللحاق بعجلة التطور.
وبعد سنوات أخرى كتب على باب غرفته بالخط العريض" غير صالح للتطور" مما أحزنه كثيرا لأنه لم يلحق بزملائه في القسم الجديد من الدائرة وظل وحيدا في القسم القديم غارقا في أطنان الورق التي تنتظر الطباعة، فبالرغم من انتقال الآخرين إلى القسم الأكثر حداثة ظلت مسؤولياتهم قابعة على عاتقه حيث تحملها شاكرا باعتبارها كرم أصيل من جانبهم وفرصة جديدة للتطور.
وبسبب ظرفه الجديد لم يعد ير أحدا كان يصغي لحزم الأوراق السميكة يلقيها أحدهم على الأرض خارج غرفته فيبتسم لان الفرصة ما زالت سانحة ويعاود العمل بحماس اكبر واندفاع وهو يشعر بالأسف لان الأخطاء ذاتها ما زالت تقفز عنوة إلى أوراقه دون أن يفهم السبب، مما يدفعه إلى معاودة الطبع مرات متتالية حتى يتم له الوصول إلى صيغة معتدلة بعيدة كل البعد عن الكمال. وهكذا عندما وجد نفسه ذات يوم عاجزا عن العمل شعر بألم ممض في صدره لانه لم يتمكن من تحقيق ما يصبو إليه وسقط مشلولا على الأرض وهو يتوجع بسبب مفاصله المتصلبة.
وعندما مرت أيام لم يسمع خلالها أحد صوت آلته، ولجوا حجرته ليعثروا عليه راقدا على الأرض بلا حراك وقد تسمرت عيناه على ورقة في يده لم ينتهي من طباعتها بعد. أخيرا دخل المدير عابسا ونظر إلى الجسد المتخشب على الأرض فاصدر أوامره بتنظيف الغرفة حيث تراكمت حزم الورق خارجها و أحرقت مع النفايات بينما تم إلقاء الأثاث القديم و الآلة الكاتبة إلى خارج الدائرة لتباع بثمن بخس ومن بينها تمثال رخيص الثمن لرجل يحمل ورقة ممزقة بين يديه، حاولوا انتزاعها منه عنوة دون جدوى.