محمد السلاموني - قصيدة النثر والبلاغة والمعنى :

البلاغة القديمة - و(علم البيان) على الأخص - انتهت الآن ...
من هنا كان لجوء الشعراء إلى قصيدة النثر ؛ التى تتمحور حول (المشهدية : التى تعنى إنبناء القصيدة ككل على المفارقة ، فى تجاوز للمفارقات الصغيرة والصور الجزئية الموزّعة على طول القصيدة ، والآثار التراكمية الناتجة عنها ، كما فى شعر التفعيلة) ...
لقد حاولت قصيدة النثر تكثيف المفارقة الشعرية ، الكلية ، كما فى القصة القصيرة ، متضمنة الإنفجار النهائى ، الذى يظل صداه يتردد فى نفس المتلقى ... ومن هنا كان لجوؤها إلى التوتر الدرامى (الصانع لإيقاعية القصيدة) ...
غير أن الأهم مما سبق ، هو أن البلاغة ترتبط بالواقع المحدد ؛ المتعين كلغة / وبتعبير آخر ، إذا كان الواقع مواضعة ثقافية ، فهو (الوضوح الذى نمسك به من خلال اللغة ، ذلك أن الأشياء تتوطن اللغة) ، وكى لا تستغرقنا التنظيرات اللغوية ، سأضرب مثلا : عندما نقول (زيد أسد) ، هذا القول (تشبيه بليغ) - والتشبيه هو الأساس الذى ينبنى عليه علم البيان ، ذلك أن الصور البلاغية تتحدد نوعيتها (إستعارة ، كناية ، مجاز ...إلخ) ، وفقا لإتكائها على أو لحذفها لأحد عناصر التشبيه ، وهى (المشبه ، المشبه به ، أداة الشبه ، وجه الشبه) ..
عندما نقول (زيد أسد)، فأحد لا يستطيع فهم تلك الجملة دون معرفة سابقة بالأسد (شكله ، صفاته ، دلالاته ...) ، هذه المعرفة هى (الواقع) الذى يشترك فى معرفته المتكلم والمستمع معا ، وكما نلاحظ ، فالمتكلم قام بتشبيه (زيد بالأسد) ليقول لنا : (زيد شجاع) ..
والآن ، ماذا لو أن (الأسد) الذى نشترك جميعا فى معرفته ومعرفة صفاته و(دلالته) الرمزية ، تعددت (دلالاته) ؛ وصار كل منا يحوذ لنفسه على دلالة تخصه دون غيره ؟ ..
لا شك أن قولنا (زيد أسد) ، سيفقد دلالته ولن يفيد شيئا ..
هكذا ، وبإمكاننا أن نمد هذا المثل على استقامته ليشمل جميع أنواع الصور البلاغية ..
فى عصرنا هذا ، وبعد سقوط أو تراجع الأيديولوجيات الكبرى) أو (تمزقها وتناثرها إلى أيديولوجيات جزئية، مما أدى لتعدد دلالات الواقع - كما نعيه لغويا - تم وضع (البلاغة التقليدية) فى موضع سؤال ، إذ لم تعد تنتج دلالة ما أو حتى تعدد دلالى ، بل أفق غير محدد من الدلالات ، يصعب حصره .
من هنا ، يقول كُتّاب ونقاد قصيدة النثر ، إن الشاعر (العرّاف) أو (النبى) ، صاحب الرؤية الكلية للعالم انتهى عهده ، ليحل محله (الإنسان العادى) صاحب المنظور الجزئى ( = وجهة النظر) ، فتعدد الواقع واستحالة احتوائه هو الذى عجّل بنهاية الشعراء الأنبياء .
هذا مع ملاحظة أن ميل قصيدة النثر إلى (السرد) ، صار يعنى العودة إلى (الواقعة) المتعينة ، فى إطار مشهدى / أعنى أن (الواقعة الجزئية) حلت محل (الواقع الكلى) ، كما أن الصياغة السردية للواقعة الجزئية تحولها إلى (حكاية شذرية ، ذات حبكة صغيرة ، مما يخلق سياقا خاصا منتجا للمعنى) - أعنى أن قصيدة النثر تنتج دلالتها بذاتها، من داخلها، وليس بالإستناد لمرجع خارجى، فهى مرجعية نفسها ...
أما الصور البلاغية الجزئية - حين ترد فى القصيدة النثرية - فتأتى عبر (المحاكاة التهكمية - بأفقها الواسع) ، مما يعنى أن قصيدة النثر تعيد توظيف ومن ثم تعريف الصور البلاغية ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...