من بين مرادفات كلمة سفر في اللغة العربية، يمكن أن نذكر: ارتحال، اغتراب، تجوال، طواف، مبارحة، ومغادرة... و سَفَرَ الصبح، أي أضاء وأشرق
والمسافر يغادر مسقط رأسه، أو موطنه الأصلي فتنكشف له حقيقة نفسه، ومقدار ضعفه وقوته. كما يتمكن من التعرف على خفايا عوالم كان يجهلها، ومن الاطلاع على ثقافات وحضارات وأديان وتقاليد شعوب وأمم كان يجهلها، أو أنه لم يكن يعرف عنها غير القليل. فالسفر إذن امتحان للنفس، وسعي لكشف عوالم مجهولة ومخفية ، وفتح آفاق معرفية غير مسبوقة...
وفي جميع الحضارات والثقافات في مختلف العصور، كان السفر دائما وأبدا& "ثروة ثقافية للإنسانية". فبفضله، تحاورت ثقافات وحضارات وأمم وبلدان. وبفضله تمّ اكتشاف ما يسمى ب"العالم الجديد" الذي هو القارة الأمريكية، والأصقاع المجهولة في الأرض، والأقوام الذين يعيشون في المغاور،& وفي الكهوف، وفي الصحاري القاسية، وفي الجزر المجهولة...
وكثير من الآثار العظيمة سواء في النثر، أم في الشعر، أم في الفلسفة، أم في التاريخ، أم في علم الاجتماع، أم في الأنثروبولوجيا، أم في غير ذلك، كانت ثمرة رحلات وأسفار في الزمان والمكان. وهذا ما تعكسه أعمال مثل "الأوديسه" لهوميروس، و"أشعار المنفى لأوفيد، و"الانياذة" لفرجيل و" المقدمة" لابن خلدون، و"مروج الذهب" للمسعودي، و"رسائل فارسية" لمونتسكيو، و"كانديد" لفولتير، و"أعمدة الحكمة السبعة" للورنس العرب، و"المدارات الحزينة" لكلود ليفي سترواس. وغيرها من الأعمال.
وهناك أيضا أعمال عظيمة تعكس سفر الأرواح إلى العالم الآخر مثل "رسالة الغفران للمعري"، و"الكوميديا الإلهية" لدانتي... كما أن هناك رحلات روحية وخيالية مثل تلك قام بها الرومنطيقيون الألمان إلى بلاد الشرق. وهذا ما يتجلى في أثر غوته "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي". وأما أعمال مثل "ألف ليلة وليلة"، و"حي بن يقظان" لابن طفيل، و"روبنسون كريزويه" لدانيال دفو، و"جزيرة الكنز" لروبرت ستيفنسون، و" رحلات كوليفر" لجونانثان سويفت، و" أليس في بلاد العجائب" للويس كارول فهي رحلات إلى عوالم غريبة وعجيبة من ابتكار الخيال، ومن وحي أحلام اليقظة والمنام.
وفي جميع اللغات والثقافات والحضارات، تغنى الشعراء بفضائل السفر، ومدحوا فوائده الروحية والثقافية. وكان أبو تمام يعتبر أن " الشعر في أعماقه سفر، وإبحار إلى الآتي، وكشف ليس ينتظر". وفي قصيدته" سفر وترحال"، يطلب أبو الطيب المتنبي الذي أمضى حياته مرتحلا في بلاد العرب، من صديقيه أن يتركاه "يمشي، ويسلك الفلاة من دون دليل يرشد". وهو يحب أن "يمشي في الهجير من غير لثام على وجهه". وقد "تتعب النوق"، أما هو فلا يتعب أبدا. وعن رحلة "عوليس" اليوناني التي استمرت عشرين عاما ظلت خلالها زوجته بينلوب تتحايل لصدّ عشاقها الذين كانوا يترددون عليها يوميا لطلب يدها، كتب بدر شاكر السياب يقول:
إذن ما عاد من سفر إلى أهليه عوليس
إذن فشراعه الخفاق يزرع فائر الأمواج
وفي عصور توسع العرب الحضاري الممتدة من القرن السابع، وحتى القرن الرابع عشر، ازدهر أدب الرحلة عند العرب، وبفضله تعرفوا على خصائص مختلف المناطق التي انتشر فيها الإسلام مغربا،& ومشرقا. وهناك رحلتان شهيرتان تجاوزتا هذه المناطق. الأولى هي الرحلة التي قام بها القاضي ابن فضلان عام&921، على رأس بعثة دينية سياسية كان قد كلفها الخليفة المقتدر بالله بنشر الإسلام في بلاد الصقالبة (روسيا اليوم). وبدقة فائقة، وأسلوب قصصي ممتع، تمكن ابن فضلان& من رصد خصائص وخفايا تلك الرحلة العسيرة في مناطق وعرة باردة ومكسوة بالثلوج. وأما الثانية فهي رحلة المغربي ابن بطوطة (1304-1377)، والتي جاب فيها مناطق وبلدانا كثيرة في بلاد العرب، وفي آسيا، وفي افريقيا. ولا تزال هذه الرحلة من أمتع وأروع الرحلات ليس فقط على المستوى العربي،&بل على المستوى العالمي. وفي رحلته، لم يكن ابن بطوطة سائحا سطحيا، ومجرد متفرج على ما كان يراه وهو يرتحل من بلد إلى بلاد أخرى، بل كان مؤرخا، وشاهد عيان، وجغرافيا، وعالما أنثروبولجيا، وعالم اجتماع يسجل بدقة خصائص البلدان والمناطق على جميع المستويات، وواصفا حياة أهلها، ومعرفا بتقاليدها، وبملوكها وأمرائها وعلمائها. لذلك يمكن اعتبار رحلة ابن بطوطة مثالا لأدب الرحلة في مفهومه، وفي جوهره العميق. وهي بحق "تحفة النظار في غرائب الأمصار" كما في تسميتها القديمة.
بعد رحلة ابن بطوطة، نضب أدب الرحلة في بلاد العرب. وقد يعود ذلك إلى انكفائهم على أنفسهم، وإلى انتفاء رغبتهم في الاكتشاف، وإلى عجزهم عن التوسع والتأثير سواء سياسيا أم اقتصاديا أم ثقافيا ليعيشوا قرونا مديدة من العزلة والصمت والضعف والهوان. وقد استغلت أوروبا الصاعدة حالتهم تلك لكي تبسط عليهم نفوذها وسلطتها. وكان علينا أن ننتظر نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين لكي تظهر أعمال في أدب الرحلة نخص بالذكر منها "تلخيص الابريز" للمصري رفاعة الطهطاوي، و"الساق على الساق" للبناني أحمد فارس الشدياق.& وفي كتابه البديع "ملوك العرب"، سجل اللبناني أمين الريحاني الذي كان رحّالة كبيرا، وقائع رحلته إلى المملكة العربية السعودية في زمن مؤسسها الملك عبد العزيز ليكون كتابه وثيقة تاريخية وسياسية وأنثروبولوجية هامة. ومن وحي زيارته إلى المغرب وبلاد الأندلس في العشرينات من القرن الماضي، ألف أمين الريحاني كتابا بديعا آخر حمل عنوان : "المغرب الأقصى-نور الأندلس".
وصحيح أن عوائق السفر كثيرة ومعقدة جدا بالنسبة للعرب في الزمن الراهن. ومثل هذه العوائق قد تحرمهم من السفر حتى داخل بلدانهم الأصلية.، أو إلى بلدان عربية مجاورة لهم. مع ذلك
يبدو لي أن احياء أدب الرحلة أمر ضروري وهام& في الزمن الراهن. وقد يعود ذلك إلى أن العرب يعيشون من جديد مظاهر التزمت والانغلاق والانكفاء على النفس. ومثل هذه المظاهر تجعلهم مشدودين دائما وأبدا إلى ماض ولى وانتهى، وتغرقهم في الأوهام المضللة بحيث يجدون أنفسهم في النهاية منقطعين عن الحاضر، ومنفصلين عن أحوال عالم اليوم، وجاهلين بالثقافات والحضارات الأخرى. وفي احياء أدب الرحلة ما يمكن أن يساهم في نشر قيم التسامح بين الأديان& والثقافات، ويفتح الأذهان على حقائق مجهولة أو مغيبة، ويفتح آفاقا معرفية تنسف الأوهام والمعتقدات الزائفة، وتحد من تأثير الأفكار المسبقة التي غالبا ما تكون لها أضرار جسيمة على مستويات مختلفة ومتعددة، نفسية، واجتماعية، وعقائدية، وسياسية وغيرها. بالإضافة إلى كل هذا، يمكن القول بإن إحياء أدب الرحلة هو إحياء لإشراقة حضارية وثقافية وإنسانية اختص بها العرب في عصور المجد والقوة والثقة بالنفس.
والمسافر يغادر مسقط رأسه، أو موطنه الأصلي فتنكشف له حقيقة نفسه، ومقدار ضعفه وقوته. كما يتمكن من التعرف على خفايا عوالم كان يجهلها، ومن الاطلاع على ثقافات وحضارات وأديان وتقاليد شعوب وأمم كان يجهلها، أو أنه لم يكن يعرف عنها غير القليل. فالسفر إذن امتحان للنفس، وسعي لكشف عوالم مجهولة ومخفية ، وفتح آفاق معرفية غير مسبوقة...
وفي جميع الحضارات والثقافات في مختلف العصور، كان السفر دائما وأبدا& "ثروة ثقافية للإنسانية". فبفضله، تحاورت ثقافات وحضارات وأمم وبلدان. وبفضله تمّ اكتشاف ما يسمى ب"العالم الجديد" الذي هو القارة الأمريكية، والأصقاع المجهولة في الأرض، والأقوام الذين يعيشون في المغاور،& وفي الكهوف، وفي الصحاري القاسية، وفي الجزر المجهولة...
وكثير من الآثار العظيمة سواء في النثر، أم في الشعر، أم في الفلسفة، أم في التاريخ، أم في علم الاجتماع، أم في الأنثروبولوجيا، أم في غير ذلك، كانت ثمرة رحلات وأسفار في الزمان والمكان. وهذا ما تعكسه أعمال مثل "الأوديسه" لهوميروس، و"أشعار المنفى لأوفيد، و"الانياذة" لفرجيل و" المقدمة" لابن خلدون، و"مروج الذهب" للمسعودي، و"رسائل فارسية" لمونتسكيو، و"كانديد" لفولتير، و"أعمدة الحكمة السبعة" للورنس العرب، و"المدارات الحزينة" لكلود ليفي سترواس. وغيرها من الأعمال.
وهناك أيضا أعمال عظيمة تعكس سفر الأرواح إلى العالم الآخر مثل "رسالة الغفران للمعري"، و"الكوميديا الإلهية" لدانتي... كما أن هناك رحلات روحية وخيالية مثل تلك قام بها الرومنطيقيون الألمان إلى بلاد الشرق. وهذا ما يتجلى في أثر غوته "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي". وأما أعمال مثل "ألف ليلة وليلة"، و"حي بن يقظان" لابن طفيل، و"روبنسون كريزويه" لدانيال دفو، و"جزيرة الكنز" لروبرت ستيفنسون، و" رحلات كوليفر" لجونانثان سويفت، و" أليس في بلاد العجائب" للويس كارول فهي رحلات إلى عوالم غريبة وعجيبة من ابتكار الخيال، ومن وحي أحلام اليقظة والمنام.
وفي جميع اللغات والثقافات والحضارات، تغنى الشعراء بفضائل السفر، ومدحوا فوائده الروحية والثقافية. وكان أبو تمام يعتبر أن " الشعر في أعماقه سفر، وإبحار إلى الآتي، وكشف ليس ينتظر". وفي قصيدته" سفر وترحال"، يطلب أبو الطيب المتنبي الذي أمضى حياته مرتحلا في بلاد العرب، من صديقيه أن يتركاه "يمشي، ويسلك الفلاة من دون دليل يرشد". وهو يحب أن "يمشي في الهجير من غير لثام على وجهه". وقد "تتعب النوق"، أما هو فلا يتعب أبدا. وعن رحلة "عوليس" اليوناني التي استمرت عشرين عاما ظلت خلالها زوجته بينلوب تتحايل لصدّ عشاقها الذين كانوا يترددون عليها يوميا لطلب يدها، كتب بدر شاكر السياب يقول:
إذن ما عاد من سفر إلى أهليه عوليس
إذن فشراعه الخفاق يزرع فائر الأمواج
وفي عصور توسع العرب الحضاري الممتدة من القرن السابع، وحتى القرن الرابع عشر، ازدهر أدب الرحلة عند العرب، وبفضله تعرفوا على خصائص مختلف المناطق التي انتشر فيها الإسلام مغربا،& ومشرقا. وهناك رحلتان شهيرتان تجاوزتا هذه المناطق. الأولى هي الرحلة التي قام بها القاضي ابن فضلان عام&921، على رأس بعثة دينية سياسية كان قد كلفها الخليفة المقتدر بالله بنشر الإسلام في بلاد الصقالبة (روسيا اليوم). وبدقة فائقة، وأسلوب قصصي ممتع، تمكن ابن فضلان& من رصد خصائص وخفايا تلك الرحلة العسيرة في مناطق وعرة باردة ومكسوة بالثلوج. وأما الثانية فهي رحلة المغربي ابن بطوطة (1304-1377)، والتي جاب فيها مناطق وبلدانا كثيرة في بلاد العرب، وفي آسيا، وفي افريقيا. ولا تزال هذه الرحلة من أمتع وأروع الرحلات ليس فقط على المستوى العربي،&بل على المستوى العالمي. وفي رحلته، لم يكن ابن بطوطة سائحا سطحيا، ومجرد متفرج على ما كان يراه وهو يرتحل من بلد إلى بلاد أخرى، بل كان مؤرخا، وشاهد عيان، وجغرافيا، وعالما أنثروبولجيا، وعالم اجتماع يسجل بدقة خصائص البلدان والمناطق على جميع المستويات، وواصفا حياة أهلها، ومعرفا بتقاليدها، وبملوكها وأمرائها وعلمائها. لذلك يمكن اعتبار رحلة ابن بطوطة مثالا لأدب الرحلة في مفهومه، وفي جوهره العميق. وهي بحق "تحفة النظار في غرائب الأمصار" كما في تسميتها القديمة.
بعد رحلة ابن بطوطة، نضب أدب الرحلة في بلاد العرب. وقد يعود ذلك إلى انكفائهم على أنفسهم، وإلى انتفاء رغبتهم في الاكتشاف، وإلى عجزهم عن التوسع والتأثير سواء سياسيا أم اقتصاديا أم ثقافيا ليعيشوا قرونا مديدة من العزلة والصمت والضعف والهوان. وقد استغلت أوروبا الصاعدة حالتهم تلك لكي تبسط عليهم نفوذها وسلطتها. وكان علينا أن ننتظر نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين لكي تظهر أعمال في أدب الرحلة نخص بالذكر منها "تلخيص الابريز" للمصري رفاعة الطهطاوي، و"الساق على الساق" للبناني أحمد فارس الشدياق.& وفي كتابه البديع "ملوك العرب"، سجل اللبناني أمين الريحاني الذي كان رحّالة كبيرا، وقائع رحلته إلى المملكة العربية السعودية في زمن مؤسسها الملك عبد العزيز ليكون كتابه وثيقة تاريخية وسياسية وأنثروبولوجية هامة. ومن وحي زيارته إلى المغرب وبلاد الأندلس في العشرينات من القرن الماضي، ألف أمين الريحاني كتابا بديعا آخر حمل عنوان : "المغرب الأقصى-نور الأندلس".
وصحيح أن عوائق السفر كثيرة ومعقدة جدا بالنسبة للعرب في الزمن الراهن. ومثل هذه العوائق قد تحرمهم من السفر حتى داخل بلدانهم الأصلية.، أو إلى بلدان عربية مجاورة لهم. مع ذلك
يبدو لي أن احياء أدب الرحلة أمر ضروري وهام& في الزمن الراهن. وقد يعود ذلك إلى أن العرب يعيشون من جديد مظاهر التزمت والانغلاق والانكفاء على النفس. ومثل هذه المظاهر تجعلهم مشدودين دائما وأبدا إلى ماض ولى وانتهى، وتغرقهم في الأوهام المضللة بحيث يجدون أنفسهم في النهاية منقطعين عن الحاضر، ومنفصلين عن أحوال عالم اليوم، وجاهلين بالثقافات والحضارات الأخرى. وفي احياء أدب الرحلة ما يمكن أن يساهم في نشر قيم التسامح بين الأديان& والثقافات، ويفتح الأذهان على حقائق مجهولة أو مغيبة، ويفتح آفاقا معرفية تنسف الأوهام والمعتقدات الزائفة، وتحد من تأثير الأفكار المسبقة التي غالبا ما تكون لها أضرار جسيمة على مستويات مختلفة ومتعددة، نفسية، واجتماعية، وعقائدية، وسياسية وغيرها. بالإضافة إلى كل هذا، يمكن القول بإن إحياء أدب الرحلة هو إحياء لإشراقة حضارية وثقافية وإنسانية اختص بها العرب في عصور المجد والقوة والثقة بالنفس.