أ. د. عادل الأسطة - حلم عابر

تحدق في المرآة .. ها هو وجهك يشبه مثلثاً قاعدته إلى أعلى .. تفتح باب الغرفة – القبر .. تنظر إلى السماء .. ربما تمطر .. يرتفع صوتك: "سحقاً لهذا النهار" تضيف "لقد مللت الموت .. متى أعود إلى نابلس؟" تستدرك. ولكنه الاحتلال" تمشي في الغرفة وتسأل نفسك: والاحتلال يمتد حتى هنا والفرق أنك هناك تتحدى وهنا تصمت، فالتحدي هنا مرفوض لأنك ساعتها ستكون .. هكذا في نظرهم.

تنحدر الآن إلى قاع المدينة .. تبحلق في الوجوه علك تجد شخصاً تعرفه .. تنزعج هذا النهار .. إن العالم كله من الجنس الخشن .. هذا هو نهار الجمعة .. ما أسوأه من يوم لنا .. لنا نحن الذين لا نملك سيارة أو حتى ديناراً ندفعه من أجل التنزه في رحلة .. الوقت سكين حاد. ولكن هل تشعر هذي الجموع كما تشعر .. أنها تسير على الرصيف .. تمتثل للأوامر. سر مثلها. ولكن إلى أين تصل؟ هذي المدينة سوف تبتلعك. لست مميزاً ولكن السير دون تساؤل خنجر أخر. ابدأ إذن بقطع الشارع ولا تكترث للشرطي هذا ولشارة المرور تلك .. لا تكن كتلميذ مهذب في نظرهم. هنا يظهر لك أن بنايات المدينة الضخمة ليست جميلة .. حين يكون للمدينة قاع يجب أن تعيد النظر في كل شيء. هنا قاع .. لماذا قالوا: قاع ولم يقولوا: صخر. لماذا لم يقولوا: منحدر .. ليختاروا الاسم الذي يشاؤون .. الناس هنا تسير على الرصيف .. هذا هو المهم .. ترى من المخطيء أنت أم هذه الجموع؟ هل يظنون أنهم كل المدينة حتى يسيروا بصمت؟ هذه الطائرة التي يزعجك صوتها. تقول لك أن المدينة ليست كلها هنا. ثمة آخرون يعيشون في السماء. أنهم الآن في الطائرة يتجهون صوب أميركا أو فرنسا أو .. الخ اللعنة على هذه الطائرة كم تزعجك. بل اللعنة على الأسرة الواحدة. الذين في الطائرة يشربون الويسكي وأنت تخرج دون إفطار. تريد أن تختصر الوجبات هذا اليوم ..

يا الله كم أنت ممزق! من أين تأتيك هذه الأفكار السوداوية؟ اللعنة عليك فما الذي جعلك تغادر نابلس؟ تلك المدينة تحب أطفالها .. ليس جميعهم .. ولكن معظمهم يرسمون للزمن القادم خريطة جديدة .. الآن تقول أن نابلس جميلة .. وحين تكون فيها تقول .. ليخرس لسانك .. لا تقل شيئاً عنها .. هنا الناس تسير على الرصيف .. ولكنهم هناك يحاولون الخروج دوماً.

ولكن ماذا لو خالف هؤلاء أوامر الشرطي وقطعوا الشارع دون الاكتراث لصفارته المزعجة.

سحقاً لك .. سيسمعك الشرطي. ليسمع. هذه فوضوية .. اذن لتسر على الرصيف أيها التلميذ المهذب .. لم ينضج الوقت .. متى ينضج؟ في الصيف ليس الوقت حبة تفاح .. أنه شريحة من اللحم إن لم تضعه على النار بنفسك يظل نيئاً. أيه هذه الأمة تعشق الصمت والانتظار.. إنها قطعة لحم تحتاج إلى من يضعها. على أنها تصرخ وامعتصماه .. تنتظر حتى يفرغ المعتصم من ممارسة الجنس مع الأمة الجديدة. أنها تحب الفقر أيضا .. تتذكر كيف كان عمر يأكل ولا تتذكر قول أبي ذر .. رحماك أبا ذر كأنك لم تقل شيئاً .. إنها ترى أن المال مفسدة. حتماً سيمتدح هؤلاء قاع المدينة .. سيفخرون بأنهم اشتروا المعطف والبنطال بسعر زهيد .. يا الهك سيتباهون دون أن يعلموا أن فضلات أميركا تستر عوراتهم .. لتذهب أميركا الى الجحيم .. سيحتج البعض فها هي أثواب أناسها تستر عورات الآخرين. الله يستر على الذي يستر .. ليستر الله إذن على أميركا .. إنها تستر عورات الآخرين.

إلى أين تتجه؟ هؤلاء لا يتجهون صوب مكان محدد. ألا ترى أن قسماً يرتاح وهو واقف يستمع إلى صوت البائع. بعض منهم يتجهون نحو الجامعة، هؤلاء تقتلك نظراتهم .. إنهم يعيقون الآخرين .. سر مع السائرين إلى رأس الشارع .. لكنهم يسيرون ببطء. إنهم يسيرون عليّ أن أسرع. لا. انك لا تستطيع إلا إذا خرجت عن الرصيف؟

ولكن كيف ستجابه الشرطي وحدك:

- بربع دينار.

- بثلاثين قرشاً.

- بخمسة وثلاثين قرشاً.

مبروك عليك.

سيارة الشرطة تلاحق الأطفال. هؤلاء الأطفال بشعون جداً، ليسوا جميلين أبداً. سينزعج منك البعض.

- الأطفال جميلون دائماً.

- لا يا صديقي. انهم في بلادنا بشعون. ليس جميعهم هكذا، ولكن غالبيتهم. انهم بريئون أما أنهم جميلون فلا. هل يجتمع الجمال والبؤس. أعني هل يؤدي البؤس الى الجمال. هل يكون جميلاً من يلبس فضلات الأمم الأخرى.

تسير .. هذا الطريق طويل .. الناس الذين يأتون إلى هنا أقزام والا ما معنى وجود المنارة وسوق الجمعة .. عرفت أن سوق الخميس مخصص لبيع الدواب، فهل أوجدوا سوق الجمعة ليقولوا إنكم امتداد للدواب. سحقاً سحقاً ذات مرة عندما كنت طفلا كانت وكالة غوث اللاجئين توزع عليك وعلى الطلاب ملابس لها رائحة غريبة كنت تعتز بها. لم تكن تدري أنها فضلات الأمم التي أذلتك .. وها هي العادة ذاتها، وان اختلف مكان التوزيع. هناك كنت تقف حتى يأتي دورك والناس هنا يقفون أمام السيارة أمام الفرن .. و .. في سوق الجمعة.

هذه مدينة غريبة .. هؤلاء عبيد شاؤوا أم أبوا ..الشرفاء الآن يقبعون خلف الجدران .. إيه أي قرن هذا الذي تعيش فيه .. انه حتماً القرن العشرون .. ولكنه قبل الميلاد ..

- متشائم أنت.

- إنني أترك لك نصيبي من التفاؤل.

- حقاً ماذا لنا في هذي المدينة.

- سوق الجمعة والبنايات الصفراء التي خلفها الانتداب.

هؤلاء يسيرون بسرعة يريدون أن يؤدوا فريضة الصلاة .. ترى هل يصلون لرب السموات أم لرب الأرض .. ليس رب السموات رب الأرض .. على الأرض رب كل شيء باسمه. حتى معارض .. لا تكمل سوف تبتلعك البنايات الصفراء .. ذات مرة رحب صاحب المعرض بـ .. ترى أين هو صاحب المعرض الآن. يقال أنه تلاشى .. الناس هنا قسم منها يتلاشى.

ها أنك الآن تجد شارعاً يتفرع من شارع القاع .. تخطو خطوات .. تبحلق في القادمين.

- لعله هو.

تقترب منهم ..

- انه هو.

لا تصدق.. ترى ما الذي أتى به إلى.. ترحب به ثم تسأله:

- ما الذي أتى بك الى هنا؟

- لا تسأل يا صديقي .. الضيق. معايير القبول الاجتماعية. على أية حال سأعود، حالما أجمع بعض النقود سأعود .. لن أمكث هنا طويلاً، هنا الحياة صعبة.

تسير معهم .. تطاردك الأسئلة .. هل تتحدث ... كثيرون ابتعدوا عنك .. يقولون انك وربما .. تبتلعكم شوارع المدينة.

- أين وجهتنا؟

- نذهب الى المقهى.

هذه المقاهي الرديئة كم تضم شباباً كالورد. ولكن أين يذهبون. لا بيت جيد. ولا رحلات .. انهم لا يملكون ثمن طعامهم فكيف يدفعون أجرة رحلة .. معظمهم من مدن الوطن المحتل. يأتون إلى هنا متفائلين .. وحال وصولهم يلعنون اللحظة التي خرجوا فيها.

- نذهب الى البار.

- أنا لا أشرب.

- بل يجب ان تشرب ودعه يحاسب.

- أحاسب.

- اذن لماذا تغادر بلدك؟ ألم تقل انك تريد توفير النقود.

- انها مرة في الأسبوع.

لست تدري ماذا تقول. ألف سؤال وألف إجابة .. حين يسألك الآخرون السؤال تخجل، ولكنك حين تسألهم يكونون أكثر جرأة .. سوف يقولون لك لا تُنظّر. لا تقل شيئاً تمارس نقيضه.

تصعد السيارة وأياهم .. هذا المكان يختلف كلياً عن الأماكن التي مررت بها صباحاً .. هناك قاع المدينة وهنا .. هنا هـ ..

تنظر اليه. تتذكر الأيام التي قضيتها وإياه في نابلس .. يلمح في عينك ألف سؤال. لا يصمت.

- هذه هي الدنيا .. اللعنة على هذا الزمن.

- هل أنت مرتاح؟

- انني مستاء استياء لا حد له. ولكن.

لا يكمل حديثه فالنادل جاء..

- ماذا تريدون؟

- أربع علب بيرة.

- بل ثلاث وانا أريد شايا.

- كما أنت.

- كما أنا.

تتحدثون عن الوطن البعيد القريب.

أحدكم يستمع فقط ولا يدلي بدلوه. الثالث يبرر مجيئه قائلاً أنه لم يجد عملاً. كذب العمل موجود ولكن الغنى غير موجود. وهؤلاء معظمهم يريدون أن يصبحوا أثرياء .. ترى هل سيحدث هذا معك؟

النادل المصري لا يأتي بالتصليحة إلا ليأخذ البخشيش. إنهم مثلك تركوا مصر وأتوا ليعيشوا هنا .. يتحملون الذل ويصمتون ..الذين يملكون شعوراً بالكرامة يعودون إلى مصر ليبدأوا حياتهم يا أبا النحس لماذا اتيت بسعيد" (1)

ها انك تراهم شباباً كالورد يعاملهم أبناء لغتهم كما يعامل الفرنسي العامل الجزائري .. هناك يحتقرون العرب .. وهنا المصري لا احترام له. لقد نجحوا في الأقلمة إلى ابعد الحدود .. ذات نهار تعارك اثنان بسبب الصعود إلى الحافلة، اشتركت فتاة في العراك، تعالت الأصوات .. يقال إنهم طلبة جامعة.

- انها مصرية

- لو كانت .. لما قاتلت.

أي زمن هذا؟

- أين وصلت؟

- انني معكم.

- نغادر.

النادل المصري أصبح كمقرور يرتجف. لم ينل البخشيش لعله شتم ..

- كم دفعت.

- بسيطة

- بسيطة تعب نهار وتوفير عمل نهارين.

- من أجل عيونكم؟

- إذن لماذا أتيت إلى هنا؟

- من اجل أن احتفل بكم؟

- والنادل.

- لم أعطه شيئاً.

- لعله شتمك. الذي يدفع الدنانير يدفع القروش.

تلتزم الصمت .. تفكر .. يأتون إلى هنا ليوفروا ويعودوا.

ولكن المدينة تصبح جزءاً منهم .. ترى هل يعودون، الأخوان يتصايحان كالديكة .. ثمة كلمات تسمعها من أفواه هؤلاء: برجوازي صغير .. بروليتاريا رثة. البخشيش .. طرق النضال الصحيحة . شرب البيرة من طرق النضال ..إنني اعشق البيرة .. اعشقها. تسيرون صوب قاع المدينة .. الغيوم تتلبد في السماء .. يسود الصمت .. تتناثر الغيوم .. تدندن. انت متعب .. هل تمطر؟ ليس الآن .. البيرة لا تساعد على المطر..

تودعهم ..تسير أنت الآن في قاع المدينة

- نصف دينار

- نصف دينار وشلن.

- مبروك

سيارة الشرطي تلاحق الأطفال من جديد .. يهرب قسم منهم ويختفي آخرون .. تشعر بغثيان. تنظر .. ثمة أطفال يحاولون قطع الشارع .. يرددون بصوت واحد:

- نريد أن نبيع .. نريد ثمن خبز نأكله.

هل أنت تردد معهم؟ ينظر الآخرون. تتذكر مدينتك .. يتساقط المطر خفيفاً .. يتجمع الشرطة .. حين يثبتون .. حين تتساقط الأمطار بغزارة .. تسير ..تقترب منك نابلس الجميلة.

(مجلة الكاتب صيف 1981)

إشارة إلى رواية إميل حبيبي "الوقائع الغربية"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...