محمد الدويمي - موت دون مقدمات..

انتشر ذات صباح في عموم قرية حاسي بلال خبر انهيار أحد آبار الفحم..
ملأت رائحة الموت البغيض كل طريق.. كل بيت.. كل دكان.. كل ساحة...
سارع الناس إلى بوابة المنجم الرئيسية أفرادا وجماعات لتقصي الأخبار الصاعدة من عمق الأرض..
رجال.. نساء.. أطفال.. شيوخ.. تصحبهم أحزانهم ومآسيهم المتراكمة وجراحهم الدفينة..
ترافقهم أيضا أسوأ السيناريوهات الصادمة المحتملة...
هذ ا هو شأن أهالي العمال عندما يصلهم خبر انهيار الغار على بعض العمال...
كل أسرة تهرول حزينة نحو بئر الفحم كي تستقبل خبر الموت الفاجعة..
أخذت الزوجة صغيريها وسارعت بهما إلى مصدر رائحة الموت ولحنها الجنائزي...
عندما توسطت الشمس كبد السماء، كانت الساحة المحيطة بالبئر الرئيسية تغص عن آخرها بذوي العمال.. لقد قدموا من كل الدواوير والأحياء.. كانت الأخبار التي تصعد من الباطن شحيحة مما كان يزيد من عمق معاناتهم واضطرابهم..
كانت أشعة شمس منتصف نهار ذلك النهار الحزين، تدنو رويدا من هذه الوجوه القلقة..
تلامسها بلطف وحنان كأنها تعزيها في مصابها..
ربما كانت تهمس:
- الموت في المنجم حدث روتيني يجب أن يألفه الناس...
ظهر السّْكيبْ قادما من باطن الأرض..
اشرأبت الأعناق نحوه.. كان يحمل أحد العمال الناجين من مكان الانهيار.. أدرك أنهم يتلهفون لمعرفة ما يجري في باطن الأرض.. رد بتعب:
ـ لا يزال البحث مستمرا عن أحد الباقين..
هذا كل ما استطاع أن يدلي به قبل أن تنقله سيارة الإسعاف بسرعة إلى مستوصف الشركة..
كان يتألم كثيرا.. يبدو أنه يعاني كسرا في يده اليمنى ورضوضا في رأسه..
صمت رهيب غشّى المكان من جديد..
رفرف الانتظار المقيت بأجنحته فوق رؤوس الحضور فبدوا كأن على رؤوسهم يجثم الطير.. تلوكهم التكهنات والهواجس والمخاوف..
فجأة صاح مراقب "السّْكيبْ":
ـ لقد تم استخراج العامل من بين الأنقاض.. لكنه كان قد فارق الحياة..
تبادل الحضور نظراتهم في حزن..
أضاف:
ـ بعد دقائق سيصل إلى السطح..
تدافعوا نحو البوابة.. أحاطوا بها من كل جانب..
أطل السّْكيبْ مخترقا ظلام "السّانْدْرِيَّة" وغبارها الكثيف..
أقبل يحمل الموت ورائحة الموت وجميع تداعيات الموت ومخلفاته...
تمكن أحد الحضور من اختلاس نظرة في وجه هذا المسجى دون حراك فوق النعش الذي صنعه العمال بأنفسهم..
اقترب من الزوجة أحد معارفها..
سبقت الدموع كلماته..
نظر إلى وجوه الصغار المتمسكين بأطراف أمهم.
بالكاد استطاع تحرير عبارة:
- عظّم الله أجرك...
توالت عبارات العزاء من الوافدين المحيطين بالبئر..
ـ إنا لله وإنا إليه راجعون...
- قضاء الله وقدره...
- كل نفس ذائقة الموت...
طوفان من كلمات حزينة دامعة مواسية...
احتضنت الأم صغارها بقوة.. صدى الصدمة كان قويا.. لم تصدق الخبر.. ليس هو.. إن ملامح العمال تتشابه حين يغطيها غبار الفحم بالكامل..
انتشرت رائحة الخبز المحترق في المكان..
فجأة اندفعت ابنتها بقوة صوب السّْكيبْ حيث يتمدد أباها وهي تصيح:
- أبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
شقت صرختها المدوية وجه الظهيرة القائظة.
نقل الجثمان إلى سيارة نقل الموتى..
غادرت المكان ببطء يتبعها المشيعون بنظراتهم الحزينة الباكية..
بدأ الحاضرون يغادرون بوابة النفق..
ألقت الأم نظرة عميقة نحو العدم..
نحو المجهول..
نحو المستقبل الغبش..
لا تزال لم تصدق أنه مات..
لوكان لها خيار لبقيت هنا في هذا المكان تنتظر صعود شريك حياتها من باطن المنجم..
مع تحيات محمد الدويمي..
من رواية "جرادة.. بقايا أيام متمردة..." مع بعض الإضافات.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...