كان تعنته غريباً وغصراره لا مبر له اللهم إلا استخدم سلطة محدودة وعاجزة. لم يقبلالاستجداء ولم ينفع معه اللين ومعسول القول فقط قالها ولم يتزحزح عنها قيد أنملة :
– لابد أن يأتى بنفسه ياسيد وأرجوك ( متعطلنيش ورانا ناس غيرك ) .
ولم يكن هناك بد سوى الخضوع وتنفيذ ما قاله ذلك الرجل .
كان جدى محبا للحياة إلى أقصى حد فقد كان حريصاً على الأستيقاظ مبكراً، وغيقاظ كل من فى المنزل كان له طقسه الخاص الذى أعرفه عنه منذ أبصرت عينى الدنيا ، فبعد تناوله لإفطاره يرتدى ملابس الخروج رغم أنه يعرف جيداً أنه ليس ثمة مكان يذهب إليه سوى تلك المصطبة الكائنة أمام منزلنا منذ سنوات بعيدة والتى كان حريصاً على ترميمها كلما نال منها الزمن. كان يفرح بجلسته تلك وكان يسعد عندما يبدؤه الناس فى إلقاء السلام عليه وتحيته . كان يرد عليهم بصوت مملوء بالحب ومعجون بحكمة السبعين عاما التى يحملها على كاهلة وبالرغم من أن الرجل لا يبصرهم منذ اطفئت تلك المياه الععينة التى يحملها فى مقليته نور الحياة ،إلا أنه كان خبيراً فى تييز الأصوات، بل إنه يستطيع أن يعرفحالتك المزاجية بمجرد سماعة للكلمة الأولى منك .
كان جدى يصغى إلى باهتمام لم أعهده فيه منقبل ، وتهلل وجه وانشرح فؤاده لدرجة أنستنى مالقيته فى يومى من أجله بسبب تلك النقود القليلة التى تمنحها له الدولة كمعاش للطاعنين فى السن ومع أنى أعدت عليه ما قال له الموظف ازدادت سعادته عندما علم أنه سيخرج من أول أيام الشهر لتذهب سويا إلى المدينة التى لا تبعد عن قريتنا سوى بضعة دقائق بالسيارة . وعلى الرغم من حنقى على قرار موظف التأمينات والمعاشات الظالم الذى لم يقتنع أبداً عندما أخبرته أن جدى رجل كفيف، وكبير فى السن، ولا يقوى على الإتيان بنفسه إلا أنى كنت سعيداً لسعادة جدى التى لم أكن فى حينهاأعرف مصدرها ، المهم أنه سعيد وهذا يكفينى .
كان يوم الخروج الذى توافق مع ثانى أيام الشهر يوم سبت . حيث كان أول أيام ذلك الشهر يوم الجمعة مما ضايق جدى كثيراً وقالهاوقد قتل على وجهه إبتسامة قبل أن تولك .
– لسه هستنى يوم تانى :
استيقظ مبكراً كعادته ، وحملنى حملاً على الاستيقاظ ارتدى جلبابه الصوف الذى لا يرتديه إلا فى المناسبات الجليلة ، ا, الأحداث الهامة، عدل من وضع عباءته الصوف على كتفيه مع أن الجو كان غير بارد حيث لم يحل الشتاء بعد على الرغم من تجاوزنا لشهر ديسمبر منذ أيام .
انفرجت أساريره عندماسمع نفير السيارة التى كنت قد استأجرتها خصيصاً لهذا المشوار خوفاً على الرجل العجوز من زحام المواصلات العادية .
كان جمعة سائق السيارة سعيداً بجدى الذى لم يعره انتباهاً ، إذ أنه منذ أن وضع قدميه فى السيارة أخذ فى مراقبة الطريق بإمعان شديد وكأنه عاد إليه بصره، كانت تعبيرات وجهه توحى بأنه فى دنيا غيرالدنيا .
كانت السيارة تقطع تلك الدقائق المعدودة التى تفصلنا عن المدينة ببطء شديد بناء على رغبة جدى فقد كان يريد استيعاب كل شئ كان حدثا عظيماً بالنسبة له ، فهو على حد علمى لم يغادر منزلنا منذ سنوات طويلة حيث تأتيه بناته لزيارته ويأتيه الطبيب وقت الحاجة إليه. ولم يطلب منا يوما أو يعلن عن رغبته فى الخروج أبداً . كان جدى صامتا علىغير عادته. كان يحاول أن يتبين الأشياء من حوله قدر المستطاع.لم يكترث بالمبلغ الذى نفحه إياه موظف التأمينات والمعاشات ،ولم يحفل بكلام الموظف الذى تأسف عندما رأى الرجل متهالكاً لايقوى على الوقوف ولا يرى أمام خطوة واحدة ،ولم يأبه به عندماقال: اعذرنا ياعم الحاج أنت معفى من القدوم فى المرات القادمة يستطيع حفيدك أن ينوب عنك
كان جدى فى واد ونحن جميعاً فى واد آخر . لذا لم أندهش عندما طلب من جمعة السائق ونحن فى مشوار العودة أن يتوقف فى منتصف الطريق وبالتحديد أمام هويس الرى الكبير . استندنى جدى وضع قدميه الواهنتين على رأس جسم الهويس خفت عليه من الانزلاق فالنهر هنا جبار قوى كم من مرة نسمع عن غرقى فى ذلك المكان .
قـال جـدى :
– من هنا يتفرع النهر إلى ثلاثة مجار مائية اصغر حجماً ،كل مجرى يروى عشر قرى كاملة وفى كل قرية كان لى فيهاأيام عظيمة. وفى هذا المكان كان يوجد سوق القطن الكبير حيث يأتى أبناء هذه القرى الكثيرة لبيع ماجادت به عليهم الأرض . كنت ترى سمايرة أرمن وأجريج وأولاد بلد ويهود كان عالما ثريا وكانت أياما حافلة فىهذه البقعة بالتحديد اجتمع بنا طلعت باشا حرب نحن معشر تجار القطن الكبار لينبهنا من خطر اليهود على تجارتنا.
ثم انحدرت دمعة صغيرة مخترقة تجاعيد الأيام وفعال الزمن على وجه الرجل الوضاء الجبين . كانت عيناه صافيتين صفاء ذلك النهر تحت أقدامنا كان يشع منهما غشراق ولمعان لم أرهما فيهما من قبل .لم يبال بكلام السائق الذى يحب أن نذهب حتى يكمل عمله ومع إصرار جدى على البقاء أمرت جمعه بالصمت وسأعطيه مايريد . كان جدى كمن يودع الدنيا فى هذا المكان الذى شهد مجده الغابر، تمشى قليلا فى المكان الذى تحول إلى جرن يلعب فيه الأولاد الكره . قال:
– كان هنا رجال لن ينجب الزمان مثلهم من هنا خرجت المظاهرات يوم نفى سعد باشا ومنهنا كنا نهتف للثورة ورجالها وهنا مات رفيق عمرى بين يدى عندما قتل لثأر قديم . ثم تمتم ببعض أيات القران وقال :
– ياولدى إنها لاتدوم لأحد .
منذ ذلك اليوم لم يعد جدى كما كان فلم يعد يخرج للجلوس أمام المنزل كما يحب ولم يعد يتحدث إلا نادرآ , ولم يعد يقبل على طعام إلا بعد إلحاح ومعناة , حتى بعد أن تجمعنا جميعا حوله . أبناؤه الثلاثة وأحفادهم وبناته وأزواجهم كل منا يحال معرفة ماذا جرى له . أحضرنا له الطبيب ولكنه لم يفدنا كثيرآ . أعتقدت أنى وجدت الحل عندكا عرضت عليه أن أحضر جمهة السائق ونذهب إلى حيث يريد . لم يهتم بكل ذلك ولم يتبدل حاله ومن يومها لم نعد نسمع منه سوى سبوح قدوس يغير ولا يتغير .
* مجلة الجسرة
– لابد أن يأتى بنفسه ياسيد وأرجوك ( متعطلنيش ورانا ناس غيرك ) .
ولم يكن هناك بد سوى الخضوع وتنفيذ ما قاله ذلك الرجل .
كان جدى محبا للحياة إلى أقصى حد فقد كان حريصاً على الأستيقاظ مبكراً، وغيقاظ كل من فى المنزل كان له طقسه الخاص الذى أعرفه عنه منذ أبصرت عينى الدنيا ، فبعد تناوله لإفطاره يرتدى ملابس الخروج رغم أنه يعرف جيداً أنه ليس ثمة مكان يذهب إليه سوى تلك المصطبة الكائنة أمام منزلنا منذ سنوات بعيدة والتى كان حريصاً على ترميمها كلما نال منها الزمن. كان يفرح بجلسته تلك وكان يسعد عندما يبدؤه الناس فى إلقاء السلام عليه وتحيته . كان يرد عليهم بصوت مملوء بالحب ومعجون بحكمة السبعين عاما التى يحملها على كاهلة وبالرغم من أن الرجل لا يبصرهم منذ اطفئت تلك المياه الععينة التى يحملها فى مقليته نور الحياة ،إلا أنه كان خبيراً فى تييز الأصوات، بل إنه يستطيع أن يعرفحالتك المزاجية بمجرد سماعة للكلمة الأولى منك .
كان جدى يصغى إلى باهتمام لم أعهده فيه منقبل ، وتهلل وجه وانشرح فؤاده لدرجة أنستنى مالقيته فى يومى من أجله بسبب تلك النقود القليلة التى تمنحها له الدولة كمعاش للطاعنين فى السن ومع أنى أعدت عليه ما قال له الموظف ازدادت سعادته عندما علم أنه سيخرج من أول أيام الشهر لتذهب سويا إلى المدينة التى لا تبعد عن قريتنا سوى بضعة دقائق بالسيارة . وعلى الرغم من حنقى على قرار موظف التأمينات والمعاشات الظالم الذى لم يقتنع أبداً عندما أخبرته أن جدى رجل كفيف، وكبير فى السن، ولا يقوى على الإتيان بنفسه إلا أنى كنت سعيداً لسعادة جدى التى لم أكن فى حينهاأعرف مصدرها ، المهم أنه سعيد وهذا يكفينى .
كان يوم الخروج الذى توافق مع ثانى أيام الشهر يوم سبت . حيث كان أول أيام ذلك الشهر يوم الجمعة مما ضايق جدى كثيراً وقالهاوقد قتل على وجهه إبتسامة قبل أن تولك .
– لسه هستنى يوم تانى :
استيقظ مبكراً كعادته ، وحملنى حملاً على الاستيقاظ ارتدى جلبابه الصوف الذى لا يرتديه إلا فى المناسبات الجليلة ، ا, الأحداث الهامة، عدل من وضع عباءته الصوف على كتفيه مع أن الجو كان غير بارد حيث لم يحل الشتاء بعد على الرغم من تجاوزنا لشهر ديسمبر منذ أيام .
انفرجت أساريره عندماسمع نفير السيارة التى كنت قد استأجرتها خصيصاً لهذا المشوار خوفاً على الرجل العجوز من زحام المواصلات العادية .
كان جمعة سائق السيارة سعيداً بجدى الذى لم يعره انتباهاً ، إذ أنه منذ أن وضع قدميه فى السيارة أخذ فى مراقبة الطريق بإمعان شديد وكأنه عاد إليه بصره، كانت تعبيرات وجهه توحى بأنه فى دنيا غيرالدنيا .
كانت السيارة تقطع تلك الدقائق المعدودة التى تفصلنا عن المدينة ببطء شديد بناء على رغبة جدى فقد كان يريد استيعاب كل شئ كان حدثا عظيماً بالنسبة له ، فهو على حد علمى لم يغادر منزلنا منذ سنوات طويلة حيث تأتيه بناته لزيارته ويأتيه الطبيب وقت الحاجة إليه. ولم يطلب منا يوما أو يعلن عن رغبته فى الخروج أبداً . كان جدى صامتا علىغير عادته. كان يحاول أن يتبين الأشياء من حوله قدر المستطاع.لم يكترث بالمبلغ الذى نفحه إياه موظف التأمينات والمعاشات ،ولم يحفل بكلام الموظف الذى تأسف عندما رأى الرجل متهالكاً لايقوى على الوقوف ولا يرى أمام خطوة واحدة ،ولم يأبه به عندماقال: اعذرنا ياعم الحاج أنت معفى من القدوم فى المرات القادمة يستطيع حفيدك أن ينوب عنك
كان جدى فى واد ونحن جميعاً فى واد آخر . لذا لم أندهش عندما طلب من جمعة السائق ونحن فى مشوار العودة أن يتوقف فى منتصف الطريق وبالتحديد أمام هويس الرى الكبير . استندنى جدى وضع قدميه الواهنتين على رأس جسم الهويس خفت عليه من الانزلاق فالنهر هنا جبار قوى كم من مرة نسمع عن غرقى فى ذلك المكان .
قـال جـدى :
– من هنا يتفرع النهر إلى ثلاثة مجار مائية اصغر حجماً ،كل مجرى يروى عشر قرى كاملة وفى كل قرية كان لى فيهاأيام عظيمة. وفى هذا المكان كان يوجد سوق القطن الكبير حيث يأتى أبناء هذه القرى الكثيرة لبيع ماجادت به عليهم الأرض . كنت ترى سمايرة أرمن وأجريج وأولاد بلد ويهود كان عالما ثريا وكانت أياما حافلة فىهذه البقعة بالتحديد اجتمع بنا طلعت باشا حرب نحن معشر تجار القطن الكبار لينبهنا من خطر اليهود على تجارتنا.
ثم انحدرت دمعة صغيرة مخترقة تجاعيد الأيام وفعال الزمن على وجه الرجل الوضاء الجبين . كانت عيناه صافيتين صفاء ذلك النهر تحت أقدامنا كان يشع منهما غشراق ولمعان لم أرهما فيهما من قبل .لم يبال بكلام السائق الذى يحب أن نذهب حتى يكمل عمله ومع إصرار جدى على البقاء أمرت جمعه بالصمت وسأعطيه مايريد . كان جدى كمن يودع الدنيا فى هذا المكان الذى شهد مجده الغابر، تمشى قليلا فى المكان الذى تحول إلى جرن يلعب فيه الأولاد الكره . قال:
– كان هنا رجال لن ينجب الزمان مثلهم من هنا خرجت المظاهرات يوم نفى سعد باشا ومنهنا كنا نهتف للثورة ورجالها وهنا مات رفيق عمرى بين يدى عندما قتل لثأر قديم . ثم تمتم ببعض أيات القران وقال :
– ياولدى إنها لاتدوم لأحد .
منذ ذلك اليوم لم يعد جدى كما كان فلم يعد يخرج للجلوس أمام المنزل كما يحب ولم يعد يتحدث إلا نادرآ , ولم يعد يقبل على طعام إلا بعد إلحاح ومعناة , حتى بعد أن تجمعنا جميعا حوله . أبناؤه الثلاثة وأحفادهم وبناته وأزواجهم كل منا يحال معرفة ماذا جرى له . أحضرنا له الطبيب ولكنه لم يفدنا كثيرآ . أعتقدت أنى وجدت الحل عندكا عرضت عليه أن أحضر جمهة السائق ونذهب إلى حيث يريد . لم يهتم بكل ذلك ولم يتبدل حاله ومن يومها لم نعد نسمع منه سوى سبوح قدوس يغير ولا يتغير .
* مجلة الجسرة