(1)
وقف عصفور النار على الخط الملتهب بين الأفقين وراح يزقزق طويلا طويلا. كان هناك جمع غفير من البشر يجوب الأفق الشفقى الدامى ويردد تراتيل خافتة على رائحة البخور المحترق، بينما وقفتُ وحيدا، وعاريا على الجانب الآخر من الأفق المظلم أشاهد جنازتى. ولما رأى العصفور خطرا يخيم على الناحيتين، تشبث بموقعه المؤلم ورفع صوته بالغناء. تحولت التراتيل إلى لغط راح يعلو ويزداد، وتصاعدت ضحكات مجنونة فى دوائر وفقاقيع ملونة لامعة أفسحت له أفقا ثالثا فى السراب، فطار مرفرفا بجناحيه الأخضرين بعيدا صوب اللاشىء. انقلبت الجنازة إلى مأتم فيه حلقة للرقص، وثانية للقنص والصيد، وأخرى للقصف وممارسة الجنس. رفعتُ وجهى إلى أعلى فوجدته يحوم محافظا على توازنه فوق الحد الفاصل بين المنطقتين، وبوادر عاصفة مقبلة من بحر النار المعلق فى الفراغ تنفخ لهيبها فى جثتى التى راحت ترتفع رويدا رويدا عن الأكف التى تحملها والضحكات المجنونة تجلجل فى الفضاء. قال العصفور شيئا ثم هوى على النتؤات المدببة لجبال الصهد البعيدة. سمعتُ صوت انفجار ضعيف، وطارت ريشة صغيرة هناك صوب المدى، وخيم الصمت والظلام. فركتُ عينىَّ وصوت الانفجار لا يزال يتردد فى أذنى . وقلتُ فى نفسى : ربما .. لكننى على أية حال لم أسمع شيئا محددا .. ولم تأت سيرة الموت فى جملة مفيدة تنبئ بالخطر ، أو فى عبارة يمكن التيقن منها بأن حياة هناك قد انتهت .. وعموما فالأحلام تفسِّر نفسها بنفسها .. ثم ارتديتُ ملابسى وخرجت.
كان الطقس محايدا، ورائحة ما ثقيلة تشبه ألوان ما بعد الغروب تنتشر على رؤوس المارة وتفصل بين ملامحهم الذائبة فى العرق والتوتر وبين الأفكار المتمخضة فى رؤوسهم عن الأشياء الثابتة والمتحركة من حولهم. لم يكن هناك جديد فى الطريق إلى المقهى، ولم تكن عقارب الساعة تعنى أى شئ بالمرة. غمزتُ مبتسما لفتاة، فابتسمتْ فى خجل ودهشة وأدارت وجهها إلى الناحية الأخرى متعجبة، بينما انحرفتُ يسارا صوب المقهى.
لم ينطقها أحد من الجالسين بصراحة ووضوح، لكن الموت كان يسيطر على الموقف، ويقف على قدمين غليظتين برسوخ يفتت النظرات الهادئة المستكينة، ويوزِّع الأدوار برعونة وذكاء محسوبين بمنطق مغاير ووديع فى آن واحد. وكانت رائحة ما راكدة ومعتمة تهيمن على الضوء النهارى البارد، وتعيق أشعة الشمس الصباحية عن الوصول إلى أركان الممر المقابل للمقهى، فتجعل من الفضاء المكانى المحيط خيمة كابية ليست لها حدود أو تفاصيل، وليست لها ملامح ظاهرة أو سمات يمكن الإمساك بها، ولو حتى ذهنيا لفض دواخلها والتيقن من أن العالم لا يزال يتنفس. كان الصمت والسكون هما الضوء الأخضر، والسرداب السرى الوحيد الذى يمكن الولوج عَبْرَه إلى هذه الخيمة الكئيبة لولا إيقاع سيد الذى بدا مختلفا على غير عادته، وحزينا وكسلانا كما لو كان يتحرك على إيقاع مارش حزين وبإحدى يديه شيشة عليها جمر متوهج، وبالأخرى صينية صغيرة فارغة.
دمدمتُ متوجسا: يا فتَّاح يا عليم يا رزَّاق يا كريم.. خير اللهم اجعله خير. سحبتُ كرسيا وطلبتُ شيشة وشايا ثقيلا، وشتمتُ سيد كالعادة. ولما لم يلتفت ناحيتى كالعادة، انتهزتُ الفرصة وقلتُ مداعبا فى تأنيب:
-إذا كان المعلم عطية أعطاك على قفاك فهذا لأنك حمار.. وأنت لا تستحق ذلك فقط، وإنما كان يجب عليه وضع الملعقة الساخنة فى.. فى.. هئ.. هئ.. فى أذنك. أما إذا كانت حماتك اللعينة فى مهمة عاجلة عند امرأتك فهذا لأنك جاهل ولا تعرف حتى الآن ما ينبغى عمله مع هؤلاء النسوان.. همهمت إحدى الصديقات الجالسات فى حلقة الأصدقاء المجاورة:
-طول عمرك قليل الأدب..
فالتفتُ إليها مبتسما:
-لا تحسبى نفسك على النسوان.. أنتِ من المثقفات يا هانم..
وقهقهتُ بصوت عال. ولما تردد صوت قهقهاتى فقط فى أرجاء الصمت، أحسستُ أنه مات.
همستُ فى أذن مرقس متسائلا:
-خير يا حاج مرقس؟ فنظر بنفاذ صبر، ورفع وجهه إلى السماء بورع وتقوى:
-يا رب خذه لتنقص الحمير واحدا.
فأدركتُ أنه مات بالفعل.
وللمرة الأخيرة هتفتُ مداعبا فى محاولة لتأكيد، ولنفسى على الأقل، أن الأمور تسير على غير ما يرام:
-هات قهوة سادة، يا سيد، على روح المرحوم.. هاها.. ها..
ونظرتُ هناك فى الاتجاه الذى لم أكن أحب النظر إليه بشكل عام وفى الصباح على وجه الخصوص.. فكان مقعده خاليا. ويبدو أن الجميع قد اتفقوا ضمنا على ألا يشغل مكانه أحد. وربما نكون قد تعوَّدنا جميعا ذلك الأمر خوفا من لسانه السليط، أو إشفاقا على مشاعره الرقيقة أحيانا.
قفز فى صدرى شئ ما صلب مثل الحجر، وحَطَّ فوق القلب. كانت هناك، ولا تزال، مشاعر ما أكنها نحوه، لكنها على أية حال لم تكن مشاعر صداقة أو حُب، ولا أستطيع الجزم بأنها مشاعر كراهية، أو ربما مشاعر ود مترددة. حاولتُ كثيرا تفسير تلك الحالة الشعورية الكامنة بداخلى نحوه وتوصَّلتُ فى النهاية وبعد جولات عديدة مع نفسى إلى لا شئ. ورغم ذلك فقد كنتُ أنتقى الألفاظ والكلمات والجمل بحذر شديد إذا ما جمعتنا جلسة الأصدقاء بالصدفة. وفى أمسيات البار اليومية كنتُ أتجنَّبه متخذا لنفسى ركنا قصيَّا يمكننى على الأقل مراقبته منه بطرف عينى. وفى أوقات الزحام كنتُ أدير مقعدى صوب الجهة المعاكسة لألمح صورته المنعكسة فى المرآة المعلَّقة على الجدار الأصفر القديم. لكن الصورة أخذت تبهت مع الأيام، ثم راحت تضمحل وتتلاشى رغم وجود الإضاءة. وكثيرا ما طلبتُ من عم مصطفى مازحا تغيير هذه المرآة القديمة الصدئة متعللا بأسباب وهمية.
رحتُ أُخَمِّن: متى مات؟ وأين؟ وكيف؟ وما السبب؟..
ومع استبعاد السؤال بـ "لماذا؟" حتى لا تتعقد المسائل، اكتشفتُ سريعا أن الإجابة على هذه الأسئلة ما هى إلا مصيدة لانهائية مليئة بالدوائر والمنحنيات الخطرة، ولاسيما أن الزمان فى حالة كهذه مرتبط ارتباطا عضويا بالمكان . فلو كان قد مات فى المساء فإن ذلك مرتبط بوجوده فى البار. وإن كان قد مات فى البار فذلك يعنى أنه قد نفَّذَ برنامجه المسائى بحذافيره بعد حذف كل ما ليس منه فائدة أو جدوى مثل الفرجة على مسرحية أو قراءة كتاب، أو حتى مشاهدة فيلم بالسينما. وبالتالى فكيفية موته مرتبطة ارتباطا جذريا بالإجابة على متى؟ وأين؟ وبدون تحديد هاتين الإجابتين لا يمكن الإجابة على كيف؟ ومن البديهى ألا يكون الموت قد حدث بسبب الخمر لأننا جميعا نشربها ولم نمت، وهناك من لا يشربها وقـد مات. كما أنه لن يكون أيضا بسب عدم الفرجة على مسرحية أو أى شئ من هذا القبيل. أما إذا كان قد مات فى الصباح فمعنى هذا أنه مات على أى مقهى خلف طاولة عليها كوب من الشاى وبجوارها شيشة. وهنا لا يمكن تحديد كيفية موته أو سببه. فلا يمكن أن تكون قد دهسته عربة قمامة عابرة يجرها حمار لم يستيقظ بعد من نومه، أو ركله بغل يجر عربة خضار. ولا يمكن أن يكون قد أفجعه، لدرجة الموت، منظر طفل يسير حافيا بدون سروال والذباب يقتات على المخاط السائل من أنفه. واستبعاد ذلك يتأتى من كونه قد توصَّل منذ زمن طويل إلى أن العالم قد صار عربة قمامة محترمة تجرها البغال من أمثاله، وبالتالى فقد سلَّم أمره إلى صاحب الأمر وفهم أن عربات القمامة لا يمكنها دهس البغال التى تجرها إلا فى حالة إذا ما انعكست الآية، وهذا يتنافى مع المنطق على الرغم من اتفاقه مع الوضع القائم عمليا. أما إذا كان قد فعلها فى الفترة ما بين الساعة الثانية والسادسة صباحا، فإن ذلك يمكن أن يكون قد حدث فقط فى مكانين لا ثالث لهما: إما على شاطئ النيل، أو بأحد شوارع القاهرة. ومن المستبعَد أن يكون قد مات على فراشه وفى هذه الحالة تتداخل جميع الأسئلة والإجابات، وتتفتح دوائر ومنحنيات جديدة فى المصيدة.
أطل الموت من عينيىّ محدِّقا بعيون الجالسين، وامتزج بالحزن الثقيل الفاصل بين الرؤوس المتراصة فى عشوائية، وذابت الارتعاشات الداخلية للأصدقاء المتناثرين وكل منهم يخفى ما يدور برأسه فى صفحات الجرائد أو خلف دخان الشيشة، وربما فى أكواب الشاى وفناجين القهوة وثنايا العبارات الفخمة المنمَّقة بنحوها وصرفها: كل حسب عمله ووظيفته وتخصصه. ولما شعرتُ به يحاصرنى بوجهه المجعد، وشعره المجعد، وصوته ونظراته المجعدة، صرفت تفكيرى إلى شئ آخر هلامى. لكن الموت أطل من هذا الهلامى فحاصرنى بسحنة أكثر هلامية مدت نحوى أصابع تشبه أصابعه الطويلة الرفيعة، وأذنين أكبر بكثير من أذنيه الكبيرتين، وأنفا طويلا مسلوبا مثل أنفه. لم أفلح فى الإمساك بخيط محدد يقود إلى فكرة واضحة يمكنها أن تشغلنى كى أبرر صمتى وسكونى. وعلى نحو ما فاجأنى السؤال: "ماذا كان سيحدث لو انتظرتَ قليلا؟ أ لم نكن قد بدأنا نتقارب، وبدأ بيننا حوار صامت، ونظرات يشوبها الحذر والترحاب والشك، وربما الخجل أيضا؟" كان قد انتهز فرصة وجودى بالبار فى الأسبوع الماضى وطلب لى زجاجة بيرة، ونظر إلى المرآة عندما وضعها عم مصطفى أمامى هامسا بشىء ما. لحظتها فكرتُ بسرعة وانبريتُ للرد، ولكنها كانت باردة والعرق يتصبب على جسدها البنى فى إغراء واشتهاء كنساء البحر فى الأحلام. وانتهى الأمر بهزة من رأسى، وابتسامة تائهة ربما بدت بلهاء كتلك الابتسامة التى تراود المراهقين عند استيقاظهم من الأحلام التى يعاشرون فيها نساء البحر الباردات المتصببات عرقا دافئا له طعم العسل ورائحة اليود والصندل. أ لم يكن يستطيع تأجيل هذه المسألة كى أرد له الدعوة ونصبح صديقين؟ كنتُ قد خططتُ لها مسبقا، ورتبتُ نفسى جيدا: فسوف أفتعل مشاجرة مع سيد لأى سبب.. ربما لأن ماء الشيشة غير نظيف، أو لجفاف المعسل، وربما لكثرة السكر أو قلته فى الشاى، ومن الجائز وقتها ركل الشيشة بعيدا أو سكب الشاى على الأرض، فإذا ما انبرى سيد مطالبا بالديون التى زادت عن الحد المعقول لائما إياى على رمى النعمة والتبذير، سيكون قد أدى خدمة جليلة ووقع فى المصيدة. لحظتها سيُستَفَز عليّ ويتدخل لاعنا سيد وديونه والمقهى، وربما وصل الأمر إلى وزير المالية والبنك المركزى وصاحبة البوتيك القائم على ناصية الشارع، وبعد أن نقمع سيد اللئيم، سأبتسم له محييا، وسأهدئ من روعه بكلمات محسوبة، ثم أدعوه لتناول كأسين عند عم مصطفى. وعندما نجلس معا، لأول مرة خلف طاولة واحدة سأعتذر له. وإن سأل لماذا ؟ سأغيِّر الموضوع وأحكى له عن أشياء كثيرة.
انصرف ذهنى إلى احتمال مقلق ومثير: أ لا يمكن أن يكون قد انتحر؟ أو دهمته سيارة عابرة فى مكان ما فى وقت ما؟ وماذا لو كان ذلك عمدا ولسبب لا يعرفه أحد؟ ولكن ماذا لو كان ذلك بالصدفة المحضة وبدون أى سبب؟ ودارت تساؤلات أخرى عديدة برأسى هممتُ بطرحها لكننى أدركتُ فى حينه أن هؤلاء الملاعين مشغولون بالحزن والصمت. فأبقيتُ لسانى فى موضعه بينما اتجهتُ بأفكارى صوب البار، ولعنتُ عم مصطفى الذى يتقيد ويقيدنا معه بمواعيد وقوانين حجرية لا قبل لأحد بها.
هممتُ بالنهوض، فاستوقفنى مرقس قائلا فى تحذير:
-الجنازة بعد صلاة الظهر..
وأضاف حمدون بعد إخراج ما بصدره من دخان:
-وسنقعد عندى بعد آذان العشاء..
نظرتُ إلى مرقس قائلا:
-والصلاة إنشاء الله فى كنيسة أمك؟
ثم اتجهتُ إلى حمدون مشيرا بذراعى نحو البار:
-سأحتفل الليلة عند عم مصطفى.
(2)
كنتُ أسمعه دائما يردد أن القاهرة مدينة متعفنة ثم يسد فتحتى أنفه بإصبعيه ويرفع وجهه إلى أعلى ضاحكا، فتدمع عيناه وتتماوج شعيرات حمراء وسوداء فى أبيضهما المتعكر. وغالبا ما كان أحد الأصدقاء، حمدون أو مرقس أو غيرهما، يستفزه فى خبث: هذا حقد يا عليّ، وعموما فهى قد تعفَّنت بسبب وجود أمثالك من القرويين البائسين، ومن المفروض عليك أن تكون موضوعيا ولا تحسدنا على نظافتنا ولكنتنا القاهرية… كما أنه لا يجب أن تقيس القاهرة بالسكارى الموجودين الآن فى البار، فهم مثلك باعوا الفراخ والبط فى قراهم ثم اشتروا تذكرة قطار وجاءوا إلينا ليشاركونا فقرنا. ويضحك عليّ حتى تدمع عيناه، ثم يأخذ نفسا عميقا ورشفة من كأسه، ويشير بإصبعه الطويلة على خارطة القاهرة الوهمية أمامه… أنت لا تصدق، بل لا تريد أن ترى خشية أن تصدق... إنها مدينة لعوب، ولا أريد أن أقول أنها مومس حمقاء حتى لا يقشعر جلد بناتكم الطرى ويصفننى بالجلافة وقلة الأدب وينفرن منــى كفأر.. فعلى أية حال أنا أعشق الجلوس إليهن والاستماع إلى مخارج ألفاظهن "الكاهرية" عندما يتفلسفن أو يقرأن "كصصهن" أو "كصائدهن" التى ما أنزل الله بها من سلطان.. القاهرة، يا مثقف، عجوز شمطاء تمارس الرذيلة مع كل من هب ودب.. ومهما تصابتْ فلن تستطيع إخفاء التجاعيد والبثور المتناثرة على وجهها وجسدها.. إنها تبدأ يوميا من سلم الخادمات الوضيعات حتى تعتلى آخر درجات الموامس مكسورات القلب والجناح، فلا تنعشها سوى قبضة من العملة الصعبة لا تلبث أن تنتقل بقدرة قادر إلى جيوب القوادين: -هات كأس دُبْل من غير ثلج، يا مصطفى… إنها ترتدى عشرات الأثواب التى تبدلها عشرات المرات فى اليوم الواحد والليلة الواحدة، وتظل أنت يا محترم تلف وتدور وتحوم، وفى النهاية تجد نفسك على أعتابها وحيدا، وإن فتحتْ لك ستركع تحت قدميها الوسختين يتيما ومتيَّمَا لأسباب لا يعرفها إلا الذين اكتووا بنارها، ولن تحصل على أكثر مما تحصل عليه القطط والكلاب الضالة: -هات ليمونة يا عم مصطفى لو سمحت… انظر مثلا إلى شُبْرَا فى الصباح وبعد الظهر وفى الليل، وانظر إلى المغربلين والوايلى الكبير وشادر السمك والزاوية الحمراء، ثم انظر إلى الزمالك وجاردن سيتى وشارع سليمان باشا بمرافقه فى نفس هذه الأوقات… وفى المساء اذهب إلى الحسين والغورية والمُقَطَّم… وعندما تدور الدائرة الجهنمية ويولَد الخيط الأبيض من الخيط الأسود، انتق أى مقهى بعشوائية يشوبها سوء النية أو بصدفة مقصودة، وانظر إلى وجه خلق الله… إنها جهنم الحمراء، يا مثقف… ولا تقل لى إنه الخراب الجميل… فليس هناك خرابا جميلا أبدا حتى ولو أقر ذلك المجمع اللغوى الأمريكى: -هات خيارة، يا مصطفى، حرام عليك… وصادق عليه الهنود والطليان… وإن كنتَ لا تريد أن تصدِّق فاذهب إلى أية غرزة بالمدافن لترى الموت الجميل، أو الحياة الجميلة فى الموت الجميل. ويضج البار بالضحك، ويعلو صوت التمخـط والبصق، فيرفع كأسه إلى أعلى ويقذف بما فيه دفعة واحدة إلى جوفه ثم يسد أنفه.. كلنا تعفَّنـا، يا سادة، والحمد لله ومن لم يتعفَّن بعد فسوف تصرخ عظامه عندما يبول عليه الأحياء المساطيل فى المدافن الجميلة.. هئ.. هئ.. جميلة..
قادتنى قدماى عَبْرَ شارع الشواربى، وكان عليّ يسميه "شانزليزيه المماليك".. كانت الشوارع جميلة، والناس يتحركون فى نشاط وحيوية والبيع والشراء يتمان فى هدوء بدون مساومة أو وجع قلب. وفجأة تسمَّرتُ أمام بار عجيب يحتل زاوية تطل على شارعين، بهرنى بجماله المعمارى وأدهشنى لكونه مفتوحا فى مثل تلك الساعة من النهار. والأهم من هذا وذاك هو أننى لأول مرة أكتشف مثل هذا الاكتشاف الهام على الرغم من معرفتى بكل بارات القاهرة.
اقتربَ منى متسول شاب بجوار المدخل، فأخرجتُ له لسانى ودخلت. نظرتُ إلى الساعة فوجدتها لم تتجاوز الواحدة بعد. طلبتُ زجاجة بيرة وطبق ترمس، وفكرت.. خلال هذه الزجاجة يمكننى أن أحدد إلى أين سأذهب، وإلى من، وماذا سأفعل إلى أن يحين موعد عم مصطفى.. ففى كل الأحوال يجب أن أمر عليه ولو حتى من قبيل النفاق كى لا يطالب بالديون المترهلة. لم أكد أبدأ فى رسم خطتى حتى انتهتْ الزجاجة. فطلبتُ كأس نبيذ دُبْل على أن يأتى النادل بعد ذلك بزجاجة بيرة أخرى.
شعرتُ بتقلصات فى المعدة تبعتها أصوات غريبة وألم شديد. لم أكد أمد يدى لأتحسس بطنى حتى شعرتُ بدوار خفيف وألم أقوى بالمثانة. قلتُ فى نفسى: لأذهب إلى المرحاض وأضرب عصفورين بحجر واحد. وبعد أن تقيَّأتُ وتبولتُ، وجدتنى أردد: إنه التقيؤ الجميل.. هئ هئ. ثم زعقتُ بشكل لا إرادى: ملعون أبوك يا عليّ. فنظر إلىَّ النادل باستهجان، وابتسم بعض الجالسين، بينما راح المتسول ينظر نحوى عَبْرَ النافذة بتشفٍ وسخرية. شربتُ ما تبقَّى بكأس النبيذ دفعة واحدة وصببتُ من زجاجة البيرة الثانية حتى سال الزبد على الطاولة… يمكننى الآن الذهاب إلى ناهد فى المجلة.. لكنها ستنتهز الفرصة كالعادة وتعاملنى معاملة القاهرة لأولادها.. ستحكى عن آخر استطلاع رأى لها بين سكان المقابر ورد وزير الإسكان.. وآخر حوار صحفى أجرته مع أحلى ممثل فى مصر، وأنه ضغط على يدها بعد انتهاء الحوار وهمس لها بدعوة على العشاء، بينما كانت زوجته الممثلة الشهيرة تتحدث مع خالتها التى كانت طوال الوقت تخاطبها بضمير المذكر.. ثم تأخذنى من يدى فى حنان إلى سيارتها وتظل تحكى عن أشياء عجيبة لا أدرى أين ومتى تراها إلى أن نصل إلى شقتها الجديدة دائما.. وهناك يبدأ اللقاء الحقيقى.. ستبدل ملابسها فى الغرفة المقابلة.. وستتعمد أن تقف فى الزاوية التى تعكسها المرآة الموجودة بالغرفة التى أجلس فيها.. سترتدى الشورت القصير جداً، والفانلة القصيرة جداً جداً، ثم تجلس على الفوتيه الضخم رافعة قدمها بالكامل على مسنده العالى لتقرأ لى آخر قصيدة كتبتها بالأمس، وعينىَّ تروحان وتجيئان بطول وعرض ما يظهر وما لا يظهر من خلال ملابسها القليلة جداً جداً… لن تقرأ قصيدة واحدة، بل ستقرأ كل القصائد التى كتبتها فى كل الأمسيات الفائتة، وربما كررت بدون قصد بعض القصائد القديمة.. وبين الحين والآخر ستنظر بطرف عينها مبتسمة إلى ملامحى المتوترة خلف حبات العرق الصغيرة.. بعد ذلك ستنهض بجسدها المُشع لتقلى بيضتين لكل منا، وتبدأ الحديث أمام البوتاجاز عن الصراع بين الرجل والمرأة، والحرب الطاحنة التى يقودها الرجال الملاعين ضد المخلوق الرقيق الذى يعانى منذ الأزل نزق الرجال وساديتهم.. وعندما أمد يدى هناك نحو المنطقة الساخنة بين الشورت القصير والفانلة القصيرة جداً جداً ستنتفض صارخة، وتجرى ثم تخبرنى وهى تضحك بأننى حمار، وأن كل ممثلى البلد ومثقفيها يجرون وراءها.. وبعد ذلك ستأمرنى ضاحكة فى دلال بالجلوس بعيدا عنها لأنها بشر والرجال ليس لهم أمان فى هذا الزمن، ثم تسألنى بسحر وحنان عن أحوالى.. وعندما أجيبها بكلمات مقتضبة وهزات من رأسى، ستنظر بخبث إلى عينىَّ الحائرتين، وتقترب منى كثيراً كثيرا رافعة سبابتها فى إغراء وإثارة محذِّرة بأن الرجال لا يفكرون إلا بشىء واحد فقط وتطبع على خدى قبلة خفيفة تقطع الأنفاس وتجعل الدم يتصاعد إلى المناطق المجهولة فـى الدماغ.. فإذا هممتُ بالانصراف، أمسكتْ بيدى ودفعتنى قليلا فى كتفى بصدرها النارى.. وما إن تشعر بارتفاع مؤشر الحرارة فى دمى ، تفتح الباب قائلة:
-تعرف إنك أسوأ إنسان قابلته فى حياتى؟ لكن باحبك.. باى باى.. يا صايع.
صببتُ آخر ما تبقى ثم لعقتُ فوهة الزجاجة.. كان جالسا هناك فى الركن البعيد معطيا ظهره للمرآة الكبيرة المستطيلة التى لم تكن تعكس صورته أو صور الجالسين . حَوَّلْتُ وجهى سريعاً فلمحتُ المتسوِّل ينظر ساخرا. لعنتُ الاثنين فى نفسى وفكرتُ.. من الأفضل أن أذهب إلى الوايلى الكبير .. ستكون عزيزة قد عادت من المصنع.. وإن نهضتُ الآن فيمكننى مقابلتها رأسا عند باب الخروج.. سنشترى البيض والطماطم كالعادة.. وسنتسلل إلى غرفتها بهدوء كى لا تشعر بنا جارتها اللعينة.. ولكنها ستصدِّع رأسى بالعلاوات والمكافآت، ثم تحكى عن طبيب المصنع الذى قُبِضَ عليه بتهمة ملفقة بعد أن اكتشف سرقة الأدوية من المخازن.. وستبكى عندما تروى قصة سقوطه فى الانتخابات بعد أن خذله العمال على الرغم من أنه يعالجهم مجاناً فى عيادته الخاصة.. وستغفو على صدرى وأنا أحكى لها عن الورشة التى كنتُ أعمل بها بعد أن طردنى أبى من البيت لأننى لا أصوم فى الوقت الذى كان يعود هو فيه يومياً إلى البيت مسطولا.. وعندما أحملها بهدوء لأضع جسدها المنهك على الكنبة الصغيرة .. ستفتح عينيها وتحتضننى بقوة تجعلنى أشفق على ضعفها.. سأقشِّر البيض وأُقَطِّع الطماطم ثم أوقظها.. ستجلس أمامى فى محاولة لإعطائى انطباعا بأنها متيقظة تماما، ولكنها ستغفو وهى جالسة.. وسألعنها فى نفسى هى واليوم الذى رأيتها فيه، وأنصرف بهدوء.. وستطل جارتها الشمطاء من خلف الباب الموارب كالعادة.. ستلعنها وتلعننى، ثم تضيف بصوت كالنقيق بأننا من الأفضل أن نتزوج بدلا من التسلل هكذا مثل الكلاب.. وسألتفتُ إليها، أيضا كالعادة، مشيرا لها بإصبعى الطويلة إشارة فاضحة تغلق على أثرها الباب.
دفعتُ حسابى وتناولتُ الباقى. وعندما اعترض المتسول طريقى بإلحاح يشبه التهديد، أعطيته كل ما رده النادل إلىّ، ووقفتُ فى وسط الشارع خابطا كفا بكف، ثم قلبتُ جيوبى جميعا إلى الخارج أمامه وانصرفت .
بدت الشوارع غريبة كما لو كنتُ أراها للمرة الأولى فى حياتى، بينما كانت وجوه الناس منبعجة قليلا ورؤوسهم صغيرة كالنقاط وقد نبتتْ فيها آذان كبيرة مفرطحة. أما واجهات المحلات الكبيرة والمعروضات فى الفترينات وحركة السيارات، والطوابق العليا فى العمارات الضخمة كانت جميعها عادية ومألوفة على غير العادة، فلم أتمكن من الحكم عليها بالجمال أو القبح، أو الجزم بأننى أحبها أو أكرهها. وكانت تماثيل وسط البلد تبدو فى أوضاع غريبة نسبيا. فالأحصنة بدون أرجل، والرجال القابعون عليها بدون رؤوس، ومنهم من بدَّل يده التى يشير بها فأراح يسراه مستخدما يمناه عكس الاتجاه، ومنهم من اتكأ على قدمه اليمنى المقطوعة ليريح اليسرى التى يقف عليها منذ زمن، وفى أماكن أخرى نامت الأحصنة ونهضت الخراف والكلاب والحيوانات المختلفة، وكان الأسد الأيمن على كوبرى قصر النيل يمسح خراء الطيور عن لحيته فى كسل وهو مغمض العينين، والآخر يغط فى نوم عميق بينما راحت الغربان تتجمع فى تشكيلات عجيبة على مؤخرته استعدادا لقضاء حاجتها. فكرت.. لو أننى عبرتُ الآن الكوبرى نحو الجامعة فلربما أجدها خالية وربما خلا الميدان أمامها من الناس والحدائق والتمثال الكبير. فاستدرتُ عائدا نحو ميدان التحرير وإحساس غامض بالجوع يثقل جفونى.
راودتنى فكرة متألِّقة ، ظلتْ تزداد حيوية واندفاعا كلما اقتربتُ من ميدان العتبة. وقررتُ فى النهاية الذهاب إلى كامل مجدى فى منزله.. فهو الوحيد بيننا الذى لا يزال يعيش مع والدته وأختـه الكئيبة.. وهم يحبوننى، أو على الأقل يتحمَّلون زياراتى المتباعدة التى لا تجلب لهم سوى المشاكل وخصوصا عندما تدخل أخته بوجه مكفهر لترزع صينية الشاى أمامنا. حسمتُ أمرى، وفكرت.. يمكننى أن أتغدى عنده.. لكنه سيقتلنى بمجلته العبقرية كما يصفها.. وسيلح علىَّ لكتابة أو ترجمة مقال ما ربما يقترحه هو كالعادة.. سأراوغه لحين انتهائى من طعامى.. وسأطلب منه قرضا لحين عثورى على مقال مناسب لمجلته التنويرية التى رسم عليها شعارا يوجع البطن من الضحك.. وإذا استطعتُ الحصول منه على القرض، فسوف أقترح عليه تغيير "لمبة الجاز" من على غلاف المجلة ووضع أية وسيلة أخـرى للتنوير، وإن كانت " كلوباً " على سبيل المثال، وسأنصرف مسرعا قبل أن يبدأ محاضرة طويلة ينهيها بلعن دين أبى ووصفى بالتخلف والانتهازية، والأهم من ذلك قبل أن تدخل أمه لتنصحنى بالإقلاع عن الشرب ومحاولة العثور على عمل أنا وابنها الخائب الذى يجرى وراء الجرائد والمجلات والمتاعب والفقر ثم تنصرف دون الاستماع إلى رد أى منا، بينما تقف أخته وراء الباب مكشرة على أنيابها.
لم أجد كامل بالبيت. فخلَّفتُ باب الشعرية ورائى. وبدون تفكير اتجهتُ إلى حارة اليهود محاولا التخلص من توترى بسبب أخته اللعينة التى واربت النافذة وزعقتْ كمن لدغها عقرب بأنه غير موجود، ثم صفقتها فى استعلاء وقرف.. ابنة الكلب العانس هذه..
رأيتُ بعض الأولاد يلعبون الكرة فى إحدى الحارات الجانبية. انضممتُ إليهم وخطفتُ الكرة من قدم أحدهم ، فتوقَّفوا عن اللعب وراحوا ينظرون نحوى بغيظ ودهشة، أشرتُ لأحدهم بأن يتقدم، لكنه نظر إلى زملائه جاحظ العينين مبتسما. ركلتُ الكرة نحوه ولحقتُ بها، فلم يتحرك. أمسكتُ بها فى يدى، فصرخ طفل صغير من خارج الملعب.. "هاند بول"، فقذفتُ بها إليه وانصرفتُ ضاحكا، ولا حقنى صوت جماعى.. العبيط أهوه. وقبل أن أصل إلى المقهى الكائن على ناصية الحارة التى تسكن بها إحسان، لمحتُ فتاة مقبلة وجزء لا بأس به من صدرها يظهر من الفتحة الواسعة لفستانها الأحمر القصير. علتْ وجهها ابتسامة خفيفة عندما فوجئتْ بى شاخصا إليها كالملسوع ، ولما صارت المسافة بيننا تسمح بالهمس، مِلْتُ برأسى نحوها قائلا: نظرة، يا ست..
-هئ.. هئ..
-لمسة واحدة، وأموت..
-روح موت عند أمك، يا شاطر..
وتعالى صوت ضحكات من ناحية المقهى، فانحرفتُ بسرعة إلى اليمين.
فتحت إحسان الباب فى دهشة استحالت إلى ابتسامة بلهاء:
-الحمد لله على السلامة، يا مجنون..
وأغلقت الباب بعد أن أخذت ابتسامتها شكلها الطبيعى المعهود، والدهشة لا تزال ترتسم على شفتيها اللتين توردتا لتوهما ودبت فيهما حياة صغيرة رقيقة. كانت الشقة كما هى لم تتغير بضوئها الخافت فى كل الأوقات، ورائحتها الطرية العتيقة. زادت فقط بعض أصص الزرع، وظهر إلى جوار إطار صورة أمها إطار آخر بشريط أسود فيه صورة لرجل عجوز. جاء صوتها من المطبخ ضاحكا :
-هل هناك بنى آدم يشرب من صباحية ربنا؟!
قلتُ باسما:
-أنا.
اتجهتُ إلى المطبخ. طوَّقتُها من الخلف بذراعى، وقَبَّلتُ رأسها. فربتتْ على كفى بحنوٍ وصبَّتْ القهوة بيدها الأخرى فى الفنجان الكبير الذى تحبه. قلتُ:
-سأموت من الجوع..
ناولتنى طبق بطاطس مسلوقة من فرن البوتاجاز وذهبتْ إلى غرفة النوم. فأخذتُ واحدة قذفتُ بها إلى فمى وأمسكتُ بأخرى، ثم أعدتُ الطبق إلى مكانه واتجهتُ نحو الغرفة الثانية. أشعلتُ سيجارة واستندتُ إلى حافة الباب المؤدى إلى البلكونة ورحتُ أرشف ببطء من فنجان قهوتى، ثم أشعلتُ أخرى وجلست..
… وكانت هى الملاذ الأخير من الغول القاهرى البشع. والملجأ الأمين عندما تغلق البـارات أبوابها ، ويغيب الأصدقاء والمعارف عن المقهى، وعن بيوتهم، وعن الدنيا. والعودة إليها هى الطريق الوحيد للتخلص من الإحساس العارم بالدونية فى خضم الحركة العكسية لهذا العالم. عندها كل شئ: البطاطس والحُب والقهوة والجدعنة والقدرة على الفهم. لم أتمكن من معرفة ذلك فى الوقت المناسب عندما قابلتها بمكتبة الجامعة وقتما كانت جميلة وفاتنة كما هى الآن رغم تجاوزها الثلاثين. بعدها تخرَّجنا وذهب كل منا إلى حال سبيله. فتزوَّجتْ هى من أحد زملائنا وفرت منه بعد عامين دون الإعلان عن الأسباب. وعاشت قصة حب أخرى مع أمين مكتبة صار ممثلا مغمورا، فتركها وأحبَّ ممثلة ناشئة. وظلتْ هى كما كانت حتى التقينا بالصدفة منذ عدة سنوات.. كانت تبحث عن عمل.. أما أنا فكنتُ أعمل بورشة وأكتب القصص ليلا وأسكر أيام الآحاد.. وفى الوقت الذى ظلت فيه هى كما هى، أقلعتُ أنا عن العمل فى الورش وكتابة القصص السخيفة، وحافظتُ فقط على ارتياد المقاهى والبارات وزيارتها بين الحين والآخر عندما أشعر بالخطر.. هى تعرف ذلك، وأنا أعرف أنها تعرف، لكننى لا أشعر بالخجل.. وعندما أحس أحيانا أن حبها سيعتلى سور صمتى، أغيب عنها وعن العالم، لكنها تأتى دائما عندما أكون فى حاجة إليها، وتجدنى عندما أضيع فى زحام الهموم والمشاغل والقلق اليومى.. و..
-كأنك لم تنم منذ ألف سنة..
فتحتُ عينىَّ. كانت أجمل بكثير، وأرق مما كانت عليه منذ عشر سنوات. جلستْ. وأخذتْ رأسى على فخذها وراحت تحكى عن أشياء كثيرة.. عن عملها فى مكان محترم، وقراءتها للشعر والروايات. وقالت أيضا أنها بدأت تسمع الراديو فى الفترة الأخيرة، وأنها اكتشفت أنه أكثر متعة من التلفزيون، وأحيانا تذهب إلى السينما مع أى شخص تعرفه، لكنها تحب الذهاب إلى المسرح بمفردها. وسألتنى فجأة:
-كيف حال صاحبك، ثقيل الدم؟
قلت:
-للأسف لم يكن صاحبى.. وعموما فقد مات.
قالت ضاحكة:
-حرام عليك، يا كافر.
وأضافت بأنها على الرغم من رؤيتها له مرتين أو ثلاث ، إلا أنها شعرت بنفور غريزى منه، وأنها لمحت فى عينيه نظرة ليست بالجريحة أو القاسية، ولكنها تقع فى المساحة بينهما حيث الرغبة فى تدمير العالم وتدمير النفس والقضاء بشكل نهائى على الذات، وربما العكس. وطبعتْ قُبْلَة خفيفة على خدى، ثم همستْ:
-لا تغب عنى طويلا ، أنا فى حاجة إليك.
فَقَبَّلْتُ يدها. وكان الجنس بيننا هو المرحلة التى تتبع العاصفة، فتتولى ترتيب العالم، ووضع الخرائط الجديدة للأماكن الجديدة، وإطلاق المسميات المناسبة على الأزمنة المناسبة. كان الضد للموت، والصعود إلى أعلى، والتسامى فى بوتقات الفضاء الهلامية الشفافة. كانت تبكى أثناء رحلة الصعود، وتنتحب وتشهق وتضحك. وكنتُ أنصهر فوق صدرها وأتبخر، وأشرب فلا أرتوى. وأغوص مرة، ومرات، وأخرج حاملا رايتى البيضاء مستسلما لرغبة جامحة لانهائية تتأجج كلما احتويتها بين ذراعىّ وضممتُها وشددتها ورفعتها كحروف اللغة المراوغة، وما إن أُقَبِّل كل خلية فى جسدها، تغمض عينيها وتبتسم، ثم تتبخر وتتلاشى. وفى النهاية نسقط من أعلى جسدا واحدا ضد العاصفة، بأربع عيون شاخصة إلى الدوائر الوهمية فى الفراغ، فى حين تنصهر اللغة وتتحول إلى سائل حبيس فى زجاجات تثير الضحك، ويبقى الصمت لغة وحيدة يمكنها التعبير عن رحلة اللذة العابرة.
استعاد كل منا خلاياه من جسد الآخر. أغمضتْ عينيها وهمستْ باسمة:
-أ تعرف أننى أحبك؟
فسألتها عن الساعة.
ردتْ ضاحكة:
-عشرة. ابق هنا الليلة.
نظرتُ إليها فبدت مثل الطيف. وكانت المرآة الكبيرة المقابلة لا تعكس صورتى. فجأة، ارتعدتُ، وشعرتُ بارتفاع درجة حرارتى. خرج صوتى غريبا ومجنونا:
-عليّ مات.. تصورى؟!
(3)
كان أمامى أحد طريقين للوصول إلى البار. إما عن طريق شارع الموسكى أو عن طريق شارع الأزهر . لكن الأول فى هذه الساعة ملئ بالقطط والكلاب التى بدأت عملها بالبحث والتنقيب، وسط العربات التى تركها أصحابها مغطاة وذهبوا إلى بيوتهم، والنبش فى أكياس القمامة وفضلات الخشب والخيش التى تكاد تسد الشارع. وبما أننى لا أحب القطط وأخشى الكلاب، فقد صرفتُ النظر تماما عن شارع الموسكى. لكن شارع الأزهر أيضا مزدحم بالسيارات والناس وربما بالنشالين. كما لم تكن لدى أية رغبة فى التقاء، ولو بالصدفة، أى شخص أعرفه: فى هذا الوقت بالذات يبدأون التوجه إلى مقاهى الحسين، أو الذهاب إلى الشيخ إمام بحارة "حوش قدم" فى الغورية. وطرأ على ذهنى الذهاب من نفس الطريق الذى أتيـتُ منه، لكننى تذكرتُ تلك العانس اللعينة ، وثمة شئ آخر ورد على خاطرى لكن سرعان ما تلاشى عندما لمحتُ نفس الفتاة ذات الفستان الأحمر القصير مقبلة مع صاحبتها.. لم تواتنى رغبة فى الاحتكاك بهما أو معاكستهما، لكن الملعونة همستْ لصاحبتها بشىء ما، وعلت وجهيهما ابتسامة ماكرة. قالت الأولـى باسمة:
-هئ.. يموت.. جاته خيبه..
وأضافت صاحبتها:
-رجال آخر زمن..
ابتسمتُ رغما عنى وواصلتُ طريقى نحو شارع الأزهر.
طأطأتُ رأسى موافقا على الجزء الأول من جملة عم مصطفى، لكننى تعللتُ بعدم الجلوس معه أو معرفته عن قرب. وهمستُ لنفسى.. لا أستطيع النظر إلى عيون الأمهات أو إلى أكف الآباء فى مثل هذه الحالات. وطلبتُ كأس دُبْل بدون ثلج.
..عليّ مات..
أو مات عليّ، سيان. فالفعل قد وقع، وعليّ ليس الفاعل. وموته لا تعادله لحظة حياة أو لحظة حلم. كان ومضة وانتهى الأمر.
مات..
فعل وفاعل. والفاعل ليس عليّ، لكنه مات على كل حال، وباءت جميع محاولات وضع موته فى أحد طرفى المعادلة بالفشل. حاولوا فى الصباح العثور على معادل موضوعى لموته، ولتبرير صمتهم وعزوفهم ونزقهم القاتل. وفى النهاية شيَّعوه فى جلال ومهابة واحترام، ثم جلسوا يتذكرونه، وربما شربوا على روحه بعض الخمر فى فناجين القهوة.
مات.
أ من الممكن أن تُقال هكذا ببساطة؟ وأن يُتخذ الفعل معبرا للوصول إلى معادلة مريحة، خادعة فى استقرارها، تعبِّر عن فعل أكبر بكثير من كل المعادلات؟ فعليّ يدخن الشيشة.. يسكر.. يتشاجر مع سيد.. يشتم عم مصطفى.. يسب الحكومة.. يرطن بالأسبانية.. يتحدث عن فن الباليه وعلاقته بالصوفية فى مطلع القرن الثالث والعشرين.. يحاول جاهدا تفسير العلاقة بين تشريح الجمجمة عند إخناتون بمثيله عند عبدالمجيد البقال.. يعاكس امرأة بوقاحة فى الطريق.. يربط ساخرا بين الحروب العربية وبين حروب الماعز فى جنوب إيطاليا، كلها أفعال وأقوال واقعية بصرف النظر عن كون بعضها منطقيا ومفهوما أم لا، وبغض النظر أيضا عن كون البعض الآخر منها مبتذلا رغم خفة ظله..
-كأس بالثلج ، يا عم مصطفى..
لكن أن يذهب هكذا ببساطة.. يااا.. ه..
-وبالليمون ولا تبص لى بهذا الشكل..
لم أجالسه مرة واحدة منذ رأيته على المقهى، ولم أفكر فى ذلك أبدا إلا فى الفترة الأخيرة.. لكن لماذا؟ أ كان ذلك بسبب لسانه السليط عندما يختلف مع حمدون فى تحديد أصل المصريين وعلاقته بالبيضة والفرخة، أو يتفق مع مرقس على أن اليهود بريئون من دم المسيح؟ أم بسبب أحاديثه المتشابكة عندما يرتدى ثوب المثقفين ويمتطى الدواب العرجاء لمتمردى الزمن الجديد، فيعلن ضاحكا أن اليهود استيقظوا يوما من نومهم فوجد كل منهم ورقة فى فناء بيته عليها عبارة "لقد تخلَّصنا منه"، وإلى الآن بابا روما نفسه لا يعرف من كتبها؟
-وكأس بدون أى شئ، يا مصطفى..
فى الصباح قال سيد ببساطة: الله يرحمه. وقال أحد الأصدقاء: لقد مات عندما انطفأت بداخله جذوة الحلم. ولما أعجبته الجملة، أخذ نفسا عميقا من الشيشة وأخرجه فى بطء ومهابة مُحَرِّكا رأسه فى أسى، بينما مصمصتْ الجالسة إلى جواره شفتيها فى ألم وحزن. وبعد قليل قاموا جميعا ليدفنوه بأيديهم، ويشاركوا فى ردمه تماما بالتراب.
-هات جزر وكأس بدون ثلج، يا مصطفى..
… دخل مبتسما. لم يكن مرتديا ملابس بيضاء مثل أطياف المنام، ولم يكن ممتطيا ناقـة ولا بعير. كان عاريا تماما ومجروحا فى القلب. اتجه إلى ركنه المفضَّل وجلس. نظر إلىّ فى المرآة وقال:
أنت ابن كلب-وبصق فى وجهى.
-لمن الجزر يا مصطفى أنا طلبت خيار.. لكن فين المرايه؟
-أنت كسرتها إمبارح يا أستاذ على.. صح النوم.
وقف عصفور النار على الخط الملتهب بين الأفقين وراح يزقزق طويلا طويلا. كان هناك جمع غفير من البشر يجوب الأفق الشفقى الدامى ويردد تراتيل خافتة على رائحة البخور المحترق، بينما وقفتُ وحيدا، وعاريا على الجانب الآخر من الأفق المظلم أشاهد جنازتى. ولما رأى العصفور خطرا يخيم على الناحيتين، تشبث بموقعه المؤلم ورفع صوته بالغناء. تحولت التراتيل إلى لغط راح يعلو ويزداد، وتصاعدت ضحكات مجنونة فى دوائر وفقاقيع ملونة لامعة أفسحت له أفقا ثالثا فى السراب، فطار مرفرفا بجناحيه الأخضرين بعيدا صوب اللاشىء. انقلبت الجنازة إلى مأتم فيه حلقة للرقص، وثانية للقنص والصيد، وأخرى للقصف وممارسة الجنس. رفعتُ وجهى إلى أعلى فوجدته يحوم محافظا على توازنه فوق الحد الفاصل بين المنطقتين، وبوادر عاصفة مقبلة من بحر النار المعلق فى الفراغ تنفخ لهيبها فى جثتى التى راحت ترتفع رويدا رويدا عن الأكف التى تحملها والضحكات المجنونة تجلجل فى الفضاء. قال العصفور شيئا ثم هوى على النتؤات المدببة لجبال الصهد البعيدة. سمعتُ صوت انفجار ضعيف، وطارت ريشة صغيرة هناك صوب المدى، وخيم الصمت والظلام. فركتُ عينىَّ وصوت الانفجار لا يزال يتردد فى أذنى . وقلتُ فى نفسى : ربما .. لكننى على أية حال لم أسمع شيئا محددا .. ولم تأت سيرة الموت فى جملة مفيدة تنبئ بالخطر ، أو فى عبارة يمكن التيقن منها بأن حياة هناك قد انتهت .. وعموما فالأحلام تفسِّر نفسها بنفسها .. ثم ارتديتُ ملابسى وخرجت.
كان الطقس محايدا، ورائحة ما ثقيلة تشبه ألوان ما بعد الغروب تنتشر على رؤوس المارة وتفصل بين ملامحهم الذائبة فى العرق والتوتر وبين الأفكار المتمخضة فى رؤوسهم عن الأشياء الثابتة والمتحركة من حولهم. لم يكن هناك جديد فى الطريق إلى المقهى، ولم تكن عقارب الساعة تعنى أى شئ بالمرة. غمزتُ مبتسما لفتاة، فابتسمتْ فى خجل ودهشة وأدارت وجهها إلى الناحية الأخرى متعجبة، بينما انحرفتُ يسارا صوب المقهى.
لم ينطقها أحد من الجالسين بصراحة ووضوح، لكن الموت كان يسيطر على الموقف، ويقف على قدمين غليظتين برسوخ يفتت النظرات الهادئة المستكينة، ويوزِّع الأدوار برعونة وذكاء محسوبين بمنطق مغاير ووديع فى آن واحد. وكانت رائحة ما راكدة ومعتمة تهيمن على الضوء النهارى البارد، وتعيق أشعة الشمس الصباحية عن الوصول إلى أركان الممر المقابل للمقهى، فتجعل من الفضاء المكانى المحيط خيمة كابية ليست لها حدود أو تفاصيل، وليست لها ملامح ظاهرة أو سمات يمكن الإمساك بها، ولو حتى ذهنيا لفض دواخلها والتيقن من أن العالم لا يزال يتنفس. كان الصمت والسكون هما الضوء الأخضر، والسرداب السرى الوحيد الذى يمكن الولوج عَبْرَه إلى هذه الخيمة الكئيبة لولا إيقاع سيد الذى بدا مختلفا على غير عادته، وحزينا وكسلانا كما لو كان يتحرك على إيقاع مارش حزين وبإحدى يديه شيشة عليها جمر متوهج، وبالأخرى صينية صغيرة فارغة.
دمدمتُ متوجسا: يا فتَّاح يا عليم يا رزَّاق يا كريم.. خير اللهم اجعله خير. سحبتُ كرسيا وطلبتُ شيشة وشايا ثقيلا، وشتمتُ سيد كالعادة. ولما لم يلتفت ناحيتى كالعادة، انتهزتُ الفرصة وقلتُ مداعبا فى تأنيب:
-إذا كان المعلم عطية أعطاك على قفاك فهذا لأنك حمار.. وأنت لا تستحق ذلك فقط، وإنما كان يجب عليه وضع الملعقة الساخنة فى.. فى.. هئ.. هئ.. فى أذنك. أما إذا كانت حماتك اللعينة فى مهمة عاجلة عند امرأتك فهذا لأنك جاهل ولا تعرف حتى الآن ما ينبغى عمله مع هؤلاء النسوان.. همهمت إحدى الصديقات الجالسات فى حلقة الأصدقاء المجاورة:
-طول عمرك قليل الأدب..
فالتفتُ إليها مبتسما:
-لا تحسبى نفسك على النسوان.. أنتِ من المثقفات يا هانم..
وقهقهتُ بصوت عال. ولما تردد صوت قهقهاتى فقط فى أرجاء الصمت، أحسستُ أنه مات.
همستُ فى أذن مرقس متسائلا:
-خير يا حاج مرقس؟ فنظر بنفاذ صبر، ورفع وجهه إلى السماء بورع وتقوى:
-يا رب خذه لتنقص الحمير واحدا.
فأدركتُ أنه مات بالفعل.
وللمرة الأخيرة هتفتُ مداعبا فى محاولة لتأكيد، ولنفسى على الأقل، أن الأمور تسير على غير ما يرام:
-هات قهوة سادة، يا سيد، على روح المرحوم.. هاها.. ها..
ونظرتُ هناك فى الاتجاه الذى لم أكن أحب النظر إليه بشكل عام وفى الصباح على وجه الخصوص.. فكان مقعده خاليا. ويبدو أن الجميع قد اتفقوا ضمنا على ألا يشغل مكانه أحد. وربما نكون قد تعوَّدنا جميعا ذلك الأمر خوفا من لسانه السليط، أو إشفاقا على مشاعره الرقيقة أحيانا.
قفز فى صدرى شئ ما صلب مثل الحجر، وحَطَّ فوق القلب. كانت هناك، ولا تزال، مشاعر ما أكنها نحوه، لكنها على أية حال لم تكن مشاعر صداقة أو حُب، ولا أستطيع الجزم بأنها مشاعر كراهية، أو ربما مشاعر ود مترددة. حاولتُ كثيرا تفسير تلك الحالة الشعورية الكامنة بداخلى نحوه وتوصَّلتُ فى النهاية وبعد جولات عديدة مع نفسى إلى لا شئ. ورغم ذلك فقد كنتُ أنتقى الألفاظ والكلمات والجمل بحذر شديد إذا ما جمعتنا جلسة الأصدقاء بالصدفة. وفى أمسيات البار اليومية كنتُ أتجنَّبه متخذا لنفسى ركنا قصيَّا يمكننى على الأقل مراقبته منه بطرف عينى. وفى أوقات الزحام كنتُ أدير مقعدى صوب الجهة المعاكسة لألمح صورته المنعكسة فى المرآة المعلَّقة على الجدار الأصفر القديم. لكن الصورة أخذت تبهت مع الأيام، ثم راحت تضمحل وتتلاشى رغم وجود الإضاءة. وكثيرا ما طلبتُ من عم مصطفى مازحا تغيير هذه المرآة القديمة الصدئة متعللا بأسباب وهمية.
رحتُ أُخَمِّن: متى مات؟ وأين؟ وكيف؟ وما السبب؟..
ومع استبعاد السؤال بـ "لماذا؟" حتى لا تتعقد المسائل، اكتشفتُ سريعا أن الإجابة على هذه الأسئلة ما هى إلا مصيدة لانهائية مليئة بالدوائر والمنحنيات الخطرة، ولاسيما أن الزمان فى حالة كهذه مرتبط ارتباطا عضويا بالمكان . فلو كان قد مات فى المساء فإن ذلك مرتبط بوجوده فى البار. وإن كان قد مات فى البار فذلك يعنى أنه قد نفَّذَ برنامجه المسائى بحذافيره بعد حذف كل ما ليس منه فائدة أو جدوى مثل الفرجة على مسرحية أو قراءة كتاب، أو حتى مشاهدة فيلم بالسينما. وبالتالى فكيفية موته مرتبطة ارتباطا جذريا بالإجابة على متى؟ وأين؟ وبدون تحديد هاتين الإجابتين لا يمكن الإجابة على كيف؟ ومن البديهى ألا يكون الموت قد حدث بسبب الخمر لأننا جميعا نشربها ولم نمت، وهناك من لا يشربها وقـد مات. كما أنه لن يكون أيضا بسب عدم الفرجة على مسرحية أو أى شئ من هذا القبيل. أما إذا كان قد مات فى الصباح فمعنى هذا أنه مات على أى مقهى خلف طاولة عليها كوب من الشاى وبجوارها شيشة. وهنا لا يمكن تحديد كيفية موته أو سببه. فلا يمكن أن تكون قد دهسته عربة قمامة عابرة يجرها حمار لم يستيقظ بعد من نومه، أو ركله بغل يجر عربة خضار. ولا يمكن أن يكون قد أفجعه، لدرجة الموت، منظر طفل يسير حافيا بدون سروال والذباب يقتات على المخاط السائل من أنفه. واستبعاد ذلك يتأتى من كونه قد توصَّل منذ زمن طويل إلى أن العالم قد صار عربة قمامة محترمة تجرها البغال من أمثاله، وبالتالى فقد سلَّم أمره إلى صاحب الأمر وفهم أن عربات القمامة لا يمكنها دهس البغال التى تجرها إلا فى حالة إذا ما انعكست الآية، وهذا يتنافى مع المنطق على الرغم من اتفاقه مع الوضع القائم عمليا. أما إذا كان قد فعلها فى الفترة ما بين الساعة الثانية والسادسة صباحا، فإن ذلك يمكن أن يكون قد حدث فقط فى مكانين لا ثالث لهما: إما على شاطئ النيل، أو بأحد شوارع القاهرة. ومن المستبعَد أن يكون قد مات على فراشه وفى هذه الحالة تتداخل جميع الأسئلة والإجابات، وتتفتح دوائر ومنحنيات جديدة فى المصيدة.
أطل الموت من عينيىّ محدِّقا بعيون الجالسين، وامتزج بالحزن الثقيل الفاصل بين الرؤوس المتراصة فى عشوائية، وذابت الارتعاشات الداخلية للأصدقاء المتناثرين وكل منهم يخفى ما يدور برأسه فى صفحات الجرائد أو خلف دخان الشيشة، وربما فى أكواب الشاى وفناجين القهوة وثنايا العبارات الفخمة المنمَّقة بنحوها وصرفها: كل حسب عمله ووظيفته وتخصصه. ولما شعرتُ به يحاصرنى بوجهه المجعد، وشعره المجعد، وصوته ونظراته المجعدة، صرفت تفكيرى إلى شئ آخر هلامى. لكن الموت أطل من هذا الهلامى فحاصرنى بسحنة أكثر هلامية مدت نحوى أصابع تشبه أصابعه الطويلة الرفيعة، وأذنين أكبر بكثير من أذنيه الكبيرتين، وأنفا طويلا مسلوبا مثل أنفه. لم أفلح فى الإمساك بخيط محدد يقود إلى فكرة واضحة يمكنها أن تشغلنى كى أبرر صمتى وسكونى. وعلى نحو ما فاجأنى السؤال: "ماذا كان سيحدث لو انتظرتَ قليلا؟ أ لم نكن قد بدأنا نتقارب، وبدأ بيننا حوار صامت، ونظرات يشوبها الحذر والترحاب والشك، وربما الخجل أيضا؟" كان قد انتهز فرصة وجودى بالبار فى الأسبوع الماضى وطلب لى زجاجة بيرة، ونظر إلى المرآة عندما وضعها عم مصطفى أمامى هامسا بشىء ما. لحظتها فكرتُ بسرعة وانبريتُ للرد، ولكنها كانت باردة والعرق يتصبب على جسدها البنى فى إغراء واشتهاء كنساء البحر فى الأحلام. وانتهى الأمر بهزة من رأسى، وابتسامة تائهة ربما بدت بلهاء كتلك الابتسامة التى تراود المراهقين عند استيقاظهم من الأحلام التى يعاشرون فيها نساء البحر الباردات المتصببات عرقا دافئا له طعم العسل ورائحة اليود والصندل. أ لم يكن يستطيع تأجيل هذه المسألة كى أرد له الدعوة ونصبح صديقين؟ كنتُ قد خططتُ لها مسبقا، ورتبتُ نفسى جيدا: فسوف أفتعل مشاجرة مع سيد لأى سبب.. ربما لأن ماء الشيشة غير نظيف، أو لجفاف المعسل، وربما لكثرة السكر أو قلته فى الشاى، ومن الجائز وقتها ركل الشيشة بعيدا أو سكب الشاى على الأرض، فإذا ما انبرى سيد مطالبا بالديون التى زادت عن الحد المعقول لائما إياى على رمى النعمة والتبذير، سيكون قد أدى خدمة جليلة ووقع فى المصيدة. لحظتها سيُستَفَز عليّ ويتدخل لاعنا سيد وديونه والمقهى، وربما وصل الأمر إلى وزير المالية والبنك المركزى وصاحبة البوتيك القائم على ناصية الشارع، وبعد أن نقمع سيد اللئيم، سأبتسم له محييا، وسأهدئ من روعه بكلمات محسوبة، ثم أدعوه لتناول كأسين عند عم مصطفى. وعندما نجلس معا، لأول مرة خلف طاولة واحدة سأعتذر له. وإن سأل لماذا ؟ سأغيِّر الموضوع وأحكى له عن أشياء كثيرة.
انصرف ذهنى إلى احتمال مقلق ومثير: أ لا يمكن أن يكون قد انتحر؟ أو دهمته سيارة عابرة فى مكان ما فى وقت ما؟ وماذا لو كان ذلك عمدا ولسبب لا يعرفه أحد؟ ولكن ماذا لو كان ذلك بالصدفة المحضة وبدون أى سبب؟ ودارت تساؤلات أخرى عديدة برأسى هممتُ بطرحها لكننى أدركتُ فى حينه أن هؤلاء الملاعين مشغولون بالحزن والصمت. فأبقيتُ لسانى فى موضعه بينما اتجهتُ بأفكارى صوب البار، ولعنتُ عم مصطفى الذى يتقيد ويقيدنا معه بمواعيد وقوانين حجرية لا قبل لأحد بها.
هممتُ بالنهوض، فاستوقفنى مرقس قائلا فى تحذير:
-الجنازة بعد صلاة الظهر..
وأضاف حمدون بعد إخراج ما بصدره من دخان:
-وسنقعد عندى بعد آذان العشاء..
نظرتُ إلى مرقس قائلا:
-والصلاة إنشاء الله فى كنيسة أمك؟
ثم اتجهتُ إلى حمدون مشيرا بذراعى نحو البار:
-سأحتفل الليلة عند عم مصطفى.
(2)
كنتُ أسمعه دائما يردد أن القاهرة مدينة متعفنة ثم يسد فتحتى أنفه بإصبعيه ويرفع وجهه إلى أعلى ضاحكا، فتدمع عيناه وتتماوج شعيرات حمراء وسوداء فى أبيضهما المتعكر. وغالبا ما كان أحد الأصدقاء، حمدون أو مرقس أو غيرهما، يستفزه فى خبث: هذا حقد يا عليّ، وعموما فهى قد تعفَّنت بسبب وجود أمثالك من القرويين البائسين، ومن المفروض عليك أن تكون موضوعيا ولا تحسدنا على نظافتنا ولكنتنا القاهرية… كما أنه لا يجب أن تقيس القاهرة بالسكارى الموجودين الآن فى البار، فهم مثلك باعوا الفراخ والبط فى قراهم ثم اشتروا تذكرة قطار وجاءوا إلينا ليشاركونا فقرنا. ويضحك عليّ حتى تدمع عيناه، ثم يأخذ نفسا عميقا ورشفة من كأسه، ويشير بإصبعه الطويلة على خارطة القاهرة الوهمية أمامه… أنت لا تصدق، بل لا تريد أن ترى خشية أن تصدق... إنها مدينة لعوب، ولا أريد أن أقول أنها مومس حمقاء حتى لا يقشعر جلد بناتكم الطرى ويصفننى بالجلافة وقلة الأدب وينفرن منــى كفأر.. فعلى أية حال أنا أعشق الجلوس إليهن والاستماع إلى مخارج ألفاظهن "الكاهرية" عندما يتفلسفن أو يقرأن "كصصهن" أو "كصائدهن" التى ما أنزل الله بها من سلطان.. القاهرة، يا مثقف، عجوز شمطاء تمارس الرذيلة مع كل من هب ودب.. ومهما تصابتْ فلن تستطيع إخفاء التجاعيد والبثور المتناثرة على وجهها وجسدها.. إنها تبدأ يوميا من سلم الخادمات الوضيعات حتى تعتلى آخر درجات الموامس مكسورات القلب والجناح، فلا تنعشها سوى قبضة من العملة الصعبة لا تلبث أن تنتقل بقدرة قادر إلى جيوب القوادين: -هات كأس دُبْل من غير ثلج، يا مصطفى… إنها ترتدى عشرات الأثواب التى تبدلها عشرات المرات فى اليوم الواحد والليلة الواحدة، وتظل أنت يا محترم تلف وتدور وتحوم، وفى النهاية تجد نفسك على أعتابها وحيدا، وإن فتحتْ لك ستركع تحت قدميها الوسختين يتيما ومتيَّمَا لأسباب لا يعرفها إلا الذين اكتووا بنارها، ولن تحصل على أكثر مما تحصل عليه القطط والكلاب الضالة: -هات ليمونة يا عم مصطفى لو سمحت… انظر مثلا إلى شُبْرَا فى الصباح وبعد الظهر وفى الليل، وانظر إلى المغربلين والوايلى الكبير وشادر السمك والزاوية الحمراء، ثم انظر إلى الزمالك وجاردن سيتى وشارع سليمان باشا بمرافقه فى نفس هذه الأوقات… وفى المساء اذهب إلى الحسين والغورية والمُقَطَّم… وعندما تدور الدائرة الجهنمية ويولَد الخيط الأبيض من الخيط الأسود، انتق أى مقهى بعشوائية يشوبها سوء النية أو بصدفة مقصودة، وانظر إلى وجه خلق الله… إنها جهنم الحمراء، يا مثقف… ولا تقل لى إنه الخراب الجميل… فليس هناك خرابا جميلا أبدا حتى ولو أقر ذلك المجمع اللغوى الأمريكى: -هات خيارة، يا مصطفى، حرام عليك… وصادق عليه الهنود والطليان… وإن كنتَ لا تريد أن تصدِّق فاذهب إلى أية غرزة بالمدافن لترى الموت الجميل، أو الحياة الجميلة فى الموت الجميل. ويضج البار بالضحك، ويعلو صوت التمخـط والبصق، فيرفع كأسه إلى أعلى ويقذف بما فيه دفعة واحدة إلى جوفه ثم يسد أنفه.. كلنا تعفَّنـا، يا سادة، والحمد لله ومن لم يتعفَّن بعد فسوف تصرخ عظامه عندما يبول عليه الأحياء المساطيل فى المدافن الجميلة.. هئ.. هئ.. جميلة..
قادتنى قدماى عَبْرَ شارع الشواربى، وكان عليّ يسميه "شانزليزيه المماليك".. كانت الشوارع جميلة، والناس يتحركون فى نشاط وحيوية والبيع والشراء يتمان فى هدوء بدون مساومة أو وجع قلب. وفجأة تسمَّرتُ أمام بار عجيب يحتل زاوية تطل على شارعين، بهرنى بجماله المعمارى وأدهشنى لكونه مفتوحا فى مثل تلك الساعة من النهار. والأهم من هذا وذاك هو أننى لأول مرة أكتشف مثل هذا الاكتشاف الهام على الرغم من معرفتى بكل بارات القاهرة.
اقتربَ منى متسول شاب بجوار المدخل، فأخرجتُ له لسانى ودخلت. نظرتُ إلى الساعة فوجدتها لم تتجاوز الواحدة بعد. طلبتُ زجاجة بيرة وطبق ترمس، وفكرت.. خلال هذه الزجاجة يمكننى أن أحدد إلى أين سأذهب، وإلى من، وماذا سأفعل إلى أن يحين موعد عم مصطفى.. ففى كل الأحوال يجب أن أمر عليه ولو حتى من قبيل النفاق كى لا يطالب بالديون المترهلة. لم أكد أبدأ فى رسم خطتى حتى انتهتْ الزجاجة. فطلبتُ كأس نبيذ دُبْل على أن يأتى النادل بعد ذلك بزجاجة بيرة أخرى.
شعرتُ بتقلصات فى المعدة تبعتها أصوات غريبة وألم شديد. لم أكد أمد يدى لأتحسس بطنى حتى شعرتُ بدوار خفيف وألم أقوى بالمثانة. قلتُ فى نفسى: لأذهب إلى المرحاض وأضرب عصفورين بحجر واحد. وبعد أن تقيَّأتُ وتبولتُ، وجدتنى أردد: إنه التقيؤ الجميل.. هئ هئ. ثم زعقتُ بشكل لا إرادى: ملعون أبوك يا عليّ. فنظر إلىَّ النادل باستهجان، وابتسم بعض الجالسين، بينما راح المتسول ينظر نحوى عَبْرَ النافذة بتشفٍ وسخرية. شربتُ ما تبقَّى بكأس النبيذ دفعة واحدة وصببتُ من زجاجة البيرة الثانية حتى سال الزبد على الطاولة… يمكننى الآن الذهاب إلى ناهد فى المجلة.. لكنها ستنتهز الفرصة كالعادة وتعاملنى معاملة القاهرة لأولادها.. ستحكى عن آخر استطلاع رأى لها بين سكان المقابر ورد وزير الإسكان.. وآخر حوار صحفى أجرته مع أحلى ممثل فى مصر، وأنه ضغط على يدها بعد انتهاء الحوار وهمس لها بدعوة على العشاء، بينما كانت زوجته الممثلة الشهيرة تتحدث مع خالتها التى كانت طوال الوقت تخاطبها بضمير المذكر.. ثم تأخذنى من يدى فى حنان إلى سيارتها وتظل تحكى عن أشياء عجيبة لا أدرى أين ومتى تراها إلى أن نصل إلى شقتها الجديدة دائما.. وهناك يبدأ اللقاء الحقيقى.. ستبدل ملابسها فى الغرفة المقابلة.. وستتعمد أن تقف فى الزاوية التى تعكسها المرآة الموجودة بالغرفة التى أجلس فيها.. سترتدى الشورت القصير جداً، والفانلة القصيرة جداً جداً، ثم تجلس على الفوتيه الضخم رافعة قدمها بالكامل على مسنده العالى لتقرأ لى آخر قصيدة كتبتها بالأمس، وعينىَّ تروحان وتجيئان بطول وعرض ما يظهر وما لا يظهر من خلال ملابسها القليلة جداً جداً… لن تقرأ قصيدة واحدة، بل ستقرأ كل القصائد التى كتبتها فى كل الأمسيات الفائتة، وربما كررت بدون قصد بعض القصائد القديمة.. وبين الحين والآخر ستنظر بطرف عينها مبتسمة إلى ملامحى المتوترة خلف حبات العرق الصغيرة.. بعد ذلك ستنهض بجسدها المُشع لتقلى بيضتين لكل منا، وتبدأ الحديث أمام البوتاجاز عن الصراع بين الرجل والمرأة، والحرب الطاحنة التى يقودها الرجال الملاعين ضد المخلوق الرقيق الذى يعانى منذ الأزل نزق الرجال وساديتهم.. وعندما أمد يدى هناك نحو المنطقة الساخنة بين الشورت القصير والفانلة القصيرة جداً جداً ستنتفض صارخة، وتجرى ثم تخبرنى وهى تضحك بأننى حمار، وأن كل ممثلى البلد ومثقفيها يجرون وراءها.. وبعد ذلك ستأمرنى ضاحكة فى دلال بالجلوس بعيدا عنها لأنها بشر والرجال ليس لهم أمان فى هذا الزمن، ثم تسألنى بسحر وحنان عن أحوالى.. وعندما أجيبها بكلمات مقتضبة وهزات من رأسى، ستنظر بخبث إلى عينىَّ الحائرتين، وتقترب منى كثيراً كثيرا رافعة سبابتها فى إغراء وإثارة محذِّرة بأن الرجال لا يفكرون إلا بشىء واحد فقط وتطبع على خدى قبلة خفيفة تقطع الأنفاس وتجعل الدم يتصاعد إلى المناطق المجهولة فـى الدماغ.. فإذا هممتُ بالانصراف، أمسكتْ بيدى ودفعتنى قليلا فى كتفى بصدرها النارى.. وما إن تشعر بارتفاع مؤشر الحرارة فى دمى ، تفتح الباب قائلة:
-تعرف إنك أسوأ إنسان قابلته فى حياتى؟ لكن باحبك.. باى باى.. يا صايع.
صببتُ آخر ما تبقى ثم لعقتُ فوهة الزجاجة.. كان جالسا هناك فى الركن البعيد معطيا ظهره للمرآة الكبيرة المستطيلة التى لم تكن تعكس صورته أو صور الجالسين . حَوَّلْتُ وجهى سريعاً فلمحتُ المتسوِّل ينظر ساخرا. لعنتُ الاثنين فى نفسى وفكرتُ.. من الأفضل أن أذهب إلى الوايلى الكبير .. ستكون عزيزة قد عادت من المصنع.. وإن نهضتُ الآن فيمكننى مقابلتها رأسا عند باب الخروج.. سنشترى البيض والطماطم كالعادة.. وسنتسلل إلى غرفتها بهدوء كى لا تشعر بنا جارتها اللعينة.. ولكنها ستصدِّع رأسى بالعلاوات والمكافآت، ثم تحكى عن طبيب المصنع الذى قُبِضَ عليه بتهمة ملفقة بعد أن اكتشف سرقة الأدوية من المخازن.. وستبكى عندما تروى قصة سقوطه فى الانتخابات بعد أن خذله العمال على الرغم من أنه يعالجهم مجاناً فى عيادته الخاصة.. وستغفو على صدرى وأنا أحكى لها عن الورشة التى كنتُ أعمل بها بعد أن طردنى أبى من البيت لأننى لا أصوم فى الوقت الذى كان يعود هو فيه يومياً إلى البيت مسطولا.. وعندما أحملها بهدوء لأضع جسدها المنهك على الكنبة الصغيرة .. ستفتح عينيها وتحتضننى بقوة تجعلنى أشفق على ضعفها.. سأقشِّر البيض وأُقَطِّع الطماطم ثم أوقظها.. ستجلس أمامى فى محاولة لإعطائى انطباعا بأنها متيقظة تماما، ولكنها ستغفو وهى جالسة.. وسألعنها فى نفسى هى واليوم الذى رأيتها فيه، وأنصرف بهدوء.. وستطل جارتها الشمطاء من خلف الباب الموارب كالعادة.. ستلعنها وتلعننى، ثم تضيف بصوت كالنقيق بأننا من الأفضل أن نتزوج بدلا من التسلل هكذا مثل الكلاب.. وسألتفتُ إليها، أيضا كالعادة، مشيرا لها بإصبعى الطويلة إشارة فاضحة تغلق على أثرها الباب.
دفعتُ حسابى وتناولتُ الباقى. وعندما اعترض المتسول طريقى بإلحاح يشبه التهديد، أعطيته كل ما رده النادل إلىّ، ووقفتُ فى وسط الشارع خابطا كفا بكف، ثم قلبتُ جيوبى جميعا إلى الخارج أمامه وانصرفت .
بدت الشوارع غريبة كما لو كنتُ أراها للمرة الأولى فى حياتى، بينما كانت وجوه الناس منبعجة قليلا ورؤوسهم صغيرة كالنقاط وقد نبتتْ فيها آذان كبيرة مفرطحة. أما واجهات المحلات الكبيرة والمعروضات فى الفترينات وحركة السيارات، والطوابق العليا فى العمارات الضخمة كانت جميعها عادية ومألوفة على غير العادة، فلم أتمكن من الحكم عليها بالجمال أو القبح، أو الجزم بأننى أحبها أو أكرهها. وكانت تماثيل وسط البلد تبدو فى أوضاع غريبة نسبيا. فالأحصنة بدون أرجل، والرجال القابعون عليها بدون رؤوس، ومنهم من بدَّل يده التى يشير بها فأراح يسراه مستخدما يمناه عكس الاتجاه، ومنهم من اتكأ على قدمه اليمنى المقطوعة ليريح اليسرى التى يقف عليها منذ زمن، وفى أماكن أخرى نامت الأحصنة ونهضت الخراف والكلاب والحيوانات المختلفة، وكان الأسد الأيمن على كوبرى قصر النيل يمسح خراء الطيور عن لحيته فى كسل وهو مغمض العينين، والآخر يغط فى نوم عميق بينما راحت الغربان تتجمع فى تشكيلات عجيبة على مؤخرته استعدادا لقضاء حاجتها. فكرت.. لو أننى عبرتُ الآن الكوبرى نحو الجامعة فلربما أجدها خالية وربما خلا الميدان أمامها من الناس والحدائق والتمثال الكبير. فاستدرتُ عائدا نحو ميدان التحرير وإحساس غامض بالجوع يثقل جفونى.
راودتنى فكرة متألِّقة ، ظلتْ تزداد حيوية واندفاعا كلما اقتربتُ من ميدان العتبة. وقررتُ فى النهاية الذهاب إلى كامل مجدى فى منزله.. فهو الوحيد بيننا الذى لا يزال يعيش مع والدته وأختـه الكئيبة.. وهم يحبوننى، أو على الأقل يتحمَّلون زياراتى المتباعدة التى لا تجلب لهم سوى المشاكل وخصوصا عندما تدخل أخته بوجه مكفهر لترزع صينية الشاى أمامنا. حسمتُ أمرى، وفكرت.. يمكننى أن أتغدى عنده.. لكنه سيقتلنى بمجلته العبقرية كما يصفها.. وسيلح علىَّ لكتابة أو ترجمة مقال ما ربما يقترحه هو كالعادة.. سأراوغه لحين انتهائى من طعامى.. وسأطلب منه قرضا لحين عثورى على مقال مناسب لمجلته التنويرية التى رسم عليها شعارا يوجع البطن من الضحك.. وإذا استطعتُ الحصول منه على القرض، فسوف أقترح عليه تغيير "لمبة الجاز" من على غلاف المجلة ووضع أية وسيلة أخـرى للتنوير، وإن كانت " كلوباً " على سبيل المثال، وسأنصرف مسرعا قبل أن يبدأ محاضرة طويلة ينهيها بلعن دين أبى ووصفى بالتخلف والانتهازية، والأهم من ذلك قبل أن تدخل أمه لتنصحنى بالإقلاع عن الشرب ومحاولة العثور على عمل أنا وابنها الخائب الذى يجرى وراء الجرائد والمجلات والمتاعب والفقر ثم تنصرف دون الاستماع إلى رد أى منا، بينما تقف أخته وراء الباب مكشرة على أنيابها.
لم أجد كامل بالبيت. فخلَّفتُ باب الشعرية ورائى. وبدون تفكير اتجهتُ إلى حارة اليهود محاولا التخلص من توترى بسبب أخته اللعينة التى واربت النافذة وزعقتْ كمن لدغها عقرب بأنه غير موجود، ثم صفقتها فى استعلاء وقرف.. ابنة الكلب العانس هذه..
رأيتُ بعض الأولاد يلعبون الكرة فى إحدى الحارات الجانبية. انضممتُ إليهم وخطفتُ الكرة من قدم أحدهم ، فتوقَّفوا عن اللعب وراحوا ينظرون نحوى بغيظ ودهشة، أشرتُ لأحدهم بأن يتقدم، لكنه نظر إلى زملائه جاحظ العينين مبتسما. ركلتُ الكرة نحوه ولحقتُ بها، فلم يتحرك. أمسكتُ بها فى يدى، فصرخ طفل صغير من خارج الملعب.. "هاند بول"، فقذفتُ بها إليه وانصرفتُ ضاحكا، ولا حقنى صوت جماعى.. العبيط أهوه. وقبل أن أصل إلى المقهى الكائن على ناصية الحارة التى تسكن بها إحسان، لمحتُ فتاة مقبلة وجزء لا بأس به من صدرها يظهر من الفتحة الواسعة لفستانها الأحمر القصير. علتْ وجهها ابتسامة خفيفة عندما فوجئتْ بى شاخصا إليها كالملسوع ، ولما صارت المسافة بيننا تسمح بالهمس، مِلْتُ برأسى نحوها قائلا: نظرة، يا ست..
-هئ.. هئ..
-لمسة واحدة، وأموت..
-روح موت عند أمك، يا شاطر..
وتعالى صوت ضحكات من ناحية المقهى، فانحرفتُ بسرعة إلى اليمين.
فتحت إحسان الباب فى دهشة استحالت إلى ابتسامة بلهاء:
-الحمد لله على السلامة، يا مجنون..
وأغلقت الباب بعد أن أخذت ابتسامتها شكلها الطبيعى المعهود، والدهشة لا تزال ترتسم على شفتيها اللتين توردتا لتوهما ودبت فيهما حياة صغيرة رقيقة. كانت الشقة كما هى لم تتغير بضوئها الخافت فى كل الأوقات، ورائحتها الطرية العتيقة. زادت فقط بعض أصص الزرع، وظهر إلى جوار إطار صورة أمها إطار آخر بشريط أسود فيه صورة لرجل عجوز. جاء صوتها من المطبخ ضاحكا :
-هل هناك بنى آدم يشرب من صباحية ربنا؟!
قلتُ باسما:
-أنا.
اتجهتُ إلى المطبخ. طوَّقتُها من الخلف بذراعى، وقَبَّلتُ رأسها. فربتتْ على كفى بحنوٍ وصبَّتْ القهوة بيدها الأخرى فى الفنجان الكبير الذى تحبه. قلتُ:
-سأموت من الجوع..
ناولتنى طبق بطاطس مسلوقة من فرن البوتاجاز وذهبتْ إلى غرفة النوم. فأخذتُ واحدة قذفتُ بها إلى فمى وأمسكتُ بأخرى، ثم أعدتُ الطبق إلى مكانه واتجهتُ نحو الغرفة الثانية. أشعلتُ سيجارة واستندتُ إلى حافة الباب المؤدى إلى البلكونة ورحتُ أرشف ببطء من فنجان قهوتى، ثم أشعلتُ أخرى وجلست..
… وكانت هى الملاذ الأخير من الغول القاهرى البشع. والملجأ الأمين عندما تغلق البـارات أبوابها ، ويغيب الأصدقاء والمعارف عن المقهى، وعن بيوتهم، وعن الدنيا. والعودة إليها هى الطريق الوحيد للتخلص من الإحساس العارم بالدونية فى خضم الحركة العكسية لهذا العالم. عندها كل شئ: البطاطس والحُب والقهوة والجدعنة والقدرة على الفهم. لم أتمكن من معرفة ذلك فى الوقت المناسب عندما قابلتها بمكتبة الجامعة وقتما كانت جميلة وفاتنة كما هى الآن رغم تجاوزها الثلاثين. بعدها تخرَّجنا وذهب كل منا إلى حال سبيله. فتزوَّجتْ هى من أحد زملائنا وفرت منه بعد عامين دون الإعلان عن الأسباب. وعاشت قصة حب أخرى مع أمين مكتبة صار ممثلا مغمورا، فتركها وأحبَّ ممثلة ناشئة. وظلتْ هى كما كانت حتى التقينا بالصدفة منذ عدة سنوات.. كانت تبحث عن عمل.. أما أنا فكنتُ أعمل بورشة وأكتب القصص ليلا وأسكر أيام الآحاد.. وفى الوقت الذى ظلت فيه هى كما هى، أقلعتُ أنا عن العمل فى الورش وكتابة القصص السخيفة، وحافظتُ فقط على ارتياد المقاهى والبارات وزيارتها بين الحين والآخر عندما أشعر بالخطر.. هى تعرف ذلك، وأنا أعرف أنها تعرف، لكننى لا أشعر بالخجل.. وعندما أحس أحيانا أن حبها سيعتلى سور صمتى، أغيب عنها وعن العالم، لكنها تأتى دائما عندما أكون فى حاجة إليها، وتجدنى عندما أضيع فى زحام الهموم والمشاغل والقلق اليومى.. و..
-كأنك لم تنم منذ ألف سنة..
فتحتُ عينىَّ. كانت أجمل بكثير، وأرق مما كانت عليه منذ عشر سنوات. جلستْ. وأخذتْ رأسى على فخذها وراحت تحكى عن أشياء كثيرة.. عن عملها فى مكان محترم، وقراءتها للشعر والروايات. وقالت أيضا أنها بدأت تسمع الراديو فى الفترة الأخيرة، وأنها اكتشفت أنه أكثر متعة من التلفزيون، وأحيانا تذهب إلى السينما مع أى شخص تعرفه، لكنها تحب الذهاب إلى المسرح بمفردها. وسألتنى فجأة:
-كيف حال صاحبك، ثقيل الدم؟
قلت:
-للأسف لم يكن صاحبى.. وعموما فقد مات.
قالت ضاحكة:
-حرام عليك، يا كافر.
وأضافت بأنها على الرغم من رؤيتها له مرتين أو ثلاث ، إلا أنها شعرت بنفور غريزى منه، وأنها لمحت فى عينيه نظرة ليست بالجريحة أو القاسية، ولكنها تقع فى المساحة بينهما حيث الرغبة فى تدمير العالم وتدمير النفس والقضاء بشكل نهائى على الذات، وربما العكس. وطبعتْ قُبْلَة خفيفة على خدى، ثم همستْ:
-لا تغب عنى طويلا ، أنا فى حاجة إليك.
فَقَبَّلْتُ يدها. وكان الجنس بيننا هو المرحلة التى تتبع العاصفة، فتتولى ترتيب العالم، ووضع الخرائط الجديدة للأماكن الجديدة، وإطلاق المسميات المناسبة على الأزمنة المناسبة. كان الضد للموت، والصعود إلى أعلى، والتسامى فى بوتقات الفضاء الهلامية الشفافة. كانت تبكى أثناء رحلة الصعود، وتنتحب وتشهق وتضحك. وكنتُ أنصهر فوق صدرها وأتبخر، وأشرب فلا أرتوى. وأغوص مرة، ومرات، وأخرج حاملا رايتى البيضاء مستسلما لرغبة جامحة لانهائية تتأجج كلما احتويتها بين ذراعىّ وضممتُها وشددتها ورفعتها كحروف اللغة المراوغة، وما إن أُقَبِّل كل خلية فى جسدها، تغمض عينيها وتبتسم، ثم تتبخر وتتلاشى. وفى النهاية نسقط من أعلى جسدا واحدا ضد العاصفة، بأربع عيون شاخصة إلى الدوائر الوهمية فى الفراغ، فى حين تنصهر اللغة وتتحول إلى سائل حبيس فى زجاجات تثير الضحك، ويبقى الصمت لغة وحيدة يمكنها التعبير عن رحلة اللذة العابرة.
استعاد كل منا خلاياه من جسد الآخر. أغمضتْ عينيها وهمستْ باسمة:
-أ تعرف أننى أحبك؟
فسألتها عن الساعة.
ردتْ ضاحكة:
-عشرة. ابق هنا الليلة.
نظرتُ إليها فبدت مثل الطيف. وكانت المرآة الكبيرة المقابلة لا تعكس صورتى. فجأة، ارتعدتُ، وشعرتُ بارتفاع درجة حرارتى. خرج صوتى غريبا ومجنونا:
-عليّ مات.. تصورى؟!
(3)
كان أمامى أحد طريقين للوصول إلى البار. إما عن طريق شارع الموسكى أو عن طريق شارع الأزهر . لكن الأول فى هذه الساعة ملئ بالقطط والكلاب التى بدأت عملها بالبحث والتنقيب، وسط العربات التى تركها أصحابها مغطاة وذهبوا إلى بيوتهم، والنبش فى أكياس القمامة وفضلات الخشب والخيش التى تكاد تسد الشارع. وبما أننى لا أحب القطط وأخشى الكلاب، فقد صرفتُ النظر تماما عن شارع الموسكى. لكن شارع الأزهر أيضا مزدحم بالسيارات والناس وربما بالنشالين. كما لم تكن لدى أية رغبة فى التقاء، ولو بالصدفة، أى شخص أعرفه: فى هذا الوقت بالذات يبدأون التوجه إلى مقاهى الحسين، أو الذهاب إلى الشيخ إمام بحارة "حوش قدم" فى الغورية. وطرأ على ذهنى الذهاب من نفس الطريق الذى أتيـتُ منه، لكننى تذكرتُ تلك العانس اللعينة ، وثمة شئ آخر ورد على خاطرى لكن سرعان ما تلاشى عندما لمحتُ نفس الفتاة ذات الفستان الأحمر القصير مقبلة مع صاحبتها.. لم تواتنى رغبة فى الاحتكاك بهما أو معاكستهما، لكن الملعونة همستْ لصاحبتها بشىء ما، وعلت وجهيهما ابتسامة ماكرة. قالت الأولـى باسمة:
-هئ.. يموت.. جاته خيبه..
وأضافت صاحبتها:
-رجال آخر زمن..
ابتسمتُ رغما عنى وواصلتُ طريقى نحو شارع الأزهر.
طأطأتُ رأسى موافقا على الجزء الأول من جملة عم مصطفى، لكننى تعللتُ بعدم الجلوس معه أو معرفته عن قرب. وهمستُ لنفسى.. لا أستطيع النظر إلى عيون الأمهات أو إلى أكف الآباء فى مثل هذه الحالات. وطلبتُ كأس دُبْل بدون ثلج.
..عليّ مات..
أو مات عليّ، سيان. فالفعل قد وقع، وعليّ ليس الفاعل. وموته لا تعادله لحظة حياة أو لحظة حلم. كان ومضة وانتهى الأمر.
مات..
فعل وفاعل. والفاعل ليس عليّ، لكنه مات على كل حال، وباءت جميع محاولات وضع موته فى أحد طرفى المعادلة بالفشل. حاولوا فى الصباح العثور على معادل موضوعى لموته، ولتبرير صمتهم وعزوفهم ونزقهم القاتل. وفى النهاية شيَّعوه فى جلال ومهابة واحترام، ثم جلسوا يتذكرونه، وربما شربوا على روحه بعض الخمر فى فناجين القهوة.
مات.
أ من الممكن أن تُقال هكذا ببساطة؟ وأن يُتخذ الفعل معبرا للوصول إلى معادلة مريحة، خادعة فى استقرارها، تعبِّر عن فعل أكبر بكثير من كل المعادلات؟ فعليّ يدخن الشيشة.. يسكر.. يتشاجر مع سيد.. يشتم عم مصطفى.. يسب الحكومة.. يرطن بالأسبانية.. يتحدث عن فن الباليه وعلاقته بالصوفية فى مطلع القرن الثالث والعشرين.. يحاول جاهدا تفسير العلاقة بين تشريح الجمجمة عند إخناتون بمثيله عند عبدالمجيد البقال.. يعاكس امرأة بوقاحة فى الطريق.. يربط ساخرا بين الحروب العربية وبين حروب الماعز فى جنوب إيطاليا، كلها أفعال وأقوال واقعية بصرف النظر عن كون بعضها منطقيا ومفهوما أم لا، وبغض النظر أيضا عن كون البعض الآخر منها مبتذلا رغم خفة ظله..
-كأس بالثلج ، يا عم مصطفى..
لكن أن يذهب هكذا ببساطة.. يااا.. ه..
-وبالليمون ولا تبص لى بهذا الشكل..
لم أجالسه مرة واحدة منذ رأيته على المقهى، ولم أفكر فى ذلك أبدا إلا فى الفترة الأخيرة.. لكن لماذا؟ أ كان ذلك بسبب لسانه السليط عندما يختلف مع حمدون فى تحديد أصل المصريين وعلاقته بالبيضة والفرخة، أو يتفق مع مرقس على أن اليهود بريئون من دم المسيح؟ أم بسبب أحاديثه المتشابكة عندما يرتدى ثوب المثقفين ويمتطى الدواب العرجاء لمتمردى الزمن الجديد، فيعلن ضاحكا أن اليهود استيقظوا يوما من نومهم فوجد كل منهم ورقة فى فناء بيته عليها عبارة "لقد تخلَّصنا منه"، وإلى الآن بابا روما نفسه لا يعرف من كتبها؟
-وكأس بدون أى شئ، يا مصطفى..
فى الصباح قال سيد ببساطة: الله يرحمه. وقال أحد الأصدقاء: لقد مات عندما انطفأت بداخله جذوة الحلم. ولما أعجبته الجملة، أخذ نفسا عميقا من الشيشة وأخرجه فى بطء ومهابة مُحَرِّكا رأسه فى أسى، بينما مصمصتْ الجالسة إلى جواره شفتيها فى ألم وحزن. وبعد قليل قاموا جميعا ليدفنوه بأيديهم، ويشاركوا فى ردمه تماما بالتراب.
-هات جزر وكأس بدون ثلج، يا مصطفى..
… دخل مبتسما. لم يكن مرتديا ملابس بيضاء مثل أطياف المنام، ولم يكن ممتطيا ناقـة ولا بعير. كان عاريا تماما ومجروحا فى القلب. اتجه إلى ركنه المفضَّل وجلس. نظر إلىّ فى المرآة وقال:
أنت ابن كلب-وبصق فى وجهى.
-لمن الجزر يا مصطفى أنا طلبت خيار.. لكن فين المرايه؟
-أنت كسرتها إمبارح يا أستاذ على.. صح النوم.