1
أعطاني محمود مخطوطة الرواية ثم فتح النافذة و قال لي (هاتمطر). قلت له أنني أحب السير تحت المطر و سألته عن أقرب مكتب تصوير في المنطقة. وصف لي واحداً بعد شارعين و حذرني من النزول في هذا الجو.
سرت تحت المطر مخبئاً المخطوطة داخل سترتي خوفاً على الأوراق من البلل. حثثت الخطى نحو المكتبة التي وصفها لي. كنت أريد الوصول بسرعة حتى أتمكن من تصوير المخطوطة ثم الذهاب بها إلى دار النشر قبل أن تغلق أبوابها.
كان المكتب ضيقاً بشكل مبالغ فيه. على الحائط الذي في اليسار كانت معلقة صورة البابا كيرلس الخامس. فور دخولي المكتب تصفحت المخطوطة و وجدت بعض الصفحات قد ابتلت من الأمطار. كان ثم كلمات قليلة قد بدت غائمة بسبب ذوبان الحبر الأسود على الأوراق. لم تكن تلك الكلمات كثيرة. كلمة أو كلمتان و لم يكن الأمر خطيراً. تناولت مني العاملة في مكتب التصوير, ذات المظهر الذكوري و كأنه لرجل في الخمسين, المخطوطة و مضت تقلب صفحاتها بسرعة ثم حلت الورق من الدوسيه و أدخلته في ماكينة التصوير.
بدت الماكينة لي مضحكة لأمر ما. كانت تبدو عتيقة للغاية. كنت أراقب الماكينة من بعيد و هي تخرج الأوراق بسرعة البرق. فكرت في أن هناك أشياء كثيرة كتلك ذات مظهر خداع. إنتهى تصوير الرواية في دقائق. إقتربت لأتفحص النسخة المصورة. سرعان ما رفعت رأسي بدهشة و أنا أمسك بالنسخة و أقلبها بين أصابعي
- الرواية!؟
- مالها!؟
- مش هي..مش بتاعتي..
و كأنني لم أجد أفضل من هاتيك الكلمات لأعبر عما في داخلي فقد صمتُّ و أنا أنظر إليها شاكياً. أجابتني هازة رأسها (الماكنة عطلانة). لم أفهم. كانت في رأسي فكرة واحدة تدور حول كوني لن أدفع قرشاً واحداً إضافياً في نسخة من رواية ليست روايتي. إختطفَت الأوراق من يدي و كأنني انتهكتها. وضعت الأوراق في دولاب صغير ثم كشفت الغطاء عن ماكينة زيروكس جديدة في ركن المكتب و مضت تدس فيها أوراق الرواية الأصل.
2
ورثت نرجس مكتب تصوير و ماكينتي تصوير عن أبيها. كانت ماكينة منهما خربة منذ زمن بعيد. لم تكن تنسخ كما ينبغي, أو تنسخ بشكل مشوه غير أن أبا نرجس كان يفضلها عن الماكينة الأخرى, الزيروكس التي اشتراها قبل وفاته بشهر, و كان حريصاً طيلة هذا الشهر (و قبله أيضاً في الواقع إذا أبدلنا الماكينة الزيروكس بماكينة أخرى باعها فور شراءه للزيروكس) على تمرير الورق الذي يطالب بنسخه في الماكينتين على حد سواء, و في الماكينة اياها, الخربة, قبل الأخرى.
هكذا ورثت نرجس تلك العادة عن أبيها كما ورثت المكتب و الماكينتين, و إذا ما توسعنا في الحديث عنها فيمكننا القول بأنها لم تبدع شيئاً لذاتها بل كل ما تقمصته كان ميراثاً عن أبيها, جميل إرمياء, حتى بدت شبيهة به في مظهرها العام و سلوكياتها. تندر الناس إذ رأوها لا ترتدي إلا نفس البلوزة و الجيبة السوداوين قائلين بأنها قد ورثتهما عن أبيها, مع المكتب و الماكينتين و العادات الشخصية.
3
أستطيع الآن أن أقول واثقاً بأن الرواية التي لمحتها من بعيد تخرج من فتحة ماكينة التصوير كانت هي روايتي, إذا ما كان لرؤية من على بعد مترين أن يوثق بها, بنفس تقسيم الصفحات و الهوامش و كلمات العناوين المكتوبة ببنط كبير. أما فيما بعد, و عندما تقلص المتران إلى ثلاثين سنتيمتراً فقد كان الأمر مختلفاً. هل كان هناك من قال بوجود حياة خاصة للحرف, أي بتحركه على الورق بمرونة فيكون خادعاً و زمبركياً إذا ما أردنا له الثبات لتفحصه؟ أو هل من قال بوجود عدد من الأبجديات على حسب ما تسمح به حركة لحرف سيال لا يني يتراقص و يومض؟ أو هل من تحدث عن سواد الحبر؟
خيل إلى عندما تفحصت الرواية أمامي أنني أرى حروفاً كثيرة في حرف واحد تتبادل ذواتها. يتحول الحرف من أ إلى ب, في أبجديات مغايرة تماماً, بينما في نفس اللحظة يتحول من ب إلى أ, غير أن الأغرب كان السواد. يمكن للسواد أن يكون قاتلاً و قاتماً حال تعاملنا معه بهذا الشكل غير أنه قد يكون هكذا أيضاً إذا نظرنا إليه ببراءة أو, كما في حالتي, بدهشة خفيفة لم تتحول بعد إلى ذهول غامر.
خيل إلى أن الحبر الأسود يعنيني أنا و كأنه يهاجمني. غير أن هذا لم يكن يحدث. كان الأمر كأن عفاريت السواد تمثل مسرحية أمامي مبتعدة عني بكيلومتر غير أنها كانت تنظر باتجاهي بشيء من المكر و السخرية مما سوغ لي الشعور بالخوف منها أو كأن الأمر فيلماً ثلاثي الأبعاد مع كوني واعياً بأن هذا السواد مازال أمامي و أنه ما كان و لا سيكون يوماً بجانبي أو يسمح لي بمشاركته عبثه الصبياني و الشيطاني.
لم أستطع تمييز كلمة مما كتبت في الأوراق, و كانت الأوراق محتفظة بهويتها كأوراق بصرامة مثلها مثل الحبر و السواد. خطر لي الإمساك بأول الأوراق غير أنه حتى هذا الإجراء الفسيولوجي لم يساعد على تمييز شيء ما. كان أول الأوراق هو آخرها و قد تكون الرواية قد تكونت كلها في حرف واحد بسيط من هذه الحروف الزئبقية.
كانت العاملة في المكتب تنظر إلي بنظرة محايدة. كانت هي الشيء الوحيد الذي استطعت أن ألمحه فيما خلا السواد الوحشي الذي غزا عيني. و ذلك لأن السواد قد ارتبط بها مباشرة. لم يكن هناك فارق بين السواد في الأوراق و بينه في البلوزة السوداء التي ترتديها و أمكنني أن أقرأ بعد معاناة شديدة الصفحة 137 من الرواية تتبعثر على جيبتها, و في ملامحها رأيت ملامح ثلاث شخصيات من الرواية. كانت تقود السيارة و هي ترقص و تُغتَصب و تدخن الشيشة في الحسين, و كان صوت جميل إرمياء يأتيني ممزوجاً بروائح من أماكن لم أزرها و إن كنت مازلت أملك الجرأة للكتابة عنها.
4
لم تكن سيدة السواد, هكذا أطلق كاتب ما على نرجس جميل, سيدة سواد بالمعنى الكلي للعبارة. كانت هناك ورقة بريئة وحيدة خرجت, ناجية بعذريتها, من ماكينة التصوير. و هذا كان سراً أراد له جميل إرمياء أن يكون مدفوناً طوال العمر غير أن هذا ما كان بالإمكان. حدث ذلك منذ ثلاثة عشر عاماً. هكذا خمنت نرجس عندما تفحصت الورقة و هكذا خمنت المشهد كما حدث وقتها.
وضع جميل البطاقة الشخصية الخاصة بالشاب الذي على أهبة التجنيد في الماكينة و خرجت كما هي, أو كما ينبغي لنسخة مصورة من بطاقة شخصية أن تخرج, نقية و متطابقة مع أصلها. تأملها جميل بدهشة (و لنا أن نخمن: ممزوجة كذلك بغضب و خيبة أمل كاسحين) بينما امتدت يد الشاب لتقبض عليها. أمسك جميل بيد الشاب بعنف و أبعدها. إرتدت يد الشاب في صدره و كاد يقع و كاد يلكم العامل في المكتب لولا أن هذا ضغط على الزر مرة أخرى بعصبية حتى خرجت نسخة ثانية نظر إليها برضا ثم كرر المحاولة للمرة الثالثة في ماكينة أخرى, لم تكن زيروكس و لم تكن جديدة غير أنها كانت ملائمة, و عندما خرجت الورقة الثالثة أعطاها للشاب.
بالنسبة للورقة الثانية وضعها جميل في دولاب صغير خاص عرفت نرجس كل خصائصه أما الأولى فقد حفظها في مكان سري في برواز معلقة فيه صورة البابا كيرلس على جدار بالمكتب.
لماذا لم يعدم جميل إرمياء الورقة الأولى المارقة و قد كانت كفيلة بتذكيره بفشله لدى تطلعه إليها؟
تصعب الإجابة على هذا السؤال إذ نحتاج إلى معرفة عميقة بدخائل النفوس و إن كان الأصل في شخص مثله هو إعدام الورقة فقد يكون الأصل كذلك مغايراً تماماً إذا ما علمنا شيئاً عن طبيعة جميل إرمياء الإيمانية. نستطيع استنتاج أنه بما أن جميل إرمياء كان يؤمن, إيماناً نابعاً من الكتاب المقدس بالأساس, بأنه ليس من سر يظل سراً إلى الأبد, مع كل محاولاتنا الدائبة لإبقائه خافياً, فقد خبأ الورقة وراء صورة البابا, مضيفاً بذلك مزيداً من الغموض إلى غموضها الأصلي, كنوع من مد يد المعونة للرب كي يمارس حكمته الخالدة بدون عراقيل أو لجوء إلى المعجزات.
بهذا فقدت نرجس كل إيمان لها بالعطل الساحر لماكينة التصوير خاصتها, مما أوقعها في وساوس عديدة لم تهدأ إلا و الماكينة تواصل تشويهها لكل الأوراق التي تصلها بعنف لا يهدأ, مما حول نسخة البطاقة الشخصية إلي استثناء وحيد لا يعتد به, هكذا كانت نرجس تفكر في لحظات حبورها, غير أنه مازال لا أحد ينكر قيامه, هكذا كانت تفكر حال اغتمامها.
5
خطر لي اليوم أن أطالب بروايتي, أعني النسخة الأولى, الضائعة و اليتيمة, للرواية و التي خرجت من تحت يد سيدة للسواد لاقيتها مرة في مكتب تصوير. ذهبت إلى المكتب. لم أعرف كيف أصيغ كلماتي المرتبكة غير أنها فهمت في نهاية الأمر, بل و لم تتخذ رد فعل عدائي كما توقعت. جلست على الكرسي و مضت تفكر. سألتني في النهاية عما إذا كنت أطالب بالرواية فقط فأجبت داهشاً و هل هناك شيء آخر أطالب به. قالت لي أنها ستمنحني المكتب و ماكينتي التصوير هبة منها. لم تكد دهشتي تفرغ حتى وجدتها تخلع ملابسها. بلوزتها السوداء و جيبتها السوداء و ملابسها الداخلية. نظرت للباب المفتوح بذهول ثم إليها و خطر لي أن تكون تلك دعوة لممارسة الجنس معها. مددت يدي نحو أزرار المعطف بتردد شاكّ إلى حد بعيد حتى سمعتها تأمر (ما تقلع!). خلعت ملابسي في لحظة و بدأت هي تلبسني ملابسها بدءاً من السوتيان و اللباس و حتى البلوزة و الجيبة. و برغم ضآلة حجمي إلا أن ملابسها كادت تتمزق على و بدا أنها لن تصلح للارتداء أكثر ممن مرة. بدت ساقاي المشعرتان مضحكتين و هما تطلان من وراء الجيبة القصيرة. كانت سيدة السواد قد خرجت و لم أعلم كيف و لا ماذا ارتدت غير أنها قد تركت حقيبة يدها على ماكينة التصوير.
جاءني رجل مسن يطلب تصوير عدة أوراق. وضعت الأوراق في آلة التصوير و أخرجت مرآة صغيرة و إصبع روج من حقيبة اليد التي كانت متروكة على الماكينة. مضيت أصبغ شفتي الشهوانيتين بمتعة.