كنت أخرج كارنيه الكلية من حقيبتي. وأنا في عجلة من أمري. وصلت متأخرة في هذا اليوم. وكنا في الربيع حيث مداخل الجامعة مغطاة بالورق الخضر. والحديقة الواسعة تعلن عن نفسها بالألوان الطبيعية. كان المكان يبتسم لي. وفي الجو ثمة شعر من الدخان والمرايا, ونسمة هواء عذبة في هذا الصباح الجميل, تداعب شعري. وصوت الهواء الذي يعبث بورق الشجر. يتلاقي مع وشيش مياه النافورة التي تصعد الي قلب السماء, ثم ترتد إلي الأرض. تنشر رائحة البحر في المكان كله. السماء شديدة الزرقة. والضوء يتذبذب في الهواء المصقول كالزجاج.
يبدو أن عدوي الجو وبهجة اليوم أثرت في ضابط الحراسة, أول ما يطالعني في مدخل الجامعة, وكأنها معتقل أو سجن وليست دارا للعلم والمعرفة والبحث عن الحقيقة. كان تصرف الضابط غريبا هذا الصباح. بدلا من النظر إلي صورتي المثبتة في الكارنيه, والتحديق في وجهي. قبل أن يسمح لي بالدخول, نحي الكارنيه جانبا. ومد يده لي. كانت ممسكة بيد شاب يقف في ظله, كأنه يحتمي به من حرارة شمس لا وجود لها.
أمسك يدي بيسراه. ويد الشاب بيمناه. وشبكهما معا. قائلا:
خذي هذا معك.
لم أستوعب الأمر في البداية. تصورت أن مزاج الضابط في هذا الصباح الجميل جاوز حدوده.
عندما نظرت لأول مرة للشاب الذي أمسك بيدي بقوة, كأنه غريق. وأنا القشة التي تمثل له الإنقاذ الأخير. اكتشفت أنه بلا عينين. حفرتان مكان عينيه. لونهما رمادي.
مشينا معا..
ملابسه من النوع الرخيص, غير متناسقة, وليست نظيفة. ويبدو كما لو كان نائما بها. شعرت بخجل وتمنيت ألا تراني أي بنت من بنات كليتي. حتي لايعايرنني بهذا الذي أمسك به بيدي. وأجدني مضطرة لشرح الأمر لهن. واحدة واحدة. لابد وأنه طالب أتي من الفلاحين هذا الصباح. ربما كان يعيش وحيدا. ولايملك سوي الملابس التي يرتديها.
فوجئت به يسبقني. لدرجة أنني تصورت أنه يجري, همست لنفسي. ربما كان يري. رغم وجود الحفرتين الظاهرتين في وجهه. من المؤكد أنه لم ير نفسه أبدا. فكرت في نظارتي الغالية. اشتريتها بمبلغ تبرم منه والدي أكثر من مرة. وكان إصراري عليها يعكس نوعا من الاستعداد للصيف القادم. فكرت أن أهدي النظارة له. مع أنها نظارة حريمي وهو ولد.
سبقني. شعرت بألم يدي المقبوضة عليها بيده. وخذتني عظام أصابعه. كأنها قطع من الخشب. حاولت أن أجاريه في سرعته ولكن حذائي الجديد بكعبه العالي جدا. حال دون ذلك.
وقبل أن أنبهه لضرورة أن يبطئ من سيره سألني وهو يدير رأسه ناحية اليمين وناحية الشمال. كأنه يجر القلب وراء الكلمات:
ما اسمك؟
شممت رائحة نفسه غير المريحة عندما استدار بوجهي ناحيتي:
رضاب.
قال:
الله.. الله.
عاد يسألني بكلمات لاهثة:
في أي كلية؟
الآداب
وفي أي سنة؟
الأولي.
وفي أي قسم؟
اللغة العربية.
فكرت أن أسأله, ولوحتي عن الكلية التي سأوصله إليها. ولكنه قال لي. وقد بدأت قبضة يده تخف علي يدي. وحركة اندفاعه الي الأمام هدأت:
أما أنا ففي كلية الحقوق. حمدت الله في سري. لأن كليته تجاور كليتي. سألته وقد أصبحنا علي مشارف الكليتين:
أي مدرج تريد الذهاب اليه؟
ضحك فظهرت تفتفة علي وجهه. قال لي:
لا مدرجات اليوم.
سألته:
الي أين تريد الذهاب إذن؟!
توقف وقال:
الكافيتريا.
لم أشأ أن أسأله عن السبب. قال وقد لانت ملامح وجهه وأصبحت يده وسادة ناعمة حول يدي:
عندي موعد غرامي.
ونحن نقترب من الكافيتريا. التي لم يكن يجلس فيها أحد. في ذلك الوقت المبكر.
قال وهو يوشك أن يغني:
ألا تجلسين؟!
ثم أكمل بعد قليل:
حبيبة الفؤاد هنا.
قلت له:
المكان خال تماما.
بانت مقدمات خيبة الأمل علي وجهه. لو كانت له عينان. لشاهدت الآن مشروع دمعة. وأصابعه تحركت حول يدي بعصبية. قلت لنفسي, إنه يتعامل معي. ولكن بأنامل يديه. يعزف بهما ما يريد قوله لي.
قال وقد انطفا حماسه:
إنها تحضر متأخرة دائما.
قدته بهدوء. الآن لم يعد يسبقني. وصلنا الي الكافيتريا. سألته إن كان يفضل الجلوس في مكان معين؟ هل يريد أن يأخذ حمام شمس؟ أم يجلس تحت مظلة؟ أو تحت شجرة. قال لي:
كل الأمكنة سيان.
وأنا أجلسه علي كرسي أمام منضدة. وبالقرب من شجرة. كنت أشم رائحة ورقها الأخضر. وكانت تتناهي الي من حوض الزهور. روائح تزيد جمال اليوم بهاء.
قال كمن يحدث نفسه:
المهم أن تحضر.
بعد أن جلس مكانه. سألته:
أنادي لك الجرسون؟!
لوح بيده في يأس:
أمامي وقت طويل.
قبل أن أنصرف فوجئت به. يطلب مني الجلوس. قبل أن أقول إنني جئت متأخرة وأريد الانصراف بأسرع ما يمكن. قال إن لديه كلاما يريد أن يقوله لي.
جلست. وبدأ يتكلم. قال إن الكفيف لا يحب الكلام عن البصر. والأصم لايتحدث عن السمع. ومع هذا فإن عنده الجرأة. لكي يقول لي. إن الله سبحانه وتعالي رفع رأسه في هذه اللحظة الي أعلي سلبه نعمة البصر ولكنه أنعم عليه بنعمة البصيرة توقف تماما وهو يقول:
والفارق بين البصر والبصيرة. مثل الفارق بين الأرض والسماء. احترت ماذا أقول. بدا لي الصمت أكثر أمانا من أي تصرف آخر يمكن أن أقدم عليه. لوحت له بيدي وأنا أمشي. اكتشفت أنه لن يري تلويحة اليد. فقلت له:
سلام.
لم يرد علي. كان يبدأ زمن الانتظار الذي لا يعرف كم سيطول. اتجهت الي المدرج المخصص لمحاضرتي اليوم. وفي ذهني تساؤل: هل حبيبة القلب كفيفة مثله؟ أم أنها تري مثلنا؟
بعد ساعتين, كنت أخرج من مدرجي. وأنا في طريقي الي الشارع. نظرت الي الكافيتريا من بعيد. كان لا يزال جالسا. يحدق في الفراغ وأمامه كوب فيه بقايا شاي. وزجاجة مياه غازية شرب نصفها. وكوب ماء لم يمسه أحد.
لكن ذبابة أو نحلة. كانت تحوم علي الأكواب الثلاثة. خيل الي عندما كنت أنصرف أنها حطت علي بقايا كوب المياه الغازية.
يبدو أن عدوي الجو وبهجة اليوم أثرت في ضابط الحراسة, أول ما يطالعني في مدخل الجامعة, وكأنها معتقل أو سجن وليست دارا للعلم والمعرفة والبحث عن الحقيقة. كان تصرف الضابط غريبا هذا الصباح. بدلا من النظر إلي صورتي المثبتة في الكارنيه, والتحديق في وجهي. قبل أن يسمح لي بالدخول, نحي الكارنيه جانبا. ومد يده لي. كانت ممسكة بيد شاب يقف في ظله, كأنه يحتمي به من حرارة شمس لا وجود لها.
أمسك يدي بيسراه. ويد الشاب بيمناه. وشبكهما معا. قائلا:
خذي هذا معك.
لم أستوعب الأمر في البداية. تصورت أن مزاج الضابط في هذا الصباح الجميل جاوز حدوده.
عندما نظرت لأول مرة للشاب الذي أمسك بيدي بقوة, كأنه غريق. وأنا القشة التي تمثل له الإنقاذ الأخير. اكتشفت أنه بلا عينين. حفرتان مكان عينيه. لونهما رمادي.
مشينا معا..
ملابسه من النوع الرخيص, غير متناسقة, وليست نظيفة. ويبدو كما لو كان نائما بها. شعرت بخجل وتمنيت ألا تراني أي بنت من بنات كليتي. حتي لايعايرنني بهذا الذي أمسك به بيدي. وأجدني مضطرة لشرح الأمر لهن. واحدة واحدة. لابد وأنه طالب أتي من الفلاحين هذا الصباح. ربما كان يعيش وحيدا. ولايملك سوي الملابس التي يرتديها.
فوجئت به يسبقني. لدرجة أنني تصورت أنه يجري, همست لنفسي. ربما كان يري. رغم وجود الحفرتين الظاهرتين في وجهه. من المؤكد أنه لم ير نفسه أبدا. فكرت في نظارتي الغالية. اشتريتها بمبلغ تبرم منه والدي أكثر من مرة. وكان إصراري عليها يعكس نوعا من الاستعداد للصيف القادم. فكرت أن أهدي النظارة له. مع أنها نظارة حريمي وهو ولد.
سبقني. شعرت بألم يدي المقبوضة عليها بيده. وخذتني عظام أصابعه. كأنها قطع من الخشب. حاولت أن أجاريه في سرعته ولكن حذائي الجديد بكعبه العالي جدا. حال دون ذلك.
وقبل أن أنبهه لضرورة أن يبطئ من سيره سألني وهو يدير رأسه ناحية اليمين وناحية الشمال. كأنه يجر القلب وراء الكلمات:
ما اسمك؟
شممت رائحة نفسه غير المريحة عندما استدار بوجهي ناحيتي:
رضاب.
قال:
الله.. الله.
عاد يسألني بكلمات لاهثة:
في أي كلية؟
الآداب
وفي أي سنة؟
الأولي.
وفي أي قسم؟
اللغة العربية.
فكرت أن أسأله, ولوحتي عن الكلية التي سأوصله إليها. ولكنه قال لي. وقد بدأت قبضة يده تخف علي يدي. وحركة اندفاعه الي الأمام هدأت:
أما أنا ففي كلية الحقوق. حمدت الله في سري. لأن كليته تجاور كليتي. سألته وقد أصبحنا علي مشارف الكليتين:
أي مدرج تريد الذهاب اليه؟
ضحك فظهرت تفتفة علي وجهه. قال لي:
لا مدرجات اليوم.
سألته:
الي أين تريد الذهاب إذن؟!
توقف وقال:
الكافيتريا.
لم أشأ أن أسأله عن السبب. قال وقد لانت ملامح وجهه وأصبحت يده وسادة ناعمة حول يدي:
عندي موعد غرامي.
ونحن نقترب من الكافيتريا. التي لم يكن يجلس فيها أحد. في ذلك الوقت المبكر.
قال وهو يوشك أن يغني:
ألا تجلسين؟!
ثم أكمل بعد قليل:
حبيبة الفؤاد هنا.
قلت له:
المكان خال تماما.
بانت مقدمات خيبة الأمل علي وجهه. لو كانت له عينان. لشاهدت الآن مشروع دمعة. وأصابعه تحركت حول يدي بعصبية. قلت لنفسي, إنه يتعامل معي. ولكن بأنامل يديه. يعزف بهما ما يريد قوله لي.
قال وقد انطفا حماسه:
إنها تحضر متأخرة دائما.
قدته بهدوء. الآن لم يعد يسبقني. وصلنا الي الكافيتريا. سألته إن كان يفضل الجلوس في مكان معين؟ هل يريد أن يأخذ حمام شمس؟ أم يجلس تحت مظلة؟ أو تحت شجرة. قال لي:
كل الأمكنة سيان.
وأنا أجلسه علي كرسي أمام منضدة. وبالقرب من شجرة. كنت أشم رائحة ورقها الأخضر. وكانت تتناهي الي من حوض الزهور. روائح تزيد جمال اليوم بهاء.
قال كمن يحدث نفسه:
المهم أن تحضر.
بعد أن جلس مكانه. سألته:
أنادي لك الجرسون؟!
لوح بيده في يأس:
أمامي وقت طويل.
قبل أن أنصرف فوجئت به. يطلب مني الجلوس. قبل أن أقول إنني جئت متأخرة وأريد الانصراف بأسرع ما يمكن. قال إن لديه كلاما يريد أن يقوله لي.
جلست. وبدأ يتكلم. قال إن الكفيف لا يحب الكلام عن البصر. والأصم لايتحدث عن السمع. ومع هذا فإن عنده الجرأة. لكي يقول لي. إن الله سبحانه وتعالي رفع رأسه في هذه اللحظة الي أعلي سلبه نعمة البصر ولكنه أنعم عليه بنعمة البصيرة توقف تماما وهو يقول:
والفارق بين البصر والبصيرة. مثل الفارق بين الأرض والسماء. احترت ماذا أقول. بدا لي الصمت أكثر أمانا من أي تصرف آخر يمكن أن أقدم عليه. لوحت له بيدي وأنا أمشي. اكتشفت أنه لن يري تلويحة اليد. فقلت له:
سلام.
لم يرد علي. كان يبدأ زمن الانتظار الذي لا يعرف كم سيطول. اتجهت الي المدرج المخصص لمحاضرتي اليوم. وفي ذهني تساؤل: هل حبيبة القلب كفيفة مثله؟ أم أنها تري مثلنا؟
بعد ساعتين, كنت أخرج من مدرجي. وأنا في طريقي الي الشارع. نظرت الي الكافيتريا من بعيد. كان لا يزال جالسا. يحدق في الفراغ وأمامه كوب فيه بقايا شاي. وزجاجة مياه غازية شرب نصفها. وكوب ماء لم يمسه أحد.
لكن ذبابة أو نحلة. كانت تحوم علي الأكواب الثلاثة. خيل الي عندما كنت أنصرف أنها حطت علي بقايا كوب المياه الغازية.