دقات القلب تتابع... إيقاع رتيب يماثل إيقاع دقات الساعة التى أنظر فيها كل ثانية... الساعة الآن الثامنة والنصف... متأخر عن موعدى ساعة كاملة... لا بل أكثر... لقد كنت أذهب دائماً مبكراً أجلس بجواره... أجلس بجواره أراقب خلجاته... فكيف أتأخر عن هذا اللقاء...؟!! لم تكن تلك المرة مثل باقى المرات مباراة شطرنج عادية تنتهى بفوزه -كالعادة- لكنها كانت المباراة الألف... أحسست بشئ غير عادى حين أخبرنى الأسبوع الماضى أن تلك المرة ستكون الألف... كنت سعيداً لأنه اختصنى وحدى بهذا السر الذى سوف يعلن عنه بعد فوزه فى مباراة اليوم... حزن شديد على بطلى...
لقد ارتبط بهذا الشخص "عم سالم" منذ أربعون عاماً لا بل أكثر... كل أسبوع فى مساء الخميس نلتف جميعاً حول طاولته... دائماً كنت أجلس بجواره على نفس الطاولة فى نفس المقهى... يتغير الخصم ولا يتغير المكان والجمهور وطبعاً البطل... نشاهد... ترتفع أنفاسنا مع كل حركة خطيرة... نفكر فى كافة الاحتمالات والحركات... قلوبنا جميعاً معلقة بأصابعه ودائماً النهاية واحدة... فوزه.
لم يكن عم سالم مجرد لاعب شطرنج عادى أشاهده وأستمتع بلعبه أو حتى أتعلم منه... لا لقد تعدى تلك المرحلة... لقد كان أبى الذى افتقدته منذ الضغر... عرفته منذ أيام الثانوية العامة كنت أجلس على تلك المقهى فى أوقات المدرسة مع زملائى وكان هو فى العشرينات من عمره... نشاهد مبارياته التى يفوز فى بعضها ويهزم فى البعض الآخر... دائماً كان له حلم واحد أن يصبح ملك الرقعة الذى لا يهزم... يجلس إلينا بعد كل مباراة يحدثنا... ولم يكن يتحدث ولو لمرة واحدة عن الشطرنج كان يكتفى فقط بلعبه... وإنما كان يحدثنا عن ممالك قديمة... ملوك حقيقيون... أخبار غريبة لم أكن أعرفها إلا منه... كان يحكى لنا عن مملكته الخاصة... أرضه التى تركها من أجل عرش الشطرنج... حلم ملك عليه عقله... أجرها ويعيش من الإيجار كل شهر ونسبة الأرباح آخر العام... لا يعرف شيئاً سوى لعب الشطرنج.
سنوات طويلة أمضاها فى اللعب... مباريات عديدة لا يعلم عدده أحد حتى قبل أن أعرفه... منذ عشرون عاماً أخذ على نفسه عهداً أمام مشاهديه بأنه سيتوقف عن اللعب حين يصل إلى ألف فوز متتالى أو يموت... ألف فوز متواصل بشرط ألا يلاعب أحداً هزمه مرة أخرى... يومين فى الأسبوع السابعة والنصف... حلم غريب... علق آماله وأحلام حياته بالحصول عليه... شخص أغرب... لا أعلم عنه سوى اسمه وأرضه بالشرقية... طاولته التى أجلس حولها مع الكثيرين... عرشه الوهمى الذى يحلم بالجلوس عليه يوماً ما.
وصلت أخيراً إلى المقهى... الجميع يلتف حوله... مكانى محجوز رفض أن يجلس أحد غيرى عليه... كان متأكداً أننى سأحضر... وجوه مألوفة... تحيات صامتة لم تتجاوز الشفاه... عيون تتابع المباراة بنهم... لا يعلم أهميتها ولا حتى خصمه... شاب صغير أمامه ثلاثة أكواب من القهوة... ثقة تظهر من صوت أنفاسه... يعلم جيداً أنه لو فاز اليوم سيقضى على أسطورة عمرها عشرون عاماً بالرغم من أنه لايعلم أنها ستكون المباراة الأخيرة إذا هزم... حين وصلت لمحت فى عينيه نظرة عتاب على التأخير... سرعان ما تحولت إلى نظرات عينيه النارية التى اعتدت على رؤيتها دائماً... لكنها كانت أقل اشتعالاً اليوم... لم أجد فيها ذاك البريق الذى يدل على شدة الرغبة فى تدمير أى شئ يقابله على الرقعة...
الموقف طابيتين وفيل ووزير لعم سالم باللون الأسود... لا يغيره أبداً... يتشاءم الكثيرون منه ولكنه يحبه... أخبرنى ذات يوم حين سألته عن سر اللون الأسود أنه لونه المفضل... أكثر صدقاً وأدق تعبيراً عن الواقع... حتى ملابسه يغلب عليها هذا اللون.
خصمه كان يملك طابيتين ووزير... موقف شبه متكافئ... طابية محصورة فى الجانب بالوزير الأسود والفيل الأسود يهاجم الملك... ابتسامة تتفتح على الشفاه... يدافع عن الملك بالطابية ويهاجم الملك الأسود بوزيره الأبيض... ترتفع الهمهمات... تنتقل العيون يميناً ويساراً بحثاً عن حل... يهرب بالملك... تنهدات ارتياح سرعان ما تخمد حين يخسر الفيل الأسود... يهاجم الوزير الأسود الملك... تعود البسمة للوجوه مرة أخرى... يتقدم بالطابية السوداء لمساعدة الوزير.
يتسارع إيقاع المباراة بشكل خطير... يقتل الوزير الأبيض والطابية البيضاء... تتسارع الأنفاس... يتزايد العرق على جبين فارس اللون الأبيض... تضيع الثقة من أنفاسه وتزوغ عينيه.
يا لها من ليلة... المباراة الألف... سأودع عم سالم إلى الأبد... من يعلم أين سيذهب..؟ رفض أن يخبرنى واحترت طوال الأسبوع... ربما سيعود إلى أرضه ليديرها بنفسه... كيف ذلك وهو لا يعلم عنها شيئاً منذ أكثر من ثلاثين عاماً...؟!!... ربما سيبقى ليشاهد الآخرين وهم يلعبون... ولكن كيف يتحول اللاعب إلى مشاهد بتلك السهولة...؟!!... سأطلب منه أن يظل معنا فليأتى ويحكى لنا حتى ولو لم يلعب
عيوننا جميعاً تركت الرقعة وتجمعت عليه... الجميع ينظر إلى هذا البطل الخارق الذى لا يتذكر أحد آخر مباراة خسرها... وحدى أشعر بشئ غريب فيه... أنفاسه تتسارع... ألمح فى عينيه دمعات محبوسة... ربما كان هو أكثر الناس رغبة فى خسارة تلك المباراة... لم يكن يهمه الفوز قدر رغبته فى لقائنا... بل والأكثر من ذلك فى لعب الشطرنج... ستون عاماً من عمره... ولكنه يرغب فى أن يكون ملكاً متوجاً لاذكرى ملك... ملكاً يمارس السلطات الفعلية له فى تلك المملكة الزائفة...
حركته الأخيرة... طابتيه يحصران الملك الأبيض وتبقى حركة بالوزير وتنتهى المباراة... ويوقع وثيقة تنازله عن العرش... يرتعش الوزير فى يديه ... الجميع يبارك...عينى فى عينيه... أشعر بألامه... شريط ذكرياته يمر أمام عينيه... دمعاته الحبيسة... أنفاسه المتسارعة... عيونه الزائغة...
كش ملك...
مات الملك .
تمت.
[SIZE=5]أحمد مسعد[/SIZE]
لقد ارتبط بهذا الشخص "عم سالم" منذ أربعون عاماً لا بل أكثر... كل أسبوع فى مساء الخميس نلتف جميعاً حول طاولته... دائماً كنت أجلس بجواره على نفس الطاولة فى نفس المقهى... يتغير الخصم ولا يتغير المكان والجمهور وطبعاً البطل... نشاهد... ترتفع أنفاسنا مع كل حركة خطيرة... نفكر فى كافة الاحتمالات والحركات... قلوبنا جميعاً معلقة بأصابعه ودائماً النهاية واحدة... فوزه.
لم يكن عم سالم مجرد لاعب شطرنج عادى أشاهده وأستمتع بلعبه أو حتى أتعلم منه... لا لقد تعدى تلك المرحلة... لقد كان أبى الذى افتقدته منذ الضغر... عرفته منذ أيام الثانوية العامة كنت أجلس على تلك المقهى فى أوقات المدرسة مع زملائى وكان هو فى العشرينات من عمره... نشاهد مبارياته التى يفوز فى بعضها ويهزم فى البعض الآخر... دائماً كان له حلم واحد أن يصبح ملك الرقعة الذى لا يهزم... يجلس إلينا بعد كل مباراة يحدثنا... ولم يكن يتحدث ولو لمرة واحدة عن الشطرنج كان يكتفى فقط بلعبه... وإنما كان يحدثنا عن ممالك قديمة... ملوك حقيقيون... أخبار غريبة لم أكن أعرفها إلا منه... كان يحكى لنا عن مملكته الخاصة... أرضه التى تركها من أجل عرش الشطرنج... حلم ملك عليه عقله... أجرها ويعيش من الإيجار كل شهر ونسبة الأرباح آخر العام... لا يعرف شيئاً سوى لعب الشطرنج.
سنوات طويلة أمضاها فى اللعب... مباريات عديدة لا يعلم عدده أحد حتى قبل أن أعرفه... منذ عشرون عاماً أخذ على نفسه عهداً أمام مشاهديه بأنه سيتوقف عن اللعب حين يصل إلى ألف فوز متتالى أو يموت... ألف فوز متواصل بشرط ألا يلاعب أحداً هزمه مرة أخرى... يومين فى الأسبوع السابعة والنصف... حلم غريب... علق آماله وأحلام حياته بالحصول عليه... شخص أغرب... لا أعلم عنه سوى اسمه وأرضه بالشرقية... طاولته التى أجلس حولها مع الكثيرين... عرشه الوهمى الذى يحلم بالجلوس عليه يوماً ما.
وصلت أخيراً إلى المقهى... الجميع يلتف حوله... مكانى محجوز رفض أن يجلس أحد غيرى عليه... كان متأكداً أننى سأحضر... وجوه مألوفة... تحيات صامتة لم تتجاوز الشفاه... عيون تتابع المباراة بنهم... لا يعلم أهميتها ولا حتى خصمه... شاب صغير أمامه ثلاثة أكواب من القهوة... ثقة تظهر من صوت أنفاسه... يعلم جيداً أنه لو فاز اليوم سيقضى على أسطورة عمرها عشرون عاماً بالرغم من أنه لايعلم أنها ستكون المباراة الأخيرة إذا هزم... حين وصلت لمحت فى عينيه نظرة عتاب على التأخير... سرعان ما تحولت إلى نظرات عينيه النارية التى اعتدت على رؤيتها دائماً... لكنها كانت أقل اشتعالاً اليوم... لم أجد فيها ذاك البريق الذى يدل على شدة الرغبة فى تدمير أى شئ يقابله على الرقعة...
الموقف طابيتين وفيل ووزير لعم سالم باللون الأسود... لا يغيره أبداً... يتشاءم الكثيرون منه ولكنه يحبه... أخبرنى ذات يوم حين سألته عن سر اللون الأسود أنه لونه المفضل... أكثر صدقاً وأدق تعبيراً عن الواقع... حتى ملابسه يغلب عليها هذا اللون.
خصمه كان يملك طابيتين ووزير... موقف شبه متكافئ... طابية محصورة فى الجانب بالوزير الأسود والفيل الأسود يهاجم الملك... ابتسامة تتفتح على الشفاه... يدافع عن الملك بالطابية ويهاجم الملك الأسود بوزيره الأبيض... ترتفع الهمهمات... تنتقل العيون يميناً ويساراً بحثاً عن حل... يهرب بالملك... تنهدات ارتياح سرعان ما تخمد حين يخسر الفيل الأسود... يهاجم الوزير الأسود الملك... تعود البسمة للوجوه مرة أخرى... يتقدم بالطابية السوداء لمساعدة الوزير.
يتسارع إيقاع المباراة بشكل خطير... يقتل الوزير الأبيض والطابية البيضاء... تتسارع الأنفاس... يتزايد العرق على جبين فارس اللون الأبيض... تضيع الثقة من أنفاسه وتزوغ عينيه.
يا لها من ليلة... المباراة الألف... سأودع عم سالم إلى الأبد... من يعلم أين سيذهب..؟ رفض أن يخبرنى واحترت طوال الأسبوع... ربما سيعود إلى أرضه ليديرها بنفسه... كيف ذلك وهو لا يعلم عنها شيئاً منذ أكثر من ثلاثين عاماً...؟!!... ربما سيبقى ليشاهد الآخرين وهم يلعبون... ولكن كيف يتحول اللاعب إلى مشاهد بتلك السهولة...؟!!... سأطلب منه أن يظل معنا فليأتى ويحكى لنا حتى ولو لم يلعب
عيوننا جميعاً تركت الرقعة وتجمعت عليه... الجميع ينظر إلى هذا البطل الخارق الذى لا يتذكر أحد آخر مباراة خسرها... وحدى أشعر بشئ غريب فيه... أنفاسه تتسارع... ألمح فى عينيه دمعات محبوسة... ربما كان هو أكثر الناس رغبة فى خسارة تلك المباراة... لم يكن يهمه الفوز قدر رغبته فى لقائنا... بل والأكثر من ذلك فى لعب الشطرنج... ستون عاماً من عمره... ولكنه يرغب فى أن يكون ملكاً متوجاً لاذكرى ملك... ملكاً يمارس السلطات الفعلية له فى تلك المملكة الزائفة...
حركته الأخيرة... طابتيه يحصران الملك الأبيض وتبقى حركة بالوزير وتنتهى المباراة... ويوقع وثيقة تنازله عن العرش... يرتعش الوزير فى يديه ... الجميع يبارك...عينى فى عينيه... أشعر بألامه... شريط ذكرياته يمر أمام عينيه... دمعاته الحبيسة... أنفاسه المتسارعة... عيونه الزائغة...
كش ملك...
مات الملك .
تمت.
[SIZE=5]أحمد مسعد[/SIZE]