الريح شمالية، والمطر غزير يرشق كل خبء يمكن للفئران أن تحتمي به، بما في ذلك الشرفة التي اجتمع تحتها عدة رجال، حُشر بينهم منتظراً الباص معهم.
البرد قارس، لم يدرأه عنه معطفه السميك الذي ورثه على التتالي من والده الذي أخذه عن جده.
أغمض عينيه باحثاً في ذاكرته عن دفئها، غير أن الصوت القوي المفاجئ جعله ينتفض، لا! لم يكن كذاك الذي سقط في سوق الخضار بين الباعة كما حدث الأسبوع الفائت.
ولم تكن قذيفة آر بي جي، كتلك التي ضربت حائط مدرسة وحصدت معها أبناء جاره الثلاثة! ولم يكن أيضاً صوت الرعد،ولا جبروت صاعقة كتلك التي تآمرت مع الخيبات ونزلت من السماء فقتلت خطيب ابنة الجيران وأحالتها إلى شبه مجنونة لا تنام إلا بمهدئات، ولا تستيقظ إلا على صوتها ينادي اسم من فقدت بحرقة!
لا لم يكن صوت المسكينة أم أحمد التي تلقت خبر استشهاد ابنها بل كان ذلك الدوي صوت محرك باص أبو أكرم.
لقد كان الجميع بانتظاره منذ ثلاث سنوات، ركض نحوه مثل البقية وليصعد الباص قبلهم عليه أن يتبع الآتي:
أن يرتدي السيف والترس، وأن يعرف كيف يتفادى الرفسات والبوكسات،ويتجاهل الشتائم بإتقان.
كان الأجدر به أن يحضر معه ما ينجيه من هذه المعركة بأقل الخسائر، غير أن عناقها في ذلك الزمهرير قد أنساه الأهم من هذا الهذر، إنه الزانة!
تدرب كثيراً فيما مضى من الأيام على كيفية تركيزها في نقطة محددة، وتحمل عدة سقطات وكدمات قبل أن يتعلم كيف يجلس في الخيمة الصغيرة التي صنعتها هي له كنموذج مصغر مستعينة بالخيمة الصغيرة التي حصلت عليها مسبقاً من أحد النازحين في المخيم على أطراف البلدة.
نسيتها بسبب ذلك العناق فهمس ببغض نادم في محاولة أخيرة للصعود:
- ماذا سينفعي العناق الآن؟
وأخيراً!
المطر يشتد حاجباً كل ما خلف الزجاج من مناظر جاعلاً من الباص علبة مغلقة عائمة في فراغ اللانهاية...
استطاع أخيراً أن يحصل على مكان عند طرف الباب،جلس قبالة الركاب في الزاوية، الكل ينظر إليه باستهزاء، أم أنه خُيل له؟
حدث نفسه:
- لا.يبدو أن الجوع قد أثر بي!
لم يأكلا منذ أيام سوى أجساد بعضهما، وهو الآن في طريقه إلى المدينة ليحارب في موقعة تشالدي خبز ولا يدري إن كان سيربح رغيفاً، أو لا فكل شيء في هذه البلاد بات قاسياً وبارداً إلا عناقها!
أحس بخدر تحول إلى تنميل في ساقه اليسرى التي حشرها بين الباب ودرجة الباص وبدأ يشعر بقليل من الدفء لكنه ليس كدفئها، ثم عاد للنظر إلى الركاب الذين يتهامسون ويتغامزون:
- ما القصة؟
هكذا تساءل في دواخله المنهكة، لماذا يتصرفون بهذا الشكل؟ هل بدؤوا يشمون رائحته؟
صحيح هو لم يغتسل منذ أيام، ولابد أنها قد وضعت الآن كل الأواني والطناجر والكؤوس والزجاجات الفارغة تحت المطر المنهمر لتجمع الماء ويغتسلان.
في النهاية،لا بأس بهؤلاء، فلينظروا قدر ما يريدون.
استفزه سؤال أحدهم:
- هل هي بخير؟
خرج عن هدوئه وبدأ سيل شتائمه يرتفع طرداً مع ضحكاتهم.
- ما بالهم يضحكون كلما زاد في شتمهم؟
خلع حذاءه، وضرب من سأله، ثم خلع الآخر وضرب من دافع عن المضروب الأول، همس شيء في داخله ينبئه بمعركة جديدة قادمة، جن جنونه عندما ذكروا اسمها أمامه، ولم يستطع أحد منعه.
توقف السائق،فأنزلوه قسراً، ولم يشفع له البرد، ولا المطر ولا وحشة الطريق وغربته، ولا حتى دفء عناقها في أن ينقذه من هذا المصير.
نظر إلى الاتجاه الذي مضى إليه الباص، وثم إلى الاتجاه الذي جاء منه، لا مكان للمجانين فيه.
ثم رآها!
فتحت ذراعيها له، وهيأت نفسها، لم تنزع غزارة المطر زينتها وحتى ثوبها، لم يبتل، ركض نحوها هارباً من صوت الرعد الذي سرقها منه قبل أيام، وركض حتى أنهكه التعب، وهده المطر، ولكن! لا الطريق ينتهي ولا قبرها يقترب.
البرد قارس، لم يدرأه عنه معطفه السميك الذي ورثه على التتالي من والده الذي أخذه عن جده.
أغمض عينيه باحثاً في ذاكرته عن دفئها، غير أن الصوت القوي المفاجئ جعله ينتفض، لا! لم يكن كذاك الذي سقط في سوق الخضار بين الباعة كما حدث الأسبوع الفائت.
ولم تكن قذيفة آر بي جي، كتلك التي ضربت حائط مدرسة وحصدت معها أبناء جاره الثلاثة! ولم يكن أيضاً صوت الرعد،ولا جبروت صاعقة كتلك التي تآمرت مع الخيبات ونزلت من السماء فقتلت خطيب ابنة الجيران وأحالتها إلى شبه مجنونة لا تنام إلا بمهدئات، ولا تستيقظ إلا على صوتها ينادي اسم من فقدت بحرقة!
لا لم يكن صوت المسكينة أم أحمد التي تلقت خبر استشهاد ابنها بل كان ذلك الدوي صوت محرك باص أبو أكرم.
لقد كان الجميع بانتظاره منذ ثلاث سنوات، ركض نحوه مثل البقية وليصعد الباص قبلهم عليه أن يتبع الآتي:
أن يرتدي السيف والترس، وأن يعرف كيف يتفادى الرفسات والبوكسات،ويتجاهل الشتائم بإتقان.
كان الأجدر به أن يحضر معه ما ينجيه من هذه المعركة بأقل الخسائر، غير أن عناقها في ذلك الزمهرير قد أنساه الأهم من هذا الهذر، إنه الزانة!
تدرب كثيراً فيما مضى من الأيام على كيفية تركيزها في نقطة محددة، وتحمل عدة سقطات وكدمات قبل أن يتعلم كيف يجلس في الخيمة الصغيرة التي صنعتها هي له كنموذج مصغر مستعينة بالخيمة الصغيرة التي حصلت عليها مسبقاً من أحد النازحين في المخيم على أطراف البلدة.
نسيتها بسبب ذلك العناق فهمس ببغض نادم في محاولة أخيرة للصعود:
- ماذا سينفعي العناق الآن؟
وأخيراً!
المطر يشتد حاجباً كل ما خلف الزجاج من مناظر جاعلاً من الباص علبة مغلقة عائمة في فراغ اللانهاية...
استطاع أخيراً أن يحصل على مكان عند طرف الباب،جلس قبالة الركاب في الزاوية، الكل ينظر إليه باستهزاء، أم أنه خُيل له؟
حدث نفسه:
- لا.يبدو أن الجوع قد أثر بي!
لم يأكلا منذ أيام سوى أجساد بعضهما، وهو الآن في طريقه إلى المدينة ليحارب في موقعة تشالدي خبز ولا يدري إن كان سيربح رغيفاً، أو لا فكل شيء في هذه البلاد بات قاسياً وبارداً إلا عناقها!
أحس بخدر تحول إلى تنميل في ساقه اليسرى التي حشرها بين الباب ودرجة الباص وبدأ يشعر بقليل من الدفء لكنه ليس كدفئها، ثم عاد للنظر إلى الركاب الذين يتهامسون ويتغامزون:
- ما القصة؟
هكذا تساءل في دواخله المنهكة، لماذا يتصرفون بهذا الشكل؟ هل بدؤوا يشمون رائحته؟
صحيح هو لم يغتسل منذ أيام، ولابد أنها قد وضعت الآن كل الأواني والطناجر والكؤوس والزجاجات الفارغة تحت المطر المنهمر لتجمع الماء ويغتسلان.
في النهاية،لا بأس بهؤلاء، فلينظروا قدر ما يريدون.
استفزه سؤال أحدهم:
- هل هي بخير؟
خرج عن هدوئه وبدأ سيل شتائمه يرتفع طرداً مع ضحكاتهم.
- ما بالهم يضحكون كلما زاد في شتمهم؟
خلع حذاءه، وضرب من سأله، ثم خلع الآخر وضرب من دافع عن المضروب الأول، همس شيء في داخله ينبئه بمعركة جديدة قادمة، جن جنونه عندما ذكروا اسمها أمامه، ولم يستطع أحد منعه.
توقف السائق،فأنزلوه قسراً، ولم يشفع له البرد، ولا المطر ولا وحشة الطريق وغربته، ولا حتى دفء عناقها في أن ينقذه من هذا المصير.
نظر إلى الاتجاه الذي مضى إليه الباص، وثم إلى الاتجاه الذي جاء منه، لا مكان للمجانين فيه.
ثم رآها!
فتحت ذراعيها له، وهيأت نفسها، لم تنزع غزارة المطر زينتها وحتى ثوبها، لم يبتل، ركض نحوها هارباً من صوت الرعد الذي سرقها منه قبل أيام، وركض حتى أنهكه التعب، وهده المطر، ولكن! لا الطريق ينتهي ولا قبرها يقترب.