لا ماءَ في الكلماتِ
كي أدعو الرثاءَ الى جنازتها
ولا أقمارَ كافيةٌ،
يقطِّرها الحنين كدمعةٍ ثكلى
على دمها المراق،
وذلك الألم المصبَّر في مخابئهِ
سيبحث دون جدوى في الخراب الصرفِ
عن طرق ملائمة
ليحملها على كفَّيه،
قبل الطائرات بجثَّة
كانت خلودُ صبيَّة قمحيَّة العينين
يضبط عقربُ الأزهار ساعتهُ
على إيقاع مشيتها،
ويتكئ الصباح على ابتسامتها
اذا ابتسمتْ،
ولا يتجرأ الدفلى على التحديق
في فمها المراهقِ
وهو يمعن في تفتُّحهِ،
وما كانت لتحلم أن تكون
وقد تماهت مع تظاهرة العناصرِ
غير ما كانتهُ:
أنثى من قصاصات الغيومِ
ومن ثغاء النبع في الوديان،
ما كانت لتأخذها الظنونُ
الى احتمال الموت،
كان الإسم في حسبانها عين المسمَّى
والحياة تضيء من تلقائها
عشب الخلود
في جوف هذي الأرض ما يكفي من الأمواتِ،
قالت في سريرتها،
لذلك ثم بَعدُ مساحة للبحثِ
عن طيفٍ تواعده قبيل النوم،
ثم سواحلٌ سكرى
تمدُّ لها ذراعيها اذا اكتأبت
بلا سببٍ،
ولم يبدر من الأيام ما يوحي
بأن الشمس تغرب قبل موعدها
إذن
سيكون حراً ذلك الخفر المتلَّم بالنعاس
بأن يريق، متى يشاء،
رذاذ حمرتهِ على وجه الفتاة
وذلك السحر المكوَّر كالمحارةِ
فوق لؤلؤهِ
سيخرج جامحاً من عهدة النسيان..
لكن، فجأةً،
وبلا مقدمة تجيء الطائرات
لتقصف الأعمار في ريعانها
وتدكّ حائط حلمها القاني
على من فيه،
لا أملٌ بصوتٍ بَعدُ،
اذ لو كان للشرفات صوتٌ لاستغاثت،
لا حدودْ
بين الحديد وجسمها
لترى خلود الفرق بين جمالها
وجمال أُختيها،
خلود الآن في الرمق الأخير
من الحكاية،
لست أعرف ما الذي قالته
وهي تراود الأشباح
تحت ظهيرةٍ منزوعة العينينِ
عن نفق يعود بها
الى حضن الطفولةِ،
لست أعرف ما الذي فعلته
في تلك الثواني الفاصلهْ
بين البراءة واشتعال النارِ
في الجسد المهشَّمِ،
ربما كانت تُجيل الطرف في الجدران
بحثا عن خلاص ما
يطلُّ من الزوايا،
ربما كانت تودُّ لو أنها تجري
مع الأنهار نحو البحر،
او تمتصها القيعان كالحشرات،
او تنحل في الأفلاك
مثل مجرّة هرمتْ،
ولكن ليس من أحد يُصيخ السمع
في هذا النهار الجاف
غيرُ حفيف أجنحةٍ
تحلِّق كالدمى السوداء
فوق الأرض،
حيث خلود لا تحتاج بعد
إلى مساعدة
لتنجح في امتحان الموت،
يلزمها فقط عينان كي تتهجأ الألوان،
عكّازان كي تجتاز باب البيت
دون مشقةٍ
وتطير نحو الله ثانية
لتسأله:
هل الإنسان أفضل كائناتكَ؟
هل سيمكنك التجلِّي فيه
وهو يخون متحدا مع الفولاذِ
عهدكَ؟
يا إلهي
كان ينقصني فقط سنتانِ
كيما أبلغ العشرين،
لكن الحياة بخيلةٌ كالمعجزات
ولا سبيل الى وجودٍ
غير هذا اللحم
كي أكسو به عري العظام...
لن تشبه الكلمات بعد اليوم معناها
ولا أوجاع يمكن ان يدونها الشقاءُ
على جبينك يا خلود
ولست أعرف ما يدور هناكَ
حيث الروح ما زالت معلّقة
كأسرجة على القتلى،
وحيث فراشة الفانين
ما زالت تحوم على الركام
لذلك لا أريد
سوى تتبُّع ذلك الصوت
الذي تنحلُّ في ريح بلا ناجين
غصَّته،
وترفعه مع الكابوسِ
سيقانُ الظلام
ولا أريدُ،
وقد تكفّلت السماء بما تبقَّى من جفونكِ،
غير تمرين الفراغ
على احتضان جمالك النائي
لتتشح النوافذ بالسواد
لو كان لي
جذلُ الطيور السابحات على الذرى
لفصلتُ تلك الاستغاثة
عن أزيز الطائرات،
لو الغيومُ تكشّفت كالظنِّ
حادسة بما تخفي السماء
وراء زرقتها
لضلّلت الترابُ
عن ابتسامة ثغرك الكرزيِّ،
لكن يا خلود
هبيني قلت إنكِ متِّ،
إن يديك أخطأتا طريقهما
إلى الدنيا
وحنطة شعركِ المضفور بالأمواج
باتت تستريح الآن
في كنف التراب،
فهل تصدِّقني الكتابة؟
هل تصدِّقني براعم سحرك الفواح
وهي تقود رمان الجبالِ
الى مهاجعه البعيدةِ،
يا خلودْ
ما من مناحات تناسبُ
ذلك الجسد المعفر بالرماد
ما من بصيص بَعدُ
يرقد في مآقي العين
غير حطامِ نظرتكِ الأخيرة
تحت أنقاض البلادْ.
:36_1_21:
الأشــــــجـــــــار
شوقي بزيع
الزنزلخـــــــــت
برهافة امرأة يداهمها النعاس على الأريكة
يستقلّ الزنزلخت جذوعه التعبى
ليلتمس الإقامة تحت شمس خائره
مغرورقاً أبداً بما ينسابُ
من عرق الجباه على الحنينِ
وما يفيض عن المنازل من نفاياتٍ
ومن تعب السنين الجائره
يغضي على نزواته
كفتىً طريّ العود داهمه البلوغُ،
ويستبدّ بروحه حيناً جموح صارخ
لتلقف الشهوات
من أوكارها الأولى
فيصهل حين ترمقه فتاة ما بنظرتها
ويجمح فوق قائمة الصبابات الوحيدة
مثل سرب من خيول لم تروّض
ثم يدرك أنه، كبقية الأشجار،
محض تطلّع أعمى إلى جسد الحياة،
فيستعيد هدوءه الدهريّ
منطوياً على أغصانه الخجلى
وما تذروه من وجع على عينيه
أفئدة الرياح الشاغره
الزنزلخت عصارة الأحلام
تأليف موسيقيّ الخشوع
لما ترسبّه المناحات الأليفة
فوق مجرى الدمع،
يولد من رياح غضة الأيدي
ويسلم نفسه،
كرموش عينيْ طفلة مجهولة الأبوين، للمجهول
ثم، كمن تذكّر فجأة حباً مضى
يرتدّ ثانية
ليجمع تحت أثقل خيبة
أوراقه المتناثره
لنسيجه طعم الفراق المرّ،
تسرف في تناوله النساء
إذا وقعن على حبيب لا يجيء،
كأنه، وهو الذي لا يحسن الإفصاح
لا يلوي على تمر من الأثمار
بل يرنو مريضاً
نحو نافذة الحياة الخاسرة
لكأنه شجر لغير زماننا
ولذا يظل بمأمن قبضة المتربصين به
غريباً لا تهش له الجرود
ولا تبادله الروائح نفثة
من عطرها المشبوب،
لا فصل يليق بما تكابد نفسه
لكنه يصل الفصول ببعضها،
مخضوضراً أبداً يظل الزنزلخت
ويرتمي متهالك الأنفاس
في حضن النجوم الغائره
الزنزلخت نزوعنا الصيفي للنسيان،
تكرارٌ عديم الشكل للتحليق فوق الموت،
ينهض كل يوم من مخابئه
ليسقي جنة أبدية الأقمار
تلمع فوق ريف العين،
وهو الجانب المرئي من لون الغياب
وطائر غض له شكل النبات
يطير بلا جناح في صباحات القرى
ليغط في صحو بعيد الغور
أو ليصير عند رحيله
خشباً لبيت الذاكره
السنديــــــــــان
هو أكثر الأشجار تعويلاً على ما فات،
عكّاز الطفولة
والثغاء الأوليّ لماعز الماضي
ولا تحتاج غصته إلى برهان
لنراه تلزمنا مناديلٌ تلوّح من بعيد
للسواقي البيض،
أحلامٌ لتبديد المخاوف
حول موقده الأليف
وعدة لتسلق السنوات حين نشيخ كالأمثال
تحت نشيجها الواهي
وتلزمنا معاول صلبة الأيدي
لنبحث، حيث يفترض النبات مقابر الأسلاف،
عن شجر نبادله الجذوع
وعن هواء كامل النسيان
السنديان ظهيرنا البريّ
لا شجر يعمّر في القرى إلا بإذن منه،
لا جرس يدندن في السفوح
بغير نخوته
وتمتحن الفحولة نفسها
بجماله الظمآن
السنديان رحيلنا الفطريّ
في طرق مؤبدة الشكوك
فحين يلوح قرص الشمس أخضر
في الظهيرة
ينتشي طرباً،
وحين تمرّر فوقه الذكرى جدائلها الطويلة
يستبدّ به أنين شاعري الرجع
يُسكر صوتُه الوديان
لكنّ في دمه الغضوب
بريق أفراس تحمحم في الهواء
ولن يكون بمستطاع الريح في الفلوات
أن تلوي عزيمته
فليس يموت إلا واقفاً
ويظل رغم سقوطه متوثباً
كتوثب النيران في الصوان
للسنديان طبيعتان:
ضراوة شتوية للانقضاض
على دم المعنى،
وتوق مستمر للتحلق حول صيف الشكل
وهو يضيء بينهما
ممراً ضيق الخطوات
بين الوحش والإنسان
الخــــــــرّوب
ذات سماء ما
زرقاء ويانعة، كانت تتدفق موسيقى الأكوان
على الأكوان
ولم تكن الأشجار
سوى ريح خالصة الخيبة
نائمة في ناي مثقوب
ذات سماء ما
كان هلالان شقيقان
يطلان على الأرض من الأعلى
ويضيئان معاً شرفات دامعة الأهداب
وأودية بيضاء
وأسمال بيوت
ودخان حروب
لم يحدث عبر الأزمان أن افترقا
بل طفقا يثبان كجديين معاً
بين الأيام،
معاً رضعا من نهد الشمس
حليب أمومتهما الصافي
ومعاً كانا يبتاعان غيوماً
من أسواق الغيم السوداء
لتستر عريهما الفضي
وأوشاماً... وندوب
لكن، في أحد الأسحار،
تصدّت لهما نجمة صبح خضراء
وهوجاء الفتنة،
مضرمة تحت حرير جمالهما الرائق
عاصفة من شهوات حمرٍ،
وسياطِ براكينَ
ولسعِ ذنوبْ
ذات سماءٍ ما
كان هلالان شقيقان يسلاّن سيوفاً
تصقلها الغيرة بينهما بالأنياب
فيقتتلان كما لا يفعل أعتى الأعداء،
اقتتلا كغزالين على نبع
واقتتلا كغرابين على رمشين يفيضان سواداً،
وكعودين على وتر منهوب
وككأسين من الدمع اقتتلا
حتى انكشفت من حولهما
قيعان الأفلاك
وحتى انجلت الحرب عن الغالب والمغلوب
ذات سماءٍ ما
كان هلال يبيضّ ككفل المهر
بعيد غروب الشمس
ويصبح مذ فاز بنجمته
بدراً مكتمل الطلعة
محمولاً فوق سماء من شغف مشبوب
فيما راح الآخر
يهبط نحو الأرض
لكي يتقوّس كالقرن اليابس،
عريان وأسود،
في شجر الخروب
أبواب خلفية
في ذلك الركن القصيّ من الكتابة
حيث أفشل في تعقب فكرة
هربت من الإيقاع
يحدث فجأة أن تدخل امرأة إلى المقهى
وتجلس باتجاه البحر،
منعكساً على المرآة
كان جمالها ينحلّ في الصمت المحايد بيننا
كمراكب منهوبة الأحزان،
لم تتجشّم التحديق في أحد
من الجلساء،
لم تلحظ خلوّ يدي من الكلمات
بل فتحت كتاباً،
كان يرقد في حقيبتها،
وغامت في تضاعيف الكتاب
في ذلك الركن القصيّ من الكتابة
راح يعصف بي حنين جارف
للقفز فوق وجوديَ الفاني،
لتمكين المجاز من التطلع نحو مصدره
وتنقية الجمال من التراب
متأمّلاً في وجهها،
في اللامبالاة التي تعلو التفاتته
إلى الأشياء،
كدت أرى مجاراة الظلال
لضوئه العاري
النعاس كما لو أنه، متنكراً
في هيئة امرأة،
يجرّد جسمها الشفاف من جريانه
تحت الثياب
لكنني متأخراً أدركت
أني لم أكن أرنو إلى أحد،
فلا امرأة رأيت
سوى ما يستحيل بقوة التحديق
صورة ما نحب،
لذا، وقد امتحنت بدون جدوى
خيبة الكلمات
غادرت المكان كعادتي في مثل هذا الوقت
كي تأتي القصيدة في غيابي!
:36_1_13:
قصــــــــــــــــيــــــــــــــــــــدة
بُ ما يجهله
دائماً يتبع سهماً غير مرئي
ونهراً لا يرى أوّلَهُ
ينهر الأشباح كالماعز عن أقبية الروح
وكالسّاحر يُلقي أينما حلّ
عصا الشك
ليمحو بعضُهُ بعضاً
مقيمٌ أبداً في شبهة البيت
ولا بيت له
كلما همّ بأن يوضح يزداد غموضاً
وبأن يفصح يزداد التباساً،
والذي يكتبه يحجُبُهُ
هي يدري أن بعض الظنّ إثمٌ
ولذا
يومئ للمعنى ولا يقربُهُ
يدّعي الشاعر أن الشّعر ذئبٌ
فيقول الناس:
إن هو إلاّ شاعرٌ
والشّعر أضغاثُ رؤىً خادعةٍ
لم يصدّق أحدٌ ما زعم الشاعر،
لم ينتبه الناس إلى الموت
الذي ينهش في هيئة ذئبٍ
جسمُه الرثّ
لكي يستخرج المعنى الذي في قلبه،
الناسُ نيامٌ
فإذا الشاعرُ مات
انتبهوا!.
كي أدعو الرثاءَ الى جنازتها
ولا أقمارَ كافيةٌ،
يقطِّرها الحنين كدمعةٍ ثكلى
على دمها المراق،
وذلك الألم المصبَّر في مخابئهِ
سيبحث دون جدوى في الخراب الصرفِ
عن طرق ملائمة
ليحملها على كفَّيه،
قبل الطائرات بجثَّة
كانت خلودُ صبيَّة قمحيَّة العينين
يضبط عقربُ الأزهار ساعتهُ
على إيقاع مشيتها،
ويتكئ الصباح على ابتسامتها
اذا ابتسمتْ،
ولا يتجرأ الدفلى على التحديق
في فمها المراهقِ
وهو يمعن في تفتُّحهِ،
وما كانت لتحلم أن تكون
وقد تماهت مع تظاهرة العناصرِ
غير ما كانتهُ:
أنثى من قصاصات الغيومِ
ومن ثغاء النبع في الوديان،
ما كانت لتأخذها الظنونُ
الى احتمال الموت،
كان الإسم في حسبانها عين المسمَّى
والحياة تضيء من تلقائها
عشب الخلود
في جوف هذي الأرض ما يكفي من الأمواتِ،
قالت في سريرتها،
لذلك ثم بَعدُ مساحة للبحثِ
عن طيفٍ تواعده قبيل النوم،
ثم سواحلٌ سكرى
تمدُّ لها ذراعيها اذا اكتأبت
بلا سببٍ،
ولم يبدر من الأيام ما يوحي
بأن الشمس تغرب قبل موعدها
إذن
سيكون حراً ذلك الخفر المتلَّم بالنعاس
بأن يريق، متى يشاء،
رذاذ حمرتهِ على وجه الفتاة
وذلك السحر المكوَّر كالمحارةِ
فوق لؤلؤهِ
سيخرج جامحاً من عهدة النسيان..
لكن، فجأةً،
وبلا مقدمة تجيء الطائرات
لتقصف الأعمار في ريعانها
وتدكّ حائط حلمها القاني
على من فيه،
لا أملٌ بصوتٍ بَعدُ،
اذ لو كان للشرفات صوتٌ لاستغاثت،
لا حدودْ
بين الحديد وجسمها
لترى خلود الفرق بين جمالها
وجمال أُختيها،
خلود الآن في الرمق الأخير
من الحكاية،
لست أعرف ما الذي قالته
وهي تراود الأشباح
تحت ظهيرةٍ منزوعة العينينِ
عن نفق يعود بها
الى حضن الطفولةِ،
لست أعرف ما الذي فعلته
في تلك الثواني الفاصلهْ
بين البراءة واشتعال النارِ
في الجسد المهشَّمِ،
ربما كانت تُجيل الطرف في الجدران
بحثا عن خلاص ما
يطلُّ من الزوايا،
ربما كانت تودُّ لو أنها تجري
مع الأنهار نحو البحر،
او تمتصها القيعان كالحشرات،
او تنحل في الأفلاك
مثل مجرّة هرمتْ،
ولكن ليس من أحد يُصيخ السمع
في هذا النهار الجاف
غيرُ حفيف أجنحةٍ
تحلِّق كالدمى السوداء
فوق الأرض،
حيث خلود لا تحتاج بعد
إلى مساعدة
لتنجح في امتحان الموت،
يلزمها فقط عينان كي تتهجأ الألوان،
عكّازان كي تجتاز باب البيت
دون مشقةٍ
وتطير نحو الله ثانية
لتسأله:
هل الإنسان أفضل كائناتكَ؟
هل سيمكنك التجلِّي فيه
وهو يخون متحدا مع الفولاذِ
عهدكَ؟
يا إلهي
كان ينقصني فقط سنتانِ
كيما أبلغ العشرين،
لكن الحياة بخيلةٌ كالمعجزات
ولا سبيل الى وجودٍ
غير هذا اللحم
كي أكسو به عري العظام...
لن تشبه الكلمات بعد اليوم معناها
ولا أوجاع يمكن ان يدونها الشقاءُ
على جبينك يا خلود
ولست أعرف ما يدور هناكَ
حيث الروح ما زالت معلّقة
كأسرجة على القتلى،
وحيث فراشة الفانين
ما زالت تحوم على الركام
لذلك لا أريد
سوى تتبُّع ذلك الصوت
الذي تنحلُّ في ريح بلا ناجين
غصَّته،
وترفعه مع الكابوسِ
سيقانُ الظلام
ولا أريدُ،
وقد تكفّلت السماء بما تبقَّى من جفونكِ،
غير تمرين الفراغ
على احتضان جمالك النائي
لتتشح النوافذ بالسواد
لو كان لي
جذلُ الطيور السابحات على الذرى
لفصلتُ تلك الاستغاثة
عن أزيز الطائرات،
لو الغيومُ تكشّفت كالظنِّ
حادسة بما تخفي السماء
وراء زرقتها
لضلّلت الترابُ
عن ابتسامة ثغرك الكرزيِّ،
لكن يا خلود
هبيني قلت إنكِ متِّ،
إن يديك أخطأتا طريقهما
إلى الدنيا
وحنطة شعركِ المضفور بالأمواج
باتت تستريح الآن
في كنف التراب،
فهل تصدِّقني الكتابة؟
هل تصدِّقني براعم سحرك الفواح
وهي تقود رمان الجبالِ
الى مهاجعه البعيدةِ،
يا خلودْ
ما من مناحات تناسبُ
ذلك الجسد المعفر بالرماد
ما من بصيص بَعدُ
يرقد في مآقي العين
غير حطامِ نظرتكِ الأخيرة
تحت أنقاض البلادْ.
:36_1_21:
الأشــــــجـــــــار
شوقي بزيع
الزنزلخـــــــــت
برهافة امرأة يداهمها النعاس على الأريكة
يستقلّ الزنزلخت جذوعه التعبى
ليلتمس الإقامة تحت شمس خائره
مغرورقاً أبداً بما ينسابُ
من عرق الجباه على الحنينِ
وما يفيض عن المنازل من نفاياتٍ
ومن تعب السنين الجائره
يغضي على نزواته
كفتىً طريّ العود داهمه البلوغُ،
ويستبدّ بروحه حيناً جموح صارخ
لتلقف الشهوات
من أوكارها الأولى
فيصهل حين ترمقه فتاة ما بنظرتها
ويجمح فوق قائمة الصبابات الوحيدة
مثل سرب من خيول لم تروّض
ثم يدرك أنه، كبقية الأشجار،
محض تطلّع أعمى إلى جسد الحياة،
فيستعيد هدوءه الدهريّ
منطوياً على أغصانه الخجلى
وما تذروه من وجع على عينيه
أفئدة الرياح الشاغره
الزنزلخت عصارة الأحلام
تأليف موسيقيّ الخشوع
لما ترسبّه المناحات الأليفة
فوق مجرى الدمع،
يولد من رياح غضة الأيدي
ويسلم نفسه،
كرموش عينيْ طفلة مجهولة الأبوين، للمجهول
ثم، كمن تذكّر فجأة حباً مضى
يرتدّ ثانية
ليجمع تحت أثقل خيبة
أوراقه المتناثره
لنسيجه طعم الفراق المرّ،
تسرف في تناوله النساء
إذا وقعن على حبيب لا يجيء،
كأنه، وهو الذي لا يحسن الإفصاح
لا يلوي على تمر من الأثمار
بل يرنو مريضاً
نحو نافذة الحياة الخاسرة
لكأنه شجر لغير زماننا
ولذا يظل بمأمن قبضة المتربصين به
غريباً لا تهش له الجرود
ولا تبادله الروائح نفثة
من عطرها المشبوب،
لا فصل يليق بما تكابد نفسه
لكنه يصل الفصول ببعضها،
مخضوضراً أبداً يظل الزنزلخت
ويرتمي متهالك الأنفاس
في حضن النجوم الغائره
الزنزلخت نزوعنا الصيفي للنسيان،
تكرارٌ عديم الشكل للتحليق فوق الموت،
ينهض كل يوم من مخابئه
ليسقي جنة أبدية الأقمار
تلمع فوق ريف العين،
وهو الجانب المرئي من لون الغياب
وطائر غض له شكل النبات
يطير بلا جناح في صباحات القرى
ليغط في صحو بعيد الغور
أو ليصير عند رحيله
خشباً لبيت الذاكره
السنديــــــــــان
هو أكثر الأشجار تعويلاً على ما فات،
عكّاز الطفولة
والثغاء الأوليّ لماعز الماضي
ولا تحتاج غصته إلى برهان
لنراه تلزمنا مناديلٌ تلوّح من بعيد
للسواقي البيض،
أحلامٌ لتبديد المخاوف
حول موقده الأليف
وعدة لتسلق السنوات حين نشيخ كالأمثال
تحت نشيجها الواهي
وتلزمنا معاول صلبة الأيدي
لنبحث، حيث يفترض النبات مقابر الأسلاف،
عن شجر نبادله الجذوع
وعن هواء كامل النسيان
السنديان ظهيرنا البريّ
لا شجر يعمّر في القرى إلا بإذن منه،
لا جرس يدندن في السفوح
بغير نخوته
وتمتحن الفحولة نفسها
بجماله الظمآن
السنديان رحيلنا الفطريّ
في طرق مؤبدة الشكوك
فحين يلوح قرص الشمس أخضر
في الظهيرة
ينتشي طرباً،
وحين تمرّر فوقه الذكرى جدائلها الطويلة
يستبدّ به أنين شاعري الرجع
يُسكر صوتُه الوديان
لكنّ في دمه الغضوب
بريق أفراس تحمحم في الهواء
ولن يكون بمستطاع الريح في الفلوات
أن تلوي عزيمته
فليس يموت إلا واقفاً
ويظل رغم سقوطه متوثباً
كتوثب النيران في الصوان
للسنديان طبيعتان:
ضراوة شتوية للانقضاض
على دم المعنى،
وتوق مستمر للتحلق حول صيف الشكل
وهو يضيء بينهما
ممراً ضيق الخطوات
بين الوحش والإنسان
الخــــــــرّوب
ذات سماء ما
زرقاء ويانعة، كانت تتدفق موسيقى الأكوان
على الأكوان
ولم تكن الأشجار
سوى ريح خالصة الخيبة
نائمة في ناي مثقوب
ذات سماء ما
كان هلالان شقيقان
يطلان على الأرض من الأعلى
ويضيئان معاً شرفات دامعة الأهداب
وأودية بيضاء
وأسمال بيوت
ودخان حروب
لم يحدث عبر الأزمان أن افترقا
بل طفقا يثبان كجديين معاً
بين الأيام،
معاً رضعا من نهد الشمس
حليب أمومتهما الصافي
ومعاً كانا يبتاعان غيوماً
من أسواق الغيم السوداء
لتستر عريهما الفضي
وأوشاماً... وندوب
لكن، في أحد الأسحار،
تصدّت لهما نجمة صبح خضراء
وهوجاء الفتنة،
مضرمة تحت حرير جمالهما الرائق
عاصفة من شهوات حمرٍ،
وسياطِ براكينَ
ولسعِ ذنوبْ
ذات سماءٍ ما
كان هلالان شقيقان يسلاّن سيوفاً
تصقلها الغيرة بينهما بالأنياب
فيقتتلان كما لا يفعل أعتى الأعداء،
اقتتلا كغزالين على نبع
واقتتلا كغرابين على رمشين يفيضان سواداً،
وكعودين على وتر منهوب
وككأسين من الدمع اقتتلا
حتى انكشفت من حولهما
قيعان الأفلاك
وحتى انجلت الحرب عن الغالب والمغلوب
ذات سماءٍ ما
كان هلال يبيضّ ككفل المهر
بعيد غروب الشمس
ويصبح مذ فاز بنجمته
بدراً مكتمل الطلعة
محمولاً فوق سماء من شغف مشبوب
فيما راح الآخر
يهبط نحو الأرض
لكي يتقوّس كالقرن اليابس،
عريان وأسود،
في شجر الخروب
أبواب خلفية
في ذلك الركن القصيّ من الكتابة
حيث أفشل في تعقب فكرة
هربت من الإيقاع
يحدث فجأة أن تدخل امرأة إلى المقهى
وتجلس باتجاه البحر،
منعكساً على المرآة
كان جمالها ينحلّ في الصمت المحايد بيننا
كمراكب منهوبة الأحزان،
لم تتجشّم التحديق في أحد
من الجلساء،
لم تلحظ خلوّ يدي من الكلمات
بل فتحت كتاباً،
كان يرقد في حقيبتها،
وغامت في تضاعيف الكتاب
في ذلك الركن القصيّ من الكتابة
راح يعصف بي حنين جارف
للقفز فوق وجوديَ الفاني،
لتمكين المجاز من التطلع نحو مصدره
وتنقية الجمال من التراب
متأمّلاً في وجهها،
في اللامبالاة التي تعلو التفاتته
إلى الأشياء،
كدت أرى مجاراة الظلال
لضوئه العاري
النعاس كما لو أنه، متنكراً
في هيئة امرأة،
يجرّد جسمها الشفاف من جريانه
تحت الثياب
لكنني متأخراً أدركت
أني لم أكن أرنو إلى أحد،
فلا امرأة رأيت
سوى ما يستحيل بقوة التحديق
صورة ما نحب،
لذا، وقد امتحنت بدون جدوى
خيبة الكلمات
غادرت المكان كعادتي في مثل هذا الوقت
كي تأتي القصيدة في غيابي!
:36_1_13:
قصــــــــــــــــيــــــــــــــــــــدة
بُ ما يجهله
دائماً يتبع سهماً غير مرئي
ونهراً لا يرى أوّلَهُ
ينهر الأشباح كالماعز عن أقبية الروح
وكالسّاحر يُلقي أينما حلّ
عصا الشك
ليمحو بعضُهُ بعضاً
مقيمٌ أبداً في شبهة البيت
ولا بيت له
كلما همّ بأن يوضح يزداد غموضاً
وبأن يفصح يزداد التباساً،
والذي يكتبه يحجُبُهُ
هي يدري أن بعض الظنّ إثمٌ
ولذا
يومئ للمعنى ولا يقربُهُ
يدّعي الشاعر أن الشّعر ذئبٌ
فيقول الناس:
إن هو إلاّ شاعرٌ
والشّعر أضغاثُ رؤىً خادعةٍ
لم يصدّق أحدٌ ما زعم الشاعر،
لم ينتبه الناس إلى الموت
الذي ينهش في هيئة ذئبٍ
جسمُه الرثّ
لكي يستخرج المعنى الذي في قلبه،
الناسُ نيامٌ
فإذا الشاعرُ مات
انتبهوا!.