رسائل الأدباء رسالة من صلاح عبد الصبور إلى الناقد عصام بهى

الأخ الأستاذ عصام بهى

خالص التحية

تقبل عذرى لتأخرى فى الرد على رسالتك الرقيقة، فلم يكد يتح لى الوقت للاحتشاد على الإجابة عن ما تضمنته من استفسارات إلا الآن. وقد سعدت باهتمامك بمسرحى الشعري وبتوفيقك فى تخريجاتك ومحاولتك لرد العناصر المسرحية إلى أصولها الشعبية أو التراثية. وأرجو أن أسعد بحضور مناقشتك قريبا، وأكون من مهنئيك.

وردا على أسئلتك أرجو أن تتقبل هذه الاجابات:
1- عن التجربة المسرحية

الواقع أن لى رأيا فى المسرح بسطته فى كثير من كتاباتى النثرية، وهو أن المسرح فى جوهرة سليل للشعر. والمسرح لا يعبر عن الواقع، ولكنه يخلق واقعا جديدا، فالأشخاص المسرحيون ليسوا أشخاصا عاديين بقاماتهم الفنية وملامحهم السلوكية، ولكنهم أشخاص أكبر حجما وأكثر إمتلاء بجوهر الحياة، ولذلك فأنا لا أميل كثيرا إلى المسرح الاجتماعى الواقعى بأبعاده الضيقة وحرفيته الفقيرة. وقد دخلت إلى المسرح عن طريق القراءة والثقافة، بينما يدخل الكاتب الأوروبى المسرح عن طريق المسرح ذاته، وفى صبانا لم أشهد تجربة مسرحية إلا مسرح المدارس، وزيارة لبعض الفرق العابرة ولكنى عرفت المسرح عن طريق شكسبير فى الإنجليزية وتوفيق الحكيم فى العربية، ثم قرأت بعد ذلك المترجمات الإغريقية، وأتسعت بعد ذلك قراءاتى للمسرحيين الكبار، ولكنها فى الواقع تنبع كلها من وجهة نظر محددة، وهى أن المسرح سليل للشعر(لا للرواية)، ولعلك تعلم أن هذه هى أصوله التاريخية، وان الرواية أكثر حداثة من المسرح، ولذلك فإنى أعد(الحكاية) فى المسرح أبسط مكوناته وأقالها إثارة للاهتمام. وما يعنينى فيه هو التناول ومحاولة النفاذ إلى جوهر الوجود الإنسانى أو أحد جوانب هذا الجوهر المتعددة.

وقد دخلت المسرح بعد أعوام من تجربة الكتابة الشعرية، ولم اقدم عليها إلا حين وجدت التعبير الشعري الغنائى يضيق عن استيعاب الأصوات المتعددة المتباينة التى تحفل بها الحياة الإنسانية، وكان مسرحى طرحا معاصرا لمشكلات أحياها ويحياها جيلى. واعذرنى عن عدم الإطالة، فأنا أنفر الناس حديثا عن نفسى.

وأود أن أشير إلى ما يلى بصدد” الأميرة تنتظر”:

كانت الأميرة تنتظر ردا فنيا على موقف معين، فهى تدعو إلى عدم غفران المدن لمذليها ومضطهديها حتى ولو حاولوا اصطناع الندم وطلب المغفرة، ولعلك تذكر موقفا سياسيا معينا من تاريخ مصر، حين هدمها أحد أبنائها ومرغها فى التراب، ثم عاد فى مشهد حزين يطلب غفرانها.

إن المدن والبلاد تُعشق كالنساء، وتستسلم فى نشوة العشق لما نسميه فى المصطلح الحديث “عبادة الفرد”.

كان هذا هو الدافع، أما ما بعد ذلك فهو هيكل أقرب إلى الحدوتة الشعبية، عناصره من الوجدان الشعبى دون تمييز، أما اسمى السمندل والقرندل فهما أسمان من ألف ليلة، فالسمندل تحريف للسمندر والقرندل هو القرندلى فى التراث الشعبى، وهى مزيج من المهرج والنديم والحكيم، وقد يكون هو الأداة المنفذة لإرادة التاريخ.

أما المواجد الليلة، فعللك ترى نظيرا لها فى تعذيب النفس الذى يمارسه الشيعة لوما لأنفسهم على هجران الحسين فى محنته وتسليمه لجلاديه. وهو أيضا ما يمارس فى العلاج النفسي. وأظن أن فى “ألف ليلة وليلة” مشهدا يجلس فيه بعض الأشخاص ويشرعون فى البكاء كل ليلة ندما على خطأ قدرى أرتكبوه. وأرجو أن تعود إلى “ألف ليلة” فقد خانتنى ذاكرتى فى هذا الصدد، وأن كانت ظلال ما قرأته تؤكد لى وجود هذا المشهد.

أما عن ” بعد أن يموت الملك”..فلعل دلالتها السياسية أظهر من أن أكشفها لك، ولكن مصادرها التراثية كثيرة، منها ما تفضلت بالإشارة إليه، أما عن العالم السفلى، فأرجوك أن تقرأ “أسطورة جلجامش” فقد كانت هى الأثر الفنى القريب منى حين كنت أكتب هذه المسرحية.
2- النصوص الشعبية:

تكون النصوص الشعبية جزءا من ذاكرتى الحية، ويحاول الشاعر عادة أن يستخلص من الحكاية أو الخاطرة أو النادرة الشعبية مدلولا شخصيا وأن يدمجها فى كيانه الوجدانى والإنفعالى والفكرى..ويحاول المسرحى ان يجعل من هذه الحكاية الشعبية مكونا من مكونات فنه وهو بذلك يكتسب لفنه عمقا جديدا خالدا، بعودته إلى إثارة هذه الخاطرة أو الحكاية فى وجدان متلقيه.

وختاما، فأنت ترى أن تعليقاتى فقيرة جدا، ولكنها ربما أفادتك، وأنا أشكر لك جدا اهتمامك، واعبر لك عن سعادتى بخطابك الذى وصلنى بالوطن وصلا رقيقا..

وتقبل أخيرا اعتذارى وتقديرى

صلاح عبد الصبور



================
* أثناء عمل الناقد عصام بهى على رسالته للماجستير بعنوان ” الحكايات الشّعبيّة في المسرح الشّعريّ في مصر ” أرسل عدد من الأسئلة إلى صلاح عبد الصبور الذي كان يقيم وقتها في الهند. وقد رد عليه صاحب “مأساة الحلاج” برسالة أجاب فيها على أسئلته كاشفا فيها عن مصادر تجربته الإبداعية، ومسرحه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...