كتبت عنوان هذا المقال بشكل عفوي، فالدفاع عن القلم في مواجهة السيف مسألة بديهية، في زمن باتت فيه البديهيات مهددة بل مغيبة ومنسية.
أصبت بالإحباط وأنا أعيد قراءة عنوان هذا المقال، كيف ندافع عن كاتب مطروح على الأرض والدم ينزف من جميع أنحائه؟ هل تستطيع الكلمة أن تدافع عن نفسها بالكلمة؟
أذكر أنني ساهمت في كتاب صدر في باريس بعيد صدور فتوى القتل في حق الكاتب الهندي البريطاني، وكان عنوان الكتاب: «من أجل رشدي»، ونشر نصوصاً لمئة كاتبة وكاتب من العالمين العربي والإسلامي.
في ذلك الزمن كنا نعيش المرارة في حقول القتل اللبنانية، فبعد اغتيال شيخ المثقفين حسين مروة، قُتل مهدي عامل (حسن حمدان) في أحد شوارع بيروت. وكنا نشعر بأننا بدأنا السقوط في هاوية العتمة التي يفترسها الدم.
ومع ذلك، كان لا بد من الدفاع عن رشدي، لأننا شعرنا أن الفتوى العلنية من قبل قائد الثورة الإسلامية في إيران ضد رواية خيالية، تعني أن الثقافة في بلادنا تواجه خطر قمع منظم، وأن منطقتنا تعيش منعطفاً كبيراً يمس معنى الثقافة والإبداع، ويهدد بإعادتنا إلى أزمنة الانحطاط.
بعد الفتوى، تمت محاولة اغتيال مؤلف «أولاد حارتنا» عبر طعنه بالسكين، يومها سئل القاتلان هل قرآ رواية نجيب محفوظ فأجابا بالنفي. لم يقرآ الرواية التي سبق لها أن منعت في مصر وصدرت في بيروت عن دار الآداب.
وهذا هو الحال مع قاتل المفكر المصري فرج فودة، ومع من اضطهد نصر حامد أبو زيد حتى الموت.
إنها «ذهنية التحريم» حسب كتاب صادق جلال العظم، وهو النص الأفضل في جميع اللغات الذي قدم تحليلاً مدهشاً لرواية «آيات شيطانية».
السؤال الذي لا يستطيع الأصوليون الظلاميون الاقتراب منه ليس سؤال الموافقة أو عدم الموافقة مع رؤية نص روائي، فالرواية عمل تخييلي وليست بحثاً علمياً، وتستطيع أن تتخيل ما تشاء، وبالتالي يصير السؤال بلا معنى.
السؤال الأدبي مختلف، ولا علاقة له بالتحليل والتحريم، وهذا ما أكده النقد الأدبي العربي الكلاسيكي، حين سك قدامة بن جعفر تعبيره: «الشعر غير الدين»، فاتحاً الباب أمام استعادة العرب لموروثهم الشعري قبل الإسلام، باعتباره تخييلاً أدبياً.
لكننا للأسف، غارقون في اللامعنى.
هكذا وجد كاتب رائعة «أطفال منتصف الليل» نفسه مطارداً وملاحقاً. فعاش منذ كان في الأربعين متخفياً وبحراسة مشددة من قبل أجهزة الأمن البريطانية.
إنها مفارقة محزنة، أن لا يجد المثقف الهندي أو الإيراني أو العربي ملجأ إلا في الدول التي استعمرت بلاده، ولا تزال تتلاعب بمصيرها، وتقوم عبر آلة الهيمنة الثقافية والإعلامية الضخمة بتشويه حاضرها وتاريخها وثقافتها.
صححيح أن الغرب ليس مقولة جامدة، فهناك أكثر من غرب في الغرب، وهذا ما يسمح للفكر النقدي بالنمو، لكن الصحيح أيضاً هو أن مجتمعاتنا تعاني ضائقة ثقافية صنعها الاستبداد العسكري والأصوليات المستبدة، التي أوصلتنا إلى الانهيار، وسمحت بتحويل المشرق العربي إلى ملعب للقوى الإقليمية والدولية.
من هو هادي مطر؟
هذا هو السؤال الذي صفعني. شاب من أصول لبنانية في الرابعة والعشرين، أي أن فتوى القتل صدرت قبل ولادته بأربعة عشر عاماً.
هل قرأ رواية رشدي؟ وهل استطاع تفكيك طبقاتها الرمزية واللغوية والسحرية، كي يستنتج ضرورة تنفيذ حكم الإعدام بالكاتب؟
ولماذا اللجوء إلى السلاح الأبيض، تماماً كما فعل منفذا محاولة اغتيال محفوظ؟ الطعن في العنق، وشهوة الذبح؟
ما سر هذا الشرّ الشيطاني الذي يتلبس المجرمين وهم يغتالون الأدباء؟
وماذا يعني أن يكون القاتل لبنانياً؟
اللافت أن محاولتي اغتيال رشدي الجديتين قام بها لبنانيان، الأول هو مصطفى مازح، شاب لبناني ولد وعاش في كوناكري في ساحل العاج، وسافر بجوازه الفرنسي إلى لندن حيث انفجرت فيه العبوة التي كان يعدها لاغتيال رشدي في فندق بادينغتون في لندن، في 3 أب/أغسطس 1989. وكان القاتل قد لف العبوة بكتاب فانفجرت به.
والثاني هو هادي مطر، لبناني مقيم في نيوجرسي، حاول أن يقتل الكاتب عبر طعنه على المنصة في 12 آب/أغسطس 2022.
ما العلاقة بين كوناكري ونيوجرسي؟
مصطفى مازح حاول اغتيال رشدي بعيد صدور الفتوى، ربما كان تحت تأثير الغضب الذي أثارته ردود الفعل على الكتاب، وخصوصاً حين تعرض الكاتب للإمام الخميني في سياق لعبته الخيالية التي جعلت كتابه يتأرجح بين تأويل الماضي وتخيله بشكل غرائبي. وربما كان للمكافأة المالية التي وعد بها القاتل علاقة بالمسألة.
لكن كيف استيقظت الفتوى في وعي شاب لبناني متأمرك، تعيش بلاده مأساة الانهيار، فيرتكب جريمته بعد يومين من قيام بسام الشيخ حسين باحتلال مصرف «فدرال بنك» في الحمرا، مطالباً بماله المنهوب؟
كيف نعيش في أزمنة متعددة داخل زمن انهيارنا؟
رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لبيد في تصريحه الذي استنكر فيه محاولة اغتيال رشدي، شكل قمة الوقاحة. قاتل الأطفال في غزة، وحامي الاستيطان الأصولي في فلسطين المحتلة، يعطي العالم دروساً في الدفاع عن الحرية!
هذا الاختلاط الرهيب في الأزمنة يبلبل العقول والمشاعر، ويقوم بتحويل القيم الأخلاقية إلى ممسحة للطغاة.
نقرأ محاولة الاغتيال المشينة والمرعبة، بصفتها جزءاً من استباحة القيم، ودخولاً في ظلامية جديدة، افتتحها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش في سياق حربه الإجرامية على العراق، حين أعلن أن الله يخاطبه بشكل مباشر!
لا غرابة بعد ذلك أن يدعي من يشاء ما يشاء، فيُطوى ويُنسى الموقف العقلاني للسيد محمد حسين فضل لله من قضية رشدي، ويعيد فتى لبناني أمريكي المسألة إلى النقطة الصفر.
قد نحب أدب سلمان رشدي أو لا نحبه، وقد نستسيغ إيغاله في الواقعية السحرية أو لا نستسيغه، ولكن هذا خارج الموضوع.
الموضوع هو أن كاتباً هندياً كبيراً صنع رائعة «أطفال منتصف الليل»، يجد نفسه اليوم مرمياً على رصيف الموت، ويشهد كيف يتحول الحبر إلى دم.
حبر الأدب صار دم الكاتب، ومع ذلك وفي مواجهة آلة جهنمية تقود العالم إلى الاندثار، لا نستطيع سوى أن نتمسك بالكلمة، ونحن نصلب مع الحلاج، أو نقطع مع ابن المقفع، أو نقتل مع السهروردي.
القتــلة ذهبوا إلى النسيان، أما الكلمة فتبقى، لأنها روح الكون.
أصبت بالإحباط وأنا أعيد قراءة عنوان هذا المقال، كيف ندافع عن كاتب مطروح على الأرض والدم ينزف من جميع أنحائه؟ هل تستطيع الكلمة أن تدافع عن نفسها بالكلمة؟
أذكر أنني ساهمت في كتاب صدر في باريس بعيد صدور فتوى القتل في حق الكاتب الهندي البريطاني، وكان عنوان الكتاب: «من أجل رشدي»، ونشر نصوصاً لمئة كاتبة وكاتب من العالمين العربي والإسلامي.
في ذلك الزمن كنا نعيش المرارة في حقول القتل اللبنانية، فبعد اغتيال شيخ المثقفين حسين مروة، قُتل مهدي عامل (حسن حمدان) في أحد شوارع بيروت. وكنا نشعر بأننا بدأنا السقوط في هاوية العتمة التي يفترسها الدم.
ومع ذلك، كان لا بد من الدفاع عن رشدي، لأننا شعرنا أن الفتوى العلنية من قبل قائد الثورة الإسلامية في إيران ضد رواية خيالية، تعني أن الثقافة في بلادنا تواجه خطر قمع منظم، وأن منطقتنا تعيش منعطفاً كبيراً يمس معنى الثقافة والإبداع، ويهدد بإعادتنا إلى أزمنة الانحطاط.
بعد الفتوى، تمت محاولة اغتيال مؤلف «أولاد حارتنا» عبر طعنه بالسكين، يومها سئل القاتلان هل قرآ رواية نجيب محفوظ فأجابا بالنفي. لم يقرآ الرواية التي سبق لها أن منعت في مصر وصدرت في بيروت عن دار الآداب.
وهذا هو الحال مع قاتل المفكر المصري فرج فودة، ومع من اضطهد نصر حامد أبو زيد حتى الموت.
إنها «ذهنية التحريم» حسب كتاب صادق جلال العظم، وهو النص الأفضل في جميع اللغات الذي قدم تحليلاً مدهشاً لرواية «آيات شيطانية».
السؤال الذي لا يستطيع الأصوليون الظلاميون الاقتراب منه ليس سؤال الموافقة أو عدم الموافقة مع رؤية نص روائي، فالرواية عمل تخييلي وليست بحثاً علمياً، وتستطيع أن تتخيل ما تشاء، وبالتالي يصير السؤال بلا معنى.
السؤال الأدبي مختلف، ولا علاقة له بالتحليل والتحريم، وهذا ما أكده النقد الأدبي العربي الكلاسيكي، حين سك قدامة بن جعفر تعبيره: «الشعر غير الدين»، فاتحاً الباب أمام استعادة العرب لموروثهم الشعري قبل الإسلام، باعتباره تخييلاً أدبياً.
لكننا للأسف، غارقون في اللامعنى.
هكذا وجد كاتب رائعة «أطفال منتصف الليل» نفسه مطارداً وملاحقاً. فعاش منذ كان في الأربعين متخفياً وبحراسة مشددة من قبل أجهزة الأمن البريطانية.
إنها مفارقة محزنة، أن لا يجد المثقف الهندي أو الإيراني أو العربي ملجأ إلا في الدول التي استعمرت بلاده، ولا تزال تتلاعب بمصيرها، وتقوم عبر آلة الهيمنة الثقافية والإعلامية الضخمة بتشويه حاضرها وتاريخها وثقافتها.
صححيح أن الغرب ليس مقولة جامدة، فهناك أكثر من غرب في الغرب، وهذا ما يسمح للفكر النقدي بالنمو، لكن الصحيح أيضاً هو أن مجتمعاتنا تعاني ضائقة ثقافية صنعها الاستبداد العسكري والأصوليات المستبدة، التي أوصلتنا إلى الانهيار، وسمحت بتحويل المشرق العربي إلى ملعب للقوى الإقليمية والدولية.
من هو هادي مطر؟
هذا هو السؤال الذي صفعني. شاب من أصول لبنانية في الرابعة والعشرين، أي أن فتوى القتل صدرت قبل ولادته بأربعة عشر عاماً.
هل قرأ رواية رشدي؟ وهل استطاع تفكيك طبقاتها الرمزية واللغوية والسحرية، كي يستنتج ضرورة تنفيذ حكم الإعدام بالكاتب؟
ولماذا اللجوء إلى السلاح الأبيض، تماماً كما فعل منفذا محاولة اغتيال محفوظ؟ الطعن في العنق، وشهوة الذبح؟
ما سر هذا الشرّ الشيطاني الذي يتلبس المجرمين وهم يغتالون الأدباء؟
وماذا يعني أن يكون القاتل لبنانياً؟
اللافت أن محاولتي اغتيال رشدي الجديتين قام بها لبنانيان، الأول هو مصطفى مازح، شاب لبناني ولد وعاش في كوناكري في ساحل العاج، وسافر بجوازه الفرنسي إلى لندن حيث انفجرت فيه العبوة التي كان يعدها لاغتيال رشدي في فندق بادينغتون في لندن، في 3 أب/أغسطس 1989. وكان القاتل قد لف العبوة بكتاب فانفجرت به.
والثاني هو هادي مطر، لبناني مقيم في نيوجرسي، حاول أن يقتل الكاتب عبر طعنه على المنصة في 12 آب/أغسطس 2022.
ما العلاقة بين كوناكري ونيوجرسي؟
مصطفى مازح حاول اغتيال رشدي بعيد صدور الفتوى، ربما كان تحت تأثير الغضب الذي أثارته ردود الفعل على الكتاب، وخصوصاً حين تعرض الكاتب للإمام الخميني في سياق لعبته الخيالية التي جعلت كتابه يتأرجح بين تأويل الماضي وتخيله بشكل غرائبي. وربما كان للمكافأة المالية التي وعد بها القاتل علاقة بالمسألة.
لكن كيف استيقظت الفتوى في وعي شاب لبناني متأمرك، تعيش بلاده مأساة الانهيار، فيرتكب جريمته بعد يومين من قيام بسام الشيخ حسين باحتلال مصرف «فدرال بنك» في الحمرا، مطالباً بماله المنهوب؟
كيف نعيش في أزمنة متعددة داخل زمن انهيارنا؟
رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لبيد في تصريحه الذي استنكر فيه محاولة اغتيال رشدي، شكل قمة الوقاحة. قاتل الأطفال في غزة، وحامي الاستيطان الأصولي في فلسطين المحتلة، يعطي العالم دروساً في الدفاع عن الحرية!
هذا الاختلاط الرهيب في الأزمنة يبلبل العقول والمشاعر، ويقوم بتحويل القيم الأخلاقية إلى ممسحة للطغاة.
نقرأ محاولة الاغتيال المشينة والمرعبة، بصفتها جزءاً من استباحة القيم، ودخولاً في ظلامية جديدة، افتتحها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش في سياق حربه الإجرامية على العراق، حين أعلن أن الله يخاطبه بشكل مباشر!
لا غرابة بعد ذلك أن يدعي من يشاء ما يشاء، فيُطوى ويُنسى الموقف العقلاني للسيد محمد حسين فضل لله من قضية رشدي، ويعيد فتى لبناني أمريكي المسألة إلى النقطة الصفر.
قد نحب أدب سلمان رشدي أو لا نحبه، وقد نستسيغ إيغاله في الواقعية السحرية أو لا نستسيغه، ولكن هذا خارج الموضوع.
الموضوع هو أن كاتباً هندياً كبيراً صنع رائعة «أطفال منتصف الليل»، يجد نفسه اليوم مرمياً على رصيف الموت، ويشهد كيف يتحول الحبر إلى دم.
حبر الأدب صار دم الكاتب، ومع ذلك وفي مواجهة آلة جهنمية تقود العالم إلى الاندثار، لا نستطيع سوى أن نتمسك بالكلمة، ونحن نصلب مع الحلاج، أو نقطع مع ابن المقفع، أو نقتل مع السهروردي.
القتــلة ذهبوا إلى النسيان، أما الكلمة فتبقى، لأنها روح الكون.