أما الجنون الأول فهوداء يعشق الإقامة في المدن ويعشش حيث تضيق الأزقة والنفوس وحيث تمور الأرض بالرائحين والغادين اللاهثين خلف الحياة يطلبونها فلا يدركون شيئا منها. وأما الجنون البدوي فهو يحط في المنازل المهجورة وينتظر الوافدين عليها فإذا حلوا بها هجم على أول من تجتاز قدماه العتبة فيتمكن منه ويسري في عظمه ولحمه ودمه ويستعير لسانه وشفتيه ويحدث الناس باسمه فيسمعون منه ما لم يسمعوا به من قبل. والفرق بين الجنونين أن الأول اختلال في الدماغ واضطراب في آلات التفكير والشعور ينتج عنهما خلط واختلاط. أما الثاني فاجتياز للحدود، حدود العقل وحدود القلب وهو انفتاح على عوالم أخرى لكل شيء فيها معنى آخر غير المعاني المألوفة في عالمنا المألوف. الجنون الأول حكم عليه التاريخ بالعزل والإقصاء والمراقبة أما الثاني ففتح للتاريخ آفاقا لم يكن يحلم بها.