- لقد عاد
إنتشر الخبر بين المتظاهرين في جادة الكرمل, شعر به المتظاهرون بين ظهرانيهم يدفعهم ويهمس في آذانهم بعذوبة. أحسّت به الخيول وصارت فجأة تترنّح وتصهل بامتعاض.
إنه جنيّ…
قال ابن تيمية: والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم فيتصوّرون في صور الحيات والعقارب وغيرها، وفي صور الإبل والبقر والغنم، والخيل والبغال والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بني آدم، كما أتى الشيطان قريشا في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لما أرادوا الخروج إلى بدر. قال تعإلى: ”وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّى جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِىءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ“.
إنتقل عبر رؤوس البصل والكوفيات الملفوفة حول الرؤوس المتعبة من الغاز وقنابل الصوت, تسلق الخبر مع نسيم البحر من شارع الجبل لينتشر عبر وادي النسناس صاعدًا إلى شارع “مسادا” ليوقظ رواد إليكا من نشوة الخمر والحشيش.
أمعقول ذلك أن يعود بعد أربعين عامًا من الغياب؟ ألم يمت في تلك الليلة المشؤومة؟
أصبحت العجائز فجأة أشخاصًا مرغوبا بهنّ, عشرات الأسئلة تطرح عليهنّ دون أن تجد تمامًا أجوبة شافية.
من هو العائد؟ هل هو جنّي حقًا؟
2
رحلت العائلة من البيت مع ابنهم الرضيع المولود تواً, في من رحل في طريق الأمان الوحيد المؤدّي إلى كل مكان تريده خارج فلسطين, وبقي بيت العائلة الحجريّ المؤلف من طابقين قائما على أطراف وادي الصليب. تسلل العمّ عائداً من لبنان ليقبع في الطابق الثاني خمسة أشهر مختبئا يقتات على البصل وفضلات الطعام. نجحت خطته وحصل على الطابق الثاني من المنزل بينما استلم الطابق الأول “الوصيّ على أملاك الغائبين”, لتحصل عليه عائلة عربية هُجّرت من الطيرة واختبأت في إحدى كنائس حيفا لتحصل على هذا المنزل مقابل تنازلها عن أرضها في الطيرة.
بدأت الأسطورة تحديدًا في عام 1965، وبحسب شهادة الميلاد التي حملها العمّ للطفل كان يحتفل بعيد ميلاده الثامن عشر. عندما اندلعت النار في البيت المجاور تمامًا, بيت آخر للعائلة سكنَه اليهود الوافدون من العراق, لم يُصب أحد بالحريق, لأنّ الذي قام بالفعلة تعمّد إثارة جلبة شديدة مباشرة بعد إشعال النار التي استطاعت ابتلاع المنزل تمامًا. أثار الأمر ذعر السلطات خوفا على إنجازاتها في فرض التعايش على رعاياها العرب، فأقامت حراسات ليلية في تلك الحارة تحديدًا. فالعائلة كبيرة وأملاكها التابعة للوصيّ تصل إلى خمسة بيوت عدا بيت العم ذي الطابقين.
رآه أربعة من الحرس الليلي في المرة الثانيه وأقسم ثلاثةُ منهم بأنه كان يصبّ الكاز على سقف الطابق الثاني مباشرة من دون الاستعانة بسلم, وبعدها انكمش طوله دفعة واحدة بعد أن اندلعت النار وانفجرت عبوة ناسفة كانت بينهم وبينه تمامًا ليختفي بعدها. الحارس الرابع لم يتكلم. إدّعى أنه لم يرَ شيئا وهاجر بعدها بعدة أشهر إلى الولايات المتحدة بعد أن استلم نقود المساعدة للمهاجرين الجدد.
توالت الحكايات ليزداد عدد شهود العيان وتتكرّر مشاهد استطالة وانكماش مشعل الحرائق السّريّ, حتى أتت على منازل العائلة كلها. ووصل الخبر إلى وزير الداخلية الذي أصدر قرارًا بحكم صلاحياته بطرد العمّ من منزله بحكم كون البيت مسجلا باسم الجدّ والجدّة وأعطي العمّ أسبوعا للطعن أو إخلاء المنزل. رحل العمّ طوعًا إلى كندا حيث يُحكى أنه عمل عند الحارس الرابع الذي هاجر هناك وافتتح محلّا لبيع الفلافل.
في الواقع قام وزير الداخلية بنصب كمين للشبح, حيث أدخل مجموعة مسلّحة من المتعاونين العرب إلى المنزل يتناوبون الحراسة من داخل المنزل بانتظار هذا الشبح.
رآه مناوب الحراسة فأيقظهم جميعًا. طرق الشبح الباب وعندما فتح الباب تكلم معهم قائلا:
- هذا البيت لا يعرف رائحتكم.
أخرجوا أسلحتهم وأطلقوا النار. خيط الدماء يسير إلى ساحة الحناطير ليكمل طريقه إلى البحر الذي اصطبغ يومها بحمرة غريبة كأنه استلم دماء مدينة كاملة بغتة.
واختفى الشبح.
رفض إمام الجامع الصلاة عليه فهو لا يعرف دينه والصلاة على غير المسلم لا تجوز. أمّا كنائس الروم الملكيين الكاثوليك والروم الأرثوذكس واللاتين والموارنة فرفضت كلٌ بدورها أيضًا إجراء أيّ قدّاس متعللة بأنه ليس من رعاياها.
كان ذلك في الثلاثين من تشرين الثاني عام 1973. قبل أربعين عامًا تمامًا, وعاد اليوم.
ميّزه ضابط يهوديّ كبير ممّن شاهدوه بأّمهات أعينهم آنذاك. بدأ عرقه يتصبّب خلف الخوذة وواقي الرّصاص, وأطلق أوامره مباشرة للخيالة باختراق الجموع وإحضاره بأيّ ثمن, وتحطمت أضلع بعض المتظاهرين وكسرت رجل حصان -ممّا أثار حنقه حقا وأدّى إلى المزيد من الأضلع المتكسّرة- ولكن من دون فائدة.
إختفت آثار الشبح ولكن روحه الحاضرة أحيت المتظاهرين, وأثقلت رؤوس الشرطة الذين قرّروا الانسحاب التكتيكيّ حتى إشعار آخر.
3
أنا مجرّد صحفي صغير نشرت خبرًا صغيرًا في جريدة صغيرة في مدينة صغيرة تدعى حيفا, كتبت قصة ادّعيت كذبا أنها خيالية عن شبح صغير يسكن في شارع العراق يأكل حجارة بيوته طوعًا, شبحٍ اسمه جُليات.
مرّت ثلاثة أشهر على تلك القصّة المزعومة, التي كادت تودي بوظيفتي؛ ففي وطني المزيف هذا مسموح أن تقول كلّ شيءٍ سوى الحقيقة. عندما وصلني هذا المكتوب الغريب:
3 وَكَانَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ وُقُوفًا عَلَى جَبَل مِنْ هُنَا، وَإِسْرَائِيلُ وُقُوفًا عَلَى جَبَل مِنْ هُنَاكَ، وَالْوَادِي بَيْنَهُمْ.
4 فَخَرَجَ رَجُلٌ مُبَارِزٌ مِنْ جُيُوشِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ اسْمُهُ جُلْيَاتُ، مِنْ جَتَّ، طُولُهُ سِتُّ أَذْرُعٍ وَشِبْرٌ،
5 وَعَلَى رَأْسِهِ خُوذَةٌ مِنْ نُحَاسٍ، وَكَانَ لاَبِسًا دِرْعًا حَرْشَفِيًّا، وَوَزْنَ الْدِّرْعِ خَمْسَةُ آلاَفِ شَاقِلِ نُحَاسٍ،
10 وَقَالَ الْفِلِسْطِينِيُّ: «أَنَا عَيَّرْتُ صُفُوفَ إِسْرَائِيلَ هذَا الْيَوْمَ. أَعْطُونِي رَجُلاً فَنَتَحَارَبَ مَعًا».
26 فَكَلَّمَ دَاوُدُ الرِّجَالَ الْوَاقِفِينَ مَعَهُ قَائِلاً: «مَاذَا يُفْعَلُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَقْتُلُ ذلِكَ الْفِلِسْطِينِيَّ، وَيُزِيلُ الْعَارَ عَنْ إِسْرَائِيلَ؟ لأَنَّهُ مَنْ هُوَ هذَا الْفِلِسْطِينِيُّ الأَغْلَفُ حَتَّى يُعَيِّرَ صُفُوفَ اللهِ الْحَيِّ؟»
38 وَأَلْبَسَ شَاوُلُ دَاوُدَ ثِيَابَهُ، وَجَعَلَ خُوذَةً مِنْ نُحَاسٍ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَلْبَسَهُ دِرْعًا.
39 فَتَقَلَّدَ دَاوُدُ بِسَيْفِهِ فَوْقَ ثِيَابِهِ وَعَزَمَ أَنْ يَمْشِيَ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَرَّبَ. فَقَالَ دَاوُدُ لِشَاوُلَ: «لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَمْشِيَ بِهذِهِ، لأَنِّي لَمْ أُجَرِّبْهَا». وَنَزَعَهَا دَاوُدُ عَنْهُ.
40 وَأَخَذَ عَصَاهُ بِيَدِهِ، وَانْتَخَبَ لَهُ خَمْسَةَ حِجَارَةٍ مُلْسٍ مِنَ الْوَادِي وَجَعَلَهَا فِي كِنْفِ الرُّعَاةِ الَّذِي لَهُ، أَيْ فِي الْجِرَابِ، وَمِقْلاَعَهُ بِيَدِهِ وَتَقَدَّمَ نَحْوَ الْفِلِسْطِينِيِّ.
46 هذَا الْيَوْمَ يَحْبِسُكَ الرَّبُّ فِي يَدِي، فَأَقْتُلُكَ وَأَقْطَعُ رَأْسَكَ. وَأُعْطِي جُثَثَ جَيْشِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ هذَا الْيَوْمَ لِطُيُورِ السَّمَاءِ وَحَيَوَانَاتِ الأَرْضِ، فَتَعْلَمُ كُلُّ الأَرْضِ أَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ لإِسْرَائِيلَ.
47 وَتَعْلَمُ هذِهِ الْجَمَاعَةُ كُلُّهَا أَنَّهُ لَيْسَ بِسَيْفٍ وَلاَ بِرُمْحٍ يُخَلِّصُ الرَّبُّ، لأَنَّ الْحَرْبَ لِلرَّبِّ وَهُوَ يَدْفَعُكُمْ لِيَدِنَا».
48 وَكَانَ لَمَّا قَامَ الْفِلِسْطِينِيُّ وَذَهَبَ وَتَقدَّمَ لِلِقَاءِ دَاودَ أَنَّ دَاوُدَ أَسْرَعَ وَرَكَضَ نَحْوَ الصَّفِّ لِلِقَاءِ الْفِلِسْطِينِيِّ.
49 وَمَدَّ دَاوُدُ يَدَهُ إلى الْكِنْفِ وَأَخَذَ مِنْهُ حَجَرًا وَرَمَاهُ بِالْمِقْلاَعِ، وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيَّ فِي جِبْهَتِهِ، فَارْتَزَّ الْحَجَرُ فِي جِبْهَتِهِ، وَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ إلى الأَرْضِ.
50 فَتَمَكَّنَ دَاوُدُ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّ بِالْمِقْلاَعِ وَالْحَجَرِ، وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيَّ وَقَتَلَهُ. وَلَمْ يَكُنْ سَيْفٌ بِيَدِ دَاوُدَ.
51 فَرَكَضَ دَاوُدُ وَوَقَفَ عَلَى الْفِلِسْطِينِيِّ وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَاخْتَرَطَهُ مِنْ غِمْدِهِ وَقَتَلَهُ وَقَطَعَ بِهِ رَأْسَهُ. فَلَمَّا رَأَى الْفِلِسْطِينِيُّونَ أَنَّ جَبَّارَهُمْ قَدْ مَاتَ هَرَبُوا.
“لاقني في بيت جُليات الأخير في ذكرى اختفائه الحادية والأربعين.”
لاقيته في البيت المؤطّم في شارع العراق, لا يختلف عن سائحٍ أعجميّ جاء ليتذوّق معجزات حمص أبو مارون- وكأنه تاه في طريقه إلى السيارة؟ لا أعرف لماذا اختار هذا التوقيت بالذات رغم أنّي حاولت الاتصال به مرارًا.
- جُليات مات في يوم النكبة!
وكأنه يطلق أقوى أسلحته في الجولة الأولى, وكانت حقا تلك ضربة قاضية. واستطرق ليخبرني بأنّ الطفل كان في سلة من القش سقطت من القارب الذي كان في طريقه إلى لبنان, وعندما رفض القبطان بأيّ حال من الاحوال التوقف أو العودة لأنهم ما زالوا في منطقة الخطر, قفزت الأم خلفه بكامل زيّها الفلسطيني لتصبح الإلهة السرية لخليج حيفا. عاد في عيده الثامن عاشر وعندما رآه لأول وهلة كان واثقا من أنه ليس جُليات. كان ينام عند عتبة البيت, ليمتدّ من الحائط إلى الحائط حينا, ويتقلص أحيانا طوله بعرض الباب.
وكلما طال مكوثه, زاد اختلاط الشك باليقين, حتى تيقّن تماما في نهاية الأمر من أنّ هذا الكائن أمامه يحمل روح ابن أخيه. لم يتحدّثا تقريبًا, ولم يطلب الطعام أو الشراب أبداً. كلّما أحترق منزل ازداد السواد في وجهه -وهو العضو الوحيد من جسمه الذي كان باديا للعيان- حتى لم يعد يستطيع تبيّن ملامح وجهه, وصار يميّزه من ملابسه فقط.
وبقي المنزل الأخير وقبل أن يخرج نظر إلى العمّ وقال له:
- اليوم أنا راحل!
إنّ روح جُليات كانت تتلاشى مع كل منزل محترق, وبقي المنزل الأخير -وما زال في موقعه- يحمل قطعة من روح جليات تحلق في سماء حيفا.
تناولنا الحمص عند “أبو مارون” تحت مسجد الاستقلال, قبل أن يرحل ليعود إلى العمل عند الحارس الرابع, الحارس الذي رحل بعد الحريق الأول.
- في الغربة, إن لم تجد أصدقاءً, صادقتَ أعداءك.
4
من سفر الإعادة:
وجاء شاؤول ليربض مستوطناً أمام حقل جُليات
ومر جليات بهم إلى حقله أربعين عاما, يزرع الأرض ويستعد لحصادها بمنجله.
وجاء داوود يشتهي الحقل والبيت والمنجل.
وأختار داوود خمس رصاصات فضية من بلاد وشيكة.
وأطلق النار وأخذ البيت والزوجة والمنزل, وكتب التاريخ كما يليق بالأنبياء
وصلّى لإلهة “يهوه” الذي خلصه من الكفره.
ولم يكن مع داوود منجل, فحمل منجل جليات وبتر الرأس وألقى الجسد في اليم.
وفي اليوم الثامن عشر حصلت المعجزة. نزل إله الانتقام وربط الرأس بالجسد العفن.
وعاد جليات حياً لتعود العظام وهي رميم, وحمل برقا عظيما من إلهة إله الموت والانتقام.
عاد إلى حقله وبيته وقذف ببرقه ليحرق داوود وزوجته وأبناءهما والحقل وذاته, وانصهر المنجل ليصبح قطعة من المعدن البارد تلمع تحت ضوء الشمس القادمة من الغرب.
إنتشر الخبر بين المتظاهرين في جادة الكرمل, شعر به المتظاهرون بين ظهرانيهم يدفعهم ويهمس في آذانهم بعذوبة. أحسّت به الخيول وصارت فجأة تترنّح وتصهل بامتعاض.
إنه جنيّ…
قال ابن تيمية: والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم فيتصوّرون في صور الحيات والعقارب وغيرها، وفي صور الإبل والبقر والغنم، والخيل والبغال والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بني آدم، كما أتى الشيطان قريشا في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لما أرادوا الخروج إلى بدر. قال تعإلى: ”وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّى جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِىءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ“.
إنتقل عبر رؤوس البصل والكوفيات الملفوفة حول الرؤوس المتعبة من الغاز وقنابل الصوت, تسلق الخبر مع نسيم البحر من شارع الجبل لينتشر عبر وادي النسناس صاعدًا إلى شارع “مسادا” ليوقظ رواد إليكا من نشوة الخمر والحشيش.
أمعقول ذلك أن يعود بعد أربعين عامًا من الغياب؟ ألم يمت في تلك الليلة المشؤومة؟
أصبحت العجائز فجأة أشخاصًا مرغوبا بهنّ, عشرات الأسئلة تطرح عليهنّ دون أن تجد تمامًا أجوبة شافية.
من هو العائد؟ هل هو جنّي حقًا؟
2
رحلت العائلة من البيت مع ابنهم الرضيع المولود تواً, في من رحل في طريق الأمان الوحيد المؤدّي إلى كل مكان تريده خارج فلسطين, وبقي بيت العائلة الحجريّ المؤلف من طابقين قائما على أطراف وادي الصليب. تسلل العمّ عائداً من لبنان ليقبع في الطابق الثاني خمسة أشهر مختبئا يقتات على البصل وفضلات الطعام. نجحت خطته وحصل على الطابق الثاني من المنزل بينما استلم الطابق الأول “الوصيّ على أملاك الغائبين”, لتحصل عليه عائلة عربية هُجّرت من الطيرة واختبأت في إحدى كنائس حيفا لتحصل على هذا المنزل مقابل تنازلها عن أرضها في الطيرة.
بدأت الأسطورة تحديدًا في عام 1965، وبحسب شهادة الميلاد التي حملها العمّ للطفل كان يحتفل بعيد ميلاده الثامن عشر. عندما اندلعت النار في البيت المجاور تمامًا, بيت آخر للعائلة سكنَه اليهود الوافدون من العراق, لم يُصب أحد بالحريق, لأنّ الذي قام بالفعلة تعمّد إثارة جلبة شديدة مباشرة بعد إشعال النار التي استطاعت ابتلاع المنزل تمامًا. أثار الأمر ذعر السلطات خوفا على إنجازاتها في فرض التعايش على رعاياها العرب، فأقامت حراسات ليلية في تلك الحارة تحديدًا. فالعائلة كبيرة وأملاكها التابعة للوصيّ تصل إلى خمسة بيوت عدا بيت العم ذي الطابقين.
رآه أربعة من الحرس الليلي في المرة الثانيه وأقسم ثلاثةُ منهم بأنه كان يصبّ الكاز على سقف الطابق الثاني مباشرة من دون الاستعانة بسلم, وبعدها انكمش طوله دفعة واحدة بعد أن اندلعت النار وانفجرت عبوة ناسفة كانت بينهم وبينه تمامًا ليختفي بعدها. الحارس الرابع لم يتكلم. إدّعى أنه لم يرَ شيئا وهاجر بعدها بعدة أشهر إلى الولايات المتحدة بعد أن استلم نقود المساعدة للمهاجرين الجدد.
توالت الحكايات ليزداد عدد شهود العيان وتتكرّر مشاهد استطالة وانكماش مشعل الحرائق السّريّ, حتى أتت على منازل العائلة كلها. ووصل الخبر إلى وزير الداخلية الذي أصدر قرارًا بحكم صلاحياته بطرد العمّ من منزله بحكم كون البيت مسجلا باسم الجدّ والجدّة وأعطي العمّ أسبوعا للطعن أو إخلاء المنزل. رحل العمّ طوعًا إلى كندا حيث يُحكى أنه عمل عند الحارس الرابع الذي هاجر هناك وافتتح محلّا لبيع الفلافل.
في الواقع قام وزير الداخلية بنصب كمين للشبح, حيث أدخل مجموعة مسلّحة من المتعاونين العرب إلى المنزل يتناوبون الحراسة من داخل المنزل بانتظار هذا الشبح.
رآه مناوب الحراسة فأيقظهم جميعًا. طرق الشبح الباب وعندما فتح الباب تكلم معهم قائلا:
- هذا البيت لا يعرف رائحتكم.
أخرجوا أسلحتهم وأطلقوا النار. خيط الدماء يسير إلى ساحة الحناطير ليكمل طريقه إلى البحر الذي اصطبغ يومها بحمرة غريبة كأنه استلم دماء مدينة كاملة بغتة.
واختفى الشبح.
رفض إمام الجامع الصلاة عليه فهو لا يعرف دينه والصلاة على غير المسلم لا تجوز. أمّا كنائس الروم الملكيين الكاثوليك والروم الأرثوذكس واللاتين والموارنة فرفضت كلٌ بدورها أيضًا إجراء أيّ قدّاس متعللة بأنه ليس من رعاياها.
كان ذلك في الثلاثين من تشرين الثاني عام 1973. قبل أربعين عامًا تمامًا, وعاد اليوم.
ميّزه ضابط يهوديّ كبير ممّن شاهدوه بأّمهات أعينهم آنذاك. بدأ عرقه يتصبّب خلف الخوذة وواقي الرّصاص, وأطلق أوامره مباشرة للخيالة باختراق الجموع وإحضاره بأيّ ثمن, وتحطمت أضلع بعض المتظاهرين وكسرت رجل حصان -ممّا أثار حنقه حقا وأدّى إلى المزيد من الأضلع المتكسّرة- ولكن من دون فائدة.
إختفت آثار الشبح ولكن روحه الحاضرة أحيت المتظاهرين, وأثقلت رؤوس الشرطة الذين قرّروا الانسحاب التكتيكيّ حتى إشعار آخر.
3
أنا مجرّد صحفي صغير نشرت خبرًا صغيرًا في جريدة صغيرة في مدينة صغيرة تدعى حيفا, كتبت قصة ادّعيت كذبا أنها خيالية عن شبح صغير يسكن في شارع العراق يأكل حجارة بيوته طوعًا, شبحٍ اسمه جُليات.
مرّت ثلاثة أشهر على تلك القصّة المزعومة, التي كادت تودي بوظيفتي؛ ففي وطني المزيف هذا مسموح أن تقول كلّ شيءٍ سوى الحقيقة. عندما وصلني هذا المكتوب الغريب:
3 وَكَانَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ وُقُوفًا عَلَى جَبَل مِنْ هُنَا، وَإِسْرَائِيلُ وُقُوفًا عَلَى جَبَل مِنْ هُنَاكَ، وَالْوَادِي بَيْنَهُمْ.
4 فَخَرَجَ رَجُلٌ مُبَارِزٌ مِنْ جُيُوشِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ اسْمُهُ جُلْيَاتُ، مِنْ جَتَّ، طُولُهُ سِتُّ أَذْرُعٍ وَشِبْرٌ،
5 وَعَلَى رَأْسِهِ خُوذَةٌ مِنْ نُحَاسٍ، وَكَانَ لاَبِسًا دِرْعًا حَرْشَفِيًّا، وَوَزْنَ الْدِّرْعِ خَمْسَةُ آلاَفِ شَاقِلِ نُحَاسٍ،
10 وَقَالَ الْفِلِسْطِينِيُّ: «أَنَا عَيَّرْتُ صُفُوفَ إِسْرَائِيلَ هذَا الْيَوْمَ. أَعْطُونِي رَجُلاً فَنَتَحَارَبَ مَعًا».
26 فَكَلَّمَ دَاوُدُ الرِّجَالَ الْوَاقِفِينَ مَعَهُ قَائِلاً: «مَاذَا يُفْعَلُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَقْتُلُ ذلِكَ الْفِلِسْطِينِيَّ، وَيُزِيلُ الْعَارَ عَنْ إِسْرَائِيلَ؟ لأَنَّهُ مَنْ هُوَ هذَا الْفِلِسْطِينِيُّ الأَغْلَفُ حَتَّى يُعَيِّرَ صُفُوفَ اللهِ الْحَيِّ؟»
38 وَأَلْبَسَ شَاوُلُ دَاوُدَ ثِيَابَهُ، وَجَعَلَ خُوذَةً مِنْ نُحَاسٍ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَلْبَسَهُ دِرْعًا.
39 فَتَقَلَّدَ دَاوُدُ بِسَيْفِهِ فَوْقَ ثِيَابِهِ وَعَزَمَ أَنْ يَمْشِيَ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَرَّبَ. فَقَالَ دَاوُدُ لِشَاوُلَ: «لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَمْشِيَ بِهذِهِ، لأَنِّي لَمْ أُجَرِّبْهَا». وَنَزَعَهَا دَاوُدُ عَنْهُ.
40 وَأَخَذَ عَصَاهُ بِيَدِهِ، وَانْتَخَبَ لَهُ خَمْسَةَ حِجَارَةٍ مُلْسٍ مِنَ الْوَادِي وَجَعَلَهَا فِي كِنْفِ الرُّعَاةِ الَّذِي لَهُ، أَيْ فِي الْجِرَابِ، وَمِقْلاَعَهُ بِيَدِهِ وَتَقَدَّمَ نَحْوَ الْفِلِسْطِينِيِّ.
46 هذَا الْيَوْمَ يَحْبِسُكَ الرَّبُّ فِي يَدِي، فَأَقْتُلُكَ وَأَقْطَعُ رَأْسَكَ. وَأُعْطِي جُثَثَ جَيْشِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ هذَا الْيَوْمَ لِطُيُورِ السَّمَاءِ وَحَيَوَانَاتِ الأَرْضِ، فَتَعْلَمُ كُلُّ الأَرْضِ أَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ لإِسْرَائِيلَ.
47 وَتَعْلَمُ هذِهِ الْجَمَاعَةُ كُلُّهَا أَنَّهُ لَيْسَ بِسَيْفٍ وَلاَ بِرُمْحٍ يُخَلِّصُ الرَّبُّ، لأَنَّ الْحَرْبَ لِلرَّبِّ وَهُوَ يَدْفَعُكُمْ لِيَدِنَا».
48 وَكَانَ لَمَّا قَامَ الْفِلِسْطِينِيُّ وَذَهَبَ وَتَقدَّمَ لِلِقَاءِ دَاودَ أَنَّ دَاوُدَ أَسْرَعَ وَرَكَضَ نَحْوَ الصَّفِّ لِلِقَاءِ الْفِلِسْطِينِيِّ.
49 وَمَدَّ دَاوُدُ يَدَهُ إلى الْكِنْفِ وَأَخَذَ مِنْهُ حَجَرًا وَرَمَاهُ بِالْمِقْلاَعِ، وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيَّ فِي جِبْهَتِهِ، فَارْتَزَّ الْحَجَرُ فِي جِبْهَتِهِ، وَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ إلى الأَرْضِ.
50 فَتَمَكَّنَ دَاوُدُ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّ بِالْمِقْلاَعِ وَالْحَجَرِ، وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيَّ وَقَتَلَهُ. وَلَمْ يَكُنْ سَيْفٌ بِيَدِ دَاوُدَ.
51 فَرَكَضَ دَاوُدُ وَوَقَفَ عَلَى الْفِلِسْطِينِيِّ وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَاخْتَرَطَهُ مِنْ غِمْدِهِ وَقَتَلَهُ وَقَطَعَ بِهِ رَأْسَهُ. فَلَمَّا رَأَى الْفِلِسْطِينِيُّونَ أَنَّ جَبَّارَهُمْ قَدْ مَاتَ هَرَبُوا.
“لاقني في بيت جُليات الأخير في ذكرى اختفائه الحادية والأربعين.”
لاقيته في البيت المؤطّم في شارع العراق, لا يختلف عن سائحٍ أعجميّ جاء ليتذوّق معجزات حمص أبو مارون- وكأنه تاه في طريقه إلى السيارة؟ لا أعرف لماذا اختار هذا التوقيت بالذات رغم أنّي حاولت الاتصال به مرارًا.
- جُليات مات في يوم النكبة!
وكأنه يطلق أقوى أسلحته في الجولة الأولى, وكانت حقا تلك ضربة قاضية. واستطرق ليخبرني بأنّ الطفل كان في سلة من القش سقطت من القارب الذي كان في طريقه إلى لبنان, وعندما رفض القبطان بأيّ حال من الاحوال التوقف أو العودة لأنهم ما زالوا في منطقة الخطر, قفزت الأم خلفه بكامل زيّها الفلسطيني لتصبح الإلهة السرية لخليج حيفا. عاد في عيده الثامن عاشر وعندما رآه لأول وهلة كان واثقا من أنه ليس جُليات. كان ينام عند عتبة البيت, ليمتدّ من الحائط إلى الحائط حينا, ويتقلص أحيانا طوله بعرض الباب.
وكلما طال مكوثه, زاد اختلاط الشك باليقين, حتى تيقّن تماما في نهاية الأمر من أنّ هذا الكائن أمامه يحمل روح ابن أخيه. لم يتحدّثا تقريبًا, ولم يطلب الطعام أو الشراب أبداً. كلّما أحترق منزل ازداد السواد في وجهه -وهو العضو الوحيد من جسمه الذي كان باديا للعيان- حتى لم يعد يستطيع تبيّن ملامح وجهه, وصار يميّزه من ملابسه فقط.
وبقي المنزل الأخير وقبل أن يخرج نظر إلى العمّ وقال له:
- اليوم أنا راحل!
إنّ روح جُليات كانت تتلاشى مع كل منزل محترق, وبقي المنزل الأخير -وما زال في موقعه- يحمل قطعة من روح جليات تحلق في سماء حيفا.
تناولنا الحمص عند “أبو مارون” تحت مسجد الاستقلال, قبل أن يرحل ليعود إلى العمل عند الحارس الرابع, الحارس الذي رحل بعد الحريق الأول.
- في الغربة, إن لم تجد أصدقاءً, صادقتَ أعداءك.
4
من سفر الإعادة:
وجاء شاؤول ليربض مستوطناً أمام حقل جُليات
ومر جليات بهم إلى حقله أربعين عاما, يزرع الأرض ويستعد لحصادها بمنجله.
وجاء داوود يشتهي الحقل والبيت والمنجل.
وأختار داوود خمس رصاصات فضية من بلاد وشيكة.
وأطلق النار وأخذ البيت والزوجة والمنزل, وكتب التاريخ كما يليق بالأنبياء
وصلّى لإلهة “يهوه” الذي خلصه من الكفره.
ولم يكن مع داوود منجل, فحمل منجل جليات وبتر الرأس وألقى الجسد في اليم.
وفي اليوم الثامن عشر حصلت المعجزة. نزل إله الانتقام وربط الرأس بالجسد العفن.
وعاد جليات حياً لتعود العظام وهي رميم, وحمل برقا عظيما من إلهة إله الموت والانتقام.
عاد إلى حقله وبيته وقذف ببرقه ليحرق داوود وزوجته وأبناءهما والحقل وذاته, وانصهر المنجل ليصبح قطعة من المعدن البارد تلمع تحت ضوء الشمس القادمة من الغرب.