هذه إشاراتٌ سريعةٌ، كُتِبت في ذكرى رحيل الدكتور علي الوردي التي مرّت قبل أكثر من شهر…
شكّل الوردي؛ علامةً فارقةً في الثقافة العراقية المعاصرة، ونسقاً معلناً متمرداً على ما عُدّ ثوابتَ في هذه الثقافة من أدبيات تراثية، و دينية، وسياسية، وأخلاقية، فقام بحمل فأسه النقدي ليهوي به على رأسِ تلك الطوطمية التي مكث العراقيون والعرب عليها عاكفين.
وجّه الوردي سهامه النافذة إلى قلب الظاهرة الدينية، التي صبغت _ وما زالت _ المجتمع بألوانها ردحاً طويلاً من الزمن، متدرعةً بعباءة الطهرانية، وجلباب الورع، ولَبُوس الزهد. فكشف الأساليب الملتوية التي اعتمدها رجال الدين، للهيمنة على عقول الناس، مخترقاً بذلك سرابيل التقديس؛ التي تَتَمَتْرسُ بها تلك الظاهرة .
من أهم الأسس التي قام عليها مشروع الوردي التفكيكي؛ هي محاولته فضح المنطق الأرسطي، ذلك السلاح السحري، الذي يعد من أهم أسلحة المدرسة الدينية، وأفتكها في المجتمع؛ والذي كان المهاد النظري الذي تراكم فوقه الخطاب الديني عبر العصور. هاجم الوردي هذا المنطق، وبين تناقضاته، وما يعتوره من أخطاء لا يصلح معها أن يكون منطقاً سليماً للحكم على الأمور، فهو منطق ربما كان صالح التطبيق في العصور القديمة، لكنه لا يصلح لعصرنا الحالي الذي يسوده منطق الاستقراء، وقانون النسبية.
ماتقدّم أعلاه؛ كان كافياً لاستفزاز الذهنية التقليدية، فاستنفرت كل طاقتها لمهاجمته، ويكفي أن ْنعرف أنّ خمسة مؤلفين من طوائف مختلفة كتبوا خمسة كتب؛ للرد على كتاب ” وعاظ السلاطين” وحده! ، ووقف الخطيب في بغداد، قائلاً في خطبة الجمعة : ” إن أسباب فساد الشباب ثلاثة : البغاء، والقمار، وعلي الوردي.”! ولازال الخطاب الديني لليوم مصاباً بعقدة ثقافية نستطيع أن نطلق عليها: متلازمة علي الوردي.
" دنّس" الوردي "تابو" السلطة الثقافية ، وذلك من خلال نقده اللاذع لأساليب البلاغة والنحو العربيين، وما فيهما من تعقيد مصطنع كانت غايته تصنيم اللغة، وإحاطتها بهالة من القدسية، مبيناً بإنها بالأصل كانت لغة بلاط، لا يستخدمها العامة من الناس، و كانت أداة من أدوات الهيمنة السلطانية على المجتمع؛ من خلال تحويلها إلى أُلهية لتخدير المجتمع. وقد استعرض أفكاره هذه في كتابه ( أسطورة الأدب الرفيع) واصفاً هذا الأدب القائم على الزخارف اللفظية، والاستعراض البلاغي، والحذلقة البيانية بأنه في الحقيقة "أدب أجوف رقيع"! استبدّت بوساطته مقولةُ «الفصاحة» و«الإعراب» بالعربية، وتحولت «الفصاحةُ» و«الإعراب» بمرور الزمن إلى سلطةٍ صارمة، لخدمة السلاطين، معتبراً أياه سبباً مهماً من أسباب الازدواجية في الشخصية؛ لأنه يجعل المجتمع يفكر بلغة ويكتب بأخرى. ولا حاجة بنا إلى القول إن هذا استفز التقليديين فراحوا يهاجمون الوردي منطلقين من نظرية المؤامرة على التراث.
تناول علي الوردي الشخصية العراقية، ووضعها على طاولة التشريح، مستخدماً أدواته النقدية كمبضعٍ حاد النصل، أعمَلهُ في جسد هذه الشخصية؛ ليشرحها ثقافياً، ودينياً، واجتماعياً؛ مفكِّكاً أوصالها، دارساً لكلِّ شِلوٍ من أشلائها على حدة، مُرْجِعاً أسباب التناقضات التي ازدحمتْ بها هذه الشخصية إلى عوامل عدة، لخصّها في ثنائية " الحضارة _ البداوة".
فيما يأتي لائحة لأبرز الاتهامات التي وُجِّهتْ إلى الوردي في نظريته عن ازدواجية الشخصية العراقية، أو ثنائيته الشهيرة ( الحضارة _ البداوة ) :
* نظر علي الوردي إلى المجتمع نظرة استشراقيه ( من وجهة نظر غربية ) مستخدماً في ذلك نظرية ابن خلدون إستخداماً تعسفياً، وهو _ في نظرته هذه _ كان ضحيةً لمصيدة الحداثة، والتي كانت "مؤامرة صهيو_ غربية" لقطع امتداد العرب بماضيهم الحضاري التليد.
* أنه كان ضيق الأفق في تناوله لنظرية إبن خلدون، باقتصاره على العرب والمغول في موضوع البداوة.
* أنه مسخ الشخصية العربية، وشوّه الشخصية العراقية من خلال تقديمها بصورة سلبية، أسهمت في تكوين ” العقل العراقي” بشكل مازوخي فيما بعد.
*
إبتسروا نصوصاً للوردي، وحاكموه على أساسها، مدعين بأن البداوة لا تكمن في الصحارى فقط، وأن العراق لم يشهد مداً بدوياً فقط، بل شهد مداً حضرياً، لكنهم لم يبينوا أين وكيف ومتى حصل ذلك؟!
�•افتعلوا مغالطات منطقية، لتخطئة نظرية الوردي في سمات البداوة، كالمقارنة بين حب الغزو الذي يشكل قيمة اجتماعية أصيلة للبدوي، وبين الحروب التي خاضتها أنظمة غربية لأسباب سياسية واقتصادية وتأريخية محضة . مازجين بين هذه الصفات التي تشكل سمات مشتركة لجميع البدو وتمثل قيماً أخلاقية أصيلة عندهم، وأعرافاً اجتماعية لديهم؛ بالتقاط بعضٍ من هذه الصفات متوزعة في أفراد من المجتمعات الغربية.
إنّ محاولة الوردي في نقد المجتمع العراقي، و تسليط الضوء على شخصية الفرد العراقي، وتشريحها والتعامل معها كحصيلة لتراكمات دينية وثقافية وتاريخية معقدة، دفع الوردي إلى معالجة هذه التراكمات من خلال تناولها بدراسات مستقلة، ولاسيما دراسته للتاريخ الحديث دراسة اجتماعية في سلسلته " لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" و محاولته تفكيك المنطق الأرسطوطاليسي من خلال دراسته " منطق ابن خلدون" و دراسته لظاهرة ازدواجية الشخصية العراقية من خلال طرحه لثنائية " البداوة _ الحضارة" ومحاولة سبره أغوار القيم البدوية لسكان العراق بكتابه القيِّم " دراسة في طبيعة المجتمع العراقي".
وقد أثارت هذه الطروحات حفيظة عدة اتجاهات (متناقضة) في التوجهات الفكرية وأبرزها:
�- اليساريين؛ لنقده مادية ماركس التأريخية، في إحدى ملاحق ( اللمحات) عاداً إياهم متعصبين ومتعسفين في اعتمادهم مسطرة الماركسية الجاهزة والمستوردة؛ لتعليل الظواهر الاجتماعية. وهم لا يختلفون في تعصبهم هذا عن أصحاب المنطق الصوري.
- القوميين؛ الذين اتهموه ب " القطرية الضيقة" و وقوفه ضد " مشروع الوحدة العربية" و بأنه " شعوبي" ؛ لدعوته إلى دراسة المجتمع العراقي بمعزل عن محيطه العربي.
�_ المدرسة العقائدية و الأصولية والفقهية الشيعية بنقده للمنطق الأرسطي، وإشادته بمنطق ابن خلدون، والغزالي ومحاولة ابن تيمية في الخروج على المنطق الصوري. متجاهلاً بذلك رموز تلك المدرسة، ومهاجمته للطقوس الحسينية المغالية " كالتطبير والتسوّط" والتي اعتبرها مؤامرة قام بها السلاطين لتسطيح الثورة الحسينية وتجريدها من جوهرها الحقيقي.
�_ المدرسة السلفية السنية، بمحاكمته لشخصيات مقدسة في إرث هذه المدرسة كمعاوية وعمرو بن العاص، ونفيه لشخصية ابن سبأ، وتهكمه بالخلافة الأموية، والعباسية، والعثمانية.
�- ماحكَ السلطة السياسية في العراق بسخريته من شخصيات تأريخية، تعدُّ رموزاً لدى هذه السلطة كهارون الرشيد، والمعتصم وغيرهم، وحملته على شعراء المديح ووعاظ السلاطين، كذلك لتسليطه الضوء على ما تعدّه تلك السلطات ثورات وطنية، كثورة العشرين مثلاً، مبيناً إنها لا تختلف عن أي نزاع عشائري خاضته القبائل مع الحكومات السابقة؛ لمنافع شخصية وغايات مصلحية، و قوله بأن المواطن العراقي يكره الدولة في قرارة نفسه لكنه يتملّقها في العلن.
أخيراً؛ تمكّن علي الوردي من القيام بمظاهرةٍ فكريةٍ على تابوهات راسخة في المجتمع العراقي، وقد تمثّل لمظاهرته الخطيرة هذه في انتخاب عناوين مثيرة لكتبه، لتبدو كأنها لافتاتٌ تحريضية، مثل: «وعّاظ السلاطين»، و«أسطورة الأدب الرفيع»، و«مهزلة العقل البشري»، وقد كان في مظاهرته هذه متزناً وسطياً فهو -كما يقول عبد الجبار الرفاعي - " لم يدخل في معركة مع الله، ولم يتنكّر لحاجة الإنسان للدين، لكنه دخل في معركةٍ مع الصور التي يرسمها «وعّاظ السلاطين» لله، وتنكّر لمفاهيم دينية شعبية متحجّرة، ورفض فلكلورًا مبتذلًا يتلبس بأقنعة الدين، وفضح تمثلاتٍ مجتمعية للدين تهدر مضمونَه الروحاني والأخلاقي والجمالي، وكشف أنماطَ تدينٍ تصاب فيها الشخصيةُ بازدواجية، وتنتهي في بعض الحالات إلى شيزوفرينا مرضية." وهذا هو ما أدخل الوردي في محنته الثقافية، التي بقي فيها وحيداً غريباً خارجاً على الأنساق السائدة في الثقافة العراقية.
يبقى علي الوردي، علامة فارقة في الثقافة العراقية، تؤشر بوضوح على مكامن الألغام الفكرية المغروسة في عقلها الباطن، محذِّراً من انفجارها في المستقبل، ولعله خير من استشرف مستقبل المجتمع العراقي في خاتمة كتابه " دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" والذي صدر عام 1965؛ حيث يقول: «إن الشعب العراقي منشق على نفسه وفيه من الصراع القبلي والطائفي والقومي أكثر مما في أي شعب عربي آخر باستثناء لبنان،
شكّل الوردي؛ علامةً فارقةً في الثقافة العراقية المعاصرة، ونسقاً معلناً متمرداً على ما عُدّ ثوابتَ في هذه الثقافة من أدبيات تراثية، و دينية، وسياسية، وأخلاقية، فقام بحمل فأسه النقدي ليهوي به على رأسِ تلك الطوطمية التي مكث العراقيون والعرب عليها عاكفين.
وجّه الوردي سهامه النافذة إلى قلب الظاهرة الدينية، التي صبغت _ وما زالت _ المجتمع بألوانها ردحاً طويلاً من الزمن، متدرعةً بعباءة الطهرانية، وجلباب الورع، ولَبُوس الزهد. فكشف الأساليب الملتوية التي اعتمدها رجال الدين، للهيمنة على عقول الناس، مخترقاً بذلك سرابيل التقديس؛ التي تَتَمَتْرسُ بها تلك الظاهرة .
من أهم الأسس التي قام عليها مشروع الوردي التفكيكي؛ هي محاولته فضح المنطق الأرسطي، ذلك السلاح السحري، الذي يعد من أهم أسلحة المدرسة الدينية، وأفتكها في المجتمع؛ والذي كان المهاد النظري الذي تراكم فوقه الخطاب الديني عبر العصور. هاجم الوردي هذا المنطق، وبين تناقضاته، وما يعتوره من أخطاء لا يصلح معها أن يكون منطقاً سليماً للحكم على الأمور، فهو منطق ربما كان صالح التطبيق في العصور القديمة، لكنه لا يصلح لعصرنا الحالي الذي يسوده منطق الاستقراء، وقانون النسبية.
ماتقدّم أعلاه؛ كان كافياً لاستفزاز الذهنية التقليدية، فاستنفرت كل طاقتها لمهاجمته، ويكفي أن ْنعرف أنّ خمسة مؤلفين من طوائف مختلفة كتبوا خمسة كتب؛ للرد على كتاب ” وعاظ السلاطين” وحده! ، ووقف الخطيب في بغداد، قائلاً في خطبة الجمعة : ” إن أسباب فساد الشباب ثلاثة : البغاء، والقمار، وعلي الوردي.”! ولازال الخطاب الديني لليوم مصاباً بعقدة ثقافية نستطيع أن نطلق عليها: متلازمة علي الوردي.
" دنّس" الوردي "تابو" السلطة الثقافية ، وذلك من خلال نقده اللاذع لأساليب البلاغة والنحو العربيين، وما فيهما من تعقيد مصطنع كانت غايته تصنيم اللغة، وإحاطتها بهالة من القدسية، مبيناً بإنها بالأصل كانت لغة بلاط، لا يستخدمها العامة من الناس، و كانت أداة من أدوات الهيمنة السلطانية على المجتمع؛ من خلال تحويلها إلى أُلهية لتخدير المجتمع. وقد استعرض أفكاره هذه في كتابه ( أسطورة الأدب الرفيع) واصفاً هذا الأدب القائم على الزخارف اللفظية، والاستعراض البلاغي، والحذلقة البيانية بأنه في الحقيقة "أدب أجوف رقيع"! استبدّت بوساطته مقولةُ «الفصاحة» و«الإعراب» بالعربية، وتحولت «الفصاحةُ» و«الإعراب» بمرور الزمن إلى سلطةٍ صارمة، لخدمة السلاطين، معتبراً أياه سبباً مهماً من أسباب الازدواجية في الشخصية؛ لأنه يجعل المجتمع يفكر بلغة ويكتب بأخرى. ولا حاجة بنا إلى القول إن هذا استفز التقليديين فراحوا يهاجمون الوردي منطلقين من نظرية المؤامرة على التراث.
تناول علي الوردي الشخصية العراقية، ووضعها على طاولة التشريح، مستخدماً أدواته النقدية كمبضعٍ حاد النصل، أعمَلهُ في جسد هذه الشخصية؛ ليشرحها ثقافياً، ودينياً، واجتماعياً؛ مفكِّكاً أوصالها، دارساً لكلِّ شِلوٍ من أشلائها على حدة، مُرْجِعاً أسباب التناقضات التي ازدحمتْ بها هذه الشخصية إلى عوامل عدة، لخصّها في ثنائية " الحضارة _ البداوة".
فيما يأتي لائحة لأبرز الاتهامات التي وُجِّهتْ إلى الوردي في نظريته عن ازدواجية الشخصية العراقية، أو ثنائيته الشهيرة ( الحضارة _ البداوة ) :
* نظر علي الوردي إلى المجتمع نظرة استشراقيه ( من وجهة نظر غربية ) مستخدماً في ذلك نظرية ابن خلدون إستخداماً تعسفياً، وهو _ في نظرته هذه _ كان ضحيةً لمصيدة الحداثة، والتي كانت "مؤامرة صهيو_ غربية" لقطع امتداد العرب بماضيهم الحضاري التليد.
* أنه كان ضيق الأفق في تناوله لنظرية إبن خلدون، باقتصاره على العرب والمغول في موضوع البداوة.
* أنه مسخ الشخصية العربية، وشوّه الشخصية العراقية من خلال تقديمها بصورة سلبية، أسهمت في تكوين ” العقل العراقي” بشكل مازوخي فيما بعد.
*
إبتسروا نصوصاً للوردي، وحاكموه على أساسها، مدعين بأن البداوة لا تكمن في الصحارى فقط، وأن العراق لم يشهد مداً بدوياً فقط، بل شهد مداً حضرياً، لكنهم لم يبينوا أين وكيف ومتى حصل ذلك؟!
�•افتعلوا مغالطات منطقية، لتخطئة نظرية الوردي في سمات البداوة، كالمقارنة بين حب الغزو الذي يشكل قيمة اجتماعية أصيلة للبدوي، وبين الحروب التي خاضتها أنظمة غربية لأسباب سياسية واقتصادية وتأريخية محضة . مازجين بين هذه الصفات التي تشكل سمات مشتركة لجميع البدو وتمثل قيماً أخلاقية أصيلة عندهم، وأعرافاً اجتماعية لديهم؛ بالتقاط بعضٍ من هذه الصفات متوزعة في أفراد من المجتمعات الغربية.
إنّ محاولة الوردي في نقد المجتمع العراقي، و تسليط الضوء على شخصية الفرد العراقي، وتشريحها والتعامل معها كحصيلة لتراكمات دينية وثقافية وتاريخية معقدة، دفع الوردي إلى معالجة هذه التراكمات من خلال تناولها بدراسات مستقلة، ولاسيما دراسته للتاريخ الحديث دراسة اجتماعية في سلسلته " لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" و محاولته تفكيك المنطق الأرسطوطاليسي من خلال دراسته " منطق ابن خلدون" و دراسته لظاهرة ازدواجية الشخصية العراقية من خلال طرحه لثنائية " البداوة _ الحضارة" ومحاولة سبره أغوار القيم البدوية لسكان العراق بكتابه القيِّم " دراسة في طبيعة المجتمع العراقي".
وقد أثارت هذه الطروحات حفيظة عدة اتجاهات (متناقضة) في التوجهات الفكرية وأبرزها:
�- اليساريين؛ لنقده مادية ماركس التأريخية، في إحدى ملاحق ( اللمحات) عاداً إياهم متعصبين ومتعسفين في اعتمادهم مسطرة الماركسية الجاهزة والمستوردة؛ لتعليل الظواهر الاجتماعية. وهم لا يختلفون في تعصبهم هذا عن أصحاب المنطق الصوري.
- القوميين؛ الذين اتهموه ب " القطرية الضيقة" و وقوفه ضد " مشروع الوحدة العربية" و بأنه " شعوبي" ؛ لدعوته إلى دراسة المجتمع العراقي بمعزل عن محيطه العربي.
�_ المدرسة العقائدية و الأصولية والفقهية الشيعية بنقده للمنطق الأرسطي، وإشادته بمنطق ابن خلدون، والغزالي ومحاولة ابن تيمية في الخروج على المنطق الصوري. متجاهلاً بذلك رموز تلك المدرسة، ومهاجمته للطقوس الحسينية المغالية " كالتطبير والتسوّط" والتي اعتبرها مؤامرة قام بها السلاطين لتسطيح الثورة الحسينية وتجريدها من جوهرها الحقيقي.
�_ المدرسة السلفية السنية، بمحاكمته لشخصيات مقدسة في إرث هذه المدرسة كمعاوية وعمرو بن العاص، ونفيه لشخصية ابن سبأ، وتهكمه بالخلافة الأموية، والعباسية، والعثمانية.
�- ماحكَ السلطة السياسية في العراق بسخريته من شخصيات تأريخية، تعدُّ رموزاً لدى هذه السلطة كهارون الرشيد، والمعتصم وغيرهم، وحملته على شعراء المديح ووعاظ السلاطين، كذلك لتسليطه الضوء على ما تعدّه تلك السلطات ثورات وطنية، كثورة العشرين مثلاً، مبيناً إنها لا تختلف عن أي نزاع عشائري خاضته القبائل مع الحكومات السابقة؛ لمنافع شخصية وغايات مصلحية، و قوله بأن المواطن العراقي يكره الدولة في قرارة نفسه لكنه يتملّقها في العلن.
أخيراً؛ تمكّن علي الوردي من القيام بمظاهرةٍ فكريةٍ على تابوهات راسخة في المجتمع العراقي، وقد تمثّل لمظاهرته الخطيرة هذه في انتخاب عناوين مثيرة لكتبه، لتبدو كأنها لافتاتٌ تحريضية، مثل: «وعّاظ السلاطين»، و«أسطورة الأدب الرفيع»، و«مهزلة العقل البشري»، وقد كان في مظاهرته هذه متزناً وسطياً فهو -كما يقول عبد الجبار الرفاعي - " لم يدخل في معركة مع الله، ولم يتنكّر لحاجة الإنسان للدين، لكنه دخل في معركةٍ مع الصور التي يرسمها «وعّاظ السلاطين» لله، وتنكّر لمفاهيم دينية شعبية متحجّرة، ورفض فلكلورًا مبتذلًا يتلبس بأقنعة الدين، وفضح تمثلاتٍ مجتمعية للدين تهدر مضمونَه الروحاني والأخلاقي والجمالي، وكشف أنماطَ تدينٍ تصاب فيها الشخصيةُ بازدواجية، وتنتهي في بعض الحالات إلى شيزوفرينا مرضية." وهذا هو ما أدخل الوردي في محنته الثقافية، التي بقي فيها وحيداً غريباً خارجاً على الأنساق السائدة في الثقافة العراقية.
يبقى علي الوردي، علامة فارقة في الثقافة العراقية، تؤشر بوضوح على مكامن الألغام الفكرية المغروسة في عقلها الباطن، محذِّراً من انفجارها في المستقبل، ولعله خير من استشرف مستقبل المجتمع العراقي في خاتمة كتابه " دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" والذي صدر عام 1965؛ حيث يقول: «إن الشعب العراقي منشق على نفسه وفيه من الصراع القبلي والطائفي والقومي أكثر مما في أي شعب عربي آخر باستثناء لبنان،