لم نستطع أبداً أن نعرف ما عمله. كان لديه بدلة أو بدلتين يرتديهم دائماً، لحيته خفيفة وفي أصبعه خاتم عقيق ثمين لا يلائم ملابسه الرثّة. كان يمشي مثل العصا ويكثّر الكلام في السياسة دائماً. كل ما كان يرغب به ترك انطباعات عميقة لدى مخاطبه فيظنّه خبيراً سياسياً قادر على توقّع مستقبل الكثير من الشخصيات السياسة. أجمل لحظاته كانت تلك التي ينتظر فيها سقوط إحدى الشخصيات، كان يقول في مثل هذه اللحظات عبارته: “خلص طاير”.
كان يكرر ويعيد هذه الكلمات بشكل ممل في كلامه: “مبادئ النظام، كبار المسؤولين في النظام، فساد، تحدي جدي، كبير، أعمدة الثورة”، كما كان عاشقاً لكلمة “المراقبة”.
البعض كان يقول أنه رجل مخابرات، في البداية كانت معلوماتنا عن القضايا الأمنية ضئيلة جداً، وكنا نعتقد أنه بالفعل رجل مخابرات أما هو فكان يعرف شكوكنا ولا ينكرها بل كان يستمتع بهالة الاهمية التي احطناه بها. كان أحد هواجسه أن يسلط الآخرين عليه الضوء .
أيام الصبا عندما كنا نقف على زاوية الزقاق فتراه يأتي نحونا. لاحقاً أيام الجمعة كنا نحييّ هذا التقليد ونذهب إلى حينا القديم لنلتقي من جديد، إيضاً كان يطل أصغر ويأتي الينا محيياً إيانا: “السلام عليكم… السلام عليكم” ثم يصافحنا فرداً فرداً ويقف معنا. مرة ثانية يضع يده على صدره منحياً “ع راسي شباب… ع راسي”ثم يبدأ بتحاليله السياسية، تيار اليمين كذا واليسار كذا.. السيد هاشمي قال كذا، احمدي نجاد وقالبياف على خلاف، الأخوان لاريجاني مسيطران…. كان يتحدث عن الجميع وكأنهم سوية متشابهين أمّا هو فكان خيط مسبحة الاحداث السياسية. في الغالب كنا نصمت ونصغي له، ولو فرضاً ناقشناه بكل فكرة لتعمق الحديث وتجذر وضاع يومنا هباءاً. المسكين عندما كان يشعر أننا لازلنا أنفسنا هؤلاء الرعاع السفلة ولم يغيرنا الزمن، كان يصاب بالاحباط ويودعنا ويرحل. لم نكن نعرف أين يذهب. كان يأتي إلينا بعجلة ولا يتركنا إلا بصعوبة مما جعلنا نفكر حينها أنه خرج من بيته لأجلنا. لكنه كان يذهب مسرعاً بعد وداعنا وكأن لديه اجتماع مهم. هو يذهب من هنا ونحن الخبثاء نفتتح جلسة نميمتنا، أحدنا يقول: “صار توتو عندهم”، ثاني يقول: “مجنون ولو” آخر يقول: “نحن المجانين بكرة بس يزبط وضعو بتعرف مين المجنون”، وشاب يقول: “حرس، أمن، مدير عام.. والله ما فهمنا شو شغلتو؟” وآخر يقول: “تركوه بحالو شو مابدو يكون يكون بالأخير ابن حارتنا وكنا نكيف معو زمان”. بالطبع نحن كنا ندرك ما تحمله كلمة “زمان” من معاني؛ كانت مدحاً أقرب إلى الذم في تلك المرحلة. أحدنا كان يقول: “مسكينة الحجة أمّو صارت ختيارة كتير”، الجملة التي كان يختتم بها الحديث في كل مرة. جميعنا كان يعلم أن الحجة زهرا عانت كثيراً في تربية ابنها، لذلك نبقى نحبه كيفما كان.
مضى أسبوع وأسبوعين لم نرى فيهم أصغر، لم نكترث للأمر في البداية، حتى أن بعض الرفاق قالوا “بيكونوا بعتوه مهمة ع بلاد برا”، لكن الأمر طال شهر وشهرين قلقنا عليه ولكن ما باليد حيلة، لا نجرأ على سؤال أمّه المقعدة عن ابنها الوحيد، فربما الامر لم يكن خطيراً فنثير مخاوفها دون داعيٍ.
بعد عدة أشهر على غياب أصغر فهمنا كم كنا نحبّه، وكم مازلنا نحبّه ونحبّ كلماته النمطية الأشبه بأخبار الراديو، كم كان مسلياً. وعندما طالت الايام أكثر وأكثر نسينا أصغر، وعرفنا أن أمراً ما قد وقع وعلينا أن لا نتحدث عنه، فقط من أجل الحجة زهرا.
يوماً ما ذهبت لإعداد أحد التقارير فرأيت أصغر، لم أعرفه في البداية، لقد أصبح نحيفاً جداً كان لباس السجن يصرخ على جسده وقدميه في نعلٍ بلاستيكي أبيض، وكأنه مريض وضع في الحجر الصحي، لم تكن المحكمة قد بدأت بعد حملق كل واحد منا في الآخر ثم اتجه نحوي وضمّني وضع رأسه على كتفي، لم يسمح له صوته المرتعش بالكلام، بصعوبة فتح شفتيه وقال: ” والله ما اختلست شي” كانت عينيه مليئة بالدموع، وأنا على وشك أن أضحك، أصغر هو أصغر لم يتغير لا زال يستخدم كلماته الفضفاضة، يقول اختلاس بدل سرقة. كنت أدرك جيداً أنه لا يمكن لأصغر أن يسرق. ربتُ على كتفه وقلت: “ابن الحجة زهرا ما بيختلس!”.
كان غارقاً بالدموع لم اجرأ على أن أقول له أنهم استغلوا قلبك الطيب، قلت له شيئاً يسعده ويخفف عنه عذاب الانكسار وقسوة السجن: “أكيد عاملين مؤامرة ضدك”. غرق أصغر في التفكير وجلس على كرسيه شارداً وكأنه يعيد شريط ذاكرته بحثاً عن المتآمرين. بدأت المحكمة، وقف الجميع ثم جلسوا ثانيةً. لقد أدركت يومها أن الصحافة مهنة شريفة فيمكن لك أن تخبر الناس بالحقيقة بطريقة أخرى.
jadehiran.com
كان يكرر ويعيد هذه الكلمات بشكل ممل في كلامه: “مبادئ النظام، كبار المسؤولين في النظام، فساد، تحدي جدي، كبير، أعمدة الثورة”، كما كان عاشقاً لكلمة “المراقبة”.
البعض كان يقول أنه رجل مخابرات، في البداية كانت معلوماتنا عن القضايا الأمنية ضئيلة جداً، وكنا نعتقد أنه بالفعل رجل مخابرات أما هو فكان يعرف شكوكنا ولا ينكرها بل كان يستمتع بهالة الاهمية التي احطناه بها. كان أحد هواجسه أن يسلط الآخرين عليه الضوء .
أيام الصبا عندما كنا نقف على زاوية الزقاق فتراه يأتي نحونا. لاحقاً أيام الجمعة كنا نحييّ هذا التقليد ونذهب إلى حينا القديم لنلتقي من جديد، إيضاً كان يطل أصغر ويأتي الينا محيياً إيانا: “السلام عليكم… السلام عليكم” ثم يصافحنا فرداً فرداً ويقف معنا. مرة ثانية يضع يده على صدره منحياً “ع راسي شباب… ع راسي”ثم يبدأ بتحاليله السياسية، تيار اليمين كذا واليسار كذا.. السيد هاشمي قال كذا، احمدي نجاد وقالبياف على خلاف، الأخوان لاريجاني مسيطران…. كان يتحدث عن الجميع وكأنهم سوية متشابهين أمّا هو فكان خيط مسبحة الاحداث السياسية. في الغالب كنا نصمت ونصغي له، ولو فرضاً ناقشناه بكل فكرة لتعمق الحديث وتجذر وضاع يومنا هباءاً. المسكين عندما كان يشعر أننا لازلنا أنفسنا هؤلاء الرعاع السفلة ولم يغيرنا الزمن، كان يصاب بالاحباط ويودعنا ويرحل. لم نكن نعرف أين يذهب. كان يأتي إلينا بعجلة ولا يتركنا إلا بصعوبة مما جعلنا نفكر حينها أنه خرج من بيته لأجلنا. لكنه كان يذهب مسرعاً بعد وداعنا وكأن لديه اجتماع مهم. هو يذهب من هنا ونحن الخبثاء نفتتح جلسة نميمتنا، أحدنا يقول: “صار توتو عندهم”، ثاني يقول: “مجنون ولو” آخر يقول: “نحن المجانين بكرة بس يزبط وضعو بتعرف مين المجنون”، وشاب يقول: “حرس، أمن، مدير عام.. والله ما فهمنا شو شغلتو؟” وآخر يقول: “تركوه بحالو شو مابدو يكون يكون بالأخير ابن حارتنا وكنا نكيف معو زمان”. بالطبع نحن كنا ندرك ما تحمله كلمة “زمان” من معاني؛ كانت مدحاً أقرب إلى الذم في تلك المرحلة. أحدنا كان يقول: “مسكينة الحجة أمّو صارت ختيارة كتير”، الجملة التي كان يختتم بها الحديث في كل مرة. جميعنا كان يعلم أن الحجة زهرا عانت كثيراً في تربية ابنها، لذلك نبقى نحبه كيفما كان.
مضى أسبوع وأسبوعين لم نرى فيهم أصغر، لم نكترث للأمر في البداية، حتى أن بعض الرفاق قالوا “بيكونوا بعتوه مهمة ع بلاد برا”، لكن الأمر طال شهر وشهرين قلقنا عليه ولكن ما باليد حيلة، لا نجرأ على سؤال أمّه المقعدة عن ابنها الوحيد، فربما الامر لم يكن خطيراً فنثير مخاوفها دون داعيٍ.
بعد عدة أشهر على غياب أصغر فهمنا كم كنا نحبّه، وكم مازلنا نحبّه ونحبّ كلماته النمطية الأشبه بأخبار الراديو، كم كان مسلياً. وعندما طالت الايام أكثر وأكثر نسينا أصغر، وعرفنا أن أمراً ما قد وقع وعلينا أن لا نتحدث عنه، فقط من أجل الحجة زهرا.
يوماً ما ذهبت لإعداد أحد التقارير فرأيت أصغر، لم أعرفه في البداية، لقد أصبح نحيفاً جداً كان لباس السجن يصرخ على جسده وقدميه في نعلٍ بلاستيكي أبيض، وكأنه مريض وضع في الحجر الصحي، لم تكن المحكمة قد بدأت بعد حملق كل واحد منا في الآخر ثم اتجه نحوي وضمّني وضع رأسه على كتفي، لم يسمح له صوته المرتعش بالكلام، بصعوبة فتح شفتيه وقال: ” والله ما اختلست شي” كانت عينيه مليئة بالدموع، وأنا على وشك أن أضحك، أصغر هو أصغر لم يتغير لا زال يستخدم كلماته الفضفاضة، يقول اختلاس بدل سرقة. كنت أدرك جيداً أنه لا يمكن لأصغر أن يسرق. ربتُ على كتفه وقلت: “ابن الحجة زهرا ما بيختلس!”.
كان غارقاً بالدموع لم اجرأ على أن أقول له أنهم استغلوا قلبك الطيب، قلت له شيئاً يسعده ويخفف عنه عذاب الانكسار وقسوة السجن: “أكيد عاملين مؤامرة ضدك”. غرق أصغر في التفكير وجلس على كرسيه شارداً وكأنه يعيد شريط ذاكرته بحثاً عن المتآمرين. بدأت المحكمة، وقف الجميع ثم جلسوا ثانيةً. لقد أدركت يومها أن الصحافة مهنة شريفة فيمكن لك أن تخبر الناس بالحقيقة بطريقة أخرى.
قصة مترجمة: أصغر السّياسي | جاده ايران
تستمر "جاده ايران" بنشر ترجمة لسلسلة القصص القصيرة "آدمها" للكاتب الإيراني "أحمد غلامي" واليوم تنقلنا الزميلة ديانا محمود الى زاوية جديدة من زوايا المجتمع