أدب السيرة الذاتية نصيف الناصري - حسب الشيخ جعفر في عمّان... شذرات من حياة مشتركة

1

عندما كنت أذهب الى نادي اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق في سنوات الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي. يأتي النادل أحياناً بعد الساعة العاشرة أو الحادية عشرة ليلاً ويقول لي : { استاذ حسب يريدك }. حسب يدخل النادي أول الرواد كل يوم. أذهب إلى مائدته التي تضمه هو وسليم السامرائي وسلمان السعدي وبعص الأصدقاء. يسقيني كأس عرق ويطلب مني أن نغادر نادي الاتحاد الى البيت. يسكن حسب في القطاع السابع في مدينة { الثورة } وأسكن أنا في القطاع التاسع . مرات كثيرة أوصله الى بيته وأعود في نفس التاكسي الى نادي الاتحاد لاكمال السهرة مع الأصدقاء الذين تركتهم يتحدثون في الشعر ومصائبه وأمور مختلفة أخرى . عندما كنت في عمّان عام 1996 طلب مني المرحوم عبد الوهاب البياتي تغيير مكان سكني واقترح أن أنتقل الى بيت الشاعر علي الشلاه الذي غادره وهاجر الى جنيف . علي يسكن قرب بيت البياتي . أخبرني أبو علي أن حسب الشيخ جعفر سيأتي الى عمّان في الأيام أو الأسابيع القادمة ويريد تأمين مكان اقامته . كنت أعمل في { حركة الوفاق الوطني } ولا أعاني من مشاكل السكن والايجار . جاء حسب في يوم ما وأخذته من الفندق الذي نزل فيه مباشرة الى بيتي . ظل عندي طوال فترة عملي في { الوفاق } . ذات يوم وصل عمّان من بغداد الشاعر والكاتب حميد قاسم بعد أن حصل على عمل في صحيفة تصدر في دولة الامارات ، فضيفناه أنا وحسب والبياتي في حانة { الياسمين } وبات في تلك الليلة في بيتنا . في اليوم التالي تم طردي من { الوفاق } اثر وشاية لأنني ضيّفت أحد الأدباء القادمين من بغداد . عندما حان موعد دفع ايجار البيت ، كنت لا أملك ولا حسب درهماً واحداً، وكان البياتي في القاهرة بدعوة من معرض الكتاب السنوي . كان الحل هو أن نترك البيت بما فيه من متاع وحاجات شخصية ، ملابس ، كتب الخ، ريثما نتدبر مبلغ الايجار . في النهاية لم نستطع تدبير مبلغ الايجار ، وذهبت أشيائي الشخصية وكتبي وأمتعتي الى صاحب البيت . انتقلنا أنا وحسب الى { بيت الصفيح } الذي تعاقب على السكن فيه الكثير من الفنانين والأدباء . بيت الصفيح هو كوخ من الجينكو يقع في بستان بجبل { اللويبدة } بعمّان، لا يصلح حتى لسكن الحيوانات . البستان هذا ينتظر صاحبه أن يتمكن من جمع تبرعات لتحويله الى مسجد ، وكان يسكن { بيت الصفيح } الفنان التشكيلي والنحات أياد صادق . رحب بنا الرجل وكان كريماً وشهماً . من آفات السكن في بيت الجينكو هذا الحرارة اللاهبة في الصيف والبرودة القاسية في الشتاء . لكن أقسى ما تعرضنا له طوال شهور هي تلك الهجمات الدامية من دويدات تسمى { بق الفراش } تنتشر في الاثاث الخشبي ، الأسرّة ، الكراسي ، الطاولات . بق الفراش يتسلل في الليل صوب النائم ويبدأ بمص دمه . لا يعيش إلاّ على الدماء . كانت ملابس نومنا وخصوصاً دشداشة حسب ملطخة ببقع الدم وجلودنا محفرة . مرة زارنا سعدي يوسف وضيفناه في جلسة شراب وراح يتألم على مظهر حسب وقام بتصويره وتصوير أشياء كثيرة في { بيت الصفيح } . لم نتحمل أكثر .

قررنا البحث عن بيت آخر . جاء الفرج من الشاعر هادي الحسيني والفنان حسن السعيدي . انهما يسكنان في غرفة بجبل { الحسين } تعاقب على السكن فيها الكثير من الفنانين والشعراء . وهب هادي سريره الى حسب وراح ينام على الأرض . عشنا في هذه الغرفة الجديدة البائسة التي ضمتنا نحن الاربعة مدة طويلة قبل أن ينضم الينا الشاعر محمد تركي النصار . لا حسب وجد له عملاً في عمّان ولا أنا بعد أن تركت عملي السابق في ورشة للف وتصليح الماتورات الكهربائية والتحقت في حركة الوفاق محرراً في صحيفة بغداد، وممثلاً لاسكتشات تمثيلية قصيرة عن رموز نظام صدام حسين في اذاعة المستقبل التي تديرها الحركة . البطالة والشعور بالغثيان والسأم ، هذه الأشياء كانت هي التي تغلف حياتنا في العاصمة الاردنية . كنا في كل يوم نلتقي عبد الوهاب البياتي في غاليري الفينيق مساء، ونغادره الى حانة { الياسمين } حين تحين الساعة الثامنة . يدفع أبو علي الشراب وأجرة التاكسي كل ليلة . مرات كثيرة بعد أن انتظمت مواعيدنا مع سعدي يوسف ، كنا نذهب اليه ، حسب وأنا وهادي الحسيني ود خالد السلطاني ويضيفنا بكرم كبير . البياتي لا يحبذ الشراب في النهار ويستاء اذا غبنا عنه في الليل . مرة دعاه سعدي الى جلسة شراب في النهار في حديقته { الجوراسية } وحضر . كانت جلسة عظيمة لا أنساها . قرأ فيها قصائد جديد كما قرأ سعدي قصائد جديدة من مجموعته التي صدرت تحت عنوان { يوميات أسير القلعة } وقرأ حسب قصائد عديدة أيضاً . في حديقة سعدي الجوراسية أيام الصيف كانت النقاشات حول الشعر والفن والثقافة تدور في كل جلسة يدعونا فيها الى بيته { حسب وأنا وهادي الحسيني وأحياناً د خالد السلطاني } . حين صدرت مجمموعته { حانة القرد المفكر } أخبره حسب أن مجموعاته الأخيرة كلها عبارة عن قصيدة واحدة . سعدي صمت ولم يعلق على هذا الرأي .

لكي نجد وظيفة لحسب الشيخ جعفر حاول البياتي عدة مرات الاتصال بالشاعر اللبناني محمد فرحات الذي يشرف على تحرير الصفحات الثقافية في صحيفة الحياة من أجل أن يكتب فيها حسب . وافق الرجل ونشر له مادة ما واحدة من دون أن يبعث المكافأة . بعدها ادعى انه ليس بامكانه نشر المزيد من الأشياء التي يبعثها حسب لأنه لابد أن يوقع معه عقداً ، وادعى انه لا يستطيع وووالخ .


2

حسب المولود في مدينة { العمارة } عند ناحية هور { السلام } عام 1942 . كان مكلفاً بنقل البريد الحزبي الى الحزب الشيوعي في سن ال 16 سنة وكان ينقله في ياقة قميصه من العمارة الى بغداد ويسلمه الى صالح دكله في مقهى بساحة { السباع } { هل كان أخوه الأكبر د صاحب أبو جناح شيوعياً قبله ؟ } . كانت الكتب الممنوعة والأدبيات الثورية التي يقرأها ، يخفيها بين طيّات نخلة في دار العائلة { مجموعته الأولى عنوانها نخلة الله } . عام 1960 يرشحه الحزب الشيوعي العراقي في بعثة دراسية الى موسكو { معهد غوركي للآداب } وهو بعمر الـ 18 سنة حيث سينال شهادة الماجستير في الأدب الروسي . عند انهاء دراسته وعودته الى بغداد بعد سنوات خمس ، سيحاول تغيير هيئته بسبب ملاحقات النظام العارفي له وللشيوعيين { لحية طويلة . سروال جينز . نظارة سوداء } كما يقول د خالد السلطاني في مقال له منشور بموقع { الحوار المتمدن } . بعد سنوات من الاستقرار ببغداد والبطالة سيجد لنفسه وظيفة { مترجم } في السفارة الروسية ببغداد . يذكر فاضل العزاوي في كتابه { الروح الحيّة } أن حسب العائد للتو من موسكو طرق باب شقته في مطلع العام 1966 . سكن معه وغادر الشقة بعد اسبوع بحجة انها تخلو من ورق التواليت . حسب سيستأجر شقة مع حميد سعيد الذي كان يواصل دراسته في الجامعة المستنصرية . في أعقاب انقلاب عام 1968 الذي قاده حزب البعث وفي ما أسموه { 30 تموز } الذي تم فيه الانقلاب على رئيس الوزراء عبد الرزاق النايف وعلى ابراهيم الداوود . عاد حسب في أواخر الليل في ذلك اليوم من حانة الى الشقة ، لكنه فوجىء بمجموعة من المدنيين المسلحين الذين كانوا يملأون الشقة وطلبوا منه الصمت والنوم . هذه المجموعة كان يقودها صباح ميرزا الذي أصبح فيما بعد المرافق الشخصي لصدام . بعد سنوات سيعرف حسب من خلال حميد سعيد أن هؤلاء وغيرهم كانت لديهم أوامر حزبية في الانتشار بعدة مناطق من بغداد لغرض انجاح الانقلاب الذي تم فيه ابعاد رئيس الوزراء خارج العراق.


3

كتبت خالدة سعيد مرة مقالة في صحيفة لبنانية عن حسب الشيخ جعفر وذكرت فيها انه يكاد يعرف أغلب الأعمال الموسيقية الكلاسيكية حال سماعها . عندما كنا أنا وهو نجلس الى الشراب ، يبقى صامتاً كما هو معروف عنه الى أن يدب دبيب الخمرة ، بعدها يبدأ الحديث في شؤون وشجون شتى . في كل جلسة شراب يطلب مني أن أسمعه أغنية ياس خضر الأولى التي سجلها عام 1969 في اذاعة القوات المسلحة { الهدل } وبعدها أغنية أم كلثوم { هو صحيح الهوى غلاّب } . قلت له مرة : { مالذي يجعلك تعجب في هاتين الأغنيتين ؟ } { ذكرى حب عاثر } قال لي . في عمّان التي أيقظت ذكريات سنوات موسكو عنده أيام دراسته ، ستستمر لقاءاته وجلساته مع { صديق العهد الدراسي } المعماري الدكتور خالد السلطاني ومع سعدي يوسف . وبين ذكرى ذلك الرفيق الميت الذي قال عنه في قصيدة { بمقبرة خلف برلين يرقد ابن جودة } وبين الوحشة والسأم في عمّان حيث لا أفق ولا نسمة مستقبل ، سيتوهم كثيراً أثناء جلسات الشراب معنا في الغرفة وهو يحدق في ملابسه المعلقة على الحائط ، اننا رفاق حزبيين من عهد الشباب، وأن هذا الجالس على يمينه هو الرفيق فلان ويسأل بعدها عن الذي ذهب الى الحمام : أين الرفيق فلان ؟ معلوم انه عندما كان في موسكو كان يحمل حنيناً كبيراً الى مدينته العمارة والى بلده العراق ، وعندما يكون في العراق يشتاق بشدّة الى موسكو . كانت كل مكافأة يحصل عليها عبر نشره لقصائده أو ترجماته وأغلب المكافآت قليلة جداً ، يبعثها الى أطفاله . مرة قلت له أمازحه حين استلم مكافأة عن قصيدة نشرها في مجلة { عمّان } : { استاذ حسب ، هذه المكافأة يجب أن تتصرف فيها وحدك } { لا بل سأبعثها إلى أطفالي } قال لي ، فصرختُ في وجهه : { نؤاس طبيبة ويارا مهندسة ومحمد عسكري . بشرفك هل هؤلاء أطفال ؟ } مات من الضحك وهو يوبخني . كانت المرحومة سعاد دباح الاعلامية التي تشرف وتدير غاليري الفينيق في عمّان قد طلبت مني أن اجري معه حواراً للصحيفة التي يصدرها الغاليري . أخبرتها أن حسب لا يحبذ الحوارات التي تجرى معه وطلبت منها أن تفاتحه وتلح عليه في الموضوع . ظل حسب يماطل ويعتذر شهوراً الى أن سافر البياتي في يوم ما الى دمشق وبقينا وحدنا في البيت . اقترح عندها أن نكمل الحوار المؤجل . أكملناه ودفعته الى السيدة دباح حيث نشرته وهي سعيدة .


4

كان الكاتب غازي العبادي صديق حسب وابن مدينته وزميل دراسته في موسكو قد وصل الى عمّان قبل وصول حسب بأسابيع من أجل الحصول على عقد عمل من السفارة الليبية لكنه لم يتمكن من الحصول على هذا العقد الذي كان يعول عليه كثيراً . ذات يوم طلب مني حسب أن يسكن غازي معنا لأنه متعب ومريض ويسكن مع مجموعة من العراقيين الذين لا يهتمون في الأدب وغرفتهم تخلو من مدفأة . طبعاً أنا لا أستطيع رفض هذا الطلب لكن المشكلة أن المسؤولين في حركة الوفاق يمنعونني كما سواي من استضافة غازي وأمثاله بحجة أن هؤلاء كانوا يعملون في صحف نظام صدام حسين . مرة حاولوا أن يبتزوا حسب من أجل الانضمام اليهم والعمل معهم . طلبوا أن ينشروا مجموعته { الفراشة والعكاز } في لندن { دار الكتاب العربي } وهي واجهة لهم . أعطاها لهم لكنها لم تنشر . طبعاً عرفوا انه لا يريد أن يبتزه أحد ما . يسكن في البناية التي نسكنها أنا وحسب شاب عراقي خيّاط أعرفه اسمه حيدر وتوت . طلبت منه أن يضيّف غازي في غرفته التي تخلو من مدفأة أيضاً فوافق الرجل مشكوراً . في بعض الليالي يتسلل غازي خلسة الى غرفتنا التي تنتصب في وسطها مدفأة للقاء حسب والحديث معه . ذات يوم جاء هادي الحسيني الى غازي العبادي فوجده مصاباً بجلطة دماغية وفاقداً الوعي . نقله الى أحد المستشفيات ومنعونا من زيارته . ظل في المستشفى عدة أيام ثم نقلوه الى العراق ليموت حسرة وكمداً .


5

في الشهور الأولى لوصول حسب الى عمَان ، تلقى دعوة من جهة ثقافية في دولة الامارات العربية عبر الشاعر أحمد راشد ثاني وكان قلقاً بسبب ضيق الوقت والاجراءات التافهة التي تتعلق بدخول العراقيين . ذهبنا الى غاليري الفينيق وتولى الشاعر علي الشلاه مهمة مخاطبة تلك الجهة الثقافية عبر الفاكس . أجابوه أن تذكرة الطائرة والفيزا وبطاقة الدعوة ستكون جاهزة خلال أيام قليلة . حسب لم يصدق وشعر بالخوف واعتبر أن التعامل عبر الفاكس ربما يكون ممنوعاً . أخبره علي أن الفاكس غير ممنوع في الأردن وانهم بصدد شراء جهاز كومبيوتر ووالخ . في أبو ظبي بعد تقديمه قراءات شعرية ستتم دعوته الى جلسة خاصة يقيمها المطرب أبو بكر سالم. في اليوم التالي لهذه الحفلة ذهبوا الى البحر وأحضروا له ملابس السباحة وفاتهم أنه عندما يكون معي بالبيت لا يخلع بيجامته أو بنطاله إلاّ اذا اختفيت في المطبخ أو الحمام . وهذه الحالة نعرفها نحن الذين عشنا معه . لم يسبح حسب في البحر معهم قط . في رسائله لي يذكرني دائماً انني كنت أسميه { استاذ حسب } كلما ناداني . أتذكر صيحاته لي : { نصيف } { نعم استاذ } هكذا كنت أجيبه في كل مرة .


6

في تلك الغرفة البائسة التي ضمتنا نحن الشعراء الخمسة وزارنا فيها الشعراء فوزي كريم وخزعل الماجدي وطاهر رياض ويوسف أبو لوز وغيرهم . كانت جلسات الشراب الليلية هي ما يخفف عنا قسوة الواقع اليومي المؤلم . أغلب طعام العشاء عندنا نحن العاطلين عن العمل كانت هي رقاب الدجاج الرخيصة . سعر الكيلو 7 دراهم . وفي ليالي البرد والثلج ابتكرت أنا ما أسميناه { المزة – العشاء } . بسبب البرد رحت أطبخ لهم كل ليلة حساء العدس بالشعرية ونتناوله أثناء الشراب حاراً حتى اننا بعد الجلسة نكون قد شبعنا ولا نشعر بالجوع . قليلة هي المرات التي أكلنا فيها اللحم أو الدجاج . أعرف الشاعر خيري منصور منذ أن كان بالعراق وحين عاش في عمّان واستلم القسم الثقافي في صحيفة الدستور ، دفعت له مرة قصيدة لينشرها من أجل المكافأة حتى أستطيع تسديد الايجار . نشرها ودفع لي مبلغ 15 ديناراً وهذه أول وآخر محاولة لي في النشر بعمّان . أغلب الذين يشرفون على تحرير الصفحات الثقافة يمتنعون عن نشر أيّ نتاج عراقي . حتى حسب لم يفلح معهم باستثناء نشره مرات قليلة في مجلة { عمّان } التي تصدرها أمانة العاصمة . بعد رحيلنا عن الأردن وبقاء حسب وحده في تلك الغرفة اللعينة ، سيقوم أمين عمّان الذي اكتشف انه زميله في الدراسة بموسكو ، يرافقه عبد الله حمدان رئيس تحرير هذه المجلة، بزيارته ومساعدته .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...