في السماء السابعة، كانت تردد الآلهة ( إنانا * : مَن خان روحه ولم يحقق حلمه تحل عليه اللعنة .
هكذا منذ آلاف السنين ، تناثرت الزقورات ، التي شيدت بالعرق والدم ، في تلك الأزمنة العامرة بالشهوة والقسوة ، كان كل البشر يتوقون الصعود الى السماء .
في تلك السماوات النقية التي تخلو من الأمراض والشرور والذي لا يموت فيه كائن حي ، هنالك في الجنة المزدهرة ، لم يعرف الملاك المهمش (سيكو ) كيف يتدبر الأمر ، بعد أن تراءى له في الأحلام انه سيموت ما لم يتعلم الموسيقى .
أستدعته آلهة السماء إنانا وقالت له :أسمعني يا سيكو
ـ أجل يا أمنا العظيمة ، أني مصغ لك .
ـ في الجنة لا تتعلم فن الموسيقى ، التي لو امتلكتها ستنسى الأحزان والهموم .
وقال له فيما بعد إله الحكمة إنكي ** :
ـ يجب أن ترى شطآنا ً محملة بمياه اللذة ، وصيادين بغنائهم يدخلون الخصب في أرحام النساء والسرور في قلوب السمك .
ـ أين هذه البلاد التي يكثر فيها الجاموس والنقوط ؟ ، أين هذه المساحات المائية التي يغني فيها القصب ليل نهار ؟ ، أين هذه الجنة التي تتغنى فيها النساء الناضجات بعهرهن المقدس؟.
ـ كُل الخبز المقدس وأشرب ماء الحياة كي لا تجوع أو تعطش ، وادهن جلدك بالسمن الملكي .. سنهبط بك في بلاد سومر ، حيث النغمات الخالدة ، حيث الريح تغني بشجن ، حيث الموسيقى التي ستعمد حلمك ، وترتقي بك من ملاك مهمش إلى إله يقف قريبا ً من الآلهة إنانا .
لم يكن أمام سيكو سوى أن يخضع ، ويتجنب غضب الآلهة التي تصرخ ليل نهار : اللعنة لمن لا يحقق حلمه ، وأهم من ذلك كله ، أن النغمات الحريرية بدأت ترن في مخيلته وتدخله في دوامات الأرق .
ذات مساء تم إعداد كل مستلزمات الرحلة ، وأنزل بسيكو بتلك العربة الملكية التي يقودها الإله إنكي ، ما إن وصلوا إلى الهور حتى هيأ له قاربا ً طلي بالقار .
قال له إنكي : كي لا تهلك ستكون صورة ًمن بني البشر ، لكن إياك أن تنسى الوصايا .
في ذلك المساء الربيعي ، تملكه العجب ، حيث السماء توزع الخير والمطر ، طاله السرور وهو يرى للمرة الأولى القطرات ترسم دوائر على مرآة الهور ، قطرات تشكل دوائر تتكرر وتختفي ، قال في خلده : حتما ً ، الأم العظيمة تبكي .
وظلت تبكي ثلاثة أيام برغم شروق الشمس .
بعد أن توقف المطر ، اختفت أجنحته الملائكية ، أكثر ما أعجبه هو تلك العطور التي تتأرجح في فضاء الهور ، تساءل كطفل بريء : لماذا الجنة المزدهرة بلا عطور ؟ .حينها بدأ يسمع اصواتا ً لم يألفها ، فأندهش لتغريد الشحارير السوداء ، كان تغريدها يشبه أجراس العرس ، اعتلت الحيرة وجهه حينما سمع القصب يئن بصفير يشبه البكاء ، ويوشوش بأذنه : سأهبك سحر النغمات . أشرق وجهه وهو يصغي إلى صقر السمك والكراكي ، مندهشا ً من نشيدها ، الذي يمجد الماء والحياة ، التي على الرغم من قسوتها تكتنز الخير الوفير ، نعم ، أدهشه الرعد السماوي أيضا ً، لكن لم يبث في قلبه الرعب ، قال ضاحكا ً : الآلهة إنانا تزمجر غضبا ً لأن الأحياء فقدوا قدرة التعجب .
ذات ليل حالك ، هبت الرياح الأربعة ، انطلق القارب يمخر ، ومع شروق نهار طاهر ، بذرت الآلهة العظيمة في قلبه روح الكلمات والمعاني ، التي بموجبها سيتمكن من التواصل مع بني البشر ، قال في خلده : ستحل علي اللعنة كما حلت على بني البشر أذا ما تجاهلت الوصايا المقدسة .
في أول أيام لقائهما ، عرف في بيت الصياد (دوكو ) ان الهور محفوف بالأرواح الشريرة ، وأن الوعد والوعيد يسيطران على قلوب كل البشر ، حينها خاف هو الآخر واستولى عليه الفزع وداهم قلبه الوسواس الناتج عن الخطر .
ذات يوم تحرسه النواميس الإلهية ، تذكر الوصايا ، وأنشد بمرارة ترتيلته الأولى ، كان يصفق بيديه وهو يردد : يا صاحبة الإرادة الكلية / يا واهبة الأوجاع والمسرات / يا طاهرة كالنور / يا من يحتاجك الغريب / يا من يمجدك الصياد الذي بلا رزق / أجل أتضرع إليك يا ذات النواميس / يا محبوبة ً أنظري إلى قاربي / هل تسمعين تراتيلي / لا تتركيني للفال المخيف / لا تتركيني أنوح كالغريق / لا تتركيني كعبد مشدود الوثاق / لا / لا / لا تتركيني .
هذه الكلمات التي خرجت من شغاف قلبه ، ستبقى تبث الأمل في روحة ، روحه التي تحتاج كثيراً من الصبر ، لتتجاوز دورات السأم والقنوط .
وحيدا ً ، وحيدا ً وقاربه في هذا العماء المائي ، كان يسلي نفسه باصطياد أنغام الطيور ، قال ضاحكا ً : حتما ً ، إن عقولها الصغيرة محملة بالأسرار والأحلام .
لكن سمك الخشني والشلك كان يضحك هو الآخر ، تلذذ بسماع صراخ البط حين يغضب او ينتشي ، كأن الكائنات هاهنا تعرف ان شريعة الهور طلسم غامض .
ما أن انتهت المائة يوم الأولى ، حتى حل القيظ ، حينها حزن سيكو لان الوقت يمضي بسرعة ، وهو يلهو مقلدا ً أصوات الطيور، لكنه يوما ً بعد آخر يتيقن أن تأمل الطيور والتحدث معها لا يثمر نغمات سماوية ، نعم ، الجزع جعله يطلق صرخته التي أراد ان تسمعها إنانا ، صرخته التي تنم عن وجع لا يهدأ : متى يا إنانا ، أجمع كل تلك النغمات في لحن واحد ، لحن يمجد الخلود ويقهر الهلاك ، متى تأخذين بيدي ، متى ترحمينني ؟
وتبددت الأيام كما تُبَعثر الريح القش ، وذات يوم قائظ ، صفرت الرياح لخمسة ايام متتالية، صار القارب يدور معها وهي تلهو معه ، كادت أن تقلب قاربه ، كادت أن تثلم الوصايا ، استسلم سيكو لليأس والخيبة ، نعم ، كاد أن يطال الهلاك حلمة أيضا ً .
الهور قديم ، والأحلام كذلك . فوق جزر القصب الصغيرة شيد أهالي الهور الشتان ، رويدا ً رويدا ً تحولت إلى بيوت وممالك . في هذا الهور المترامي كاد سيكو يموت ، لولا أن الريح أشفقت عليه ، ودفعت بقاربه إلى أشتان تعود للحسناء ( أنيلا ) ذات الملامح الصارمة ، والتي تبدو امرأة رقيقة وصريحة .
بالرغم من حرارة الشمس التي تنهك حتى القصب ، كانت أنيلا منشغلة بتحضير خبز لكهان المعبد ، خبزها المنذور للآلهة . ما أن رآها حتى دبت فيه الحياة من جديد ، دفعها فضولها أن تتأمله . تلفت في كل الاتجاهات متعقبا ً أصوات الطيور التي تحتفل معه بهذا الحظ الطيب ، لم يجرؤ أن يقول لها أي كلمة ، لكنها وبوحي الهام مفاجئ حدست أن قلبه يكابد ألما ً شيطانيا ً ، لذلك لم تتردد ان تسأله :
ـ هل أنت بخير ؟
ابتسم وقال بثقة :
ـ يتوجب أن أكون بخير .
ـ من أين أتيت ؟
ـ من الجنة المزدهرة .
ـ من الجنة !؟
وبما أن أنيلا تحترم كل البشر وتؤمن أن على الأرض ملائكة طيبين ،هنا قالت بصوت عذب :
ـ لماذا عزمت على المجيء الى هنا ، حيث الموت والشقاء ؟
حدق سيكو بجمال عينيها التي تشبه عيون الجاموس ، تأمل شعرها الذي لونته الشمس ، في تلك الساعة كان قلبه مفعما َ بالفرح ، أخيرا ً أجابها :
ـ إنها نواميس الآلهة إنانا .
ـ ما السبب ؟
أجاب سيكو بكل فخر :
ـ طردت بسبب حلم ، تلك هي المسألة .
ـ حلم ؟!
ـ نعم ، ولكل حلم ثمن ولكل حلم زمن .
ـ زمن ؟!
ـ نعم ، منحتني إنانا خمس سنوات فقط .
ـ بعدها ، ستعود ؟
ـ إذا حققت حلمي .
اعتقدت أنه ليس بوسعها أن ترشده إلى ما يصبو إليه ، لكنها ظنت بأنه سوف لا يرفض خبزا ً قد نذر إلى الآلهة ، بادرت وقدمت له رغيفا ً ساخنا ً ، متمنية أن تحل البركة بكوخها ويتطهر من الدنس الأسود .
في هذه اللحظة تناهى صوته مشوبا ً بالوجل :
ـ لا ، شكرا ً لك سيدتي ، إن إنكي قد حذرني من فعل ذلك .
ـ هل لي أن اعرف ماذا قال لك ؟
ـ أوصاني بلهجة صريحة ، إياك أن تأكل خبزهم ، ستحل عليك لعنة الجوع / إياك أن تشرب ماءهم وخمرهم ، ستحل عليك لعنة العطش / إياك أن تواقع أو تقبل نساءهم ، ستحل عليك لعنة الوهن والشيخوخة .
أحست أنيلا بألم يعتصر أحشاءها ، على الرغم من ذلك ضحكت ، كونها لم تسمع طيلة حياتها بتلك الوصايا التي بلغت ذروة القسوة .
صفنت بوجهه ، وتبسمت ، قبل أن تمد له يديها قائلة ً :
ـ تفضل ، بوسعك أن تستريح في كوخي ، فمن يدري ربما تفيدني بحكمة ما .
رفع عينيه غير مكترث ، وهز كتفيه ، وبحرج باح لها بالوصية الرابعة دون أن يبرح مكانه ، قال بمرارة :
ـ إنكي قال لي : إذهب ولكن ... .
وصمت خجلا ً ، فهو لا يريد أن يلحق بقلبها ألما ً إضافيا ً ، نعم ، خاف أن يكشف عن الوصية الرابعة ، الوصية التي تودي به إلى الهلاك أيضا ً .
قالت أنيلا متسائلة :
ـ ماذا أخبرك إنكي بحق سيدة السماء إنانا ؟
ـ قال أمرا ً لم أفهمه ، كرره على مسمعي ثلاث مرات ، تدبر أمرك ، لكن إياك أن تنزل من القارب ، ستحل عليك لعنة الطاعون .
تطلعت الحسناء أنيلا إلى السماء ، وسجدت متضرعة للأم العظيمة إنانا ، وبعينين على وشك ان تنفجرا بالبكاء قالت :
ـ يا أعز سيدة ، يا من تباركين الهور بالنور ليل نهار ، لماذا سلمتِ هذا الملاك لفصول من العبودية ، لعذاب يفسد الدماء في الروح...؟
طأطأ سيكو رأسه إجلالا ً لهذا النشيد الذي سافر مع الريح ، رفع يديه وهمس للأم إنانا ترتيلته الأولى ، التي ما أن سمعتها أنيلا حتى أجهشت بالبكاء ، نعم ، أصابها الهلع ، وبدأت تطلق عويلا ً كأم خطفوا منها طفلها الذي لم تفطمه بعد .
ولم تمطر السماء ، خمن الملاك سيكو أن الآلهة إنانا ربما هي نائمة ، ولم يبلغ مسامعها ما يحدث الآن ، أو أن قلبها لم يتعاطف مع هذا النحيب .
ولم تبك أو تحزن إنانا العظيمة .
لم ينتظرا طويلا ً ، واصلا صلاتهم البدائية حتى خيم الليل ، ومع انتشار ضوء مغسول بالبركة ، رأيا غيمة كأنها أتت من ارض مقدسة ، يا له من نهار مفتون بالألوان ، ومن فرط فرحهم بالغيمة أنشدوا التراتيل ، وهما يرقبان النوارس وهي تحلق عاليا ً ، لكن الغيمة تبددت مع أول هبة ريح ، فخلدا إلى صمت موحش . في هذه الفوضى قالت الحسناء بجزع : لم تبك ِ السماء ولم تذرف دمعة واحدة .
بيد ان سيكو أراد أن يكون لطيفا ً معها ، يده المرتجفة لامست الماء والطين ، استحوذت على باله هواجس الخوف من المجهول ، لكنه همس لها ضاحكا ً :
ـ للآلهة حكمتها التي لا ندركها .
عقب عشرة أيام ، أستسلم كل منهما لقدره ، الذي لا يعوض ولا يتكرر . على الرغم من ذلك ، فأن هذه الزيارة لم تنسها أنيلا ، وكانت تردد في خلدها : مسكين أيها الملاك .
هكذا ، وذات قمر فضي ، سحبت نايها الذي علقته بجدائلها ، وبلهفة جامحة قالت له :
ـ هل تسمح لي أن أسمعك لحن الأسماك التي تصلي للقمر ؟
يا له من ناي ساحر ، أغمض عينيه ، صار الهور كله يغني ، شعر للمرة الأولى أن كل شيء جميل ، اضطربت روحه ، تراقص القارب ، لم يعرف كيف يشكر أنيلا ، الهادئة الوديعة ، وانسابت الكلمات من فمه : ( إصغ لي يا أسماك المياه الأزلية / هنا الحب كالحليب / هنا الحب يصيبنا سرا ً ، هنا في الغربة موعد مع المستحيل / حلم أخضر يهرب ويطير / أنيلا في خيالي فكرة / حمدا ً للحب / حمدا ً للنغمة ) .
بكت أنيلا ، وارتجف قلب سيكو ، كانا سعيدين و محظوظين ، كما بدا الهور أكثر رحمة بأضواء الغروب ، لقد أحس سيكو أن أنغام الناي تعزف له وحده .
قال : هل بوسعي أن أجرب ؟
ـ الناي قصبة ميتة ، ما لم تُمَرن أصابعك للرقص على ثقوبه الأربعة .
نعم ، سرعان ما حل الربيع ، وتمنى سيكو أن لا يأتي الفجر الذي سينفصلان فيه ، في نومه صار يحلم بأنيلا وعيونها السوداء . لكن الحسناء التي لا تعرف سوى لحن الأسماك التي تصلي للقمر ، استيقظت ذات صباح ، وخاطبته :
ـ هنالك في هور المسرات كاهن ضرير ، ما إن أسمع نغمات نايه حتى أبكي .
ـ موسيقى تبكي !؟
ـ نعم هنالك ، هنالك ستجد حتى الطيور تصغي له .
ـ ولكن ربما الألحان السماوية ستهبط هنا في هذا المكان ؟
ـ كلا ، إني اعرف انك لا تتعلم العزف إلا هناك .
ـ لكن كيف سأتحمل الفراق ؟
ـ هي الرياح يا سيكو ، هو القدر ، وأرجو أن تسلم لي على الراهب إن رأيته .
وهبت الريح ، عندما استيقظ في يوم ذات برق ، وجد أن قاربه يتراقص بعيدا ً عن أشتان أنيلا ، فتمتم كأنه في كابوس مزعج : أين ، ومتى ، سألتقي بالراهب ؟
مضت بضع أسابيع ، والقارب ينساب تحت شمسٍ لاهبة تثير القنوط . فجأة ً ، مر القارب بذلك الأشتان العائم وسط هور المسرات ، لم يعرف حينها أنه وصل الهدف ، حتى لفت انتباهه ذلك العدد الكبير من الطيور ، وهي تحوم برقصة غريبة حول الكوخ .
وما أن صرخ : هل من أحد ها هنا ؟ ، حتى فزعت الطيور ، التي ما إن رأته حتى ولت هاربة ، ما عدا النوارس ، فقد صارت تخفق بأجنحتها وتطلق صرخات محذرة .
وهنا ظهر الضرير الذي سأله بوقار قائلا ً :
ـ لماذا أتيت ؟
ـ نصحتني أنيلا أن أراك ، إني أريد تعلم الموسيقى التي تطرب لها الطيور .
ـ هل تملك ناياً ؟
ـ نعم ، الحسناء أهدتني نايها .
ـ هل جربت أن تترك لنايك العنان ليحكي ما في روحك ؟
ـ لا
ـ هل تعرف لحن الصيادين الحالمين الذين ركبوا البحر ولم يعودوا ؟
ـ لا
ـ هل تعرف أن تعزف رقصة الزرارير التي تحلم برقصة الفراشات ؟
ـ لا
صمت الكاهن طويلا ً ، وتشبث سيكو بالأمل
وبدا الليل مكفهرا ً بظلمته الحالكة ، مثيرا ً الهلع في هور المسرات . لم يخلد سيكو في تلك الليلة للنوم الطيب ، وجد عزاءه بتذكر وجه أنيلا ذات الثمانية جدائل ، متذكرا ً صوتها المشبع بالأمل ، مفكرا ً بكلماتها : إن السنين تجري ، وان ما سيواجهك أعظم .
تطلع إلى النجمة التي تزداد سطوعا ً كلما ضحكت الحسناء .
قال في خلده : يبدو أن القدر لا يؤمن بالحب .
في بعض الأحيان تتخلى الآلهة عن الهور ، فيلف المكان ضباب كثيف يقبض الروح ، في منتصف اليوم الرابع بدأ الضباب الطباشيري ينسحب إلى هور الهلاك ، وفي اليوم الخامس صحا سيكو على أنغام تشبه صلاة قديمة ، قديمة جدا ً ، غمره فرح لا يوصف ، إرتجف قلبه حينما رأى الكاهن وقد تدلت في الماء أرجله التي تشبه القصب ، وهو يعزف بنايه الأسود نغمات تحرك الريح وتطرد الضباب والضجر . قال سيكو مندهشا ً :
ـ ما أسم هذه المعزوفة الغامضة ؟
ـ عقولنا الخضراء ابتكرت مع الزمن هذه الألحان ، عقولنا الحالمة هي التي أطلقت عليها ولادة العالم بعد الهلاك .
بعد أشهر ، أخذ الكاهن لقاءهما المبارك على محمل الجد ، كانت عيناه جامدتين لكن قلبه يرى كل شيء .
أهي الموسيقى التي وحدت روحيهما بقلب واحد ، أم نبوءة الضرير الذي أكد له :
ـ في قلبك جذوة الحلم ، وأرى أنك ستصل مبتغاك لا محالة .
هكذا بدأ سيكو يلهو بنغمات رقيقة لتطرد عنه السأم ، أما الكاهن فكان يسمع كل ذلك ويضحك ، وفي بعض الأحيان يوبخه بعصبية وهو يبتسم : أيها الملاك ، اعتقد أنك تدندن ، ولكن لا تبحث عّما هو جديد .
منذ ذلك الوقت ترك سيكو الألحان الساذجة ، وأذعن للنصائح السبع ، التي تركز كل أهتمامها بروح الموسيقى فقط . قال له الشيخ الضرير : يوما ً ما سنفترق ، عليك أن تخط طريقك الفردي .
قال الملاك بارتباك :
ـ ماذا تعني يا معلمي ؟
ـ اعني ، عليك أن تكتشف ما يميز روحك ، حينها ستجد جوهر الموسيقى ؟
ـ لكن ما هي الموسيقى ؟
ـ هي الحرية ، يا سكيو .
من بعد ذلك ، حدث تغيير ملحوظ في قلب سيكو إذ تغلب على اليأس بالتفاني ، وفي الأشهر الأخيرة من السنة الثالثة ، تعلم كل أسرار الألحان التي يعرفها الكاهن ، الذي خاطبه بود ، في يوم شتائي :
ـ هل تعرف لماذا لا ترقص الطيور لمعزوفاتك ؟
أجاب بخجل : لماذا !
ـ لأن الطيور لا ترقص سوى للنغمات الذاتية النابعة من القلب ، منذ زمن ، بذلت قصار جهدي لكي لا تكون شبيها ً بي .
وروى له ، كيف أضاع عمرهُ كمعتوه دون أن يفلح بعزف لحن الأرملة الكئيبة ، وذرف دمعتين وأردف :
ـ لا تضيع وقتك معي ، إذا نذرت نفسك لحلم سماوي بحق .
سرعان ما تذكر سيكو ، ليس أمامه سوى زمن قصير ، مهما سيطول لكنه سينتهي ، زمن ربما لا يكفي للعثور على الألحان السماوية ، التي تبدو لحد الآن مستحيلة ، لذلك سأله بحيرة :
ـ العناية الإلهية ،أعطتني الفرصة ، أليس كذلك ؟
ـ نعم ، لكن فرصتي ضاعت ، تنبه ، أن لا تضيع فرصتك ؟
بكى الاثنان من أعماقهما ، حينها فهم سيكو أن حلم الموسيقى أودى بالكاهن لذلك المصير المفجع ، بعدم رؤية العالم والى الأبد .
سأله سيكو حين أحس أن القارب يهتز مع الريح :
ـ بسم الآلهة إنانا ، من علمك العزف ؟
ـ الجني .
ـ أيّ جني ؟
ـ نعم ، الموسيقى السماوية لا تتقن بسهولة ، فهو الذي علمني تحويل الهموم الى فن ترقص له الطيور .
أندفع هواء ساخن ، صار القارب يهتز ، استعدادا ً لتكملة الرحلة . لم يتركه الكاهن بل ودعه بصوت حزين :
ـ وداعا ً ، خذ نايي ، سيسليك بحكايات قديمة وخرافية .
أندفع القارب منطلقا ً على صفحة الماء الملساء ، لكن صرخات الضرير المحذرة ظلت ترن في ذهنه حتى رأى الجني القابع في هور الهلاك :
ـ أنتبه إلى نفسك ، حين يداهمك الجني الذي يشبه الخنزير ، لا تتداع َ وتسقط في الماء ، إحذر سهامه التي تشبه زعانف الأسماك ، لأنها لو طالتك ستفقأ عينيك .
لم يكن في قلب سيكو سوى الإصرار العنيد ، صار يردد تعويذته الأولى التي آمن بقوتها السحرية ، تعويذته التي ستجنبه الضرر من الشر المتقلب الأهواء .
لتحرف الريح رحلته غربا ً ، اجتاز ثلاثة أهوار ، ليجد نفسه في هور مليء بالطحالب ، عندها أضطرب قلبه من السكون الذي يحف بالمكان ، تذكر قول الكاهن : الأشنة القرمزية لا يصلها سوى المجانين الحالمين . غير أن سيكو تهيأ للمواجهة ، قال لنفسه :
ـ هنا ، ربما يسكن الجني .
ما أن توقفت الريح ، حتى وجد نفسه كأبله في هذا السديم المرعب .
مكث ثلاثة شهور وهو يصرخ :
ـ أينك أيها الجني الطيب ؟ ، من أجلك أتيت .
في الليل بنجومه المتلألئة ، كان يعزف للآلهة إنانا ألحانا ً لا ترتقى لما هو سماوي ، لكنها مزيج من طاقة مكبوتة تبحث عن خلاص ما .
وذات ليلة أسره وهو يرى القمر يراقص نجمة تضحك ما إن تتكلم أنيلا ، حتى صار نايه يعزف بشجن نغمات خفيفة وطاهرة ، وتساءل : هل من فرصة للنجاة من هذه المتاهة ؟.
كان سيكو يقضا ً، حذرا ً من أن يواجه حتفه مبكرا ً وبلا رحمة ، لذلك ناجى إنانا التي تعطر الكون بالانسجام الكلي :
ـ لماذا دفعت بقاربي الى هور الهلاك يا أماه ، إذا كان من المتعذر اللقاء بالجني ؟
نعم ، أراد أن يثبت لأهالي سومر أنه ليس مجنونا ً ، تشبث بالنغمات الضوئية ، لأول مرة شعر بمسؤولية خطوته ، التي على الرغم من خطورتها لكنها كانت حافلة بالعاطفة الملونة .
كم كان عميقا ًذلك الإحساس بالفرح عندما أشرقت الشمس ، كان القارب يحمل آمالا ً غريبة تحتاج للقاء الجني لينضج عطرها وتتحول إلى حلمٍ ٍ سماوي .
ظل الحال هكذا لمدة أسبوع آخر، بعدها ناجى إنانا حين رأى الطيور تملأ السماء : هل تستطيع موهبتي تدبر أمرها دون اللقاء بالجني ؟
سمع هاتفا ً يشبه صوت الكاهن يجيب على سؤاله : كلا ، الموهبة تحتاج إلى الإرادة أيضا ً ، هذا إذا لم يفترسك الجني .
ذات نهار كالعرس ، رأى حورية ذهبية ، أخرجت رأسها متفرسة ً في وجهه . فجأة ً سمعها تسأله :
ـ هل أنت سيكو ؟
فأجاب بضحكة خفيفة :
ـ نعم ، أيتها الحورية .
ـ إحترس ، وأعلم أن الجني سيظهر لملاقاتك .ً
أغمض عينيه وما إن فتحهما حتى لم يعد أي أثر للسمكة ، صرخ : هذا الهور لا يبعث على السعادة أو الأمل .
جاءه صوت من بعيد ، انه صوت أنيلا يقول له : إن السعادة ضربة حظ كصيد السمك .
عند غسق جديد ، غمرته فرحة هائلة ، لرؤيته خط الأفق يتلون بغيمة وردية ، وهي تقترب كتنين يلفظ نارا ً ، قال مخاطبا ً السماء : يا له من جني مرعب يا أنكي .
ظل سيكو ينتظر ، لكن السراب يظل سرابا ً ، ورويدا ً رويدا ً تبددت الغيمة فساوره الألم والندم .
وهنا زادت عيناه احمرارا ً من شدة البكاء ، صار يصرخ أحيانا ً ، بدأ ينفد صبره .
قال للطيور التي صارت تحط على قاربه كمكان آمن :
ـ من المستحيل أن يرقد في هذا الهور جني الموسيقى .
أحتاج الى الراحة ، فنام يومين بعد أن طاله اليأس ، منتظرا ً رحمة الرياح الأربعة .
لكن ما أن فتح عينيه حتى رآه ، نعم رأى الجني بصولجانه الذهبي ، أصابه الفزع لمرأى هذا العملاق المهيب ، الذي لم يكن بوجه خنزير .
فزعه جعله يمسك بحافة قاربه جيدا ، حينها أتاه صوت رخيم يهمس بدعابه : آه ، يا لك من ملاك طائش ! وصار يلهو معه ويضحك ، حتى بدا للملاك أن ما يحدث مجرد حلم .
لكن الجني ، بعينيه اللتين تشبهان نجمتين صافيتين ،اقترب منه وقال : لا تنس َ الحلم ؟
ـ الحلم ّ ؟!
ـ نعم ، من ينسى الحلم ينسى الآلهة .
ـ لكن جريمتي تتعلق بحلم بريء
ـ اعرف ، ولكن حين نتمسك بأحلامنا ننسى الواقع ، ننسى الآلهة والزمن .
ـ أستساعدني أم ستعاقبني ؟
أجابه الجني وعيناه تتسعان :
ـ في الحقيقة لا أرغب الانتظار طويلا ً ، أسمعني ما عندك .
كانت صراحته مؤلمة ، فأرتجف لها قلب الملاك فقال :
ـ كيف لي أن أقبض على روح الألحان والموسيقى ؟
ضحك الجني وكأنه استمع لكلام صبي معتوه ، وما أن هدأت كركراته حتى قال بغضب :
ـ ما زلت طفلا ً بريئا ً ، تردد الحان الراهب الفاشل .
كاد سيكو ان يبكي لما سمعه ، هل يعقل ان كل ما تعلمه لا يتعدى إلا ألحانا فارغة ً بعيدة ًعن جوهر الموسيقى المزدهرة ، شعر ان كابوساً يطبق على أنفاسه ، مع ذلك تنفس الصعداء وقال :
ـ إذن ، كيف بوسعي أن أنتشل نفسي ؟
ـ عليك منذ اليوم أن لا تنتصر إلا لتجربتك فقط .
وهبت ريح عاصفة ، وغرق الجني وطرطش الماء كبركان ، ولم يظهر إلا بعد عشرة أشهر .
لم تكن الشمس قد طلعت بعد ، عندما رأى سيكو أن قاربه قد خرج بسلام من هور الهلاك ، صار بحزن يعد أيامه المعدودات . خوفه من الفناء فطر قلبه . فأنثال يعزف هواجسه الفزعة ، ووسط تلك الوحشة سقطت منه دمعة وهو يرى هجرة البط البري الذي سيعود دون ان يجده .
ذات نهار راقص ، قرر التخلي عن ناي أنيلا وناي الكاهن أيضا . نعم ، شعر بألم حارق وهو يعطي طفلين عاريين أعز ما يملك ، بعد ذلك أخذ قصبتين طويلتين ، ما إن حركهما بغضب عكس اتجاه الريح حتى أحدثتا صفيرا ً ، استحسن ذلك الصوت ، وكان سعيدا ً حين التقى احد الصيادين . قائلاً له : ستنقذني إذا ثقبت لي ثمانية ثقوب في كل قصبة .
هكذا هام بنايه الجديد ، نايه المزدوج الذي أضحى يصدح بالحان غريبة .
لكنه ما أن سمع هتافا بعيدا يشبه صوت الكاهن يقول له : أنت بالاتجاه الصحيح نحو الهدف يا سيكو . حتى قَبَل َ نايه المزدوج وقال له بمودة :
ـ خليلي ، جهزتك ليوم عظيم ، أفعلُ كل ذلك من أجل إنانا التي تحب أنيلا .
كانت الريح تردد زئيرا موحشا يحرك القصب ويبث في قلبه خوفا موروثا ، حينها أصيب بمس غريب ، فهو ما إن يسترخي حتى يتذكر غنج أنيلا ، التي ما ان تغرق صورتها ، حتى يتحول فرحه الى شرود ، ليعود كمن يستيقظ من حلم ، يتفحص أعماقه التي تشبعت بعفن الهور ، فقط النجوم من كانت تشعره ببهاء إنانا ، وتذكره بالحكيم أنكي الذي أتى به الى هذا القفر المائي .
توقف عن العزف ، حين أحس انه ملاك خائب ، وان إنانا ستهلكه لا محالة ، قال مستاء ً :
ـ تبا ً للأحلام إنها تفقدنا راحة البال .
بعد منتصف الليل بقليل ، تحرك قاربه ، الذي صار يحوي ، أسرار الصيادين ، والطيور الميتة ، وقصص الغرام ، والقواقع الخضراء ، وكذلك حلم الأرملة الكئيبة .
الغريب في الأمر ، ومع حلول آخر ربيع ، أصبح الصيادون يهتمون بألحانه ويترنمون بها في رحلاتهم ، ويحملونها في قلوبهم كتعويذة مخادعة ، لكنها ساحرة كحقيقة وحيدة قابلة للتصديق ، نعم ، صدقوها .
ظل سيكو مسترسلا ً في معزوفاته الغامضة ، التي تبشر أهل الهور بأنهم جميعا سينالون الخلود الموعود .
وذات غروب معطر بعرس ، عزف لهم لحن الجنيات المراهقات ، حبه الأول هو من أوحى له بذلك ، حب أنيلا ذات ثماني الجدائل ، والذي ما عاد يهدأ أبداً .
وفي يوم ٍ بارد ٍ مقرون ٍ بموت ملك أور أور نمو *** ، كان سيكو مبهورا ً بتغريد الطيور وهي تطهر أرواحها بدفء الضوء . أغمض عينيه مطولا ً ، فجأة ً ، توقف الشدو ، فتح عينيه ، في خصم هذه الإثارة ، وجد الجني يجلس القرفصاء على صفحة الماء .
جثم الصمت على المكان لساعتين ، استجمع ما تبقى له من قوة ، ثم نطق كلمتين لا غير :
ـ متى تعلمني ؟
ـ ماذا تريد أن أعلمك ؟
ـ هل بعد ألحان البشر من ألحان سماوية ؟
ـ كل شيء ممكن يا سيكو ، لكن أخشى عليك .
ـ أريد أن أتعلمها بأي ثمن ؟
ـ لكنك ستحترق يا سيكو .
مكث معه الجني الصيف كله والخريف كله ، ثقفه بتأن ٍ ، علمه فنون الصنعة تباعا ً ، كان الزمن يمضي وهما يعزفان ألحانا دافئة ، كأنها كانت تلامس جرحا قديما ،وتيقظ حكايات موءودة تصف : أحاسيس عروس تتنهد ، خيبة صياد يفكر لماذا السعادة ليست لكل البشر ، السهر تحت النجوم اللامعات ، كوخ صياد يلتهمه الحريق ، قمر يتثاءب بفرح ، اللقلق الذي تساقط ريشه ، صياح البط البري المفزوع ، ألوزة التي تدير رأسها وتضعه تحت جناحيها .
لكن الملاك سرعان ما بدأ يتذمر مخافة أن تنتهي السنوات الخمس دون أن يقبض على حلمه
ذات غروب دام ٍ ، قال سيكو بغضب : متى تعلمني الدروس الكبرى .
ضحك الجني ونهض منزعجا ً وتساءل : الكبرى !
ـ نعم ، الألحان السماوية ، التي سترقص إنانا لسماعها .
ـ إذا تركت قلبك يعزف لا عقلك ، سيرقص الكون حد الثمالة .
لم يستوعب سيكو هذه الحقيقة التي تشبه الأحجية . لذلك تساءل بحيرة وجزع :
ـ لكن متى أصل إلى ذلك ؟
عاود الجني الجلوس على صفحة الماء ، ليهمس في أذنه :
ـ يا سيكو ، الآلهة تحب الموضوعات البسيطة والأزلية .
وأنتابه الحزن لأن الملاك لم يفهم كل أبعاد اللعبة لحد الآن ، صمت ثم أردف هامسا ً :
ـ إنانا كالطفلة ، يروق لها أن تسمع الألحان الأزلية بثوب جديد في كل مرة .
ذات رذاذ يُعمد الهور ، صحا فزعا ً على إثر صراخ لسيدة مجنونه ، إنتبه وإذا بالجني قد اختفى ، نادى عليه ، ونادى ، فأجابت كل كائنات الهور إلا هو فقد غاب والى الأبد .
تملكه الأسى لأيام عدة ، بعدها عادت السكينة إلى روحه ، عندها أحس أن ثمة هاجسا ً ما بداخله صار يشتغل ويشير له أن وراء الألحان الأرضية أنغاما ً سماوية .
عاد وحيدا ً من جديد ، متذكرا ً بتعجب كلمات الجني : سينتظرك يوم عظيم .
بعد انقضاء عشرين يوما ً ، وبينما هو على وشك النوم ، خفق قلبه وهو يحاول العزف من جديد ، شعر أن نايه بدأ يطلق ألحانا ً حالمة تلامس ما هو سماوي ، ولاحظ أنها زادته يقظة وتوتراً ، بريق الأمل هذا جعله يدرك أن مفعول الزمن والحب قد أسهما في العثور على ما يبغي ، مكث يعزف طوال الليل ، جاعلا ً من اللحظة الحاضرة لحظة مقدسة .
لم يكد يمضي شهر آخر حتى تأكد أن أعماق قلبه هي التي تعزف ، حيث صارت كل كائنات الهور تصغي له . في البدء طالت ألحانه قلوب الفتيات اللواتي يمارسن البغاء المقدس وصارت وجوههن تمتلئ بالحبور وتتورد خدودهن ما أن يسمعن ذبذبات نايه الشجي ، وفي بعض الأحيان يحسدن ذلك الملاك ، لأن السماء وهبته جلال الموسيقى ، التي أعادت للهور اللامتناهي بهجته المفقودة .
ذات يوم مثمر بالمسرات ، عادت الريح بقاربه إلى أشتان أنيلا ، التي سألته بخجل :
ـ من علمك كل هذا ؟
تنهد وقال مبتسما :
ـ الجني. آه ، يا له من رجل صعب السريرة ، لكنه نبيل ومبجل .
ـ ماذا تعني بذلك ؟، إني لم أره أبدا ً.
ـ أعني ، يكفي يا أنيلا أن يكون لنا حلم حتى نراه .
في السنة الخامسة ، وذات مساء ربيعي ممطر ، وبينما هو يعزف لحن الطائر الخرافي الجريح الذي أخاف كل البشر ، انتهت آخر ساعة لتحقيق الحلم . نعم ، صار يسمع ناقوسا ً كونياً يقرع في كبد السماء ، حيث أتته الرياح الأربعة بصوت الإله إنكي ، الذي هبط كالصاعقة على رأسه :
ـ قرر الآن ، أما أن تعود ، أو تبقى إلى الأبد .
كانت الشمس تتأهب للغياب وقوارب الصيادين قد رجعت ، في تلك اللحظات أحس برعشة تجري في أوصاله وتحجرت الدموع في عينيه ، وقد تشوش ذهنه ولم يعد قادرا ًعلى التفوه بأي كلمة . تطلع بعيني أنيلا وتساءل بخاطره :
ـ إلى أي وطن أنتمي ؟
فكر بمنعطفات رحلته ، بهذه الطبيعة النابضة بالحياة والتي لا تكشف عن سحرها وغموضها بسهولة ، حينها تراءت له أنها مبنية على كلمة واحدة هي : التناقض .
عندها غرق آخر جزء من الشمس في هور الهلاك ، فبدأ يبكى لهول كل ما رأى .
ثم حلت اللحظة التي ردد فيها على مسامعه الإله إنكي بصوت ودود :
ـ أنت حر ، والقرار لك وحدك .
قام متذمرا ً مأخوذا ً بقلق ميتافيزيقي ، من دون أن يعرف ما يتوجب عليه فعله ، حينها ضحك وترك لنايه الطويل ذي ثمانية الثقوب أن يعزف بحرية ، مطلقا ً العنان لبصره مداعبا ً الأفق النحاسي .
في الثامنة مساء ً ، جلس على حافة القارب ، ودلّى رجليه في الماء ، رافعا ًرأسه الى السماء ، متسائلا ً :
ـ يا صاحبة الإرادة الكلية ، ماذا أجيب إنكي ، ماذا افعل ؟
ولم تجب إنانا ، كأنها قد ماتت ...
أطبق الصمت وتحركت الريح لينطلق قاربه ببطء صوب آفاق مختلفة تماما ً ...
5 /1 / 2013
احالات :
* إنانا : إلهة الحب وهي ربة السماء في أوروك ، تشير الى كوكب الزهرة ، وفي النصوص الأكدية حملت إنانا أسم عشتار.
** إنكي : آله المعرفة والخلق ومهارة الصنعة **
*** أورنمو : مؤسس أسرة أور الثالثة 2112 ــ2095 ق.م
هكذا منذ آلاف السنين ، تناثرت الزقورات ، التي شيدت بالعرق والدم ، في تلك الأزمنة العامرة بالشهوة والقسوة ، كان كل البشر يتوقون الصعود الى السماء .
في تلك السماوات النقية التي تخلو من الأمراض والشرور والذي لا يموت فيه كائن حي ، هنالك في الجنة المزدهرة ، لم يعرف الملاك المهمش (سيكو ) كيف يتدبر الأمر ، بعد أن تراءى له في الأحلام انه سيموت ما لم يتعلم الموسيقى .
أستدعته آلهة السماء إنانا وقالت له :أسمعني يا سيكو
ـ أجل يا أمنا العظيمة ، أني مصغ لك .
ـ في الجنة لا تتعلم فن الموسيقى ، التي لو امتلكتها ستنسى الأحزان والهموم .
وقال له فيما بعد إله الحكمة إنكي ** :
ـ يجب أن ترى شطآنا ً محملة بمياه اللذة ، وصيادين بغنائهم يدخلون الخصب في أرحام النساء والسرور في قلوب السمك .
ـ أين هذه البلاد التي يكثر فيها الجاموس والنقوط ؟ ، أين هذه المساحات المائية التي يغني فيها القصب ليل نهار ؟ ، أين هذه الجنة التي تتغنى فيها النساء الناضجات بعهرهن المقدس؟.
ـ كُل الخبز المقدس وأشرب ماء الحياة كي لا تجوع أو تعطش ، وادهن جلدك بالسمن الملكي .. سنهبط بك في بلاد سومر ، حيث النغمات الخالدة ، حيث الريح تغني بشجن ، حيث الموسيقى التي ستعمد حلمك ، وترتقي بك من ملاك مهمش إلى إله يقف قريبا ً من الآلهة إنانا .
لم يكن أمام سيكو سوى أن يخضع ، ويتجنب غضب الآلهة التي تصرخ ليل نهار : اللعنة لمن لا يحقق حلمه ، وأهم من ذلك كله ، أن النغمات الحريرية بدأت ترن في مخيلته وتدخله في دوامات الأرق .
ذات مساء تم إعداد كل مستلزمات الرحلة ، وأنزل بسيكو بتلك العربة الملكية التي يقودها الإله إنكي ، ما إن وصلوا إلى الهور حتى هيأ له قاربا ً طلي بالقار .
قال له إنكي : كي لا تهلك ستكون صورة ًمن بني البشر ، لكن إياك أن تنسى الوصايا .
في ذلك المساء الربيعي ، تملكه العجب ، حيث السماء توزع الخير والمطر ، طاله السرور وهو يرى للمرة الأولى القطرات ترسم دوائر على مرآة الهور ، قطرات تشكل دوائر تتكرر وتختفي ، قال في خلده : حتما ً ، الأم العظيمة تبكي .
وظلت تبكي ثلاثة أيام برغم شروق الشمس .
بعد أن توقف المطر ، اختفت أجنحته الملائكية ، أكثر ما أعجبه هو تلك العطور التي تتأرجح في فضاء الهور ، تساءل كطفل بريء : لماذا الجنة المزدهرة بلا عطور ؟ .حينها بدأ يسمع اصواتا ً لم يألفها ، فأندهش لتغريد الشحارير السوداء ، كان تغريدها يشبه أجراس العرس ، اعتلت الحيرة وجهه حينما سمع القصب يئن بصفير يشبه البكاء ، ويوشوش بأذنه : سأهبك سحر النغمات . أشرق وجهه وهو يصغي إلى صقر السمك والكراكي ، مندهشا ً من نشيدها ، الذي يمجد الماء والحياة ، التي على الرغم من قسوتها تكتنز الخير الوفير ، نعم ، أدهشه الرعد السماوي أيضا ً، لكن لم يبث في قلبه الرعب ، قال ضاحكا ً : الآلهة إنانا تزمجر غضبا ً لأن الأحياء فقدوا قدرة التعجب .
ذات ليل حالك ، هبت الرياح الأربعة ، انطلق القارب يمخر ، ومع شروق نهار طاهر ، بذرت الآلهة العظيمة في قلبه روح الكلمات والمعاني ، التي بموجبها سيتمكن من التواصل مع بني البشر ، قال في خلده : ستحل علي اللعنة كما حلت على بني البشر أذا ما تجاهلت الوصايا المقدسة .
في أول أيام لقائهما ، عرف في بيت الصياد (دوكو ) ان الهور محفوف بالأرواح الشريرة ، وأن الوعد والوعيد يسيطران على قلوب كل البشر ، حينها خاف هو الآخر واستولى عليه الفزع وداهم قلبه الوسواس الناتج عن الخطر .
ذات يوم تحرسه النواميس الإلهية ، تذكر الوصايا ، وأنشد بمرارة ترتيلته الأولى ، كان يصفق بيديه وهو يردد : يا صاحبة الإرادة الكلية / يا واهبة الأوجاع والمسرات / يا طاهرة كالنور / يا من يحتاجك الغريب / يا من يمجدك الصياد الذي بلا رزق / أجل أتضرع إليك يا ذات النواميس / يا محبوبة ً أنظري إلى قاربي / هل تسمعين تراتيلي / لا تتركيني للفال المخيف / لا تتركيني أنوح كالغريق / لا تتركيني كعبد مشدود الوثاق / لا / لا / لا تتركيني .
هذه الكلمات التي خرجت من شغاف قلبه ، ستبقى تبث الأمل في روحة ، روحه التي تحتاج كثيراً من الصبر ، لتتجاوز دورات السأم والقنوط .
وحيدا ً ، وحيدا ً وقاربه في هذا العماء المائي ، كان يسلي نفسه باصطياد أنغام الطيور ، قال ضاحكا ً : حتما ً ، إن عقولها الصغيرة محملة بالأسرار والأحلام .
لكن سمك الخشني والشلك كان يضحك هو الآخر ، تلذذ بسماع صراخ البط حين يغضب او ينتشي ، كأن الكائنات هاهنا تعرف ان شريعة الهور طلسم غامض .
ما أن انتهت المائة يوم الأولى ، حتى حل القيظ ، حينها حزن سيكو لان الوقت يمضي بسرعة ، وهو يلهو مقلدا ً أصوات الطيور، لكنه يوما ً بعد آخر يتيقن أن تأمل الطيور والتحدث معها لا يثمر نغمات سماوية ، نعم ، الجزع جعله يطلق صرخته التي أراد ان تسمعها إنانا ، صرخته التي تنم عن وجع لا يهدأ : متى يا إنانا ، أجمع كل تلك النغمات في لحن واحد ، لحن يمجد الخلود ويقهر الهلاك ، متى تأخذين بيدي ، متى ترحمينني ؟
وتبددت الأيام كما تُبَعثر الريح القش ، وذات يوم قائظ ، صفرت الرياح لخمسة ايام متتالية، صار القارب يدور معها وهي تلهو معه ، كادت أن تقلب قاربه ، كادت أن تثلم الوصايا ، استسلم سيكو لليأس والخيبة ، نعم ، كاد أن يطال الهلاك حلمة أيضا ً .
الهور قديم ، والأحلام كذلك . فوق جزر القصب الصغيرة شيد أهالي الهور الشتان ، رويدا ً رويدا ً تحولت إلى بيوت وممالك . في هذا الهور المترامي كاد سيكو يموت ، لولا أن الريح أشفقت عليه ، ودفعت بقاربه إلى أشتان تعود للحسناء ( أنيلا ) ذات الملامح الصارمة ، والتي تبدو امرأة رقيقة وصريحة .
بالرغم من حرارة الشمس التي تنهك حتى القصب ، كانت أنيلا منشغلة بتحضير خبز لكهان المعبد ، خبزها المنذور للآلهة . ما أن رآها حتى دبت فيه الحياة من جديد ، دفعها فضولها أن تتأمله . تلفت في كل الاتجاهات متعقبا ً أصوات الطيور التي تحتفل معه بهذا الحظ الطيب ، لم يجرؤ أن يقول لها أي كلمة ، لكنها وبوحي الهام مفاجئ حدست أن قلبه يكابد ألما ً شيطانيا ً ، لذلك لم تتردد ان تسأله :
ـ هل أنت بخير ؟
ابتسم وقال بثقة :
ـ يتوجب أن أكون بخير .
ـ من أين أتيت ؟
ـ من الجنة المزدهرة .
ـ من الجنة !؟
وبما أن أنيلا تحترم كل البشر وتؤمن أن على الأرض ملائكة طيبين ،هنا قالت بصوت عذب :
ـ لماذا عزمت على المجيء الى هنا ، حيث الموت والشقاء ؟
حدق سيكو بجمال عينيها التي تشبه عيون الجاموس ، تأمل شعرها الذي لونته الشمس ، في تلك الساعة كان قلبه مفعما َ بالفرح ، أخيرا ً أجابها :
ـ إنها نواميس الآلهة إنانا .
ـ ما السبب ؟
أجاب سيكو بكل فخر :
ـ طردت بسبب حلم ، تلك هي المسألة .
ـ حلم ؟!
ـ نعم ، ولكل حلم ثمن ولكل حلم زمن .
ـ زمن ؟!
ـ نعم ، منحتني إنانا خمس سنوات فقط .
ـ بعدها ، ستعود ؟
ـ إذا حققت حلمي .
اعتقدت أنه ليس بوسعها أن ترشده إلى ما يصبو إليه ، لكنها ظنت بأنه سوف لا يرفض خبزا ً قد نذر إلى الآلهة ، بادرت وقدمت له رغيفا ً ساخنا ً ، متمنية أن تحل البركة بكوخها ويتطهر من الدنس الأسود .
في هذه اللحظة تناهى صوته مشوبا ً بالوجل :
ـ لا ، شكرا ً لك سيدتي ، إن إنكي قد حذرني من فعل ذلك .
ـ هل لي أن اعرف ماذا قال لك ؟
ـ أوصاني بلهجة صريحة ، إياك أن تأكل خبزهم ، ستحل عليك لعنة الجوع / إياك أن تشرب ماءهم وخمرهم ، ستحل عليك لعنة العطش / إياك أن تواقع أو تقبل نساءهم ، ستحل عليك لعنة الوهن والشيخوخة .
أحست أنيلا بألم يعتصر أحشاءها ، على الرغم من ذلك ضحكت ، كونها لم تسمع طيلة حياتها بتلك الوصايا التي بلغت ذروة القسوة .
صفنت بوجهه ، وتبسمت ، قبل أن تمد له يديها قائلة ً :
ـ تفضل ، بوسعك أن تستريح في كوخي ، فمن يدري ربما تفيدني بحكمة ما .
رفع عينيه غير مكترث ، وهز كتفيه ، وبحرج باح لها بالوصية الرابعة دون أن يبرح مكانه ، قال بمرارة :
ـ إنكي قال لي : إذهب ولكن ... .
وصمت خجلا ً ، فهو لا يريد أن يلحق بقلبها ألما ً إضافيا ً ، نعم ، خاف أن يكشف عن الوصية الرابعة ، الوصية التي تودي به إلى الهلاك أيضا ً .
قالت أنيلا متسائلة :
ـ ماذا أخبرك إنكي بحق سيدة السماء إنانا ؟
ـ قال أمرا ً لم أفهمه ، كرره على مسمعي ثلاث مرات ، تدبر أمرك ، لكن إياك أن تنزل من القارب ، ستحل عليك لعنة الطاعون .
تطلعت الحسناء أنيلا إلى السماء ، وسجدت متضرعة للأم العظيمة إنانا ، وبعينين على وشك ان تنفجرا بالبكاء قالت :
ـ يا أعز سيدة ، يا من تباركين الهور بالنور ليل نهار ، لماذا سلمتِ هذا الملاك لفصول من العبودية ، لعذاب يفسد الدماء في الروح...؟
طأطأ سيكو رأسه إجلالا ً لهذا النشيد الذي سافر مع الريح ، رفع يديه وهمس للأم إنانا ترتيلته الأولى ، التي ما أن سمعتها أنيلا حتى أجهشت بالبكاء ، نعم ، أصابها الهلع ، وبدأت تطلق عويلا ً كأم خطفوا منها طفلها الذي لم تفطمه بعد .
ولم تمطر السماء ، خمن الملاك سيكو أن الآلهة إنانا ربما هي نائمة ، ولم يبلغ مسامعها ما يحدث الآن ، أو أن قلبها لم يتعاطف مع هذا النحيب .
ولم تبك أو تحزن إنانا العظيمة .
لم ينتظرا طويلا ً ، واصلا صلاتهم البدائية حتى خيم الليل ، ومع انتشار ضوء مغسول بالبركة ، رأيا غيمة كأنها أتت من ارض مقدسة ، يا له من نهار مفتون بالألوان ، ومن فرط فرحهم بالغيمة أنشدوا التراتيل ، وهما يرقبان النوارس وهي تحلق عاليا ً ، لكن الغيمة تبددت مع أول هبة ريح ، فخلدا إلى صمت موحش . في هذه الفوضى قالت الحسناء بجزع : لم تبك ِ السماء ولم تذرف دمعة واحدة .
بيد ان سيكو أراد أن يكون لطيفا ً معها ، يده المرتجفة لامست الماء والطين ، استحوذت على باله هواجس الخوف من المجهول ، لكنه همس لها ضاحكا ً :
ـ للآلهة حكمتها التي لا ندركها .
عقب عشرة أيام ، أستسلم كل منهما لقدره ، الذي لا يعوض ولا يتكرر . على الرغم من ذلك ، فأن هذه الزيارة لم تنسها أنيلا ، وكانت تردد في خلدها : مسكين أيها الملاك .
هكذا ، وذات قمر فضي ، سحبت نايها الذي علقته بجدائلها ، وبلهفة جامحة قالت له :
ـ هل تسمح لي أن أسمعك لحن الأسماك التي تصلي للقمر ؟
يا له من ناي ساحر ، أغمض عينيه ، صار الهور كله يغني ، شعر للمرة الأولى أن كل شيء جميل ، اضطربت روحه ، تراقص القارب ، لم يعرف كيف يشكر أنيلا ، الهادئة الوديعة ، وانسابت الكلمات من فمه : ( إصغ لي يا أسماك المياه الأزلية / هنا الحب كالحليب / هنا الحب يصيبنا سرا ً ، هنا في الغربة موعد مع المستحيل / حلم أخضر يهرب ويطير / أنيلا في خيالي فكرة / حمدا ً للحب / حمدا ً للنغمة ) .
بكت أنيلا ، وارتجف قلب سيكو ، كانا سعيدين و محظوظين ، كما بدا الهور أكثر رحمة بأضواء الغروب ، لقد أحس سيكو أن أنغام الناي تعزف له وحده .
قال : هل بوسعي أن أجرب ؟
ـ الناي قصبة ميتة ، ما لم تُمَرن أصابعك للرقص على ثقوبه الأربعة .
نعم ، سرعان ما حل الربيع ، وتمنى سيكو أن لا يأتي الفجر الذي سينفصلان فيه ، في نومه صار يحلم بأنيلا وعيونها السوداء . لكن الحسناء التي لا تعرف سوى لحن الأسماك التي تصلي للقمر ، استيقظت ذات صباح ، وخاطبته :
ـ هنالك في هور المسرات كاهن ضرير ، ما إن أسمع نغمات نايه حتى أبكي .
ـ موسيقى تبكي !؟
ـ نعم هنالك ، هنالك ستجد حتى الطيور تصغي له .
ـ ولكن ربما الألحان السماوية ستهبط هنا في هذا المكان ؟
ـ كلا ، إني اعرف انك لا تتعلم العزف إلا هناك .
ـ لكن كيف سأتحمل الفراق ؟
ـ هي الرياح يا سيكو ، هو القدر ، وأرجو أن تسلم لي على الراهب إن رأيته .
وهبت الريح ، عندما استيقظ في يوم ذات برق ، وجد أن قاربه يتراقص بعيدا ً عن أشتان أنيلا ، فتمتم كأنه في كابوس مزعج : أين ، ومتى ، سألتقي بالراهب ؟
مضت بضع أسابيع ، والقارب ينساب تحت شمسٍ لاهبة تثير القنوط . فجأة ً ، مر القارب بذلك الأشتان العائم وسط هور المسرات ، لم يعرف حينها أنه وصل الهدف ، حتى لفت انتباهه ذلك العدد الكبير من الطيور ، وهي تحوم برقصة غريبة حول الكوخ .
وما أن صرخ : هل من أحد ها هنا ؟ ، حتى فزعت الطيور ، التي ما إن رأته حتى ولت هاربة ، ما عدا النوارس ، فقد صارت تخفق بأجنحتها وتطلق صرخات محذرة .
وهنا ظهر الضرير الذي سأله بوقار قائلا ً :
ـ لماذا أتيت ؟
ـ نصحتني أنيلا أن أراك ، إني أريد تعلم الموسيقى التي تطرب لها الطيور .
ـ هل تملك ناياً ؟
ـ نعم ، الحسناء أهدتني نايها .
ـ هل جربت أن تترك لنايك العنان ليحكي ما في روحك ؟
ـ لا
ـ هل تعرف لحن الصيادين الحالمين الذين ركبوا البحر ولم يعودوا ؟
ـ لا
ـ هل تعرف أن تعزف رقصة الزرارير التي تحلم برقصة الفراشات ؟
ـ لا
صمت الكاهن طويلا ً ، وتشبث سيكو بالأمل
وبدا الليل مكفهرا ً بظلمته الحالكة ، مثيرا ً الهلع في هور المسرات . لم يخلد سيكو في تلك الليلة للنوم الطيب ، وجد عزاءه بتذكر وجه أنيلا ذات الثمانية جدائل ، متذكرا ً صوتها المشبع بالأمل ، مفكرا ً بكلماتها : إن السنين تجري ، وان ما سيواجهك أعظم .
تطلع إلى النجمة التي تزداد سطوعا ً كلما ضحكت الحسناء .
قال في خلده : يبدو أن القدر لا يؤمن بالحب .
في بعض الأحيان تتخلى الآلهة عن الهور ، فيلف المكان ضباب كثيف يقبض الروح ، في منتصف اليوم الرابع بدأ الضباب الطباشيري ينسحب إلى هور الهلاك ، وفي اليوم الخامس صحا سيكو على أنغام تشبه صلاة قديمة ، قديمة جدا ً ، غمره فرح لا يوصف ، إرتجف قلبه حينما رأى الكاهن وقد تدلت في الماء أرجله التي تشبه القصب ، وهو يعزف بنايه الأسود نغمات تحرك الريح وتطرد الضباب والضجر . قال سيكو مندهشا ً :
ـ ما أسم هذه المعزوفة الغامضة ؟
ـ عقولنا الخضراء ابتكرت مع الزمن هذه الألحان ، عقولنا الحالمة هي التي أطلقت عليها ولادة العالم بعد الهلاك .
بعد أشهر ، أخذ الكاهن لقاءهما المبارك على محمل الجد ، كانت عيناه جامدتين لكن قلبه يرى كل شيء .
أهي الموسيقى التي وحدت روحيهما بقلب واحد ، أم نبوءة الضرير الذي أكد له :
ـ في قلبك جذوة الحلم ، وأرى أنك ستصل مبتغاك لا محالة .
هكذا بدأ سيكو يلهو بنغمات رقيقة لتطرد عنه السأم ، أما الكاهن فكان يسمع كل ذلك ويضحك ، وفي بعض الأحيان يوبخه بعصبية وهو يبتسم : أيها الملاك ، اعتقد أنك تدندن ، ولكن لا تبحث عّما هو جديد .
منذ ذلك الوقت ترك سيكو الألحان الساذجة ، وأذعن للنصائح السبع ، التي تركز كل أهتمامها بروح الموسيقى فقط . قال له الشيخ الضرير : يوما ً ما سنفترق ، عليك أن تخط طريقك الفردي .
قال الملاك بارتباك :
ـ ماذا تعني يا معلمي ؟
ـ اعني ، عليك أن تكتشف ما يميز روحك ، حينها ستجد جوهر الموسيقى ؟
ـ لكن ما هي الموسيقى ؟
ـ هي الحرية ، يا سكيو .
من بعد ذلك ، حدث تغيير ملحوظ في قلب سيكو إذ تغلب على اليأس بالتفاني ، وفي الأشهر الأخيرة من السنة الثالثة ، تعلم كل أسرار الألحان التي يعرفها الكاهن ، الذي خاطبه بود ، في يوم شتائي :
ـ هل تعرف لماذا لا ترقص الطيور لمعزوفاتك ؟
أجاب بخجل : لماذا !
ـ لأن الطيور لا ترقص سوى للنغمات الذاتية النابعة من القلب ، منذ زمن ، بذلت قصار جهدي لكي لا تكون شبيها ً بي .
وروى له ، كيف أضاع عمرهُ كمعتوه دون أن يفلح بعزف لحن الأرملة الكئيبة ، وذرف دمعتين وأردف :
ـ لا تضيع وقتك معي ، إذا نذرت نفسك لحلم سماوي بحق .
سرعان ما تذكر سيكو ، ليس أمامه سوى زمن قصير ، مهما سيطول لكنه سينتهي ، زمن ربما لا يكفي للعثور على الألحان السماوية ، التي تبدو لحد الآن مستحيلة ، لذلك سأله بحيرة :
ـ العناية الإلهية ،أعطتني الفرصة ، أليس كذلك ؟
ـ نعم ، لكن فرصتي ضاعت ، تنبه ، أن لا تضيع فرصتك ؟
بكى الاثنان من أعماقهما ، حينها فهم سيكو أن حلم الموسيقى أودى بالكاهن لذلك المصير المفجع ، بعدم رؤية العالم والى الأبد .
سأله سيكو حين أحس أن القارب يهتز مع الريح :
ـ بسم الآلهة إنانا ، من علمك العزف ؟
ـ الجني .
ـ أيّ جني ؟
ـ نعم ، الموسيقى السماوية لا تتقن بسهولة ، فهو الذي علمني تحويل الهموم الى فن ترقص له الطيور .
أندفع هواء ساخن ، صار القارب يهتز ، استعدادا ً لتكملة الرحلة . لم يتركه الكاهن بل ودعه بصوت حزين :
ـ وداعا ً ، خذ نايي ، سيسليك بحكايات قديمة وخرافية .
أندفع القارب منطلقا ً على صفحة الماء الملساء ، لكن صرخات الضرير المحذرة ظلت ترن في ذهنه حتى رأى الجني القابع في هور الهلاك :
ـ أنتبه إلى نفسك ، حين يداهمك الجني الذي يشبه الخنزير ، لا تتداع َ وتسقط في الماء ، إحذر سهامه التي تشبه زعانف الأسماك ، لأنها لو طالتك ستفقأ عينيك .
لم يكن في قلب سيكو سوى الإصرار العنيد ، صار يردد تعويذته الأولى التي آمن بقوتها السحرية ، تعويذته التي ستجنبه الضرر من الشر المتقلب الأهواء .
لتحرف الريح رحلته غربا ً ، اجتاز ثلاثة أهوار ، ليجد نفسه في هور مليء بالطحالب ، عندها أضطرب قلبه من السكون الذي يحف بالمكان ، تذكر قول الكاهن : الأشنة القرمزية لا يصلها سوى المجانين الحالمين . غير أن سيكو تهيأ للمواجهة ، قال لنفسه :
ـ هنا ، ربما يسكن الجني .
ما أن توقفت الريح ، حتى وجد نفسه كأبله في هذا السديم المرعب .
مكث ثلاثة شهور وهو يصرخ :
ـ أينك أيها الجني الطيب ؟ ، من أجلك أتيت .
في الليل بنجومه المتلألئة ، كان يعزف للآلهة إنانا ألحانا ً لا ترتقى لما هو سماوي ، لكنها مزيج من طاقة مكبوتة تبحث عن خلاص ما .
وذات ليلة أسره وهو يرى القمر يراقص نجمة تضحك ما إن تتكلم أنيلا ، حتى صار نايه يعزف بشجن نغمات خفيفة وطاهرة ، وتساءل : هل من فرصة للنجاة من هذه المتاهة ؟.
كان سيكو يقضا ً، حذرا ً من أن يواجه حتفه مبكرا ً وبلا رحمة ، لذلك ناجى إنانا التي تعطر الكون بالانسجام الكلي :
ـ لماذا دفعت بقاربي الى هور الهلاك يا أماه ، إذا كان من المتعذر اللقاء بالجني ؟
نعم ، أراد أن يثبت لأهالي سومر أنه ليس مجنونا ً ، تشبث بالنغمات الضوئية ، لأول مرة شعر بمسؤولية خطوته ، التي على الرغم من خطورتها لكنها كانت حافلة بالعاطفة الملونة .
كم كان عميقا ًذلك الإحساس بالفرح عندما أشرقت الشمس ، كان القارب يحمل آمالا ً غريبة تحتاج للقاء الجني لينضج عطرها وتتحول إلى حلمٍ ٍ سماوي .
ظل الحال هكذا لمدة أسبوع آخر، بعدها ناجى إنانا حين رأى الطيور تملأ السماء : هل تستطيع موهبتي تدبر أمرها دون اللقاء بالجني ؟
سمع هاتفا ً يشبه صوت الكاهن يجيب على سؤاله : كلا ، الموهبة تحتاج إلى الإرادة أيضا ً ، هذا إذا لم يفترسك الجني .
ذات نهار كالعرس ، رأى حورية ذهبية ، أخرجت رأسها متفرسة ً في وجهه . فجأة ً سمعها تسأله :
ـ هل أنت سيكو ؟
فأجاب بضحكة خفيفة :
ـ نعم ، أيتها الحورية .
ـ إحترس ، وأعلم أن الجني سيظهر لملاقاتك .ً
أغمض عينيه وما إن فتحهما حتى لم يعد أي أثر للسمكة ، صرخ : هذا الهور لا يبعث على السعادة أو الأمل .
جاءه صوت من بعيد ، انه صوت أنيلا يقول له : إن السعادة ضربة حظ كصيد السمك .
عند غسق جديد ، غمرته فرحة هائلة ، لرؤيته خط الأفق يتلون بغيمة وردية ، وهي تقترب كتنين يلفظ نارا ً ، قال مخاطبا ً السماء : يا له من جني مرعب يا أنكي .
ظل سيكو ينتظر ، لكن السراب يظل سرابا ً ، ورويدا ً رويدا ً تبددت الغيمة فساوره الألم والندم .
وهنا زادت عيناه احمرارا ً من شدة البكاء ، صار يصرخ أحيانا ً ، بدأ ينفد صبره .
قال للطيور التي صارت تحط على قاربه كمكان آمن :
ـ من المستحيل أن يرقد في هذا الهور جني الموسيقى .
أحتاج الى الراحة ، فنام يومين بعد أن طاله اليأس ، منتظرا ً رحمة الرياح الأربعة .
لكن ما أن فتح عينيه حتى رآه ، نعم رأى الجني بصولجانه الذهبي ، أصابه الفزع لمرأى هذا العملاق المهيب ، الذي لم يكن بوجه خنزير .
فزعه جعله يمسك بحافة قاربه جيدا ، حينها أتاه صوت رخيم يهمس بدعابه : آه ، يا لك من ملاك طائش ! وصار يلهو معه ويضحك ، حتى بدا للملاك أن ما يحدث مجرد حلم .
لكن الجني ، بعينيه اللتين تشبهان نجمتين صافيتين ،اقترب منه وقال : لا تنس َ الحلم ؟
ـ الحلم ّ ؟!
ـ نعم ، من ينسى الحلم ينسى الآلهة .
ـ لكن جريمتي تتعلق بحلم بريء
ـ اعرف ، ولكن حين نتمسك بأحلامنا ننسى الواقع ، ننسى الآلهة والزمن .
ـ أستساعدني أم ستعاقبني ؟
أجابه الجني وعيناه تتسعان :
ـ في الحقيقة لا أرغب الانتظار طويلا ً ، أسمعني ما عندك .
كانت صراحته مؤلمة ، فأرتجف لها قلب الملاك فقال :
ـ كيف لي أن أقبض على روح الألحان والموسيقى ؟
ضحك الجني وكأنه استمع لكلام صبي معتوه ، وما أن هدأت كركراته حتى قال بغضب :
ـ ما زلت طفلا ً بريئا ً ، تردد الحان الراهب الفاشل .
كاد سيكو ان يبكي لما سمعه ، هل يعقل ان كل ما تعلمه لا يتعدى إلا ألحانا فارغة ً بعيدة ًعن جوهر الموسيقى المزدهرة ، شعر ان كابوساً يطبق على أنفاسه ، مع ذلك تنفس الصعداء وقال :
ـ إذن ، كيف بوسعي أن أنتشل نفسي ؟
ـ عليك منذ اليوم أن لا تنتصر إلا لتجربتك فقط .
وهبت ريح عاصفة ، وغرق الجني وطرطش الماء كبركان ، ولم يظهر إلا بعد عشرة أشهر .
لم تكن الشمس قد طلعت بعد ، عندما رأى سيكو أن قاربه قد خرج بسلام من هور الهلاك ، صار بحزن يعد أيامه المعدودات . خوفه من الفناء فطر قلبه . فأنثال يعزف هواجسه الفزعة ، ووسط تلك الوحشة سقطت منه دمعة وهو يرى هجرة البط البري الذي سيعود دون ان يجده .
ذات نهار راقص ، قرر التخلي عن ناي أنيلا وناي الكاهن أيضا . نعم ، شعر بألم حارق وهو يعطي طفلين عاريين أعز ما يملك ، بعد ذلك أخذ قصبتين طويلتين ، ما إن حركهما بغضب عكس اتجاه الريح حتى أحدثتا صفيرا ً ، استحسن ذلك الصوت ، وكان سعيدا ً حين التقى احد الصيادين . قائلاً له : ستنقذني إذا ثقبت لي ثمانية ثقوب في كل قصبة .
هكذا هام بنايه الجديد ، نايه المزدوج الذي أضحى يصدح بالحان غريبة .
لكنه ما أن سمع هتافا بعيدا يشبه صوت الكاهن يقول له : أنت بالاتجاه الصحيح نحو الهدف يا سيكو . حتى قَبَل َ نايه المزدوج وقال له بمودة :
ـ خليلي ، جهزتك ليوم عظيم ، أفعلُ كل ذلك من أجل إنانا التي تحب أنيلا .
كانت الريح تردد زئيرا موحشا يحرك القصب ويبث في قلبه خوفا موروثا ، حينها أصيب بمس غريب ، فهو ما إن يسترخي حتى يتذكر غنج أنيلا ، التي ما ان تغرق صورتها ، حتى يتحول فرحه الى شرود ، ليعود كمن يستيقظ من حلم ، يتفحص أعماقه التي تشبعت بعفن الهور ، فقط النجوم من كانت تشعره ببهاء إنانا ، وتذكره بالحكيم أنكي الذي أتى به الى هذا القفر المائي .
توقف عن العزف ، حين أحس انه ملاك خائب ، وان إنانا ستهلكه لا محالة ، قال مستاء ً :
ـ تبا ً للأحلام إنها تفقدنا راحة البال .
بعد منتصف الليل بقليل ، تحرك قاربه ، الذي صار يحوي ، أسرار الصيادين ، والطيور الميتة ، وقصص الغرام ، والقواقع الخضراء ، وكذلك حلم الأرملة الكئيبة .
الغريب في الأمر ، ومع حلول آخر ربيع ، أصبح الصيادون يهتمون بألحانه ويترنمون بها في رحلاتهم ، ويحملونها في قلوبهم كتعويذة مخادعة ، لكنها ساحرة كحقيقة وحيدة قابلة للتصديق ، نعم ، صدقوها .
ظل سيكو مسترسلا ً في معزوفاته الغامضة ، التي تبشر أهل الهور بأنهم جميعا سينالون الخلود الموعود .
وذات غروب معطر بعرس ، عزف لهم لحن الجنيات المراهقات ، حبه الأول هو من أوحى له بذلك ، حب أنيلا ذات ثماني الجدائل ، والذي ما عاد يهدأ أبداً .
وفي يوم ٍ بارد ٍ مقرون ٍ بموت ملك أور أور نمو *** ، كان سيكو مبهورا ً بتغريد الطيور وهي تطهر أرواحها بدفء الضوء . أغمض عينيه مطولا ً ، فجأة ً ، توقف الشدو ، فتح عينيه ، في خصم هذه الإثارة ، وجد الجني يجلس القرفصاء على صفحة الماء .
جثم الصمت على المكان لساعتين ، استجمع ما تبقى له من قوة ، ثم نطق كلمتين لا غير :
ـ متى تعلمني ؟
ـ ماذا تريد أن أعلمك ؟
ـ هل بعد ألحان البشر من ألحان سماوية ؟
ـ كل شيء ممكن يا سيكو ، لكن أخشى عليك .
ـ أريد أن أتعلمها بأي ثمن ؟
ـ لكنك ستحترق يا سيكو .
مكث معه الجني الصيف كله والخريف كله ، ثقفه بتأن ٍ ، علمه فنون الصنعة تباعا ً ، كان الزمن يمضي وهما يعزفان ألحانا دافئة ، كأنها كانت تلامس جرحا قديما ،وتيقظ حكايات موءودة تصف : أحاسيس عروس تتنهد ، خيبة صياد يفكر لماذا السعادة ليست لكل البشر ، السهر تحت النجوم اللامعات ، كوخ صياد يلتهمه الحريق ، قمر يتثاءب بفرح ، اللقلق الذي تساقط ريشه ، صياح البط البري المفزوع ، ألوزة التي تدير رأسها وتضعه تحت جناحيها .
لكن الملاك سرعان ما بدأ يتذمر مخافة أن تنتهي السنوات الخمس دون أن يقبض على حلمه
ذات غروب دام ٍ ، قال سيكو بغضب : متى تعلمني الدروس الكبرى .
ضحك الجني ونهض منزعجا ً وتساءل : الكبرى !
ـ نعم ، الألحان السماوية ، التي سترقص إنانا لسماعها .
ـ إذا تركت قلبك يعزف لا عقلك ، سيرقص الكون حد الثمالة .
لم يستوعب سيكو هذه الحقيقة التي تشبه الأحجية . لذلك تساءل بحيرة وجزع :
ـ لكن متى أصل إلى ذلك ؟
عاود الجني الجلوس على صفحة الماء ، ليهمس في أذنه :
ـ يا سيكو ، الآلهة تحب الموضوعات البسيطة والأزلية .
وأنتابه الحزن لأن الملاك لم يفهم كل أبعاد اللعبة لحد الآن ، صمت ثم أردف هامسا ً :
ـ إنانا كالطفلة ، يروق لها أن تسمع الألحان الأزلية بثوب جديد في كل مرة .
ذات رذاذ يُعمد الهور ، صحا فزعا ً على إثر صراخ لسيدة مجنونه ، إنتبه وإذا بالجني قد اختفى ، نادى عليه ، ونادى ، فأجابت كل كائنات الهور إلا هو فقد غاب والى الأبد .
تملكه الأسى لأيام عدة ، بعدها عادت السكينة إلى روحه ، عندها أحس أن ثمة هاجسا ً ما بداخله صار يشتغل ويشير له أن وراء الألحان الأرضية أنغاما ً سماوية .
عاد وحيدا ً من جديد ، متذكرا ً بتعجب كلمات الجني : سينتظرك يوم عظيم .
بعد انقضاء عشرين يوما ً ، وبينما هو على وشك النوم ، خفق قلبه وهو يحاول العزف من جديد ، شعر أن نايه بدأ يطلق ألحانا ً حالمة تلامس ما هو سماوي ، ولاحظ أنها زادته يقظة وتوتراً ، بريق الأمل هذا جعله يدرك أن مفعول الزمن والحب قد أسهما في العثور على ما يبغي ، مكث يعزف طوال الليل ، جاعلا ً من اللحظة الحاضرة لحظة مقدسة .
لم يكد يمضي شهر آخر حتى تأكد أن أعماق قلبه هي التي تعزف ، حيث صارت كل كائنات الهور تصغي له . في البدء طالت ألحانه قلوب الفتيات اللواتي يمارسن البغاء المقدس وصارت وجوههن تمتلئ بالحبور وتتورد خدودهن ما أن يسمعن ذبذبات نايه الشجي ، وفي بعض الأحيان يحسدن ذلك الملاك ، لأن السماء وهبته جلال الموسيقى ، التي أعادت للهور اللامتناهي بهجته المفقودة .
ذات يوم مثمر بالمسرات ، عادت الريح بقاربه إلى أشتان أنيلا ، التي سألته بخجل :
ـ من علمك كل هذا ؟
تنهد وقال مبتسما :
ـ الجني. آه ، يا له من رجل صعب السريرة ، لكنه نبيل ومبجل .
ـ ماذا تعني بذلك ؟، إني لم أره أبدا ً.
ـ أعني ، يكفي يا أنيلا أن يكون لنا حلم حتى نراه .
في السنة الخامسة ، وذات مساء ربيعي ممطر ، وبينما هو يعزف لحن الطائر الخرافي الجريح الذي أخاف كل البشر ، انتهت آخر ساعة لتحقيق الحلم . نعم ، صار يسمع ناقوسا ً كونياً يقرع في كبد السماء ، حيث أتته الرياح الأربعة بصوت الإله إنكي ، الذي هبط كالصاعقة على رأسه :
ـ قرر الآن ، أما أن تعود ، أو تبقى إلى الأبد .
كانت الشمس تتأهب للغياب وقوارب الصيادين قد رجعت ، في تلك اللحظات أحس برعشة تجري في أوصاله وتحجرت الدموع في عينيه ، وقد تشوش ذهنه ولم يعد قادرا ًعلى التفوه بأي كلمة . تطلع بعيني أنيلا وتساءل بخاطره :
ـ إلى أي وطن أنتمي ؟
فكر بمنعطفات رحلته ، بهذه الطبيعة النابضة بالحياة والتي لا تكشف عن سحرها وغموضها بسهولة ، حينها تراءت له أنها مبنية على كلمة واحدة هي : التناقض .
عندها غرق آخر جزء من الشمس في هور الهلاك ، فبدأ يبكى لهول كل ما رأى .
ثم حلت اللحظة التي ردد فيها على مسامعه الإله إنكي بصوت ودود :
ـ أنت حر ، والقرار لك وحدك .
قام متذمرا ً مأخوذا ً بقلق ميتافيزيقي ، من دون أن يعرف ما يتوجب عليه فعله ، حينها ضحك وترك لنايه الطويل ذي ثمانية الثقوب أن يعزف بحرية ، مطلقا ً العنان لبصره مداعبا ً الأفق النحاسي .
في الثامنة مساء ً ، جلس على حافة القارب ، ودلّى رجليه في الماء ، رافعا ًرأسه الى السماء ، متسائلا ً :
ـ يا صاحبة الإرادة الكلية ، ماذا أجيب إنكي ، ماذا افعل ؟
ولم تجب إنانا ، كأنها قد ماتت ...
أطبق الصمت وتحركت الريح لينطلق قاربه ببطء صوب آفاق مختلفة تماما ً ...
5 /1 / 2013
احالات :
* إنانا : إلهة الحب وهي ربة السماء في أوروك ، تشير الى كوكب الزهرة ، وفي النصوص الأكدية حملت إنانا أسم عشتار.
** إنكي : آله المعرفة والخلق ومهارة الصنعة **
*** أورنمو : مؤسس أسرة أور الثالثة 2112 ــ2095 ق.م