اليوم حصلت على الشهادة الابتدائية بمجموعٍ مرتفعٍ. كانت الأسرة سعيدةً بي، ووعدني والداي بمكافأة على نجاحي، ولكني قررت أن أكافئ نفسي بنفسي. أظنُّ أنَّني كبرت، ولا مانع من كسر قاعدة من القواعد التي يضعونها لي في البيت ولو مرة. أهب مع صديقاتي اللاتي يزُرن تلك المنطقة التاريخية بالنسبة لنا ويتبادلن الحكايات والشائعات عن تلك الفتاة. أحب أن استمع إلى قصصهن المختلقة. رغم علمي بكذبها، ورغم أني شاهد العيان الوحيد على تلك الحادثة من أولها إلى آخرها، إلَّا إنَّني أميل إلى تصديق بعضها؛ فالأمر بالنسبة لي حتَّى الآن غير مفهوم على الإطلاق. لولا غرابة قصة الفتاة، ما كانت التفتت إليه صديقاتي أبدًا؛ فما الذي يجعلهن يهتممن بموتها، ما دُمن لم يهتممن بها في حياتها؟
كنت دومًا أطلب منهن أن تشاركنا "وداد" اللعب، لكنهن كن يرفضن ويتمادين في السخرية منها. لم تكن "وداد" تهتم باللعب معهن إطلاقًا. كنت أجرُّها للعب معنا دون أن تُبدي مقاومة أو ترحيبًا. تمشي معي كما لو أني نوَّمتها مغناطيسيًا. لا تهتم عندما تسخر منها صديقاتي ولا تهتم عندما اعتذر لها على طريقتهن السخيفة. تلتفت إلى زهرة أو عصفور؛ فتنسى العالم. عندما نختبئ جميعنا في مداخل البيوت في المطر، تقف هي تلعب تحت قطراته بمنتهى النشوة مهما كانت شدته. كنت لا أرى الابتسامة على وجهها إلا عند نزول المطر. "كده هتعيا ومش هتعرف تروح المدرسة"، كانت هذه عبارة "هند" الشافية لحقدها على تلك الفتاة التي لا تخشى القوانين.
كانت "هند" نموذج لأي سلطة وعظية ومالية أيضًا. كانت تعشق نصحنا، حتى ولو كانت نصائح بلهاء مثل أن ارتداء فستان أخضر دون أي لون معه عيب. كانت طفلة ثرية في وجهة نظرنا وقتها، ولكننا اكتشفنا أن مستوى أسرتها المادي لا يختلف عن مستوى أيٍ من أُسرنا، كل ما في الأمر إنَّها كانت طفلة مدللة مُجابة الطلب، لديها دراجة كبيرة تستطيع قيادتها بالكاد، ولديها كثير من اللعب والملابس تجود بها على من ترضى عنها. كانت لديها قدرة على السيطرة، تجعل من تغضب عليها منبوذةً بيننا، وقد يكون سر هذا الغضب الاعتراض على اللعبة التي قررت أن نلعبها اليوم.
أظن أن "هند" كانت تخاف من "وداد"، ربما لأن "وداد" لم تقع ضمن أملاكها من أطفال المنطقة، وربما لغرابة أطوار "وداد"، أو ربما للسببين معًا. كانت "وداد" بطلة فيلم رعب بجدارة، بملامحها المصمتة الجامدة الدقيقة، وقصة شعرها التي لا تتغيّر: شعرٌ قصير مفرود ناعم أسود حالك وغُرة قصيرة، وعينٌ واسعة سارحة دائمًا. من يراها يظن أنها تخطط لجريمة قتل تنفذها في الليل. لكن كان شيءٌ بداخلي يدفعني للإشفاق عليها والإعجاب بها. كانت منبوذة غير مبالية بالنبذ. لم نكن نرى أسرتها أبدًا، ولم نكن نعرف بيتها. كانت آخر من يترك الشارع، ولولا ملابسها النظيفة دائمًا والتي تتغيَّر كل يوم لظننت أنها تبيت في الشارع.
يوم الحادثة، تشاجرت مع "هند" بسبب "وداد". لأول مرة، تجرأت "هند" ودفعت "وداد" لتسقط على الأرض. عندما اقترحت أن تلعب معنا "وداد" كطقس كل يوم. لأول مرة انفعل بهذه الطريقة على "هند"، وما زاد غضبي هو لامبالاة "وداد" بما حدث. كل ما فعلته أنها قامت ومشت بعيدًا عننا.شعرت وقتها أن "هند" تمادت في جبروتها، وإن كنت أظن أنَّها فعلت ذلك من باب الفضول لكي ترى رد فعل "وداد" الذي خذل فضولها وخذلني.
صرخت في وجه "هند" بصوتٍ أخافها وأذهل بقية الصديقات. لا أذكر ما قلته لها بالضبط، ولكني تعهدت ألَّا ألعب معهن ثانيةً. مشيت أبحث عن "وداد" لأصب بقية غضبي على سلبيتها. عندما وصلت إليها وجدتها تنظر إلى سرب طيور يأوي إلى شجرة كبيرة. كانت شجرة معروفة في حينا وكان الأولاد يتسلَّقونها واثقين من أنَّها لن تسقط لضخامتها وصلابتها. كانت "وداد" تنظر إلى الشجرة كالمسحورة، وعلى وجهها ابتسامة خفيفة. صرخت غاضبةً مستنكرةً سلبيتها الشديدة، وهي لا تنظر إليّ. لوّحت بيدي أمام عينيها، ولكنها لم ترَني. لم تَرَ سوى سرب الطيور. نظرت أنا أيضًا إليه. كانت الطيور كثيرة للغاية، كما لو أن كل طيور العالم جاءت بغير انقطاع لتأوي إلى هذه الشجرة. ظلت الطيور تحط على الشجرة قرابة ربع الساعة. كان منظرها بهيجًا. أصبحت الشجرة كلها تزقزق بصوت عالٍ غير منتظم، رغم ذلك بدأت أمِلُّ.
نظرت إلى "وداد" لننصرف فلم أجدها بجانبي. عبرت الشارع الواسع شبه مُغيَّبة الوعي. كان عبور الشارع في هذا الوقت من الممنوعات لسرعة السيارات واتساع الشارع. كانت طفلة في السابعة يراها سائقو السيارات بالكاد فيتوقفون في آخر لحظة ويصرخون لاعنين أهلها الذين تركوها تعبر الطريق بهذا التهور. وقفت مقيدةً لا أعرف كيف أتصرف، حتى أني لم أجرؤ على ندائها. وصلت إلى الشجرة بسلام، في الوقت الذي كانت الشجرة تهتز فيه بشدة. هل لم تتحمل الشجرة كم العصافير التي تحط عليها؟ عندما وصلت "وداد" إلى الشجرة، وقعت فوقها. صرخت وامتزجت صرخاتي بصراخ الآخرين. طارت العصافير فزعةً من الشجرة. حاول رجال المنطقة رفع الشجرة بصعوبة من فوق البنت. أزاحوا الشجرة حتى سدوا بها الشارع من ناحية. الغريب أنهم لم يجدوا الفتاة تحت الشجرة!
عبرت الشارع؛ فلم أصبر على رؤية ما يحدث. حفروا في طين الحديقة مكان وقوع الشجرة ولكنهم لم يجدوا شيئًا. لا أحد يعلم حتى الآن أين ذهبت "وداد". حملني أبي من بين الجموع وأنا مستسلمةً ناظرةً لما يحدث. لم يلمني أبي على الذهاب إلى مكان الحادثة، فالكل كان هناك. ظللت ذاهلةً عدة أيام بعدها؛ لا أكلم أحدًا. كانت أمي تشفق على من هول الحادثة، خاصةً بعدما علمت بأنَّ وداد صديقتي وكانت تربت على كتفي كلما مرَّت بي. لم أعرف إذا كان ذهولي ذهول دهشة أم حزن. لا شيء يؤكد أنَّ وداد ماتت.
نصحتني أمي بأن أنزل لألعب مع صديقاتي؛ فنزلت. لم يَرَ أحد لـ"وداد" أهلًا يبحثون عنها ولا يحزنون لفقدها، كما لو كانت تسكن الفضاء. بمجرد نزولي، سألتني صديقاتي -وأولهن "هند"- أسئلةً كثيرةً عن "وداد" واختفائها. كنت لا أعرف إجابة أغلبها. سرعان ما نسوا شجاري معهن، وسرعان ما ملّوا عدم تفاعلي مع أسئلتهن.
بعدما ذهبوا عني، وجدت فرصة لمعاينة المكان بعد أن هجر الناس مكان الحادثة. عبرت الشارع بتركيز. أول مرة أعرف أني أستطيع عبور هذا الشارع. ذهبت، فوجدت أن الشجرة قُطِعت ولم يبقَ منها سوى جزء أقصر مني فوق الأرض. ثم وجدت العصافير مجتمعةً على الأرض مكان وقوع الشجرة، مشيرة بمناقيرها إلى الأرض، ولا تزقزق. لم يخِفها وجودي. كانت كلمى ذاهلةً عن كل شيء إلا مكلومها. أمعنت النظر في الشكل الذي تصنعه الطيور. أعتقد أنَّه كان على شكل فتاة في حجم "وداد". صارت "وداد" شجرة.
كنت دومًا أطلب منهن أن تشاركنا "وداد" اللعب، لكنهن كن يرفضن ويتمادين في السخرية منها. لم تكن "وداد" تهتم باللعب معهن إطلاقًا. كنت أجرُّها للعب معنا دون أن تُبدي مقاومة أو ترحيبًا. تمشي معي كما لو أني نوَّمتها مغناطيسيًا. لا تهتم عندما تسخر منها صديقاتي ولا تهتم عندما اعتذر لها على طريقتهن السخيفة. تلتفت إلى زهرة أو عصفور؛ فتنسى العالم. عندما نختبئ جميعنا في مداخل البيوت في المطر، تقف هي تلعب تحت قطراته بمنتهى النشوة مهما كانت شدته. كنت لا أرى الابتسامة على وجهها إلا عند نزول المطر. "كده هتعيا ومش هتعرف تروح المدرسة"، كانت هذه عبارة "هند" الشافية لحقدها على تلك الفتاة التي لا تخشى القوانين.
كانت "هند" نموذج لأي سلطة وعظية ومالية أيضًا. كانت تعشق نصحنا، حتى ولو كانت نصائح بلهاء مثل أن ارتداء فستان أخضر دون أي لون معه عيب. كانت طفلة ثرية في وجهة نظرنا وقتها، ولكننا اكتشفنا أن مستوى أسرتها المادي لا يختلف عن مستوى أيٍ من أُسرنا، كل ما في الأمر إنَّها كانت طفلة مدللة مُجابة الطلب، لديها دراجة كبيرة تستطيع قيادتها بالكاد، ولديها كثير من اللعب والملابس تجود بها على من ترضى عنها. كانت لديها قدرة على السيطرة، تجعل من تغضب عليها منبوذةً بيننا، وقد يكون سر هذا الغضب الاعتراض على اللعبة التي قررت أن نلعبها اليوم.
أظن أن "هند" كانت تخاف من "وداد"، ربما لأن "وداد" لم تقع ضمن أملاكها من أطفال المنطقة، وربما لغرابة أطوار "وداد"، أو ربما للسببين معًا. كانت "وداد" بطلة فيلم رعب بجدارة، بملامحها المصمتة الجامدة الدقيقة، وقصة شعرها التي لا تتغيّر: شعرٌ قصير مفرود ناعم أسود حالك وغُرة قصيرة، وعينٌ واسعة سارحة دائمًا. من يراها يظن أنها تخطط لجريمة قتل تنفذها في الليل. لكن كان شيءٌ بداخلي يدفعني للإشفاق عليها والإعجاب بها. كانت منبوذة غير مبالية بالنبذ. لم نكن نرى أسرتها أبدًا، ولم نكن نعرف بيتها. كانت آخر من يترك الشارع، ولولا ملابسها النظيفة دائمًا والتي تتغيَّر كل يوم لظننت أنها تبيت في الشارع.
يوم الحادثة، تشاجرت مع "هند" بسبب "وداد". لأول مرة، تجرأت "هند" ودفعت "وداد" لتسقط على الأرض. عندما اقترحت أن تلعب معنا "وداد" كطقس كل يوم. لأول مرة انفعل بهذه الطريقة على "هند"، وما زاد غضبي هو لامبالاة "وداد" بما حدث. كل ما فعلته أنها قامت ومشت بعيدًا عننا.شعرت وقتها أن "هند" تمادت في جبروتها، وإن كنت أظن أنَّها فعلت ذلك من باب الفضول لكي ترى رد فعل "وداد" الذي خذل فضولها وخذلني.
صرخت في وجه "هند" بصوتٍ أخافها وأذهل بقية الصديقات. لا أذكر ما قلته لها بالضبط، ولكني تعهدت ألَّا ألعب معهن ثانيةً. مشيت أبحث عن "وداد" لأصب بقية غضبي على سلبيتها. عندما وصلت إليها وجدتها تنظر إلى سرب طيور يأوي إلى شجرة كبيرة. كانت شجرة معروفة في حينا وكان الأولاد يتسلَّقونها واثقين من أنَّها لن تسقط لضخامتها وصلابتها. كانت "وداد" تنظر إلى الشجرة كالمسحورة، وعلى وجهها ابتسامة خفيفة. صرخت غاضبةً مستنكرةً سلبيتها الشديدة، وهي لا تنظر إليّ. لوّحت بيدي أمام عينيها، ولكنها لم ترَني. لم تَرَ سوى سرب الطيور. نظرت أنا أيضًا إليه. كانت الطيور كثيرة للغاية، كما لو أن كل طيور العالم جاءت بغير انقطاع لتأوي إلى هذه الشجرة. ظلت الطيور تحط على الشجرة قرابة ربع الساعة. كان منظرها بهيجًا. أصبحت الشجرة كلها تزقزق بصوت عالٍ غير منتظم، رغم ذلك بدأت أمِلُّ.
نظرت إلى "وداد" لننصرف فلم أجدها بجانبي. عبرت الشارع الواسع شبه مُغيَّبة الوعي. كان عبور الشارع في هذا الوقت من الممنوعات لسرعة السيارات واتساع الشارع. كانت طفلة في السابعة يراها سائقو السيارات بالكاد فيتوقفون في آخر لحظة ويصرخون لاعنين أهلها الذين تركوها تعبر الطريق بهذا التهور. وقفت مقيدةً لا أعرف كيف أتصرف، حتى أني لم أجرؤ على ندائها. وصلت إلى الشجرة بسلام، في الوقت الذي كانت الشجرة تهتز فيه بشدة. هل لم تتحمل الشجرة كم العصافير التي تحط عليها؟ عندما وصلت "وداد" إلى الشجرة، وقعت فوقها. صرخت وامتزجت صرخاتي بصراخ الآخرين. طارت العصافير فزعةً من الشجرة. حاول رجال المنطقة رفع الشجرة بصعوبة من فوق البنت. أزاحوا الشجرة حتى سدوا بها الشارع من ناحية. الغريب أنهم لم يجدوا الفتاة تحت الشجرة!
عبرت الشارع؛ فلم أصبر على رؤية ما يحدث. حفروا في طين الحديقة مكان وقوع الشجرة ولكنهم لم يجدوا شيئًا. لا أحد يعلم حتى الآن أين ذهبت "وداد". حملني أبي من بين الجموع وأنا مستسلمةً ناظرةً لما يحدث. لم يلمني أبي على الذهاب إلى مكان الحادثة، فالكل كان هناك. ظللت ذاهلةً عدة أيام بعدها؛ لا أكلم أحدًا. كانت أمي تشفق على من هول الحادثة، خاصةً بعدما علمت بأنَّ وداد صديقتي وكانت تربت على كتفي كلما مرَّت بي. لم أعرف إذا كان ذهولي ذهول دهشة أم حزن. لا شيء يؤكد أنَّ وداد ماتت.
نصحتني أمي بأن أنزل لألعب مع صديقاتي؛ فنزلت. لم يَرَ أحد لـ"وداد" أهلًا يبحثون عنها ولا يحزنون لفقدها، كما لو كانت تسكن الفضاء. بمجرد نزولي، سألتني صديقاتي -وأولهن "هند"- أسئلةً كثيرةً عن "وداد" واختفائها. كنت لا أعرف إجابة أغلبها. سرعان ما نسوا شجاري معهن، وسرعان ما ملّوا عدم تفاعلي مع أسئلتهن.
بعدما ذهبوا عني، وجدت فرصة لمعاينة المكان بعد أن هجر الناس مكان الحادثة. عبرت الشارع بتركيز. أول مرة أعرف أني أستطيع عبور هذا الشارع. ذهبت، فوجدت أن الشجرة قُطِعت ولم يبقَ منها سوى جزء أقصر مني فوق الأرض. ثم وجدت العصافير مجتمعةً على الأرض مكان وقوع الشجرة، مشيرة بمناقيرها إلى الأرض، ولا تزقزق. لم يخِفها وجودي. كانت كلمى ذاهلةً عن كل شيء إلا مكلومها. أمعنت النظر في الشكل الذي تصنعه الطيور. أعتقد أنَّه كان على شكل فتاة في حجم "وداد". صارت "وداد" شجرة.