كنا ثلاثة طلاب ننحدر من وسط فقير ، لا يمكن أن نؤدي أكثر من مائة درهم للفرد . كراء بيت بسومة ثلاث مائة درهم للشهر ، لم نعثر عليه في السنة الثانيةإلا بعد أن نشف ريقنا ، وفي حي الملاح ، وهو من الأحياء الفقيرة بمدينة فاس .
قدري دائما أن أعيش التناقض والمفارقة . شمال الحي قرب المدخل يوجد القصر الملكي بأبوابه النحاسية الكبيرة المغلقة على أسرار المغرب ، وأسرار الأسرة الحاكمة . المدخل الثاني للحي قريب من سوق السمارين ، ومن حديقة جنان سبيل . كلما توغلت يمينا ، واقتربت من الجهة المطلة على النهر في الحي تزداد القتامة والبؤس ، وينخفض سعر الكراء .
سكننا بيتا سفليا من غرفة واحدة ، وبهو صغير يوجد به مرحاض لا تتجاوز مساحته مترا مربعا .
حولنا البهو إلى مطبخ . لا ماء داخل البيت . الماء على بعد أمتار من الباب الخارجي . سقاية مشتركة مع سكان الحي . أغلبهم عمال ، لفظتهم البوادي والحقول والظروف الصعبة التي عاشها المغرب في نهاية السبعينات بسبب توالي سنوات الجفاف .
كلما تقدمت في العمر ، عدت إلى الوراء . تذكرت سقاية درب (عرصة أوزال) في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي ، عندما كان إدخال عدادات الماء إلى المنازل امتيازا . كنت أقطع مسافة نصف كيلومتر تقريبا من البيت إلى رأس الدرب أحمل سطلين ، وأقف وسط (جانطة)* للحفاظ على توازن السطلين حتى لا يتدفق منهما الماء . أضطر للتوقف مرتين ، أو ثلاث لإراحة ذراعيي وكتفي . هنا لن أحتاج إلى (جانطة) ، السقاية أمام باب البيت .
الدريسية مالكة البيت امرأة في نهاية الخمسينيات من عمرها ، لكنها تبدو أكبر من سنها الحقيقي . علت وجهها التجاعيد رغم محاولة إخفائها بالمساحيق . قالت بأنها عاملة مهاجرة تعيش في الخارج . تشتغل في مقهى بمدينة لندن ، يبدو من ملامحها أنها مدمنة على التدخين لذلك تتصرف بعصبية . وتومئ للسمسار بأنها لم تعد راغبة في كراء البيت . كم ضحكنا في صمت عندما قدمت لنا زوجها ، وقالت بأن اسمه (العفو) ، وقد اصطحبته معها لنتعرف عليه ، ونقدم له واجبات الكراء عند نهاية كل شهر . قلت مع نفسي : (سقط الحُك ، ووجد غطاءه)*.
لم نعثر على كراء بيت مستقل بثلاث مئة درهم إلا بشق الأنفس . وبمساعدة سمسار اخذ منا مئة درهم كأجر . كنا نساير (الدريسية) في هلوستها بالقانون والنظام في لندن ، ونخشى أن تتوتر أعصابها مع احد الموظفين بالمقاطعة حيت ستتم المصادقة على عقد الكراء ، ونخسر البيت . نغمز الموظف ، ونتوسط بين الطرفين . ويجر أحدنا (الدريسية) إلى مكان بعيد .
(الدريسية) مثل الكثير من العمال المهاجرين المهووسين بنقد الإدارة بسبب وبدون سبب . الكثير منهم يتحدثون بقدسية عن القانون والنظام في الخارج ، وهم لا يحترمون حتى إشارة المرور في بلدهم .
تضرعت إلى السماء بان تخرج عاقبة هذا الصباح على خير بعد أكثر من شهر من البحث المضني عن سقف أدفن فيه جسدي .
بعد دخولنا البيت ، وجدنا العديد من قنينات الخمر الفارغة ، فهمنا فيما بعد أن (الدريسية) كان لها صديق قوي البنية ، ومفتول العضلات تعاشره بعيدا عن بيت الزوجية . سأل عنها فيما بعد أكثر من مرة . اعتقد في البداية بأنها ربما استبدلته بشخص آخر . لما تأكد بأن السكان الجدد طلبة ، وليس لهم علاقة بالموضوع اختفى بشكل نهائي
كنا نعود من الجامعة في وقت متأخر من الليل . مدخل الحي خال من المارة . كلما توغلنا في الزقاق ، كلما ظهرت جماعات من الشباب ، والرجال يشربون الخمر ويلعبون القمار ، والبعض منهم يجلس إلى جانب عشيقته . في أغلب الأحيان قد نصادف خصومة ، تُستعمل فيها السكاكين والعصي عندما يخسر بعضهم في القمار ، وتلعب الخمر برأسه ، ويثور ضد خصومه .
قضينا سنتين بهذا الحي في منزلين مختلفين . لم تكن لدينا القدرة على الاحتفاظ بالمنزل الأول خلال عطلة الصيف . تأدية كراء ثلاثة أشهر في بداية الثمانينات يعتبر أمرا مكلفا بالنسبة لطلبة ينحدرون من أوساط فقيرة . في السنة الموالية عثرتنا على بيت صغير بباب مستقل يتوفر على حجرة واحدة ، يقع في عمق نفس الحي ، ولكن في محيط أكثر فقرا وإجراما . نادرا ما تدخل الشرطة إلى مثل هذه الأحياء التي تعتبر مناطق محررة ، يعربد فيها الفقر والجهل والانحراف بشكل مطلق .
اقتنينا كمية كبيرة من الجورنال ، وغطينا بها جدران الغرفة الوحيدة التي نجلس وننام فيها ، فأصبح البيت يشبه منازل أحياء القصدير في مدينة مونتيفيديو عاصمة الأوروغواي حيث كان يختبئ أعضاء من منظمة التوباماروس اليسارية المتطرفة ، كما صورها فيلم (حالة الحصار) للمخرج الفرنسي (كوستا غافراس) .
وعندما صدر قرار تخفيض ثمن الكراء بسبب الأزمة التي عرفها المغرب في بداية الثمانينات من القرن الماضي ، فرضنا على صاحب البيت التنازل عن مائة درهم .
ربما كنا الوحيدين من الطلبة الذين يسكنون بهذا المستنقع . لحسن حظنا أنه في هذه الحقبة من تاريخ المغرب لازال الطلبة يحظون باحترام أغلب الشرائح الاجتماعية .
ابتداء من شهر مارس ، عندما يعتدل الجو ، نتابع بعد العشاء الحلقات التي ينظمها الطلبة المنتمون لبعض التيارات السياسية التي تنشط في الساحة الطلابية . من كثرة متابعتي لهذه الحلقات حفظت الأشرطة التي تترد داخلها ، وامتلكت القدرة على التمييز بين الخطابات السياسية التي قد تصدر عن طلبة قادمين من جامعات أخرى . كان لي أصدقاء من جميع الفصائل اليسارية ، وهو ما سهل انفتاحي على الجميع والاستماع للجميع ، بالرغم من تعاطفي مع التيار القاعدي مثل أغلبية الطلبة في هذه الحقبة . لا نعود من الجامعة إلا بعد الثانية صباحا . أغلب منحرفي الحي يعرفون بأننا طلبة ، بعضهم كان يمدنا بالسجائر ، وقطعة من الحشيش بالمجان ، كعربون عن التعاطف معنا . لم يعترض يوما سبيلنا أحد . كانوا يدركون بحسهم الباطني أننا من نفس الطينة مع فارق هو أننا محظوظون أكثر ، لأننا ندرس بالجامعة ، وربما سنتخرج غدا ، ونعثر على وظيفة .
المعجم :
ـ (جانطة) : طوق العجلة ، ويصنع من مادة صلبة وقوية تشبه الألمنيوم .
ـ (سقط الحُك ، ووجد غطاءه) : (الحُك) : علبة . والعبارة مثل شعبي بنفس معنى المثل العربي : الطيور تقع على أشكالها .
مراكش 13 يوليوز 2017
قدري دائما أن أعيش التناقض والمفارقة . شمال الحي قرب المدخل يوجد القصر الملكي بأبوابه النحاسية الكبيرة المغلقة على أسرار المغرب ، وأسرار الأسرة الحاكمة . المدخل الثاني للحي قريب من سوق السمارين ، ومن حديقة جنان سبيل . كلما توغلت يمينا ، واقتربت من الجهة المطلة على النهر في الحي تزداد القتامة والبؤس ، وينخفض سعر الكراء .
سكننا بيتا سفليا من غرفة واحدة ، وبهو صغير يوجد به مرحاض لا تتجاوز مساحته مترا مربعا .
حولنا البهو إلى مطبخ . لا ماء داخل البيت . الماء على بعد أمتار من الباب الخارجي . سقاية مشتركة مع سكان الحي . أغلبهم عمال ، لفظتهم البوادي والحقول والظروف الصعبة التي عاشها المغرب في نهاية السبعينات بسبب توالي سنوات الجفاف .
كلما تقدمت في العمر ، عدت إلى الوراء . تذكرت سقاية درب (عرصة أوزال) في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي ، عندما كان إدخال عدادات الماء إلى المنازل امتيازا . كنت أقطع مسافة نصف كيلومتر تقريبا من البيت إلى رأس الدرب أحمل سطلين ، وأقف وسط (جانطة)* للحفاظ على توازن السطلين حتى لا يتدفق منهما الماء . أضطر للتوقف مرتين ، أو ثلاث لإراحة ذراعيي وكتفي . هنا لن أحتاج إلى (جانطة) ، السقاية أمام باب البيت .
الدريسية مالكة البيت امرأة في نهاية الخمسينيات من عمرها ، لكنها تبدو أكبر من سنها الحقيقي . علت وجهها التجاعيد رغم محاولة إخفائها بالمساحيق . قالت بأنها عاملة مهاجرة تعيش في الخارج . تشتغل في مقهى بمدينة لندن ، يبدو من ملامحها أنها مدمنة على التدخين لذلك تتصرف بعصبية . وتومئ للسمسار بأنها لم تعد راغبة في كراء البيت . كم ضحكنا في صمت عندما قدمت لنا زوجها ، وقالت بأن اسمه (العفو) ، وقد اصطحبته معها لنتعرف عليه ، ونقدم له واجبات الكراء عند نهاية كل شهر . قلت مع نفسي : (سقط الحُك ، ووجد غطاءه)*.
لم نعثر على كراء بيت مستقل بثلاث مئة درهم إلا بشق الأنفس . وبمساعدة سمسار اخذ منا مئة درهم كأجر . كنا نساير (الدريسية) في هلوستها بالقانون والنظام في لندن ، ونخشى أن تتوتر أعصابها مع احد الموظفين بالمقاطعة حيت ستتم المصادقة على عقد الكراء ، ونخسر البيت . نغمز الموظف ، ونتوسط بين الطرفين . ويجر أحدنا (الدريسية) إلى مكان بعيد .
(الدريسية) مثل الكثير من العمال المهاجرين المهووسين بنقد الإدارة بسبب وبدون سبب . الكثير منهم يتحدثون بقدسية عن القانون والنظام في الخارج ، وهم لا يحترمون حتى إشارة المرور في بلدهم .
تضرعت إلى السماء بان تخرج عاقبة هذا الصباح على خير بعد أكثر من شهر من البحث المضني عن سقف أدفن فيه جسدي .
بعد دخولنا البيت ، وجدنا العديد من قنينات الخمر الفارغة ، فهمنا فيما بعد أن (الدريسية) كان لها صديق قوي البنية ، ومفتول العضلات تعاشره بعيدا عن بيت الزوجية . سأل عنها فيما بعد أكثر من مرة . اعتقد في البداية بأنها ربما استبدلته بشخص آخر . لما تأكد بأن السكان الجدد طلبة ، وليس لهم علاقة بالموضوع اختفى بشكل نهائي
كنا نعود من الجامعة في وقت متأخر من الليل . مدخل الحي خال من المارة . كلما توغلنا في الزقاق ، كلما ظهرت جماعات من الشباب ، والرجال يشربون الخمر ويلعبون القمار ، والبعض منهم يجلس إلى جانب عشيقته . في أغلب الأحيان قد نصادف خصومة ، تُستعمل فيها السكاكين والعصي عندما يخسر بعضهم في القمار ، وتلعب الخمر برأسه ، ويثور ضد خصومه .
قضينا سنتين بهذا الحي في منزلين مختلفين . لم تكن لدينا القدرة على الاحتفاظ بالمنزل الأول خلال عطلة الصيف . تأدية كراء ثلاثة أشهر في بداية الثمانينات يعتبر أمرا مكلفا بالنسبة لطلبة ينحدرون من أوساط فقيرة . في السنة الموالية عثرتنا على بيت صغير بباب مستقل يتوفر على حجرة واحدة ، يقع في عمق نفس الحي ، ولكن في محيط أكثر فقرا وإجراما . نادرا ما تدخل الشرطة إلى مثل هذه الأحياء التي تعتبر مناطق محررة ، يعربد فيها الفقر والجهل والانحراف بشكل مطلق .
اقتنينا كمية كبيرة من الجورنال ، وغطينا بها جدران الغرفة الوحيدة التي نجلس وننام فيها ، فأصبح البيت يشبه منازل أحياء القصدير في مدينة مونتيفيديو عاصمة الأوروغواي حيث كان يختبئ أعضاء من منظمة التوباماروس اليسارية المتطرفة ، كما صورها فيلم (حالة الحصار) للمخرج الفرنسي (كوستا غافراس) .
وعندما صدر قرار تخفيض ثمن الكراء بسبب الأزمة التي عرفها المغرب في بداية الثمانينات من القرن الماضي ، فرضنا على صاحب البيت التنازل عن مائة درهم .
ربما كنا الوحيدين من الطلبة الذين يسكنون بهذا المستنقع . لحسن حظنا أنه في هذه الحقبة من تاريخ المغرب لازال الطلبة يحظون باحترام أغلب الشرائح الاجتماعية .
ابتداء من شهر مارس ، عندما يعتدل الجو ، نتابع بعد العشاء الحلقات التي ينظمها الطلبة المنتمون لبعض التيارات السياسية التي تنشط في الساحة الطلابية . من كثرة متابعتي لهذه الحلقات حفظت الأشرطة التي تترد داخلها ، وامتلكت القدرة على التمييز بين الخطابات السياسية التي قد تصدر عن طلبة قادمين من جامعات أخرى . كان لي أصدقاء من جميع الفصائل اليسارية ، وهو ما سهل انفتاحي على الجميع والاستماع للجميع ، بالرغم من تعاطفي مع التيار القاعدي مثل أغلبية الطلبة في هذه الحقبة . لا نعود من الجامعة إلا بعد الثانية صباحا . أغلب منحرفي الحي يعرفون بأننا طلبة ، بعضهم كان يمدنا بالسجائر ، وقطعة من الحشيش بالمجان ، كعربون عن التعاطف معنا . لم يعترض يوما سبيلنا أحد . كانوا يدركون بحسهم الباطني أننا من نفس الطينة مع فارق هو أننا محظوظون أكثر ، لأننا ندرس بالجامعة ، وربما سنتخرج غدا ، ونعثر على وظيفة .
المعجم :
ـ (جانطة) : طوق العجلة ، ويصنع من مادة صلبة وقوية تشبه الألمنيوم .
ـ (سقط الحُك ، ووجد غطاءه) : (الحُك) : علبة . والعبارة مثل شعبي بنفس معنى المثل العربي : الطيور تقع على أشكالها .
مراكش 13 يوليوز 2017