مرت في الآونة الأخيرة ذكرى وفاة الطيب صالح . وحداني ذلك إلى استدعاء ذكرياتي معه. فأنا من القلائل الذين حظوا بمعرفته معرفة كثيبة وحميمية . ساعدني على ذلك اشتغالي معه في الـ«بي بي سي»، و ثانيا لسكناه قريبا مني بويمبلدون ، مما جعلنا نتزاور مرارا . وثالثا لمشاركتنا في كثير من المؤتمرات . كنا نحضرها من دون أن نشارك فيها في الواقع أو حتى أن نستمع لما يجري فيها من كلام. نجلس في إحدى زوايا الفندق و نتسامر مع الآخرين .
يتهمون الأديب الراحل بالكسل ، لكنني لم أجد شيئا من هذا الكسل في دأبه على الخروج من الفندق لنتمشى في مشاوير طويلة ، فننطلق للحديث عن شتى الأمور . قلما تحدثنا عن أعماله الروائية أو رواياتي أنا .. فهذا شيء كان يكره الخوض فيه .
وخلال ذلك ، استمتعت بهذا الجانب من شخصيته ، و هو جانب قلما التفت إليه أحد ، ألا و هو حلاوة حديثه . كان له صوت رخيم جعلني أعتقد أنه لو وُلد في الغرب و توجه للموسيقى لربما أصبح من نجوم الأوبرا . لكن الصوت لم يكن سحره الوحيد و إنما تزاوج هذا الصوت بطريقة الإلقاء الهادئ و الرصين. ساعده على ذلك عمله الإذاعي و تخصصه في الروايات و المسرحيات الإذاعية . اكتسب من ذلك حسن الأداء. كان يجيد هذين العنصرين الأساسيين في العمل المسرحي : فرز الكلمات punctuation وتوقيت إلقائها Timing.. لم أسمع متحدثا عربيا يجيد ذلك كما كان يفعل الطيب . حببه ذلك للكثيرين من الرجال و النساء ، فرُحنا جميعا نحسده على هذه الشعبية . و كان ممن و قع في سحره غوردن ووترفيلد، مدير القسم العربي . و ما تحدث مع امرأة إلا و هامت به.
بالطبع يحتاج القالب إلى محتوى، فالإجادة في الكلام لا تكفي و إنما تتطلب شيئا ثمينا تقوله. و ما أكثر ما لدى الطيب من درر أدبية نادرة يدلي بها و يغني المستمع بحكاياتها .. كان حفيظا للشعر و محيطا بالكثير من النفائس الأدبية التي قلما التفت إليها الآخرون . من أحلى ما يمكن لأحد أن يتمتع به من أحاديث الطيب صالح الاستماع إليه و هو يلقي دررا من الشعر العربي يحسن في اختيارها ويبدع ، كما قلت ، في تلاوتها ويغنينا بالتعليق عليها و إعطائنا خلفيات تاريخية عنها.
هكذا قلت وكذا أكرر: إنني كنت محظوظا بمعرفة هذا العملاق الرقيق القصير من عمالقة الفكر والأدب العربي وبالاستماع إليه على مدى سنين طويلة. يذكرني صديقي الفقيد بأوسكار وايلد في هذا الخصوص. كان هذا الأديب الإنجليزي يسحر الناس بكلامه وطرائفه، حتى قالوا إن من عاش في زمن أوسكار وايلد ولم يسمعه يتحدث في مقهى كازينو دي باري بلندن، فهو كمن عاش في زمن الإغريق ولم ير معبد البارثنون قائما. دعوني أواصل هذه المقارنة الظريفة فأقول: إن من عاش في زمن الطيب صالح ولم يسمعه يتحدث فهو كمن عاش في زمن امرئ القيس ولم يسمع امرأ القيس يتلو في سوق عكاظ:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
خالد القشطينى 13 مارس 2011
يتهمون الأديب الراحل بالكسل ، لكنني لم أجد شيئا من هذا الكسل في دأبه على الخروج من الفندق لنتمشى في مشاوير طويلة ، فننطلق للحديث عن شتى الأمور . قلما تحدثنا عن أعماله الروائية أو رواياتي أنا .. فهذا شيء كان يكره الخوض فيه .
وخلال ذلك ، استمتعت بهذا الجانب من شخصيته ، و هو جانب قلما التفت إليه أحد ، ألا و هو حلاوة حديثه . كان له صوت رخيم جعلني أعتقد أنه لو وُلد في الغرب و توجه للموسيقى لربما أصبح من نجوم الأوبرا . لكن الصوت لم يكن سحره الوحيد و إنما تزاوج هذا الصوت بطريقة الإلقاء الهادئ و الرصين. ساعده على ذلك عمله الإذاعي و تخصصه في الروايات و المسرحيات الإذاعية . اكتسب من ذلك حسن الأداء. كان يجيد هذين العنصرين الأساسيين في العمل المسرحي : فرز الكلمات punctuation وتوقيت إلقائها Timing.. لم أسمع متحدثا عربيا يجيد ذلك كما كان يفعل الطيب . حببه ذلك للكثيرين من الرجال و النساء ، فرُحنا جميعا نحسده على هذه الشعبية . و كان ممن و قع في سحره غوردن ووترفيلد، مدير القسم العربي . و ما تحدث مع امرأة إلا و هامت به.
بالطبع يحتاج القالب إلى محتوى، فالإجادة في الكلام لا تكفي و إنما تتطلب شيئا ثمينا تقوله. و ما أكثر ما لدى الطيب من درر أدبية نادرة يدلي بها و يغني المستمع بحكاياتها .. كان حفيظا للشعر و محيطا بالكثير من النفائس الأدبية التي قلما التفت إليها الآخرون . من أحلى ما يمكن لأحد أن يتمتع به من أحاديث الطيب صالح الاستماع إليه و هو يلقي دررا من الشعر العربي يحسن في اختيارها ويبدع ، كما قلت ، في تلاوتها ويغنينا بالتعليق عليها و إعطائنا خلفيات تاريخية عنها.
هكذا قلت وكذا أكرر: إنني كنت محظوظا بمعرفة هذا العملاق الرقيق القصير من عمالقة الفكر والأدب العربي وبالاستماع إليه على مدى سنين طويلة. يذكرني صديقي الفقيد بأوسكار وايلد في هذا الخصوص. كان هذا الأديب الإنجليزي يسحر الناس بكلامه وطرائفه، حتى قالوا إن من عاش في زمن أوسكار وايلد ولم يسمعه يتحدث في مقهى كازينو دي باري بلندن، فهو كمن عاش في زمن الإغريق ولم ير معبد البارثنون قائما. دعوني أواصل هذه المقارنة الظريفة فأقول: إن من عاش في زمن الطيب صالح ولم يسمعه يتحدث فهو كمن عاش في زمن امرئ القيس ولم يسمع امرأ القيس يتلو في سوق عكاظ:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
خالد القشطينى 13 مارس 2011