أيام من التوعك نحب أن نشرك القارئ في خيرها، ونسأل له الله أن يجنبه شرها. وما خيرها إلا صفحات من القراءة المتفرقة نُزجي بها الوقت، ونُسري عن الفكر بقدر ما تستطيع النفس العازفة والطبيعة المنحرفة. وليست هي — والحمد لله — من القراءة السياسية، فإننا نعتد جو السياسة كجو المدن مما ينبغي أن لا يخوضه المرء أو يقر فيه إلا على أكمل صحة؛ لأنه جو تختلط فيه الأنفاس، وتزدحم المناكب، وتكثر الجلبة والصخب، وينتشر عليه من مجاجة النفوس الكريهة، ونفث الضمائر الموكوسة ما يحتاج الصبر عليه إلى مناعة وحيطة لا يطيقهما من يطلب العافية والمعافاة. وأي جو من الأجواء السياسية هو أكدر وأسرع عدوى وأخبث جرثومة وأدنى إلى تغثية النفس من جو مصر السياسي في هذه الأيام؟
وسنقتصر فيما نورده هنا على خلاصة مما تصفحناه من مجلة أمريكية قديمة وقعت في أيدينا مصادفة، وهي مجلة أسبوعية ممتعة تقرأ في العدد الواحد منها ما لا تقرأه في مجلات مختلفة من طرف الأدب والعلم والفن، ويجمع لك ناشروها على سبعين صفحة أو قراب ذلك موضوعات بينها من الاختلاف والتنوع ما بين الكلام مثلًا على التصوير الياباني الحديث ووصف زيارة لنيتشه في مرضه، أو ما بين «توجيه دورة الحياة» ومقال في نقد المواطن الضعيفة من الأدب الأمريكي، أو ما بين «مشاهدات ماكس نوردو» في إسبانيا والنظر في مآل ألمانيا الجديدة. وهكذا ما ينشط النفس إلى القراءة، ويدفع عنها سآمة التشابه. وقد نكتفي بما نورده في هذا المقال، وقد نعود وقتًا بعد وقت إلى موضوعات أخرى إذا رأينا في العودة فائدة، وأبى القارئ إلا أن يشركنا في محصولنا كله.
أما حديثنا اليوم مع القارئ ففيم يظنه يكون؟ لا نخاله يجهل ما هو حري بأن يقع عليه اختيارنا لأول وهلة من بين هذه الموضوعات؛ إذ ماذا عسى أن يكون أدعى إلى السلوى والاعتبار من وصف مريض نابه كان في كتاباته من أشد الناس قسوة على المرضى، وكان في حياته من أحوج المرضى إلى العطف والرحمة؟ ذلك هو فردريك نيتشه المفكر الألماني الذي حارب المرض أعنف حرب حتى غلبه هذا العدو الغاشم فصرعه بعد أن قيده في أسره اثني عشر عامًا مجرمات من أعوام الجحيم، وبعد أن سلبه كل ما منحته الحياة والصحة، حتى فكره وقلمه الذي كان أمضى أسلحته في هذا العراك الوبيل.
وليس نيتشه بحاجة إلى التعريف — ولا سيما بعد الحرب الكبرى — فنُعرِّفه إلى القارئ، ولكنا نومئ إلى أسباب مرضه الذي لزمه هذا الزمن الطويل. وهي على الجملة سوء الهضم المزمن، وكد الذهن، وما كان يقاسيه من صراع عاصف في أعماق نفسه، ومن عنت ملتف بين أبناء قومه، وقد يضاف إلى ذلك أثر من الوراثة؛ إذ كان أبوه كما جاء في بعض الأسانيد مصابًا بمرض في الدماغ. وظلت هذه الأسباب تتعاوره حينًا حتى ألقته طليح آلامها، فخولط في عقله، ثم جُنَّ جنونًا مطبقًا وظهرت عليه دلائل هذا الجنون في أوائل سنة ١٨٩٩ عقيب نوبة عصبية. ومن ثم بقي مذهوب العقل منهوك الجسد، لا يفيق فترة حتى يتنكس ويعود إلى ما كان فيه أو إلى شر منه. ولبث على هذا الحال من الضنى والعذاب اثني عشر عامًا طوالًا، كان في أثنائها كالطفل الرضيع لا حول له ولا حيلة موكولًا إلى ما يشمله من حنان أمه وأخته وعطف الأصدقاء من مريديه والمعجبين به، حتى أدركه الموت براحته في أواخر شهر أغسطس من سنة ١٩٠٠ فقضى بذات الرئة، وكانت خاتمة علله.
والمقال الذي نشير إليه يصف زيارة قصيرة له في خلال هذا المرض، كتبته مؤلفة ألمانية معروفة في قومها اسمها جابرييل روتر، وهي كما قالت ممن اتخذوا نيتشه معبودًا أدبيًّا لهم. ولا يخلو من بعض العجب أن يكون لنيتشه عابدات بين النساء المطلعات، لما يعلمه قراؤه من سوء رأيه في المرأة وتعييره للمخدوعين بدعواها ودعاوى أنصارها. فقد كان يستصوب في كلامه عليها آراء الجامدين من الشرقيين، وكان يستكثر عليها الاشتغال بالعلم وطلب الحق، ويقول: «ما للمرأة وللحق؟ إنه من مبدأ الأمر لم يكن شيء أغرب عن طبعها، ولا أكره مذاقًا لديها، ولا أعدى لها من الحق. وإنما صناعة المرأة الكبرى التزييف، وهمها الأعظم الظهور والجمال»، وكان من قوله في موضع آخر: «إن الرجل الذي يجمع بين عمق الروح وعمق الشهوات، والذي فيه من الخير العميق ما هو أهل للقسوة والخشونة، وما يسهل اختلاطه بهاتين الخلتين لا يسعه أن يرى في المرأة إلا ما يراه الشرقيون، لا يسعه أن ينظر إليها إلا نظره إلى قينة مملوكة وحرز مدخر ومخلوق مقضي عليه بالخدمة وأداء واجبه بهذا الاعتبار. ولا مناص له من أن يتخذ موقفه في هذه المسألة من مرتقى الحكمة الآسيوية الزاخرة معتمدًا على تفوق ما في آسيا من بداهة … إلخ.»
فما الذي أعجب المؤلفة الذكية من هذه الآراء في بنات جنسها؟ أتراها شعرت في صميم وجدانها بصدق حكمه، فكان ذلك من بواعث إعجابها به؟
ولكن ترجمة نيتشه وفلسفته وحياته كثيرة المتناقضات، فليست هذه ولا غيرة تلميذاته الأخر على التبشير بفلسفته بأغربها وأدعاها إلى الدرس والتأمل. وكفى أنه هو نفسه ابن قسيس وامرأة متعبدة يشن الغارة على الدين ورجال الدين ويقول في النعي على عقيدة آبائه ما لم يقله أحد قبله. وإليك كلام المؤلفة الألمانية فيما وصفته من خلق أمه وسمتها: «وكانت أرملة القسيس لا تريك في بادي هيئتها أعوامها السبعين، ولا يتخلل شعرها الأسود أثر من الشيب، وقلَّ أن تلمح على جبينها القوي تغضن الأسارير. وكانت جالسة إلى مائدة للخياطة فاحمة اللون على مقربة من النافذة، وعلى النافذة لوحة مكتوب فيها هذه الآية: «إن الجبال تزول والهضاب تتحول، ولكن لا تزول عنك رحمتي ولا يتحول عنك عهد سلامي» وهي تذكار عطف أرسله إليها بعض الأصدقاء حين علموا بمرض ولدها الشديد. ولطالما استقرت على هذه الأسطر عينان غشتهما الدموع والتفت أمامها ذراعان مطويتان للصلاة!»
فكم من نقيضة في الحياة يقرؤها الفكر في هذه الكلمات القليلة! أم تناهز السبعين ولا تشيب، وولد تبرح به الأسقام في عنفوان الصبا، وعزاء تجده الأم في تلك الآية يخفف عنها ما يكرب نفسها من رزيئة ولدها، وقد أطار البحث في هذه الآية وأشباهها صواب الولد، وأقلق راحة نفسه وجسمه، ورمى به في ظلمة لا يغني عنده فيها إيمان ولا عزاء، والنفسان بعد أقرب ما تكون إحداهما إلى الأخرى!
ومما حدثتنا به الكاتبة أن هذه الأم الصبور كثيرًا ما خطر لها أن تلتمس الغفران في الدار الآخرة لولدها بإحراق مخطوطاته التي لم تُطبع. وكادت تفعل لولا أن ابنتها عادت إذ ذاك من أمريكا فألفت أمها على هذا العزم تهم بإبادة كل ما فيه خروج على الدين من تلك الكتب، فلقيت عناء كبيرًا في صرفها عن هذا العزم وأقنعتها بعد مشقة بترك هذه المخطوطات في صندوقها؛ لأن كتابة العبقري ليست بملك لأهله، ولكنها ملك العالم أجمع.
ثم تعود الكاتبة فتحار في اختلاف أهواء القلب الإنساني، وتعجب لزهو الأم بشهرة ولدها التي كانت تسوق إلى منزلها كثيرًا من الزوار المعجبين به. وما كانوا يعجبون من آرائه إلا بما كانت تود هي إحراقه ومحو آثاره!
أما الزيارة التي قصدت الكاتبة وصفها فقد جاءت اتفاقًا على غير انتظار، وكانت لا تطمع هي فيها ولا تطلبها؛ إذ كان المريض معزولًا وحده في حجرة منفردة لا يدخلها غير أمه وأخته والطبيب الذي يعالجه، ولا يسمح بالدنو منها لأحد غير هؤلاء. وكان لا يُسمع له صوت في المنزل غير ما يتردد بين حين وآخر من أنين خفيض مكتوم ينطلق منه على غير إرادة ولا شعور في معظم الأحيان. وسبب الزيارة أن أحد المصورين رغب في تصوير نيتشه في بعض فترات صحوه حيث كان يجلس ساعات طويلة تحت دالية من دوالي الحديقة الصغيرة. فأجيب إلى طلبه ولكنه لم يُوفَّق إلى إرضاء أم المريض ولا أخته، وجاءت أعراض السقم في الصورة أظهر مما أحبت تلك الأم المسكينة أن تراه على ملامح ولدها الذي انقطع الرجاء من شفائه، وكان لا يزال من أسباب العزاء لقلبها أنه على خطورة سقامه وثقل وطأته، كان فيما ترى من ظاهره مشرق الطلعة، وضَّاح الجبين، لا تشف سحنته عن داء كمين. فلما كملت الصورة أرادت أن تتحقق صديقتها بالمشاهدة خطأ المصور وتقصيره، فدعتها إلى زيارة حجرته.
قالت الكاتبة: «فتبعت السيدة العجوز على الدرج إلى الطبقة الثانية، وكانت ركبتاي — ولا أكتم ذلك — ترتعدان، وفتحت الأم بابًا وقالت وهي تدخل الحجرة: اقتربي، إنه لن يشعر بك. فدنوت فإذا بي أرى قبالة الباب بحيث يتجه بصري عند دخولي فردريك نيتشه جالسًا على كرسي مائل إلى الوراء، فوقفت لحظة أتأمل تلك المعارف المسمرة من لفح الشمس البالغة في لطافتها على ما فيها من القوة، وأنظر إلى لحيته الغزيرة وأنفه الدقيق الأقنى وجبهته النبيلة. وكانت عيناه الواسعتان مصوبتين إليَّ بنظرة نافذة ملحة جادة، وكانت يداه الشاحبتان البديعتان مكتوفتين على صدره كأيدي الصور المنحوتة على المقابر القديمة. وقفت ثمة أرتجف من وقع نظرته التي كانت تنبعث إليَّ كأنما هي شعاع يومض من هاوية للألم والعذاب بعيدة القرار. ثم ارتخت عيناه بعد هنيهة وأغمضهما إغماضة خفيفة، فلم يبق باديًا منهما غير البياض يروغ تحت الأجفان المسدلة في عماية مخيفة.
ونادت أمه وكانت واقفة بجانبه: تعالي، فنظرت فإذا على ذلك الجبين الذي يحكي جبين الموتى خلجة مؤلمة تخفق عليه، وإذا بصوت يقول: «لا. لا يا أماه، كفى! كفى!» وكأنه يخرج من أعماق ضريح. وما كان في الدنيا من قدرة كانت تستطيع هنالك أن تسول لي إزعاج ذلك المناضل في سبيل الحق وهو في سكينته تلك يفنى على مهل. فتراجعت. ومضت برهة قبل أن تثوب إليَّ نفسي وأقوى على مفاتحة أمه بكلمة.»
وهكذا كانت خاتمة أيام هذا الداعية الناقم على الرحمة والرحماء، القائل أن ليس للضعفاء من معونة لدينا، إلا أن نهديهم إلى طريق الفناء، شاءت الأقدار أن ينفق من عمره المنغص المضطرب اثنتي عشرة سنة لا معول له فيها على شيء غير ما كان يحوطه من رأفة ذويه وأصحابه. ولسنا ندري كيف كان ينظر نيتشه إلى تلك الرأفة لو قدر له أن يتناول قلمه مرة أخرى ويكتب فلسفته من جديد: أكان ينظر إليها من جانب أنانيته فيحمدها ويزكيها، أم ينظر إليها من جانب فكره فيأسف لها ويشكوها؟ ولا ندري كذلك أيهما كان خيرًا له في الحقيقة: أن تزهقه القسوة لأول عام من مرضه، أم أن يثوي في قبضة المرض معذبًا ميئوسًا من صلاحه هذا الثواء الذي يمل فيه النعيم والدعة فضلًا عن المحنة والبلاء؟ تلك مسألة فيها نظر.
على أنه مما لا شك فيه أن الطبيعة لا تستغني عن فضيلة الرحمة، ولو كان يسعها أن تستغني عنها لما احتاجت إليها في أهم أغراضها، وهو حفظ النوع، فأودعت قلوب الوالدين هذه الرحمة الخالصة بالبنين.
تهويل المصلحين
معظم المصلحين — حتى الكبار منهم — لا يقدرون مناعة الإنسانية حق قدرها، ولا يحيطون بقوة قابليتها للتوليد والتشكل على حسب الأحوال، ولا يعرفون ذلك الينبوع الزاخر الذي منه استمدت وجودها، ومنه تستمد العون كلما تقطعت بها الأسباب وخيف عليها الهلاك، تلحظ جهل المصلحين هذا في شدة وجلهم على الإنسانية وهول إنذارهم لها كلما رأوا منها ما يحسبونه انحرافًا أبديًّا عن الصواب، أو شططًا بائنًا عن سبيل النجاة. وشكرًا لذلك التهويل منهم. فإنهم لو فطنوا إلى قوتها وصلابة عودها، وأن لها بنية على طول الزمن تهضم الأدواء، كما يهضم الشاب القوي وعكات الهواء لتبدلوا من غيرتهم تراخيًا، ومن غضبهم تغاضبًا. وأنى يكون لهم أن يفلحوا في دعوة خير بغير تلك الغيرة وذلك الغضب؟
بقلم: عباس محمود العقاد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر: الأفكار في أول أكتوبر سنة 1922م.
* نشر المقال بكتاب الفصول ل عباس محمود العقاد.
وسنقتصر فيما نورده هنا على خلاصة مما تصفحناه من مجلة أمريكية قديمة وقعت في أيدينا مصادفة، وهي مجلة أسبوعية ممتعة تقرأ في العدد الواحد منها ما لا تقرأه في مجلات مختلفة من طرف الأدب والعلم والفن، ويجمع لك ناشروها على سبعين صفحة أو قراب ذلك موضوعات بينها من الاختلاف والتنوع ما بين الكلام مثلًا على التصوير الياباني الحديث ووصف زيارة لنيتشه في مرضه، أو ما بين «توجيه دورة الحياة» ومقال في نقد المواطن الضعيفة من الأدب الأمريكي، أو ما بين «مشاهدات ماكس نوردو» في إسبانيا والنظر في مآل ألمانيا الجديدة. وهكذا ما ينشط النفس إلى القراءة، ويدفع عنها سآمة التشابه. وقد نكتفي بما نورده في هذا المقال، وقد نعود وقتًا بعد وقت إلى موضوعات أخرى إذا رأينا في العودة فائدة، وأبى القارئ إلا أن يشركنا في محصولنا كله.
أما حديثنا اليوم مع القارئ ففيم يظنه يكون؟ لا نخاله يجهل ما هو حري بأن يقع عليه اختيارنا لأول وهلة من بين هذه الموضوعات؛ إذ ماذا عسى أن يكون أدعى إلى السلوى والاعتبار من وصف مريض نابه كان في كتاباته من أشد الناس قسوة على المرضى، وكان في حياته من أحوج المرضى إلى العطف والرحمة؟ ذلك هو فردريك نيتشه المفكر الألماني الذي حارب المرض أعنف حرب حتى غلبه هذا العدو الغاشم فصرعه بعد أن قيده في أسره اثني عشر عامًا مجرمات من أعوام الجحيم، وبعد أن سلبه كل ما منحته الحياة والصحة، حتى فكره وقلمه الذي كان أمضى أسلحته في هذا العراك الوبيل.
وليس نيتشه بحاجة إلى التعريف — ولا سيما بعد الحرب الكبرى — فنُعرِّفه إلى القارئ، ولكنا نومئ إلى أسباب مرضه الذي لزمه هذا الزمن الطويل. وهي على الجملة سوء الهضم المزمن، وكد الذهن، وما كان يقاسيه من صراع عاصف في أعماق نفسه، ومن عنت ملتف بين أبناء قومه، وقد يضاف إلى ذلك أثر من الوراثة؛ إذ كان أبوه كما جاء في بعض الأسانيد مصابًا بمرض في الدماغ. وظلت هذه الأسباب تتعاوره حينًا حتى ألقته طليح آلامها، فخولط في عقله، ثم جُنَّ جنونًا مطبقًا وظهرت عليه دلائل هذا الجنون في أوائل سنة ١٨٩٩ عقيب نوبة عصبية. ومن ثم بقي مذهوب العقل منهوك الجسد، لا يفيق فترة حتى يتنكس ويعود إلى ما كان فيه أو إلى شر منه. ولبث على هذا الحال من الضنى والعذاب اثني عشر عامًا طوالًا، كان في أثنائها كالطفل الرضيع لا حول له ولا حيلة موكولًا إلى ما يشمله من حنان أمه وأخته وعطف الأصدقاء من مريديه والمعجبين به، حتى أدركه الموت براحته في أواخر شهر أغسطس من سنة ١٩٠٠ فقضى بذات الرئة، وكانت خاتمة علله.
والمقال الذي نشير إليه يصف زيارة قصيرة له في خلال هذا المرض، كتبته مؤلفة ألمانية معروفة في قومها اسمها جابرييل روتر، وهي كما قالت ممن اتخذوا نيتشه معبودًا أدبيًّا لهم. ولا يخلو من بعض العجب أن يكون لنيتشه عابدات بين النساء المطلعات، لما يعلمه قراؤه من سوء رأيه في المرأة وتعييره للمخدوعين بدعواها ودعاوى أنصارها. فقد كان يستصوب في كلامه عليها آراء الجامدين من الشرقيين، وكان يستكثر عليها الاشتغال بالعلم وطلب الحق، ويقول: «ما للمرأة وللحق؟ إنه من مبدأ الأمر لم يكن شيء أغرب عن طبعها، ولا أكره مذاقًا لديها، ولا أعدى لها من الحق. وإنما صناعة المرأة الكبرى التزييف، وهمها الأعظم الظهور والجمال»، وكان من قوله في موضع آخر: «إن الرجل الذي يجمع بين عمق الروح وعمق الشهوات، والذي فيه من الخير العميق ما هو أهل للقسوة والخشونة، وما يسهل اختلاطه بهاتين الخلتين لا يسعه أن يرى في المرأة إلا ما يراه الشرقيون، لا يسعه أن ينظر إليها إلا نظره إلى قينة مملوكة وحرز مدخر ومخلوق مقضي عليه بالخدمة وأداء واجبه بهذا الاعتبار. ولا مناص له من أن يتخذ موقفه في هذه المسألة من مرتقى الحكمة الآسيوية الزاخرة معتمدًا على تفوق ما في آسيا من بداهة … إلخ.»
فما الذي أعجب المؤلفة الذكية من هذه الآراء في بنات جنسها؟ أتراها شعرت في صميم وجدانها بصدق حكمه، فكان ذلك من بواعث إعجابها به؟
ولكن ترجمة نيتشه وفلسفته وحياته كثيرة المتناقضات، فليست هذه ولا غيرة تلميذاته الأخر على التبشير بفلسفته بأغربها وأدعاها إلى الدرس والتأمل. وكفى أنه هو نفسه ابن قسيس وامرأة متعبدة يشن الغارة على الدين ورجال الدين ويقول في النعي على عقيدة آبائه ما لم يقله أحد قبله. وإليك كلام المؤلفة الألمانية فيما وصفته من خلق أمه وسمتها: «وكانت أرملة القسيس لا تريك في بادي هيئتها أعوامها السبعين، ولا يتخلل شعرها الأسود أثر من الشيب، وقلَّ أن تلمح على جبينها القوي تغضن الأسارير. وكانت جالسة إلى مائدة للخياطة فاحمة اللون على مقربة من النافذة، وعلى النافذة لوحة مكتوب فيها هذه الآية: «إن الجبال تزول والهضاب تتحول، ولكن لا تزول عنك رحمتي ولا يتحول عنك عهد سلامي» وهي تذكار عطف أرسله إليها بعض الأصدقاء حين علموا بمرض ولدها الشديد. ولطالما استقرت على هذه الأسطر عينان غشتهما الدموع والتفت أمامها ذراعان مطويتان للصلاة!»
فكم من نقيضة في الحياة يقرؤها الفكر في هذه الكلمات القليلة! أم تناهز السبعين ولا تشيب، وولد تبرح به الأسقام في عنفوان الصبا، وعزاء تجده الأم في تلك الآية يخفف عنها ما يكرب نفسها من رزيئة ولدها، وقد أطار البحث في هذه الآية وأشباهها صواب الولد، وأقلق راحة نفسه وجسمه، ورمى به في ظلمة لا يغني عنده فيها إيمان ولا عزاء، والنفسان بعد أقرب ما تكون إحداهما إلى الأخرى!
ومما حدثتنا به الكاتبة أن هذه الأم الصبور كثيرًا ما خطر لها أن تلتمس الغفران في الدار الآخرة لولدها بإحراق مخطوطاته التي لم تُطبع. وكادت تفعل لولا أن ابنتها عادت إذ ذاك من أمريكا فألفت أمها على هذا العزم تهم بإبادة كل ما فيه خروج على الدين من تلك الكتب، فلقيت عناء كبيرًا في صرفها عن هذا العزم وأقنعتها بعد مشقة بترك هذه المخطوطات في صندوقها؛ لأن كتابة العبقري ليست بملك لأهله، ولكنها ملك العالم أجمع.
ثم تعود الكاتبة فتحار في اختلاف أهواء القلب الإنساني، وتعجب لزهو الأم بشهرة ولدها التي كانت تسوق إلى منزلها كثيرًا من الزوار المعجبين به. وما كانوا يعجبون من آرائه إلا بما كانت تود هي إحراقه ومحو آثاره!
أما الزيارة التي قصدت الكاتبة وصفها فقد جاءت اتفاقًا على غير انتظار، وكانت لا تطمع هي فيها ولا تطلبها؛ إذ كان المريض معزولًا وحده في حجرة منفردة لا يدخلها غير أمه وأخته والطبيب الذي يعالجه، ولا يسمح بالدنو منها لأحد غير هؤلاء. وكان لا يُسمع له صوت في المنزل غير ما يتردد بين حين وآخر من أنين خفيض مكتوم ينطلق منه على غير إرادة ولا شعور في معظم الأحيان. وسبب الزيارة أن أحد المصورين رغب في تصوير نيتشه في بعض فترات صحوه حيث كان يجلس ساعات طويلة تحت دالية من دوالي الحديقة الصغيرة. فأجيب إلى طلبه ولكنه لم يُوفَّق إلى إرضاء أم المريض ولا أخته، وجاءت أعراض السقم في الصورة أظهر مما أحبت تلك الأم المسكينة أن تراه على ملامح ولدها الذي انقطع الرجاء من شفائه، وكان لا يزال من أسباب العزاء لقلبها أنه على خطورة سقامه وثقل وطأته، كان فيما ترى من ظاهره مشرق الطلعة، وضَّاح الجبين، لا تشف سحنته عن داء كمين. فلما كملت الصورة أرادت أن تتحقق صديقتها بالمشاهدة خطأ المصور وتقصيره، فدعتها إلى زيارة حجرته.
قالت الكاتبة: «فتبعت السيدة العجوز على الدرج إلى الطبقة الثانية، وكانت ركبتاي — ولا أكتم ذلك — ترتعدان، وفتحت الأم بابًا وقالت وهي تدخل الحجرة: اقتربي، إنه لن يشعر بك. فدنوت فإذا بي أرى قبالة الباب بحيث يتجه بصري عند دخولي فردريك نيتشه جالسًا على كرسي مائل إلى الوراء، فوقفت لحظة أتأمل تلك المعارف المسمرة من لفح الشمس البالغة في لطافتها على ما فيها من القوة، وأنظر إلى لحيته الغزيرة وأنفه الدقيق الأقنى وجبهته النبيلة. وكانت عيناه الواسعتان مصوبتين إليَّ بنظرة نافذة ملحة جادة، وكانت يداه الشاحبتان البديعتان مكتوفتين على صدره كأيدي الصور المنحوتة على المقابر القديمة. وقفت ثمة أرتجف من وقع نظرته التي كانت تنبعث إليَّ كأنما هي شعاع يومض من هاوية للألم والعذاب بعيدة القرار. ثم ارتخت عيناه بعد هنيهة وأغمضهما إغماضة خفيفة، فلم يبق باديًا منهما غير البياض يروغ تحت الأجفان المسدلة في عماية مخيفة.
ونادت أمه وكانت واقفة بجانبه: تعالي، فنظرت فإذا على ذلك الجبين الذي يحكي جبين الموتى خلجة مؤلمة تخفق عليه، وإذا بصوت يقول: «لا. لا يا أماه، كفى! كفى!» وكأنه يخرج من أعماق ضريح. وما كان في الدنيا من قدرة كانت تستطيع هنالك أن تسول لي إزعاج ذلك المناضل في سبيل الحق وهو في سكينته تلك يفنى على مهل. فتراجعت. ومضت برهة قبل أن تثوب إليَّ نفسي وأقوى على مفاتحة أمه بكلمة.»
وهكذا كانت خاتمة أيام هذا الداعية الناقم على الرحمة والرحماء، القائل أن ليس للضعفاء من معونة لدينا، إلا أن نهديهم إلى طريق الفناء، شاءت الأقدار أن ينفق من عمره المنغص المضطرب اثنتي عشرة سنة لا معول له فيها على شيء غير ما كان يحوطه من رأفة ذويه وأصحابه. ولسنا ندري كيف كان ينظر نيتشه إلى تلك الرأفة لو قدر له أن يتناول قلمه مرة أخرى ويكتب فلسفته من جديد: أكان ينظر إليها من جانب أنانيته فيحمدها ويزكيها، أم ينظر إليها من جانب فكره فيأسف لها ويشكوها؟ ولا ندري كذلك أيهما كان خيرًا له في الحقيقة: أن تزهقه القسوة لأول عام من مرضه، أم أن يثوي في قبضة المرض معذبًا ميئوسًا من صلاحه هذا الثواء الذي يمل فيه النعيم والدعة فضلًا عن المحنة والبلاء؟ تلك مسألة فيها نظر.
على أنه مما لا شك فيه أن الطبيعة لا تستغني عن فضيلة الرحمة، ولو كان يسعها أن تستغني عنها لما احتاجت إليها في أهم أغراضها، وهو حفظ النوع، فأودعت قلوب الوالدين هذه الرحمة الخالصة بالبنين.
تهويل المصلحين
معظم المصلحين — حتى الكبار منهم — لا يقدرون مناعة الإنسانية حق قدرها، ولا يحيطون بقوة قابليتها للتوليد والتشكل على حسب الأحوال، ولا يعرفون ذلك الينبوع الزاخر الذي منه استمدت وجودها، ومنه تستمد العون كلما تقطعت بها الأسباب وخيف عليها الهلاك، تلحظ جهل المصلحين هذا في شدة وجلهم على الإنسانية وهول إنذارهم لها كلما رأوا منها ما يحسبونه انحرافًا أبديًّا عن الصواب، أو شططًا بائنًا عن سبيل النجاة. وشكرًا لذلك التهويل منهم. فإنهم لو فطنوا إلى قوتها وصلابة عودها، وأن لها بنية على طول الزمن تهضم الأدواء، كما يهضم الشاب القوي وعكات الهواء لتبدلوا من غيرتهم تراخيًا، ومن غضبهم تغاضبًا. وأنى يكون لهم أن يفلحوا في دعوة خير بغير تلك الغيرة وذلك الغضب؟
بقلم: عباس محمود العقاد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر: الأفكار في أول أكتوبر سنة 1922م.
* نشر المقال بكتاب الفصول ل عباس محمود العقاد.