أثناء حرب يونيو سنة 1967 تطوعت مع عدد من الأطباء للذهاب إلى منطقة القتال بهدف المساهمة في تنظيم الطوارئ الطبية . ومنذ أسابيع قليلة بعد أن عدت من أمريكا لقضاء الإجازة الصيفية في القاهرة أخذت أقلب في أوراقي القديمة. وجدت بعض المذكرات التي كتبتها عما حدث في تلك الأيام ، فأرسلت جزءا منها إلى رئيس تحرير جريدة الأهالي ، لعله يجد فيها ما يمكن نشره بعد مرور ثمان وعشرين سنة على ما نسميه نكسة 1967.
****
السـيـارة تسرع على الطريق. الرياح الساخنة تزأر في أذني، وشريط الأسفلت يتلوى أمامي كالثعبان الأسود. السائق صامت جامد كالتمثال لا يتحرك ، إلا ليمسح العرق من على جبينه. عيناه على الطريق، وعنقه منتصب. تعـود أن تحمل سيارته أصحاب السلطة، فلما جاءته الأوامر من مكتب الوزير بالسفر معي إلى بورسعيد ، ظن أننى لابد أن أكون واحدا منهم ، كما هو الحال مع كل الراكبين فيها. عندما هبطت على سلالم وزارة الصحة في ذلك الصباح فتح لي الباب الخلفي للسيارة وقال:
" اتفضل يا فندم " .
" متشكر سأركب في المقعد الأمامي إلى جوارك ".
جلست. أغلق الباب ناحيتي، ودار حول السيارة ليأخذ مكانه.
سرنا فى اتجاه میدان رمسیس، سألته :
" ما أسمك؟ " .
" قال فؤاد يا فندم".
قلت :
" اسمى الدكتور شريف " .
لمحت شبح ابتسامة تحت الشارب .
"من أين أنت يا فؤاد ؟ " .
" من الكنال ".
نصرخ حتى يعلو صوتنا فوق زئير الريح. بعد قليل أغلقت جفوني. رحت في سبات نصف يقظ، نصف نائم.
مرت ست عشرة سنة منذ أن حملتني سيارة أخرى مشابهة على هذا الطريق ، هاربا من السجن إلى بورسعيد. أغوص في ذكريات الرحلة السابقة ، ثم أعود فجأة إلى صوت السائق المتوتر. انظر انظر يا دكتور، اليهود على الصفة الثانية .
يشير بحركة خفيفة من رأسه ، كأنه لا يريد أن يلفت النظر. التفتت. رأيتهم يرتدون الخوذات، ويتحركون كالحشرات قرب كثبان الرمل. أهؤلاء هم الأعداء الذين نتـحـدث عنهم ؟ . لا أشعر نـحـوهم بشئ ، ربما لأننى لا أرى وجوههم.
أفحصهم كأنهم كائنات غريبة جاءت إلينا فجأة من كوكب آخر. لكن عندي شعور بخطر غامض يتهددني، برصاصة قد تنطلق منهم، أو قذيفة مدفع. علمهم يرفرف في اطمئنان كسول على الضفة الأخرى. أتطلع إلى النجمة الزرقاء على سطح أبيض . أتتبعهم يتـحـركـون كالخنافس من حوله. ألمح يدى السائق تلتفان حول عجلة القيادة في توتر. تبرز مفاصلها شاحبة تحت جلد الأصابع الأسمر، كأنه يكتم خوفه، أو الغضب الذي استولى عليه. فهو من منطقة الكنال. إنهم يدوسون بأحذيتهم العسكرية على أرضه. أما أنا فأستطيع أن أضع بيني وبينهم مسافة للتأمل. التفت ناحيتهم من جـديـد. انظر من طرف عينـي كـأنني أخشى أن يلاحظوني وأنا أحملق ناحيتهم، فيعقدون بيني وبينهم صلة العداوة القائمة. أدرك فجأة أنهم على مرمى البصر ، لا تفصلني عنهم مسافة لا تزيد على مائتي متر. أشعر بعيونهم تختفى وسط تلال الرمل، بعيون الجندوالبنادق ، تراقبني صيدا سهلا ينطلق فوق الطريق المكشوف. إصبع واحد يضغط على الزناد يمكن أن يحمل إلينا الموت. مال ناحيتي السائق وقال :
" سأسرع ... الطريق مكشوف" .
قفزت السيارة إلى الأمام، وقفز معها مؤشر السرعة إلى مائة وثلاثين كيلو مترا. جنود العدو على الشاطئ الآخر فأين جنودنا ؟ . طوال الطريق لم أشاهد جنديا واحدا كأنهم ذابوا، أو ابتلعتهم الأرض. أبطأت السيارة ، كأن السائق لمح شيئا يعترض الطريق فدق قلبي . رأيت صفا من السيارات، اقتربنا منها. بعضها ما زال يحترق. السنة النيران الحمراء تصعد وسط دخان أسود كثيف ، وأتوبيس تحول إلى هيكل من الحديد. كالضلوع تتلوى وبينها فجوات كالأفواه تصرخ. على الرمال إلى جانب الطريق مقعد سيارة انقلب على ظهره ، وحقيبة نصف مفتوحة يطل منها سروال، وجثة مفحمة أسنانها البيضاء تضحك .
سمعت صوت السائق يقول :
" ضربتها الطائرات الإسرائيلية بالمدفع".
سألته :
" أكنت بالجيش ؟ " .
قال :
" نعم" .
وصلنا بورسعيد. المدينة تبـدو مـهـجـورة. رجل عـجـوز جالس على الرصيف، وامرأة تغسل جلبابها تحت الصنبور. الغـيـوم تحلق في الجـو،ورائحة حريق. أو ربما هو خيالي عادت إليه صور الطريق. الشوارع خالية. بعض الجنود يقفون بالبنادق أمام الأسلاك الشائكة، ومواسير المدافع تتجه إلى السماء، وتحملق نحوها. شال أسود على كتفين منحنينين يتقدم، وخلف الشبح الأنثوى حجرة تكشف عن أحشائها. سرير من النحاس وصندوق من الخشب، ولحاف، ولمبة مكسورة تتدلى من بقايا السقف، كالمسرح تركه الممثلون فجأة. توقفت السيارة أمام مديرية الصحة. التفت إلى السائق، وقلت :
" ابحث عن مكان تأكل فـيـه لقمة، وعد بسرعة ". قال : " لن أتأخر ". وهبطت من السيارة مسرعا.
****
النافذة مفتوحة وضجيج المرور في شارع مراد أسفل الشقة لا يكف لحظة. نجلس أنا ونوال في حجرة المكتب. جاءني رنين التليفون في الصالة فقمت. صوت الدكتور ابراهيم الشربيني في أذني يزعق ، كأنه يتحدث في حجرة مزدحمة بالناس، أسمع أصواتهم خلفه.
" آلو دكتور شريف. مساء الخير. الرئيس سيلقى بيانا مهما في الساعة السابعة والنصف. أقترح أن نجتمع في الوزارة لنسمعه ".
" أين سنجتمع؟ ".
" في حجرة الوكيل عبد الوهاب شكري".
غرفة عبد الوهاب شكري فخمة تمتد بالطول والعرض. عندما دخلنا إليها من الباب المبطن بالجوخ الأخضر ، وجدنا جهازا للتليفزيون ينتصب أمامنا على المكتب. جلس المجتمعون على صفوف المقاعد وضعت خلف بعضها. الجو فيه قلق، وتوتر. أسمع أصواتا تهمس. جاء عدد كبير من الأطباء الذين عملوا سويا في النقابة، أو الوزارة أو في مجالات أخرى.
في الصف الأمامي يجلس الوكيل الأول عبد الوهاب شكرى، وإلى جواره مستشار الوزير لشئون التخطيط الطبى. يرتدى سترة أنيقة ورباط عنق ويضع سقا فوق ساق ، كأنه جاء لاجتماع عادی دعى إليه، فحضر لتنفيذ ما قد يُطلب منه .
جلسنا نوال وأنا ، في أخر صف. أضىء جهاز التليفزيون وانتظرنا. موسيقى عسكرية، وعلى الشاشة حبات رمادية اللون تنذبذب بسرعة. لا أحد يتكلم. نترقب . ثم في لحظة نرى وجه عبد الناصر يظهر وهو جالس على مقعد. عيناه الواسعتان حولهما دائرتان من سواد عميق، والوجه متعب فيه انكسار، وحزن، كالأسد القوى غلب على أمره. ولكن حتى في هذه اللحظة، أو ربما في هذه اللحظة بالذات شئ يشدنا إليه. المحنة التي تجمع ، الأيام المضيئة، والأيام المظلمة. مشوار سرنا فيه سويا منذ بداية الثورة .
جسمه الكبير ينوء الآن تحت الحمل، تحت وطأة الكارثة. صوته هادئ يشرح، يهتز قليلا في لحظة. ولكنه خال من الانفعال كأن شيئا أرهقه، واعتصره حتى آخر قطرة ، فلم يعد قادرا على الانفعال إزاء ما أصابنا. ضمن كلامه يقدم مبررات للهزيمة التي ألحقت بجيوشنا. جاءت طائرات من الغرب. أو السفير السوفيتي نصحنا ألا نكون البادئين بالهجوم عليهم. أشعر بلحظة من الضيق. أهذا وقـتـه ؟ . ماذا سنفعل الآن إزاء الكارثة ؟. فجأة رنت الكلمات في الحجرة . أتحمل المسئولية وحدي. قررت أن أتنحى عن الحكم، أن أصبح مواطنا عاديا أعمل في الاتحاد الاشتراكي، فنحن نحتاج الآن إلى منْ هو أقدر على التفاهم معهم. أفسح الطريق لمنْ سيأتى حتى يتولى القيادة في هذه الظروف الصعبة.
أطفئت الشاشة. سادت لحظة طويلة من الصمت، من الذهول. الناس جامدون في مكانهم كأنه سقطت عليهم صاعقة. أسمع صوت رجل يبكي. أتلفت فجأة. ارتفع ضجيج الأصوات. أزيحت المقاعد إلى الخلف وسقطت بعضها على الأرض. أصبحنا نتحرك هنا وهناك دون هدف. انطلقت لأسئلة تكاد تصرخ، يتنحی ؟! كيف ؟! أشعر بالناس من حولي يترنحون تحت الضربة. يتصايحون دون أن يكون للصياح معنى. أحدهم يدورفى الحجرة ويقول ازاى، ازای كأنه يحدث نفسه .
سمعت صوتا يصرخ فوق الضجيج فالتفت. أمين الاتحاد الاشتراكي يقف على منضدة ويصيح بأعلى صوته: " أرجوكم، أرجوكم الهدوء اسمعوني عيناه تذبذبان في جنون، ورذاذ من اللعاب يتطاير من بين شفتيه وهو يردد الهدوء .. الهدوء .. الهدوء ... انتظروا هنا .. لا تنصرفوا سأذهب إلى الاتحاد الاشتراكي فورا لأخذ التعليمات وأعود إليكم ".
قفزت على المنضدة إلى جواره ، ودون أن أفكرصرخت : " إلى الشارع .. . إلى الشارع.. عبد الناصر..عبد الناصر.. الرجعية لن تمر.. ناصر، ناصر".
اندفع السيل من الأبواب هابطا على السلالم. ملأ الحـوش وأنصب في الشارع. مئات الأطباء والموظفون كانوا في الوزارة. مئات انضمت إلى الآلاف ، سبقتنا إلى الشارع. جموع تسير في صمت. أنهار من البشر تسير في كل شارع، وتتلاقي. تتجه إلى ميدان التحرير في صمت، تجتازه، فالطريق معروف لا يحتاج إلى كلام. إلى المنشية. إلى بيت عبدالناصر. كأن هناك اتفاقا سابقا لم تعلن عنه. نمشى صفوفا الأذرع متشابكة. ذراع نوال في ذراعي، وعلى الجانب الآخر"عبد الغفار خلاف" يمسك بي. أشعر بأصابعه تلتف حول ذراعي كأنها معلقة على طوق للنجاة. أحبه هذه الليلة. أحب كل هؤلاء الناس. نسير على موجة عارمة. ننسى كل شئ. لا أرى الوجوه، أو الأجسام ولا الملامح، ولا العيون. العاصمة تغط في ليل بلا نور ، لا أرى شيئا في الظلام الحالك، لكننا نرى جميعا شيئا واحدا، ونسمع صوتا واحدا يهز الليل ، ناصر، ناصر، ناصر ، ثم يتلاشي فلا أسمع سوى آلاف الأقدام ، ملايين الأقدام ، كالبحر يهمس. من حين لآخر أصوات تقول: على مهلكم. احذروا سيارة آتية. اتجـهـوا إلى اليمين فألمح كـوردونا من الشباب يحيطي بجمع من الفتيات ليحيمهن.
توقعنا أمام محل لعصير الفواكه. قالت نوال عطشانة. أخذنا كوبين من عصير القصب ،ثم كوبين آخرين. لمحت رجلا يقف إلى جوارنا جلبابه قديم، وعيناه تطلان من بين جفون ملتهبة ذابت رموشها. وجه شاب عجوز لمحته في ضوء المحل وهو يقول : " اديني شوية ميه يا عم ".
مددت يدي إليه بكوب من العصير ، وقلت : " خذ اشرب عصير معانا يا عم " . أخذها. سألته:
" انت منين يا عم ؟ ".
قال : " من البدرشين".
" ازاى؟ ".
" شوية ركوب ، وشوية مشى لحد ما ربك سهلها ".
" كل المسافة دى. ليه؟ ".
لحظة صمت كأنه يفكر .. ثم قال :
" اللي خدناه في عهد عبد الناصر حيروح منا إذا مشى هوا ".
عدنا إلى منزلنا قرب الفجر. فتحت الباب بحرص. أستمع إلى أنفاس الطفلين الهادئة . جلسنا في حجرة المكتب. النوافذ مفتوحة يأتينا منها صوت الهتاف .
" ناصر .. ناصر. ناصر بس .. ناصر ريس .. ناصر بس ".
أدركت وأنا أطل على الجموع تتدفق ، أن ناصرا في تلك الليلة لم يكن فردا.
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
شريف حتاتة
الحوار المتمدن-العدد: 7215 - 2022 / 4 / 11
****
السـيـارة تسرع على الطريق. الرياح الساخنة تزأر في أذني، وشريط الأسفلت يتلوى أمامي كالثعبان الأسود. السائق صامت جامد كالتمثال لا يتحرك ، إلا ليمسح العرق من على جبينه. عيناه على الطريق، وعنقه منتصب. تعـود أن تحمل سيارته أصحاب السلطة، فلما جاءته الأوامر من مكتب الوزير بالسفر معي إلى بورسعيد ، ظن أننى لابد أن أكون واحدا منهم ، كما هو الحال مع كل الراكبين فيها. عندما هبطت على سلالم وزارة الصحة في ذلك الصباح فتح لي الباب الخلفي للسيارة وقال:
" اتفضل يا فندم " .
" متشكر سأركب في المقعد الأمامي إلى جوارك ".
جلست. أغلق الباب ناحيتي، ودار حول السيارة ليأخذ مكانه.
سرنا فى اتجاه میدان رمسیس، سألته :
" ما أسمك؟ " .
" قال فؤاد يا فندم".
قلت :
" اسمى الدكتور شريف " .
لمحت شبح ابتسامة تحت الشارب .
"من أين أنت يا فؤاد ؟ " .
" من الكنال ".
نصرخ حتى يعلو صوتنا فوق زئير الريح. بعد قليل أغلقت جفوني. رحت في سبات نصف يقظ، نصف نائم.
مرت ست عشرة سنة منذ أن حملتني سيارة أخرى مشابهة على هذا الطريق ، هاربا من السجن إلى بورسعيد. أغوص في ذكريات الرحلة السابقة ، ثم أعود فجأة إلى صوت السائق المتوتر. انظر انظر يا دكتور، اليهود على الصفة الثانية .
يشير بحركة خفيفة من رأسه ، كأنه لا يريد أن يلفت النظر. التفتت. رأيتهم يرتدون الخوذات، ويتحركون كالحشرات قرب كثبان الرمل. أهؤلاء هم الأعداء الذين نتـحـدث عنهم ؟ . لا أشعر نـحـوهم بشئ ، ربما لأننى لا أرى وجوههم.
أفحصهم كأنهم كائنات غريبة جاءت إلينا فجأة من كوكب آخر. لكن عندي شعور بخطر غامض يتهددني، برصاصة قد تنطلق منهم، أو قذيفة مدفع. علمهم يرفرف في اطمئنان كسول على الضفة الأخرى. أتطلع إلى النجمة الزرقاء على سطح أبيض . أتتبعهم يتـحـركـون كالخنافس من حوله. ألمح يدى السائق تلتفان حول عجلة القيادة في توتر. تبرز مفاصلها شاحبة تحت جلد الأصابع الأسمر، كأنه يكتم خوفه، أو الغضب الذي استولى عليه. فهو من منطقة الكنال. إنهم يدوسون بأحذيتهم العسكرية على أرضه. أما أنا فأستطيع أن أضع بيني وبينهم مسافة للتأمل. التفت ناحيتهم من جـديـد. انظر من طرف عينـي كـأنني أخشى أن يلاحظوني وأنا أحملق ناحيتهم، فيعقدون بيني وبينهم صلة العداوة القائمة. أدرك فجأة أنهم على مرمى البصر ، لا تفصلني عنهم مسافة لا تزيد على مائتي متر. أشعر بعيونهم تختفى وسط تلال الرمل، بعيون الجندوالبنادق ، تراقبني صيدا سهلا ينطلق فوق الطريق المكشوف. إصبع واحد يضغط على الزناد يمكن أن يحمل إلينا الموت. مال ناحيتي السائق وقال :
" سأسرع ... الطريق مكشوف" .
قفزت السيارة إلى الأمام، وقفز معها مؤشر السرعة إلى مائة وثلاثين كيلو مترا. جنود العدو على الشاطئ الآخر فأين جنودنا ؟ . طوال الطريق لم أشاهد جنديا واحدا كأنهم ذابوا، أو ابتلعتهم الأرض. أبطأت السيارة ، كأن السائق لمح شيئا يعترض الطريق فدق قلبي . رأيت صفا من السيارات، اقتربنا منها. بعضها ما زال يحترق. السنة النيران الحمراء تصعد وسط دخان أسود كثيف ، وأتوبيس تحول إلى هيكل من الحديد. كالضلوع تتلوى وبينها فجوات كالأفواه تصرخ. على الرمال إلى جانب الطريق مقعد سيارة انقلب على ظهره ، وحقيبة نصف مفتوحة يطل منها سروال، وجثة مفحمة أسنانها البيضاء تضحك .
سمعت صوت السائق يقول :
" ضربتها الطائرات الإسرائيلية بالمدفع".
سألته :
" أكنت بالجيش ؟ " .
قال :
" نعم" .
وصلنا بورسعيد. المدينة تبـدو مـهـجـورة. رجل عـجـوز جالس على الرصيف، وامرأة تغسل جلبابها تحت الصنبور. الغـيـوم تحلق في الجـو،ورائحة حريق. أو ربما هو خيالي عادت إليه صور الطريق. الشوارع خالية. بعض الجنود يقفون بالبنادق أمام الأسلاك الشائكة، ومواسير المدافع تتجه إلى السماء، وتحملق نحوها. شال أسود على كتفين منحنينين يتقدم، وخلف الشبح الأنثوى حجرة تكشف عن أحشائها. سرير من النحاس وصندوق من الخشب، ولحاف، ولمبة مكسورة تتدلى من بقايا السقف، كالمسرح تركه الممثلون فجأة. توقفت السيارة أمام مديرية الصحة. التفت إلى السائق، وقلت :
" ابحث عن مكان تأكل فـيـه لقمة، وعد بسرعة ". قال : " لن أتأخر ". وهبطت من السيارة مسرعا.
****
النافذة مفتوحة وضجيج المرور في شارع مراد أسفل الشقة لا يكف لحظة. نجلس أنا ونوال في حجرة المكتب. جاءني رنين التليفون في الصالة فقمت. صوت الدكتور ابراهيم الشربيني في أذني يزعق ، كأنه يتحدث في حجرة مزدحمة بالناس، أسمع أصواتهم خلفه.
" آلو دكتور شريف. مساء الخير. الرئيس سيلقى بيانا مهما في الساعة السابعة والنصف. أقترح أن نجتمع في الوزارة لنسمعه ".
" أين سنجتمع؟ ".
" في حجرة الوكيل عبد الوهاب شكري".
غرفة عبد الوهاب شكري فخمة تمتد بالطول والعرض. عندما دخلنا إليها من الباب المبطن بالجوخ الأخضر ، وجدنا جهازا للتليفزيون ينتصب أمامنا على المكتب. جلس المجتمعون على صفوف المقاعد وضعت خلف بعضها. الجو فيه قلق، وتوتر. أسمع أصواتا تهمس. جاء عدد كبير من الأطباء الذين عملوا سويا في النقابة، أو الوزارة أو في مجالات أخرى.
في الصف الأمامي يجلس الوكيل الأول عبد الوهاب شكرى، وإلى جواره مستشار الوزير لشئون التخطيط الطبى. يرتدى سترة أنيقة ورباط عنق ويضع سقا فوق ساق ، كأنه جاء لاجتماع عادی دعى إليه، فحضر لتنفيذ ما قد يُطلب منه .
جلسنا نوال وأنا ، في أخر صف. أضىء جهاز التليفزيون وانتظرنا. موسيقى عسكرية، وعلى الشاشة حبات رمادية اللون تنذبذب بسرعة. لا أحد يتكلم. نترقب . ثم في لحظة نرى وجه عبد الناصر يظهر وهو جالس على مقعد. عيناه الواسعتان حولهما دائرتان من سواد عميق، والوجه متعب فيه انكسار، وحزن، كالأسد القوى غلب على أمره. ولكن حتى في هذه اللحظة، أو ربما في هذه اللحظة بالذات شئ يشدنا إليه. المحنة التي تجمع ، الأيام المضيئة، والأيام المظلمة. مشوار سرنا فيه سويا منذ بداية الثورة .
جسمه الكبير ينوء الآن تحت الحمل، تحت وطأة الكارثة. صوته هادئ يشرح، يهتز قليلا في لحظة. ولكنه خال من الانفعال كأن شيئا أرهقه، واعتصره حتى آخر قطرة ، فلم يعد قادرا على الانفعال إزاء ما أصابنا. ضمن كلامه يقدم مبررات للهزيمة التي ألحقت بجيوشنا. جاءت طائرات من الغرب. أو السفير السوفيتي نصحنا ألا نكون البادئين بالهجوم عليهم. أشعر بلحظة من الضيق. أهذا وقـتـه ؟ . ماذا سنفعل الآن إزاء الكارثة ؟. فجأة رنت الكلمات في الحجرة . أتحمل المسئولية وحدي. قررت أن أتنحى عن الحكم، أن أصبح مواطنا عاديا أعمل في الاتحاد الاشتراكي، فنحن نحتاج الآن إلى منْ هو أقدر على التفاهم معهم. أفسح الطريق لمنْ سيأتى حتى يتولى القيادة في هذه الظروف الصعبة.
أطفئت الشاشة. سادت لحظة طويلة من الصمت، من الذهول. الناس جامدون في مكانهم كأنه سقطت عليهم صاعقة. أسمع صوت رجل يبكي. أتلفت فجأة. ارتفع ضجيج الأصوات. أزيحت المقاعد إلى الخلف وسقطت بعضها على الأرض. أصبحنا نتحرك هنا وهناك دون هدف. انطلقت لأسئلة تكاد تصرخ، يتنحی ؟! كيف ؟! أشعر بالناس من حولي يترنحون تحت الضربة. يتصايحون دون أن يكون للصياح معنى. أحدهم يدورفى الحجرة ويقول ازاى، ازای كأنه يحدث نفسه .
سمعت صوتا يصرخ فوق الضجيج فالتفت. أمين الاتحاد الاشتراكي يقف على منضدة ويصيح بأعلى صوته: " أرجوكم، أرجوكم الهدوء اسمعوني عيناه تذبذبان في جنون، ورذاذ من اللعاب يتطاير من بين شفتيه وهو يردد الهدوء .. الهدوء .. الهدوء ... انتظروا هنا .. لا تنصرفوا سأذهب إلى الاتحاد الاشتراكي فورا لأخذ التعليمات وأعود إليكم ".
قفزت على المنضدة إلى جواره ، ودون أن أفكرصرخت : " إلى الشارع .. . إلى الشارع.. عبد الناصر..عبد الناصر.. الرجعية لن تمر.. ناصر، ناصر".
اندفع السيل من الأبواب هابطا على السلالم. ملأ الحـوش وأنصب في الشارع. مئات الأطباء والموظفون كانوا في الوزارة. مئات انضمت إلى الآلاف ، سبقتنا إلى الشارع. جموع تسير في صمت. أنهار من البشر تسير في كل شارع، وتتلاقي. تتجه إلى ميدان التحرير في صمت، تجتازه، فالطريق معروف لا يحتاج إلى كلام. إلى المنشية. إلى بيت عبدالناصر. كأن هناك اتفاقا سابقا لم تعلن عنه. نمشى صفوفا الأذرع متشابكة. ذراع نوال في ذراعي، وعلى الجانب الآخر"عبد الغفار خلاف" يمسك بي. أشعر بأصابعه تلتف حول ذراعي كأنها معلقة على طوق للنجاة. أحبه هذه الليلة. أحب كل هؤلاء الناس. نسير على موجة عارمة. ننسى كل شئ. لا أرى الوجوه، أو الأجسام ولا الملامح، ولا العيون. العاصمة تغط في ليل بلا نور ، لا أرى شيئا في الظلام الحالك، لكننا نرى جميعا شيئا واحدا، ونسمع صوتا واحدا يهز الليل ، ناصر، ناصر، ناصر ، ثم يتلاشي فلا أسمع سوى آلاف الأقدام ، ملايين الأقدام ، كالبحر يهمس. من حين لآخر أصوات تقول: على مهلكم. احذروا سيارة آتية. اتجـهـوا إلى اليمين فألمح كـوردونا من الشباب يحيطي بجمع من الفتيات ليحيمهن.
توقعنا أمام محل لعصير الفواكه. قالت نوال عطشانة. أخذنا كوبين من عصير القصب ،ثم كوبين آخرين. لمحت رجلا يقف إلى جوارنا جلبابه قديم، وعيناه تطلان من بين جفون ملتهبة ذابت رموشها. وجه شاب عجوز لمحته في ضوء المحل وهو يقول : " اديني شوية ميه يا عم ".
مددت يدي إليه بكوب من العصير ، وقلت : " خذ اشرب عصير معانا يا عم " . أخذها. سألته:
" انت منين يا عم ؟ ".
قال : " من البدرشين".
" ازاى؟ ".
" شوية ركوب ، وشوية مشى لحد ما ربك سهلها ".
" كل المسافة دى. ليه؟ ".
لحظة صمت كأنه يفكر .. ثم قال :
" اللي خدناه في عهد عبد الناصر حيروح منا إذا مشى هوا ".
عدنا إلى منزلنا قرب الفجر. فتحت الباب بحرص. أستمع إلى أنفاس الطفلين الهادئة . جلسنا في حجرة المكتب. النوافذ مفتوحة يأتينا منها صوت الهتاف .
" ناصر .. ناصر. ناصر بس .. ناصر ريس .. ناصر بس ".
أدركت وأنا أطل على الجموع تتدفق ، أن ناصرا في تلك الليلة لم يكن فردا.
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
شريف حتاتة
الحوار المتمدن-العدد: 7215 - 2022 / 4 / 11