مناجاة - منتصر القفاش
نشر في روزاليوسف اليومية يوم 01 - 12 - 2010
وكنت إذا دخلت هذه الغرفة أتوقع سماع الصوت. شخص ما يناجي حبيبته ويطالبها بأن تأتي سريعا فقد تعب من الانتظار وكاد يجن. خمس دقائق هي عمر المفاجأة، ولا يذكر الصوت اسم حبيبته ولا سبب ابتعادها عنه يلح فقط علي أن ترجع وتطفئ نار الشوق الذي يكويه، وأن تعيد الفرحة إلي حياته وتبدد الظلمة التي صار يتخبط فيها. لكنني أحيانا كنت أدخل وأظل وقتا طويلا دون سماع شيء فعرفت أنه يختار اللحظة التي ينبعث فيها دون أن استطيع تحديد موعدها.
كان ينبعث مرة في الأسبوع، وأحيانا مرتين وقد تمر أسابيع دون أن أسمعه لكنني لاحظت أن أكثر المرات كانت في الليل. فكرت بالطبع في احتمال انبعاثه وأنا لست موجودا لكنني غير قادر علي معرفة هذا مادمت الوحيد الذي يسمعه، ولا يوجد شريك يساعدني علي التحقق من الأمر. كما أنني لا استطيع البقاء في الغرفة طول الوقت، لا تتغير كلمة في المناجاة الكلمات نفسها يؤديها الصوت حريصا علي نطق كل منها بوضوح وببطء تتخللها حشرجة سرعان ما تصير بكاء يحاول الصوت التغلب عليه بنطق الكلمات بقوة أكبر. أول مرة سمعته كانت بعد انتهائي من مكالمة مع صديق. لم نقل فيها شيئا جديدا أو غريبا.
الحوار نفسه عن عدم وجود شغل والتحدث عن أصدقائنا الذين عملوا ويشتكون دائما من قلة روابتهم، ظللت جالسا بعد المكالمة في مكاني أفكر في الخروج لأتمشي قليلا كعادتي عندما يزداد ضيقي من عدم وضوح ما سأفعله في المستقبل. أول كلمة سمعتها «يا حياتي» توهمت أنني قلتها دون أن انتبه. ودون أن أحسب حسابا لسخرية أخي، لم أسأل أحدا في البيت، فمادام لم يسارع أحد بالدخول ما إن ينبعث هذا الصوت فهذا يعني أنني فقط الذي أسمعه. خاصة أنني أترك الباب مفتوحا كل مرة، ولم يلفت انتباه أحد وهو يمر جوار الغرفة جلوسي محدقا في الفراغ منصتا للصوت بل اندفعت يوما بينما المناجاة تملأ الغرفة وسألت أخي الجالس في الصالة «سامع؟» فظن أنني أطالبه بأن يخفض صوت التليفزيون فصرخ في «الصوت كده كويس» لم يكن الصوت ينبعث في أية غرفة أخري.
ولاحظت أنه يأتيني عندما أكون بمفردي ولم يتصادف أبدا دخول وأنا أصغي له حتي ظننت الصوت يمنع دخول أي إنسان أثناء انفراده بي.
جربت الخروج فوجدت الصوت ينقطع ما إن أخطو خطوة واحدة الغرفة ولا تكتمل المناجاة حتي لو رجعت بسرعة. فعرفت أن استمرار الصوت رهن ببقائي في الغرفة طول مدة المناجأة بالطبع ظننت أنه ينبعث من داخلي فسددت أذني بيدي فانقطع الصوت وعندما أبعدت يدي وجدته مازال مسترسلا في المناجاة.
سجلت الصوت واطمأننت علي أن المسجل يعمل لكن عندما أعدت تشغيله وجدته لم يسجل سوي سعالي المفاجئ كررت التسجيل بعد أيام ظننت فيها أنه لن يأتيني مرة أخري فلم أسجل هذه المرة سوي صوت أخي وهو يتحدث في التليفون.
كلما سرحت في أنني لم أناج أحدًا بمثل هذه الطريقة شعرت بالضيق، ليس بسبب رغبتي في فعل هذا بل لأن تكرار الصوت يرغمني علي سماع شخص هو نقيض لي. شخص لا يمكن أن أصادقه ولا يرد في بالي إلا كمثال علي ما أرفضه. كما أن ضيقي لشعوري بأنني صرت معتادا علي الصوت وانتظر أن يتكرر فلا يمكن الشعور بالملل من تكرار شيء لا تعرف كيف أو لماذا يتكرر. وفي كل مرة ينبعث فيها أنتظر حدوث شيء جديد أو أظن أنني سأنتبه لشيء غفلت عنه.
فكرت في أن هناك خطأ ما. فإذا كان لابد أن يأتيني صوت فيجب أن يكون شيئا أحب سماعه في حياتي العادية، ولا يكون شيئا غريبا عني. لكن التفكير في الخطأ يعني امكانية تصحيحه وإرسال صوت آخر يناسبني، كما يعني قبولي باستمرار الصوت بشرط أن يكون كما أرغب. لكن سماعي لشيء أحبه لن يدفعني للحيرة أنا فيها الآن.
بالكثير كنت سأندهش من انبعاث الصوت ومع مرور الأيام ستخفت هذه الدهشة. وأركن إلي أن ما أحبه فاض عن كل الحدود وصار يعلن عن نفسه بطريقته. وإذا كان للصوت ميزة - حتي الآن - فهي أن سبب اختياره لي غير واضح معتاد أن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. خاصة عندما ننتظر شيئا ثم نجد شيئا آخر يأتينا غير متوقع. قد يقال إن ما لا تتوقعه قد يكون الأفضل لك. سمعت هذا الرأي كثيرا لدرجة إنني اقتنعت أنه لا يأتينا إلا ما لا ننتظره. وكأن أمنيتنا بحدوث شيء علامة علي أنه لا يحدث
نشر في روزاليوسف اليومية يوم 01 - 12 - 2010
وكنت إذا دخلت هذه الغرفة أتوقع سماع الصوت. شخص ما يناجي حبيبته ويطالبها بأن تأتي سريعا فقد تعب من الانتظار وكاد يجن. خمس دقائق هي عمر المفاجأة، ولا يذكر الصوت اسم حبيبته ولا سبب ابتعادها عنه يلح فقط علي أن ترجع وتطفئ نار الشوق الذي يكويه، وأن تعيد الفرحة إلي حياته وتبدد الظلمة التي صار يتخبط فيها. لكنني أحيانا كنت أدخل وأظل وقتا طويلا دون سماع شيء فعرفت أنه يختار اللحظة التي ينبعث فيها دون أن استطيع تحديد موعدها.
كان ينبعث مرة في الأسبوع، وأحيانا مرتين وقد تمر أسابيع دون أن أسمعه لكنني لاحظت أن أكثر المرات كانت في الليل. فكرت بالطبع في احتمال انبعاثه وأنا لست موجودا لكنني غير قادر علي معرفة هذا مادمت الوحيد الذي يسمعه، ولا يوجد شريك يساعدني علي التحقق من الأمر. كما أنني لا استطيع البقاء في الغرفة طول الوقت، لا تتغير كلمة في المناجاة الكلمات نفسها يؤديها الصوت حريصا علي نطق كل منها بوضوح وببطء تتخللها حشرجة سرعان ما تصير بكاء يحاول الصوت التغلب عليه بنطق الكلمات بقوة أكبر. أول مرة سمعته كانت بعد انتهائي من مكالمة مع صديق. لم نقل فيها شيئا جديدا أو غريبا.
الحوار نفسه عن عدم وجود شغل والتحدث عن أصدقائنا الذين عملوا ويشتكون دائما من قلة روابتهم، ظللت جالسا بعد المكالمة في مكاني أفكر في الخروج لأتمشي قليلا كعادتي عندما يزداد ضيقي من عدم وضوح ما سأفعله في المستقبل. أول كلمة سمعتها «يا حياتي» توهمت أنني قلتها دون أن انتبه. ودون أن أحسب حسابا لسخرية أخي، لم أسأل أحدا في البيت، فمادام لم يسارع أحد بالدخول ما إن ينبعث هذا الصوت فهذا يعني أنني فقط الذي أسمعه. خاصة أنني أترك الباب مفتوحا كل مرة، ولم يلفت انتباه أحد وهو يمر جوار الغرفة جلوسي محدقا في الفراغ منصتا للصوت بل اندفعت يوما بينما المناجاة تملأ الغرفة وسألت أخي الجالس في الصالة «سامع؟» فظن أنني أطالبه بأن يخفض صوت التليفزيون فصرخ في «الصوت كده كويس» لم يكن الصوت ينبعث في أية غرفة أخري.
ولاحظت أنه يأتيني عندما أكون بمفردي ولم يتصادف أبدا دخول وأنا أصغي له حتي ظننت الصوت يمنع دخول أي إنسان أثناء انفراده بي.
جربت الخروج فوجدت الصوت ينقطع ما إن أخطو خطوة واحدة الغرفة ولا تكتمل المناجاة حتي لو رجعت بسرعة. فعرفت أن استمرار الصوت رهن ببقائي في الغرفة طول مدة المناجأة بالطبع ظننت أنه ينبعث من داخلي فسددت أذني بيدي فانقطع الصوت وعندما أبعدت يدي وجدته مازال مسترسلا في المناجاة.
سجلت الصوت واطمأننت علي أن المسجل يعمل لكن عندما أعدت تشغيله وجدته لم يسجل سوي سعالي المفاجئ كررت التسجيل بعد أيام ظننت فيها أنه لن يأتيني مرة أخري فلم أسجل هذه المرة سوي صوت أخي وهو يتحدث في التليفون.
كلما سرحت في أنني لم أناج أحدًا بمثل هذه الطريقة شعرت بالضيق، ليس بسبب رغبتي في فعل هذا بل لأن تكرار الصوت يرغمني علي سماع شخص هو نقيض لي. شخص لا يمكن أن أصادقه ولا يرد في بالي إلا كمثال علي ما أرفضه. كما أن ضيقي لشعوري بأنني صرت معتادا علي الصوت وانتظر أن يتكرر فلا يمكن الشعور بالملل من تكرار شيء لا تعرف كيف أو لماذا يتكرر. وفي كل مرة ينبعث فيها أنتظر حدوث شيء جديد أو أظن أنني سأنتبه لشيء غفلت عنه.
فكرت في أن هناك خطأ ما. فإذا كان لابد أن يأتيني صوت فيجب أن يكون شيئا أحب سماعه في حياتي العادية، ولا يكون شيئا غريبا عني. لكن التفكير في الخطأ يعني امكانية تصحيحه وإرسال صوت آخر يناسبني، كما يعني قبولي باستمرار الصوت بشرط أن يكون كما أرغب. لكن سماعي لشيء أحبه لن يدفعني للحيرة أنا فيها الآن.
بالكثير كنت سأندهش من انبعاث الصوت ومع مرور الأيام ستخفت هذه الدهشة. وأركن إلي أن ما أحبه فاض عن كل الحدود وصار يعلن عن نفسه بطريقته. وإذا كان للصوت ميزة - حتي الآن - فهي أن سبب اختياره لي غير واضح معتاد أن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. خاصة عندما ننتظر شيئا ثم نجد شيئا آخر يأتينا غير متوقع. قد يقال إن ما لا تتوقعه قد يكون الأفضل لك. سمعت هذا الرأي كثيرا لدرجة إنني اقتنعت أنه لا يأتينا إلا ما لا ننتظره. وكأن أمنيتنا بحدوث شيء علامة علي أنه لا يحدث