حدث ذلك بعد أحد عشر يومًا من اغتيال الزّعيم..
انهالت القبضات القوية على باب شقّته التي طالما ظنّها متوارية عن عيونٍ صقريّةٍ خارقةٍ، ظلّت تبعث في قلبه الرّعب.
أيقظته الطّرقات المتوتّرة مفزوعًا، وأيقظت معه الجيران، الذين كان من الممكن أن يظلّوا سادرين في نومهم حتى الظّهيرة، موعد صلاة الجمعة. وكان قد قرّر، بينه وبين نفسه، أن يؤدّيها، كما جرى الأسبوع الماضي، بين جدران بيته وظُلمة النّوافذ المُغلقة.
كان قد تناهى إليه عبر المذياع، الذي يُسرب إليه الأخبار همسًا، أن قاتل الزّعيم ينتمي إلى إحدى الجماعات الإسلاميّة المتطرّفة.
في المساء، منذ أحد عشر يومًا، كانت ظهيرة ذلك النّهار قد جاءته بالخبر اليقين: الزعيم يلقى مصرعه برصاص أحد ضباط جيشِه، الذين اعترضوا على قراره وقف القتال مع العدو الغادر، والتّورط في سلام مُتسرّع لن يجلب سوى الكوارث والويلات والدّمار!
داخلته مشاعر مختلطة من الفرح والخوف. وإن استطاع أن يدفن مظاهر غبطته ويواريها حتى عن نفسه، فقد عجز عن أن يتغلّب على خوفه الذي يتبدّى له سارحًا بين جدران البيت مُحكم الإغلاق، يتجوّل مع رعشاتِ قلبه وكل خطوة من خطواته المتردِّدة.
هو لم يُغلق باب بيته فورًا، في ذلك اليوم، الذي ظلت فيه مذياعات الحارة تبثّ أخبار الاغتيال.. فقبل أن يفعل ذلك، هبط مُسرعًا إلى البقالة التي تقع أسفل العمارة المجاورة. أصغى، من دون أن يُبدي اهتمامًا يلفت انتباه الآخرين، إلى الأحاديث التي يتداولها النّاس حول الحادث. اشترى خبزًا وجبنة بيضاء وأخرى تركيّة ولحومًا باردة وكمية من المُعلّبات، ثم قفل عائدًا، ليكون رهين المحبسين: بيته وخوفه.
لقد حرص على أن يُغلق باب بيته ونوافذه بإحكام، وشرع يُقلِّب الكتب المتراكمة على طاولة طعامه، في محاولة للاندماج في بحثه.
طوال حياته، ظل يحرص على تدريب نفسه بالمشي قرب الحائط. وحيد أمّه التي تركها رجلها في عزّ صباها، بعد أن وجدوا جثته تحت ركام حجارة الكسّارة التي كان يعمل فيها. استجاب الفتى اليتيم للنصائح المُبكرة للمرأة التي ترمّلت قبل الأوان. لم يحمل حجرًا في حروب أولاد القرية الطائشين. لم ينتظم يومًا في حزبٍ سياسيّ أو تنظيمٍ يمارس الكفاح المسلح. لم تُغوِه أفكار اليمين ولا اليسار في الثانوية. لم يشارك زملاء الجامعة في حوارات السياسة أو الأحاديث التي تستفيض في استعراض فتنة الأنثى في الشّارع أو السّرير. ولم يختلف مع أحدٍ حول نواقض الوضوء، فقد أراح نفسه ووافق عليها جميعها بلا تردُّد. وقد ترسّخت لديه قناعة لا تلين بالشّعار الذي رددته له السّيدة الوالدة آلاف المرات من دون أن يقول لها أفٍّ: ألف عين تبكي ولا عين أمي تذرف دمعة واحدة!
لم يَبدُ مهمومًا إلا بدراسته.. بإنجازه الذي يردفه دائمًا بإنجاز أكبر. وهو الآن، في هذه الأيام المفتوحة على كل الاحتمالات، بعد أيام من غياب الزّعيم، يحاول الانخراط في كتابة أطروحته في التاريخ القديم.
لقد أقنع نفسه، بعد أن حدث ما حدث في ذلك اليوم، بأن حدود الماضي والحاضر والمستقبل تكمن في حدود بيته، فما عليه إلا أن يَسير بثباتٍ على الخطة التي وضعها لإنجاز ما جاء إلى هنا لإنجازه: شهادة الدكتوراه. فما شأنه هو بما يجري حوله الآن من أحداث؟!
قبل أن يتمكّن في الصّباح المبكر لتلك اللّيلة من طرد النّعاس عن عينيه، وقبل أن يصل إلى باب الشّقة ويفتحه للطّارقين الغلاظ، كان زوار الفجر قد حطّموا الباب واندفعوا بحركةٍ اقتحامية غايتها زرع الرُّعب والفزع في قلب رجلٍ ظلّ يعتريه الفزع، مع أنه كان حريصًا على أن يتوارى دائمًا عن كل العيون.
غير أن عيونهم كانت له بالمرصاد..
والجيران الذين استيقظوا في الفجر المُبكّر، لم يندموا على يقظتهم. فقد رأوا جارهم الغريب، الخجول، الصّامت، المثير للأسئلة المُعلنة والخفيّة، وهو يُساق مخفورًا، مطأطئ الرّأس، في قبضات عددٍ من رجال الأمن بملابسهم المدنيّة. وقد ردّد بعض الجيران همسًا، في آذان بعضهم بعضًا، أن هذا المشهد سيكون البداية التي ستميط اللّثام، في أيامٍ قليلة، عن أسرار الغموض في تلك الشّخصية العصيّة على الفهم، لجارهم الغريب. وما عليهم إلا أن يواظبوا، بعد الآن، على قراءة الصّحُف حتى يعرفوا المزيد عنه، وعن دوره في المؤامرة التي استهدفت الزّعيم.
لكن الرّجل سرعان ما خيّب آمال ساكني العمارة، سواء أولئك الذين عدُّوه بطلًا، أو الآخرين الذين عدُّوه متآمرًا وأعلنوا، بشكلٍ أو بآخر، عن شماتتهم لمرآه مذلًّا مُهانًا، يسير مطأطئًا ومعصميه في الأصفاد. فقد رأته الحارة بعد أيامٍ ثلاثة من غيابه، عائدًا من المكان المجهول الذي اقتادوه إليه في ذلك الفجر القريب.
كان أوّل ما فعله الرجل فور وصوله البيت، أن أسرع إلى فتح النّوافذ على مصراعيها. وعندما غادر بيته، حرص على أن يترك باب الشقة خلفه مُشرّعًا، متيحًا لأشعة الشمس التدفقَ لتغمر المكان بكل طاقتها، بضوئها وشعاعها، وللهواء العليل ليعبر الزّوايا ويكتسح كل الأرجاء المنسيّة.
هبط إلى الشارع بخطواتٍ بدت له واثقة، قاصدًا أقرب مطعمٍ في الحيّ. تناول طعامه هناك بشهيّة ونهمٍ لافتين، في حين ظلّت العيون تتداوله باستهجان. أحس بالألسن تتهامس بشأنه، لكن ذلك لم يعنِ له شيئًا. كان يودّ أن يطرح عليه أحدٌ من الحاضرين سؤالًا حول أسباب اعتقاله، والذي سيقود بالتأكيد إلى الحديث عن أسباب إطلاق سراحه. غير أن أحدًا لم يفعل ذلك!
وللمرة الأولى منذ أن سكن الحارة، وبقرارٍ لم يتردّد في اتخاذه، قاد قدميه ليتوجّه إلى المقهى. طلب شايًا داكنًا وشيشة بمعسِّل التُفاح. انتبه إلى الدّهشة المُطلّة من العيون التي ترقبه. كان يتمنّى لو أن أحدًا من الحاضرين يطرح عليه السّؤال، لكنه أنهى تدخين الشّيشة من دون أن يبادر أحدهم إلى ذلك.
لا يدري لماذا كان يتمنى أن يُطرح عليه السؤال، مع أن التحقيق معه لم يكُن قد ذهب إلى أبعد من تلك الأسئلة السّاذجة التي يطرحها المحققون: هل تنتمي أو انتميت إلى حزبٍ سياسي أو تنظيمٍ عسكري.. هنا أو في بلدك.. هناك؟! هل تُجيد استخدام السلاح؟! هل تعرف أحدًا من الجماعات الإسلامية في الجامعة؟! هل اقترح عليك أحدهم الانضمام إلى تنظيم؟! هل...؟!
لكن السّؤال الذي سقط عليه مثل حجرٍ كبيرٍ ولم يكُن يتوقعه، مع أن كل أسباب اعتقاله كانت تكمن فيه:
- إذًا لماذا حرصتَ على أن تتوارى عن الأنظار طوال الأيام الماضية، ولم تُغادر بيتك منذ مقتل الزّعيم؟!
مع أن السؤال داهمه من دون توقع، وعلى الرغم من إجابته الساذجة والمرتبكة، فقد أطلقوا سراحه، بعد أن تيقّنوا من أنّ الرّجل لم يُطلق سراح نفسه في يومٍ من الأيام.
الشيء المؤكد، الذي أعرفه عن مصيره بعد ذلك، أنه قد عاد إلى قريته القريبة من رام الله المُحتلة بعد أيام من ذلك اليوم البعيد، من غير أن يستكمل رسالة الدكتوراة، وأنه يقبع الآن في سجنه الذي يقضي فيه الحكم الصادر بحقه، بعد أن اتخذ قراره بالتوقّف عن المشي في ظل الحائط: ثلاثة مؤبدات وبضع عشرات من السنين، وأن هذا الأمر حدث بعد ذلك اليوم الذي جاءت فيه سيارات «الجيب» العسكريّة الإسرائيليّة، التي هبط منها جنود غلاظ ظلوا يصوّبون رشاشاتهم نحو رأسه، بعد أن انتزعوه من فراشه واقتادوه إلى مكان مجهول؟!
لا أعرف الكثير عن الأسباب التي أوصلته إلى السجن.
كل ما أعرفه، هو أن عيون أمه ما زالت تذرف دمعًا غزيرًا على وحيدها.. دمعًا لم ينقطع منذ ذلك اليوم البعيد، وحتى الآن!
انهالت القبضات القوية على باب شقّته التي طالما ظنّها متوارية عن عيونٍ صقريّةٍ خارقةٍ، ظلّت تبعث في قلبه الرّعب.
أيقظته الطّرقات المتوتّرة مفزوعًا، وأيقظت معه الجيران، الذين كان من الممكن أن يظلّوا سادرين في نومهم حتى الظّهيرة، موعد صلاة الجمعة. وكان قد قرّر، بينه وبين نفسه، أن يؤدّيها، كما جرى الأسبوع الماضي، بين جدران بيته وظُلمة النّوافذ المُغلقة.
كان قد تناهى إليه عبر المذياع، الذي يُسرب إليه الأخبار همسًا، أن قاتل الزّعيم ينتمي إلى إحدى الجماعات الإسلاميّة المتطرّفة.
في المساء، منذ أحد عشر يومًا، كانت ظهيرة ذلك النّهار قد جاءته بالخبر اليقين: الزعيم يلقى مصرعه برصاص أحد ضباط جيشِه، الذين اعترضوا على قراره وقف القتال مع العدو الغادر، والتّورط في سلام مُتسرّع لن يجلب سوى الكوارث والويلات والدّمار!
داخلته مشاعر مختلطة من الفرح والخوف. وإن استطاع أن يدفن مظاهر غبطته ويواريها حتى عن نفسه، فقد عجز عن أن يتغلّب على خوفه الذي يتبدّى له سارحًا بين جدران البيت مُحكم الإغلاق، يتجوّل مع رعشاتِ قلبه وكل خطوة من خطواته المتردِّدة.
هو لم يُغلق باب بيته فورًا، في ذلك اليوم، الذي ظلت فيه مذياعات الحارة تبثّ أخبار الاغتيال.. فقبل أن يفعل ذلك، هبط مُسرعًا إلى البقالة التي تقع أسفل العمارة المجاورة. أصغى، من دون أن يُبدي اهتمامًا يلفت انتباه الآخرين، إلى الأحاديث التي يتداولها النّاس حول الحادث. اشترى خبزًا وجبنة بيضاء وأخرى تركيّة ولحومًا باردة وكمية من المُعلّبات، ثم قفل عائدًا، ليكون رهين المحبسين: بيته وخوفه.
لقد حرص على أن يُغلق باب بيته ونوافذه بإحكام، وشرع يُقلِّب الكتب المتراكمة على طاولة طعامه، في محاولة للاندماج في بحثه.
طوال حياته، ظل يحرص على تدريب نفسه بالمشي قرب الحائط. وحيد أمّه التي تركها رجلها في عزّ صباها، بعد أن وجدوا جثته تحت ركام حجارة الكسّارة التي كان يعمل فيها. استجاب الفتى اليتيم للنصائح المُبكرة للمرأة التي ترمّلت قبل الأوان. لم يحمل حجرًا في حروب أولاد القرية الطائشين. لم ينتظم يومًا في حزبٍ سياسيّ أو تنظيمٍ يمارس الكفاح المسلح. لم تُغوِه أفكار اليمين ولا اليسار في الثانوية. لم يشارك زملاء الجامعة في حوارات السياسة أو الأحاديث التي تستفيض في استعراض فتنة الأنثى في الشّارع أو السّرير. ولم يختلف مع أحدٍ حول نواقض الوضوء، فقد أراح نفسه ووافق عليها جميعها بلا تردُّد. وقد ترسّخت لديه قناعة لا تلين بالشّعار الذي رددته له السّيدة الوالدة آلاف المرات من دون أن يقول لها أفٍّ: ألف عين تبكي ولا عين أمي تذرف دمعة واحدة!
لم يَبدُ مهمومًا إلا بدراسته.. بإنجازه الذي يردفه دائمًا بإنجاز أكبر. وهو الآن، في هذه الأيام المفتوحة على كل الاحتمالات، بعد أيام من غياب الزّعيم، يحاول الانخراط في كتابة أطروحته في التاريخ القديم.
لقد أقنع نفسه، بعد أن حدث ما حدث في ذلك اليوم، بأن حدود الماضي والحاضر والمستقبل تكمن في حدود بيته، فما عليه إلا أن يَسير بثباتٍ على الخطة التي وضعها لإنجاز ما جاء إلى هنا لإنجازه: شهادة الدكتوراه. فما شأنه هو بما يجري حوله الآن من أحداث؟!
قبل أن يتمكّن في الصّباح المبكر لتلك اللّيلة من طرد النّعاس عن عينيه، وقبل أن يصل إلى باب الشّقة ويفتحه للطّارقين الغلاظ، كان زوار الفجر قد حطّموا الباب واندفعوا بحركةٍ اقتحامية غايتها زرع الرُّعب والفزع في قلب رجلٍ ظلّ يعتريه الفزع، مع أنه كان حريصًا على أن يتوارى دائمًا عن كل العيون.
غير أن عيونهم كانت له بالمرصاد..
والجيران الذين استيقظوا في الفجر المُبكّر، لم يندموا على يقظتهم. فقد رأوا جارهم الغريب، الخجول، الصّامت، المثير للأسئلة المُعلنة والخفيّة، وهو يُساق مخفورًا، مطأطئ الرّأس، في قبضات عددٍ من رجال الأمن بملابسهم المدنيّة. وقد ردّد بعض الجيران همسًا، في آذان بعضهم بعضًا، أن هذا المشهد سيكون البداية التي ستميط اللّثام، في أيامٍ قليلة، عن أسرار الغموض في تلك الشّخصية العصيّة على الفهم، لجارهم الغريب. وما عليهم إلا أن يواظبوا، بعد الآن، على قراءة الصّحُف حتى يعرفوا المزيد عنه، وعن دوره في المؤامرة التي استهدفت الزّعيم.
لكن الرّجل سرعان ما خيّب آمال ساكني العمارة، سواء أولئك الذين عدُّوه بطلًا، أو الآخرين الذين عدُّوه متآمرًا وأعلنوا، بشكلٍ أو بآخر، عن شماتتهم لمرآه مذلًّا مُهانًا، يسير مطأطئًا ومعصميه في الأصفاد. فقد رأته الحارة بعد أيامٍ ثلاثة من غيابه، عائدًا من المكان المجهول الذي اقتادوه إليه في ذلك الفجر القريب.
كان أوّل ما فعله الرجل فور وصوله البيت، أن أسرع إلى فتح النّوافذ على مصراعيها. وعندما غادر بيته، حرص على أن يترك باب الشقة خلفه مُشرّعًا، متيحًا لأشعة الشمس التدفقَ لتغمر المكان بكل طاقتها، بضوئها وشعاعها، وللهواء العليل ليعبر الزّوايا ويكتسح كل الأرجاء المنسيّة.
هبط إلى الشارع بخطواتٍ بدت له واثقة، قاصدًا أقرب مطعمٍ في الحيّ. تناول طعامه هناك بشهيّة ونهمٍ لافتين، في حين ظلّت العيون تتداوله باستهجان. أحس بالألسن تتهامس بشأنه، لكن ذلك لم يعنِ له شيئًا. كان يودّ أن يطرح عليه أحدٌ من الحاضرين سؤالًا حول أسباب اعتقاله، والذي سيقود بالتأكيد إلى الحديث عن أسباب إطلاق سراحه. غير أن أحدًا لم يفعل ذلك!
وللمرة الأولى منذ أن سكن الحارة، وبقرارٍ لم يتردّد في اتخاذه، قاد قدميه ليتوجّه إلى المقهى. طلب شايًا داكنًا وشيشة بمعسِّل التُفاح. انتبه إلى الدّهشة المُطلّة من العيون التي ترقبه. كان يتمنّى لو أن أحدًا من الحاضرين يطرح عليه السّؤال، لكنه أنهى تدخين الشّيشة من دون أن يبادر أحدهم إلى ذلك.
لا يدري لماذا كان يتمنى أن يُطرح عليه السؤال، مع أن التحقيق معه لم يكُن قد ذهب إلى أبعد من تلك الأسئلة السّاذجة التي يطرحها المحققون: هل تنتمي أو انتميت إلى حزبٍ سياسي أو تنظيمٍ عسكري.. هنا أو في بلدك.. هناك؟! هل تُجيد استخدام السلاح؟! هل تعرف أحدًا من الجماعات الإسلامية في الجامعة؟! هل اقترح عليك أحدهم الانضمام إلى تنظيم؟! هل...؟!
لكن السّؤال الذي سقط عليه مثل حجرٍ كبيرٍ ولم يكُن يتوقعه، مع أن كل أسباب اعتقاله كانت تكمن فيه:
- إذًا لماذا حرصتَ على أن تتوارى عن الأنظار طوال الأيام الماضية، ولم تُغادر بيتك منذ مقتل الزّعيم؟!
مع أن السؤال داهمه من دون توقع، وعلى الرغم من إجابته الساذجة والمرتبكة، فقد أطلقوا سراحه، بعد أن تيقّنوا من أنّ الرّجل لم يُطلق سراح نفسه في يومٍ من الأيام.
الشيء المؤكد، الذي أعرفه عن مصيره بعد ذلك، أنه قد عاد إلى قريته القريبة من رام الله المُحتلة بعد أيام من ذلك اليوم البعيد، من غير أن يستكمل رسالة الدكتوراة، وأنه يقبع الآن في سجنه الذي يقضي فيه الحكم الصادر بحقه، بعد أن اتخذ قراره بالتوقّف عن المشي في ظل الحائط: ثلاثة مؤبدات وبضع عشرات من السنين، وأن هذا الأمر حدث بعد ذلك اليوم الذي جاءت فيه سيارات «الجيب» العسكريّة الإسرائيليّة، التي هبط منها جنود غلاظ ظلوا يصوّبون رشاشاتهم نحو رأسه، بعد أن انتزعوه من فراشه واقتادوه إلى مكان مجهول؟!
لا أعرف الكثير عن الأسباب التي أوصلته إلى السجن.
كل ما أعرفه، هو أن عيون أمه ما زالت تذرف دمعًا غزيرًا على وحيدها.. دمعًا لم ينقطع منذ ذلك اليوم البعيد، وحتى الآن!