فاروق وادي - نهرٌ في زنزانة.. قصة

القرية النّائية، الوادعة، القابعة بسكينةٍ على ضفّة النّهر، والقانعة بعزلتها، كانت لها تقاليدها العريقة، ضاربة الجذور، التي لم تكُن تنفصل عن تدفُّق المياه الجارية بسخاءٍ على أطرافها الجنوبية الخضراء طوال تتابُع الفصول وعلى امتداد أيام السّنة، سواء جادت فيها مياه السّماء، أم انحبس الغيم المُتعالي، من غير أن يتهدّد أرضها الجدب.
كان النّهر هو حياتها،
كل حياتها.
من مائه يشرب أهل القرية مع بهائمهم، بلا تمييز. فالمياه الجارية ظلّت قادرة على تجديد الماء وتجديد النّقاء. وبماء النّهر، تُسقى الأرض كما جرت العادة منذ آلاف السّنين، وربما من عهود ما قبل التّاريخ. الأمر الذي مكَّن الزّرع من أن ينبت بسخاء، فيفيض الخير على البشر. وقد ظلّ النّهر يروي النّخيل العتيق، المتسامق بخضرته ولآلئه الصّفراء المتوهّجة حول الضّفاف المتدفِّقة. وفي مائه كانت تُلقى الشِّباك.. فيصطاد النّاس أسماكهم، كفاف يومهم.
في النّهر كانوا يستحمّون،
وبماء النّهر يغسلون ملابسهم، ثم ينشرونها على أشجار الشّوك منتظرين جفافها تحت شمسٍ تلقي عليهم سياطها اللّاهبة. من ماء النّهر كانوا يطبخون طعامهم شديد التّقشف.. وفيه يغسلون أوانيهم الفقيرة. لذلك كلّه، ظلت الطمأنينة تفترش وجوه البشر هناك وتمنح البشرة السّمراء شعورًا بالحماية.
ولكن، للحقيقة، إن الوعي البيئي كان نائيًا نأي تلك القرية عن الدّنيا بأسرها. فكلمة «البيئة» لم تكُن قد دخلت بعدُ إلى المفردات القليلة للقرية. ولذلك، فإن تلك المفردة لم تكُن تحمل أيَّ دلالة في حياة الناس هناك، ناهيك بكلمة «الوعي»، التي ربما كانت تثير الدّهش أو الضّحك، أو الانفعالين معًا. وفي مثل هذا الغياب، فإن النّهر ظلّ مكبًّا تُلقى فيه القمامة، تُطرح الأنقاض، وتُرمى الحيوانات النافقة، وتُقضى الحاجات، ناهيك باحتواء مجراه لعديدٍ من جثث الأطفال الذين يخطفهم الماء الجاري بتدفّقه الغريب، من أمهاتهم السّاهيات، اللّاهيات!
* * *
ذات يوم، يُشرِّف «السيّد الرئيس» القرية بزيارةٍ من غير ترقُّبٍ أو تحسُّب.. زيارة مباركة، لم تكن إلا بهدف البحث عن سبلٍ ناجعةٍ لانتشال القرية وسكانها من ظلمة العصور المنسيّة التي تغرق فيها من دون أن تدري، ومن أجل تهيئتها للدخول إلى أنوار القرن الحادي والعشرين الباهرة.
وفي أثناء طوافه في أرجاء القرية، يلحظ سيادة الرّئيس، بطرف عينه الثّاقبة، اللمّاحة، الإهانة البالغة التي يلحقها أولئك البشر، بتلك الهِبَة الإلهية التي تجري حولهم، فيجمع زعماء العشائر في القرية، ليلقي عليهم خطبة بيئية هائلة المعنى والمبنى، فصيحة، تزخر بمعانٍ سامية لم يدركها سوى قلّة قليلة من ذوي الألباب. وهي خطبة كان من المفترض أن تُحرِّك الوعي الحضاري النّادر (حتى لا نقول المنعدم) في هذا الجانب الغائب أو المغيّب.. لديهم.
ولحسن الحظّ، فإن واحدًا من «انتلجنسيا» القرية (إن صحّ التعبير، الذي أراه غير لائقٍ في مثل هذا المقام)، تمكّن من القيام بعملية تفكيكيّة لخطاب السيد الرئيس لمعرفة المقاصد الكامنة، المتوارية فيما بين سطور كلامٍ لم يُكتب على الورق!
وقد تجرّأ الشّاب، بعد مقدماتٍ طويلة واعتذارات مبطّنة وأخرى شديدة الوضوح، على القول، في حضور السيد الرئيس، إنه سوف يغدو من الصّعب، إن لم يكُن من المستحيل، أن تُغير القرية من عاداتها التي حفرت مجراها في أنماط سلوكهم عبر مجرى نهر الزّمان الطّويل. والحقيقة أن الشاب ازدهى بنفسه وهو يتلفّظ بكلماته الأخيرة التي انطوت على بلاغة ما كان يحسبها لديه، وما كانت لتزدهر إلا في حضورٍ استثنائي، كحضور السيد الرئيس بنفسه إلى مثل هذا المكان الذي لم يؤمّه يومًا أي مسؤولٍ أدنى منزلة، مهما توجّه الأهالي إليه بالمظالم والمطالب، الصحيّة والتعليميّة على وجه التحّديد، لتبليغها إلى كل من يهمهم الأمر، حتى كادت تراودهم الظُّنون من أن مؤسّسة الدولة قد انقرضت منذ زمنٍ بعيد.
استفاض الشّاب شارحًا، وهو يرى سيادة الرئيس يُصغي إليه بأقصى درجات الاهتمام، ليقول: إن الأمر لن يتمّ إلا ضمن مشروعٍ تطويري يضمن للقرية تمديدات المياه عبر الأنابيب، بعد تنقيتها من الشوائب بالتّأكيد، مع إيجاد حلّ لتصريف المجاري. ومثلها إيجاد مكبات للقمامة، والتخلص منها بأساليب عصريّة لائقة. ثم إنه، أضاف الشّاب الذي عزّز أقواله بآياتٍ من الذِّكر الحكيم والأحاديث النّبويّة الشّريفة: يجب إدراج القرية ضمن المشروع التنموي للقطاع الزراعي، وفي خطة التطوير التربوي الشاملة، مع العمل على رفع المستوى الثقافي لأبنائها. والله الموفِّق.
والحقيقة أنه، ورغم تدني درجة الوعي لدى أهالي تلك القرية النائية، فقد وصل إليهم الحديث الواضح والصّريح لأحد أبنائهم المتنوِّرين، وحرَّك فيهم شيئًا لا يستطيعون تحديد ماهيته!
ولسوف يشهد التاريخ لذلك الشاب، أيضًا، إضافة إلى بلاغته الأكيدة، وقفته الرّجولية المشهود لها، والتي تجلّت بتلك الجرأة النّادرة التي أثبت فيها، من غير جدالٍ، أنه كان يمتلكها بجدارة في حضرة السيد الرئيس، ما شجّعهم على رفع أصواتهم بعبارات الاستحسان، مؤكِّدين دعمهم لمطالب ابنهم البار، وموافقتهم على كل كلمة قالها، وثناءهم عليها، مشدّدين في الوقت نفسه على أن النّهر سوف يبقى بالنسبة إليهم.. هو النّهر، كما عرفهم على مدى الأيام.. وعرفوه!
* * *
لقد أبدى سيادته اغتباطه الشّديد لدرجة الوعي المتوافرة لدى شعبه وأبنائه البررة، خاصّة من الأجيال الطّالعة، مشيدًا، في الوقت نفسه، بمناقب الشّاب الفقيه. ثم إنه طلب إليه أن يأتيه في اليوم التالي إلى العاصمة، بهدف متابعة عمليّة نقل القرية النّائية من الظّلمات إلى النور، وإعدادها لدخول القرن الحادي والعشرين.
لم يسمح أهل القرية للفرصة أن تضيع، ولا للوقت أن يمضي أو الأيام أن تتراكم، فتصاب ذاكرة السيد الرئيس بالنّسيان، والوعود بالتخثُّر.
فمن دون أدنى إبطاء، في اليوم التالي على وجه التحديد، كانت خطوات الشاب المتنوِّر، التي يُحرِّضها أهالي القرية مجتمعين، تقوده إلى بوابة مبنى ضخم يقع في وسط العاصمة، والذي طُلب إليه مراجعته. مبنى أثبتت الأيام حقيقته البسيطة: فقد كان داخله مفقود.. وخارجه مولود!
* * *
أما القرية، فقد شهدت شوارعها الضيِّقة، غير المسفلتة، والتي تضجّ بالحُفرِ، صبيحة اليوم نفسه، الذي غادر فيه الشّاب الفصيح القرية، عبور آلات ضخمةٍ، وشاحناتٍ تحمل كميّات هائلة من الحجارة والحصى والإسمنت والحديد، وأخرى تحمِل جيشًا جرّارًا من عمّال البناء.
وقد انعقدت، طوال الأسابيع القليلة التالية، ورشة بناءٍ هائلة، لم تتوقّف ليلًا أو نهارًا..
وأمام ذهول أبناء القرية، كانت الآلات والشّاحنات تغادر القرية بعد تلك الأسابيع من العمل المتواصل بلا انقطاع، في الليل والنّهار، بعد أن أنجزت المهمة التي جاءت من أجلها!
فقد شيّدت تلك الآلات الضّخمة، والجيوش الجرّارة، وبأوامر مباشرة من سيادة الرئيس، سورًا يتطاول بضعة كيلومترات على ضفتيّ النّهر. وكان السور يمتد من أعلى أراضي القرية ليبلغ مكانًا نائيًا في أسفلها البعيد، فيحجب النّهر تمامًا من ضفتيه.
لقد أصبح السُّور يحول دون أهالي تلك القرية النّائية، واعتداءاتهم الصّارخة، المتكرِّرة، على المجرى العظيم.. وانتهاكاتهم الفظّة للبيئة، وحُرمتها التي طالما لم يراعِها أحدٌ منهم أبدًا، بجهلٍ أعمى ما برحوا يتشبّثون به. لكنه في الوقت نفسه أدّى إلى حرمانهم من كل ما كان يوفِّره لهم نهرهم العظيم من حياة.
منذ ذلك اليوم البعيد، الذي جرى فيه اعتقال النّهر، ما عاد أهالي تلك القرية النائية يعرفون شيئًا عن ابنهم الشّاب الفصيح، الذي ذهب ولم يعد!
ولم تعد تربطهم بنهرهم القريب، سوى تلك الأنّات الصّادرة عن مائه المحاصر بين جدران الزّنزانة الحجريّة المتطاولة.. التي أقامها له السّيد الرئيس!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ من المجموعة القصصية " رائحة المانجا" 2022 غمّان ـ الدار الأهليّة. اللوحة للفنان يوسف سيدة، والفوتوغرااف من أحد القلاع وسط نهر التارجو شمال البرتغال.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...