سي حاميد اليوسفي - المتحول

وهو يدلف الشارع جيئة وذهابا أحس بالجوع والتعب. أدخل يده إلى جيبه، لا يملك غير ثلاثة دراهم ثمن سيجارتين. رغم أن مظهره الخارجي لا يوحي بأنه متسول، فهو لا يستطيع الجلوس في المقهى، سيُحرجه النادل أمام الزبائن، ويطلب منه أن يشرب شيئا. رأى كلبا صغيرا يجلس في حضن امرأة جميلة، قال في نفسه:
ـ كم هو محظوظ ذلك الكلب؟!
لمح امرأة أخرى تصعد سلالم المقهى، وتضم كلبا إلى صدرها، وتلمس رأسه الصغير بخدها المُتورّد. تُداعبه وتتحدث إليه وهي تبتسم. افترض بأنها ستُحس برعشة تسري في جسمها من فوق إلى تحت.
رجل في الأربعين يشد سلسلة في يده اليمنى، ويتبعه كلب أغبر بوجه قبيح، وعينين جاحظتين، وأنياب بارزة ، مستعد للافتراس. خاف أن تفلت السلسلة من يد الرجل، ويطير عليه الكلب وينهشه. لحسن الحظ أنه قبل أن يذهب في اتجاه المقهى أدخله إلى السيارة ، وأغلق عليه الباب .
لا يعرف إن كان الزبائن الذين يجلسون في المقهى، يطلبون لكلابهم شيئا يشربونه أم لا!
ـ وماذا يتناول الكلاب في المقاهي؟
ـ قد يخصصون لهم طلبات لا تعرف أنت عنها شيئا؟
ـ وهل يطلبون الإذن للذهاب إلى المرحاض مثل البشر ؟
لا أظن. سمعت بأن الكلاب من (الهاي كلاس)*، يفرضون على أسيادهم وسيداتهم الخروج لفسحة بشكل منتظم، وفي وقت معين من اليوم، يقضون فيها حاجاتهم .
سمعت أيضا أن الناس الذين يربون هذه الكلاب، ويتركونها تنام على السرير بجانبهم، أنظف من البشر. يعملون لها حماما بماء دافئ. يداعبونها ويغسلون جسدها بالصابون و(شامبوان) تفوح منه رائحة عطرة. ثم يلفونها في منشفة حتى لا تتعرض للزكام ، مثلما تعمل الأم مع رضيعها. يفعلون ذلك بفرح، ويتحدثون إليها ، وهي تُنصت إليهم. ويأخذونها إلى الطبيب البيطري مرة في الشهر ليفحصها.
وأنت كم مرة تزور الطبيب في السنة ؟
ـ هه ! أنا؟! أزور الطبيب؟! من تلقاء نفسي ؟!
لا لم يحدث ذلك قط؟! أنا لا أزور الطبيب حتى أسقط مغمى علي. يقولون في البيت بأن وضعي ليس خطيرا، ويتهمونني بأني أتمارض. ينتظرون بضعة أيام حتى يتأكدون بأني مريض بالفعل، فيأخذونني إلى العيادة. عندما يأتي دوري، ويفحصني الطبيب. يأخذ ورقة، ويكتب فيها بعض الأدوية. يقول بأني أقوى من (الحلوف)*، ويطلب مني العودة بعد أسبوعين. يُقدم الوصفة لكاتبته، ولا تسلمني إياها إلا بعد أن أدفع ثمن الزيارة. ثلاث دقائق فحص، وثلاثة أسئلة، ولمسة على الجبهة،، وثلاث ساعات انتظار ، لا بد أن أدفع مقابلها ثلاث مائة درهم.
أذهب إلى الصيدلية ، أجد نفس العبارات التي قرأتها في قاعة الانتظار بالعيادة، تحُتُّ على زيارة الأطباء، وشراء الدواء منسوبة إلى الرسول الكريم (تداووا يا عباد الله ، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء). أعتقد بأن بعض الأطباء والصيادلة أبناء العم، يتواطئون على جيوب الناس، ويسرقونهم بالفن.
أقتني جزءا من الدواء، وأستغني عن الغالي منه. بعد أسبوعين تتحسن حالتي، ولا أعود لزيارة الطبيب. لمستُ مرة كلبا بباب المنزل، فتعرضت لضرب مبرح. الكلاب في حينا لا تستحم، ولا تذهب إلى البيطري، ولا تدخل إلى البيوت. الكبار عندنا يعتقدون بأنها مكروهة ، وقد تنقل إلى من يلمسها بعض الأمراض الخطيرة.
أعجبه صنف الكلاب الذي تختاره النساء. يبدو لطيفا ووديعا وكثيف الشعر. لابد أنهن يرششن بعض العطر الفاخر على وجهه وشعره، فيلمسنه بخدودهن، ويستمتعن بالرائحة الطيبة التي تفوح منه، فيُحس بالدفء.
ـ ربما يُحب الناس الكلاب لأنهم أوفياء، ولا يُنكرون الجميل مثل البشر إذا شبعت بطونهم.
خمّن بأن عاطفة هؤلاء النسوة هشة، لا بد أن أزواجهم يتصرفون معهن بقسوة. سمع أن بعضهم ينظمون سهرات يتبادلون فيها الزوجات. بدا له الأمر مُقززا. في الحي الذي يسكنه، يغار بعض الرجال على نسائهم وبناتهم حد الموت. قد تسقط أرواح، ويذهب البعض إلى السجن، فقط لأن أحدا ما تحرش بامرأته أو ابنته أو أخته. فكيف يسمحون لرجال آخرين أن يناموا مع زوجاتهم أمام أعينهم، وبرغبة منهم؟ وكيف تقبل المرأة أن تنام مع رجل آخر على مرأى ومسمع من زوجها؟
لا.. لا.. لا بد أنها علامة من علامات الساعة! الناس يظهر أنهم شبعوا مالا وخبزا وجنسا، وحلت عليهم لعنة السماء!
قال لنفسه :
ـ لو مسخك الله، وتحولت كلبا لطيفا، لجلست في حضن امرأة جميلة، وطلبت وجبة طعام، وكأس قهوة، ودخنت سيجارة، وسرقت النظر إلى نهديها!. وقد تسمح لك أن تدخل غرفة النوم، وتتفرج عليها وهي تغير ثيابها الداخلية. تستلقي فوق الفراش وحيدة. تداعبك وتتلذذ لسانك، وشعرك العاطر، وهما يلمسان بنعومة مناطق حساسة من جسمها.
ستكتشف لا محالة أن بعض النساء يُخفين عُيوبهن الجسدية بالمساحيق والثياب الفاخرة. وبعضهن سبحان الخالق الناطق كأنهن هبطن للتو من الجنة.
ـ الكلاب لا تطلب، ولا تُفشي أسرار أسيادها! الكلاب تومئ! أصحابها من يُحسون بما تريد! هناك تفاعل كيميائي بين الكلب وسيدته. إذا أحسّت سيدتك بأنك ترغب في تدخين سيجارة، وكانت في لحظة سعادة، ستقدم لك واحدة، وتُشعل أخرى، وتنفث الدخان أمام وجهك، وتطلب منك أن تهدأ.
احذر، مزاج بعض النسوة من الطبقة الراقية، ينقلب بسرعة مائة وثمانين درجة . وإذا لم تطع أمر سيدتك ستغضب، وترفع صوتها، وتشتمك بالفرنسية أو الإنجليزية، كما تفعل مع زوجها، عندما تلعن أصله وفصله، فلا يُحرك ساكنا، وكأن نفسه أبرد من ثلج جبال الأطلس. وخارج البيت (يتسيّف)*، ويعمل فيها فتوة ينبع من إحدى الأساطير القديمة. وربما ستعرف من أسرار البيوت الكبيرة، ما يجعلك تندم على أنك دخلت إليها،.
ـ ومن قال بأنك إذا تحولت إلى كلب ستدخن سيجارة، وتشرب قهوة، وتفهم الشتم باللغتين الفرنسية والإنجليزية! وتجلس في حضن امرأة غنية وجميلة عاطفتها هشة، وتتركك تدخل إلى غرفة نومها، وتتفرج على عيوبها؟
ـ لا يا حبيبي! يمكن أن تتحول إلى كلب، ولكن من درجة أقل مثل الكلاب التي تعيش في حيك. وقد يجري خلفك الأطفال، ويرمونك بالحجارة. وتبحث عن بقايا الطعام في حاويات القُمامة، وتتشاجر مع بقية الكلاب حول حصتك. وتخوض حربا وجودية من أجل أن تلتصق مع كلبة مثلك.
ـ ولكن الله كرّمني، وخلقني على صورة إنسان، وأمر الجن والملائكة الشياطين أن يسجدوا لي!
ـ نعم كرّمنك الله، لكن الإنسان أذلك حتى أصبحت تتمنى لو تحولت إلى كلب، أو قط، أو أي حيوان يُدلّلهُ الفظّ منا، ويعطف عليه، أكثر مما يعطف على أقرب الناس إليه.

المعجم

ـ الهاي كلاس : الطبقة الراقية
ـ الحلوف : الخنزير
ـ يتسيّف : كلمة من اللهجة المحلية تعني بأنه يتقمص شخصية غير شخصيته

مراكش 21 أيلول 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...