أما أسلوب المنفلوطي في هذه القصة وفي سواها، فأسلوب رجل لا يبالي من أي مدخل دخل على القارئ، ما دام يقدر أن سيصل منه إليه، ولا أي بلاء يهديه في احتياله ويقحمه عليه، وإذ كان يعرف من نفسه التلفيق والتصنع، فهو لا يزال يعالج الإقناع والتأثير بضروب من التأكيد والغلو والتفصيل، وغير ذلك مما ليس أدل منه على الكذب والتزوير، لما وقع في وهمه من أنه يكسب الكلام قوة وشدة لا يفيدهما أن يلقيه ساذجًا ويدعه غفلًا، وأول ما يستوقف النظر فيه من هذا ولعه بالمفعول المطلق، وتكلفه له لظنه أنه من المحسنات اللازمة للصقل، وأن العبارات بدونه تكون مبتورة، والجمل لا يجري فيها النفس إلى آخره دون توقف واعتراض. ومع أن قصة اليتيم في تسع عشرة صفحة وبعض صفحة من الحرف الجليل، فإن فيها أكثر من ثلاثين مفعولًا مطلقًا، ليس من بينها واحد لا يكون الأسلوب أسلس وأطبع بدونه، لكنه ذهب إلى المبالغة في كل شيء، وآلى أن يجاوز كل حد معقول طلبًا للتأثير من طريق الإفحاش في التأكيد، فلم يكن له بد من هذا المفعول المطلق، الذي لا يكاد يمر به القارئ في أي كتاب يفتح من كتب الأدب.
ومعلوم أن الكلام لا قيمة له من أجل حروفه، فإن الألفاظ كلها سواء من حيث هي ألفاظ، وإنما قيمته وفصاحته وبلاغته وتأثيره تكون من التأليف الذي تقع به المزية في معناه لا من أجل جرسه وصداه، وإلا لكان ينبغي ألا يكون للجملة من النثر أو البيت من الشعر فضل مثلًا على تفسير المفسر له. ومعلوم كذلك أن الألفاظ ليست إلا واسطة للأداء، فلا بد أن يكون وراءها شيء، وأن المرء يرتب المعاني أولًا في نفسه ثم يحذو على ترتيبها الألفاظ، وأن كل زيادة في اللفظ لا تفيد زيادة مطلوبة في المعنى وفضلًا معقولًا فليست سوى هذيان يطلبه من أخذ عن نفسه، وغيب عن عقله، وأبلغ من ضلال الرأي أن راح يحسب أن تأليف الألفاظ تأليفًا طبيعيًّا مطردًا خاليًا من العكس والقلب منزهًا عن الحشو والحشر؛ يذهب برونق الكلام ويفقده المزية والتأثير. وينسى المسكين أن كلَّ كلمة يستطيع القارئ أن يسقطها بدون خسارة في المعنى أو تعويق لتحدر الإحساسات أو إفقار لغناها؛ كلَّ لفظة يمكن الاستغناء عنها قاتلةٌ للكاتب، فإن العالم أغنى في باب الأدب من أن يحتمل هذا الحشو ويصبر عليه، وليس شيء أحق بأن يثير عقل العاقل من عدم اكتراث الكاتب لوقته ومجهوده، وكم من كاتب أضرَّ به هذا الداء، وآخر ضئيل الشأن والحال لم يحيه من المزايا غير حبك الأداء، ولكن هذا كلام لا يفهمه المنفلوطي؛ لأن اللغة عنده ليست إلا زينة يعرضها، وحلي يخيل بها لا أداة لنقل معنًى أو تصوير إحساس أو رسم فكرة. ومن أين له أن ينزل اللغة هذه المنزلة وهو لا معنى في صدره ولا فكرة في ذهنه؟!
ومعلوم أن الكلام لا قيمة له من أجل حروفه، فإن الألفاظ كلها سواء من حيث هي ألفاظ، وإنما قيمته وفصاحته وبلاغته وتأثيره تكون من التأليف الذي تقع به المزية في معناه لا من أجل جرسه وصداه، وإلا لكان ينبغي ألا يكون للجملة من النثر أو البيت من الشعر فضل مثلًا على تفسير المفسر له. ومعلوم كذلك أن الألفاظ ليست إلا واسطة للأداء، فلا بد أن يكون وراءها شيء، وأن المرء يرتب المعاني أولًا في نفسه ثم يحذو على ترتيبها الألفاظ، وأن كل زيادة في اللفظ لا تفيد زيادة مطلوبة في المعنى وفضلًا معقولًا فليست سوى هذيان يطلبه من أخذ عن نفسه، وغيب عن عقله، وأبلغ من ضلال الرأي أن راح يحسب أن تأليف الألفاظ تأليفًا طبيعيًّا مطردًا خاليًا من العكس والقلب منزهًا عن الحشو والحشر؛ يذهب برونق الكلام ويفقده المزية والتأثير. وينسى المسكين أن كلَّ كلمة يستطيع القارئ أن يسقطها بدون خسارة في المعنى أو تعويق لتحدر الإحساسات أو إفقار لغناها؛ كلَّ لفظة يمكن الاستغناء عنها قاتلةٌ للكاتب، فإن العالم أغنى في باب الأدب من أن يحتمل هذا الحشو ويصبر عليه، وليس شيء أحق بأن يثير عقل العاقل من عدم اكتراث الكاتب لوقته ومجهوده، وكم من كاتب أضرَّ به هذا الداء، وآخر ضئيل الشأن والحال لم يحيه من المزايا غير حبك الأداء، ولكن هذا كلام لا يفهمه المنفلوطي؛ لأن اللغة عنده ليست إلا زينة يعرضها، وحلي يخيل بها لا أداة لنقل معنًى أو تصوير إحساس أو رسم فكرة. ومن أين له أن ينزل اللغة هذه المنزلة وهو لا معنى في صدره ولا فكرة في ذهنه؟!