كنت أعلم من البداية أن الأحداث ستتخذ المسار التراجيدي إياه، و أن ما جرى سوف يعيد نفسه معي، إلا أنني لم أتمالك نفسي من خوض التجربة مرة أخرى وربما بحماس أكبر من الماضي. وكنت قد مزقت، قبل ذلك ببضعة أيام فقط، ديواني الأول "نشيد الحجر"، لما هاتفني قيس الذي لم أسمع صوته منذ عامين وأخبرني أنه قادم. مكالمته تلك جعلت كل الماضي يعود فجأة، و كأن كل تلك الأحداث بتفاصيلها المؤلمة و الغير القابلة للتصديق قد وقعت البارحة فقط . . أذكر أننا التقينا آخر مرة في العاشرة صباحا بمقهى باريس حيث تناولنا الفطور، قرأنا جريدتي " العلم " و"الإتحاد الإشتراكي" وحللنا الكلمات المتقاطعة بهما، مكثنا هناك إلى حدود الثانية عشر، بعد ذلك تمشينا قليلا في "البوليفار" ثم دخلنا إحدى قاعات الإنترنت حيث أعاد لي " نشيد الحجر" مرقونا على قرص مدمج مع بعض النماذج للغلاف .....
تركني هناك، وعاد بعد ربع ساعة وفي حقيبته قنينة نبيذ أحمر محلية و دزينة من علب البيرة و "سندويتشتين".
عندما وصلنا إلى الشاطئ كانت الساعة حوالي الواحدة والنصف. لم يكن فصل الصيف قد حل بعد ورغم ذلك كانت الحرارة مرتفعة وكانت هناك مجموعات من شباب و أطفال يمارسون كرة القدم و رياضات شاطئية أخرى ، فيما كان ثنائي من رجال البوليس يذرع الشاطئ موليا الظهر لمهربي الخمور والسجائر عبر سور المرسى ........
افترشنا أوراق الجرائد في ظل حانة " ميامي بيتش"، أخرجنا الكتب و الأقلام أولا، وضعناها جانبا، تناولنا غذاءنا وكنا على وشك أن ننهي علب البيرة حين نادى أحد الشرطيين قيس: أجي أ الريفي لهنا.
أحنى قيس رأسه و قام متثاقلا. تحدث إلى الشرطيين، ثم عاد وعلى وجهه نصف ابتسامة عرفت منها أن هناك مفاجأة ما في الإنتظار. تركته يشعل سيجارة و يرشف
من بيرته قبل أن أسأله:
- ماذا هناك؟
- أترين تلك الصخرة هنالك؟
- نعم!
- تنتظرنا هناك هدية جميلة لهذه الليلة.
....
....
مر بجانبنا " با عبد الرحمان" مرددا بصوته المعتاد( ها البيانات* سخونين ..ها الكاوكاو.). استوقفناه، سألناه عن الأحوال، واشترينا منه ثمن خمسة دراهم. دعا لنا بحسن العاقبة وبأن يحفظنا الله من أولاد الحرام، حمل سلته و انصرف مناديا على بضاعته.. عندئذ كنت قد أنهيت آخر بيراتي وكان ظل "ميامي بيتش " قد استطال أمامنا حوالي ثلاثة أمطار. سرى نشاط عجيب في دماغي و بدأت أرى الدنيا بخير
وجميلة بالفعل. و بينما كان قيس يعالج غطاء زجاجة الروج بأسنانه، تناولت مخطوطة سيرتنا الذاتية المشتركة.. هذه السيرة الروائية التي يتداخل فيها الواقعي و المتخيل، الأفكار السوداء مع الهلوسات الجميلة، الماضي والحاضر في لعبة سفر في الزمن ذهابا و إيابا بدون تخطيط مسبق و لا نظريات جاهزة.. والتي كنا قد أخذنا على نفسينا ألا نخط فيها حرفا واحدا إلا بعد أن يبدأ الشراب في اللعب برأسينا. قرأت الفصل الأخير فبدا لي أنه رائع بالفعل و يصعب علي تجاوزه أو على الأقل مجاراته و البقاء في نفس المستوى، فأدركت أني لم أسكر بعد و لست جاهزة وسرت في ذاتي موجة اكتئاب مفاجئ صعدت من أصابع قدمي وعلقت في الحلق.
شربت كأسي وطلبت آخر. قدمه لي قيس، الذي كان يدندن بأغنية من التراث الريفي، بلباقة و دون أن يبدي أية ملاحظة. أغاظتني طريقته تلك، رغم أني كنت أعرف أنه لم يقصد أن يثير أعصابي، وانفجرت فيه:
- ما هذه الأغنية!
- مالها!؟
- غير هذا الشريط
- كنت تحبينها!
- لم تعد تعجبني
- و أنا مازالت تعجبني
- أنت ذوقك رديء
......
كان يعرف تقلباتي المزاجية ـ هو أيضا له تقلباته ـ لذلك لم يزد حرفا. أحاطني بذراعه، فتركته يقبلني . انتبهنا إلى ثلاثة فتيان مراهقين يراقبوننا عن قرب و كأنهم إنبعثوا من الأرض. عرف قيس كيف يصرفهم بعينيه و دون أن ينبس ببنت شفة رغم أنه يحسن بعض العبارات باللهجة الطنجية تسعفنا في مثل هذه المواقف. نظر إلى ساعته و سألني إن كنت أرغب في التحرك. كانت الساعة تشير إلى الخامسة والنصف و لن تغرب الشمس إلا بعد ساعة على الأقل. إلا أن الشرطيين كانا قد غادرا الشاطئ الذي بدأ يمتلأ برواد آخرين من عشاق و سكيرين و صائدي لذة وجامعي قنينات وعلب البيرة الفارغة. و ضع زجاجة الروج التي كان ما يزال بها ثلاثة كؤوس أو أربعة في حقيبته، وعرجنا على الصخرة حيث سنجد بعد قليل من البحث زجاجة ريكارد.
تخلصنا في الطريق من زجاجة الروج. ابتعنا قنينة مياه معدنية وأكلنا سندويتشات في شارع موسى بن نصير. و في السابعة كنا في سينما "غويا" نحتسي كؤوس الريكار .
* الريفي: نسبة لأمازيغ الشمال المغربي
* البيانات أو البيان: تعني بلهجة الشمال المغربي نواة الفول السوداني
تركني هناك، وعاد بعد ربع ساعة وفي حقيبته قنينة نبيذ أحمر محلية و دزينة من علب البيرة و "سندويتشتين".
عندما وصلنا إلى الشاطئ كانت الساعة حوالي الواحدة والنصف. لم يكن فصل الصيف قد حل بعد ورغم ذلك كانت الحرارة مرتفعة وكانت هناك مجموعات من شباب و أطفال يمارسون كرة القدم و رياضات شاطئية أخرى ، فيما كان ثنائي من رجال البوليس يذرع الشاطئ موليا الظهر لمهربي الخمور والسجائر عبر سور المرسى ........
افترشنا أوراق الجرائد في ظل حانة " ميامي بيتش"، أخرجنا الكتب و الأقلام أولا، وضعناها جانبا، تناولنا غذاءنا وكنا على وشك أن ننهي علب البيرة حين نادى أحد الشرطيين قيس: أجي أ الريفي لهنا.
أحنى قيس رأسه و قام متثاقلا. تحدث إلى الشرطيين، ثم عاد وعلى وجهه نصف ابتسامة عرفت منها أن هناك مفاجأة ما في الإنتظار. تركته يشعل سيجارة و يرشف
من بيرته قبل أن أسأله:
- ماذا هناك؟
- أترين تلك الصخرة هنالك؟
- نعم!
- تنتظرنا هناك هدية جميلة لهذه الليلة.
....
....
مر بجانبنا " با عبد الرحمان" مرددا بصوته المعتاد( ها البيانات* سخونين ..ها الكاوكاو.). استوقفناه، سألناه عن الأحوال، واشترينا منه ثمن خمسة دراهم. دعا لنا بحسن العاقبة وبأن يحفظنا الله من أولاد الحرام، حمل سلته و انصرف مناديا على بضاعته.. عندئذ كنت قد أنهيت آخر بيراتي وكان ظل "ميامي بيتش " قد استطال أمامنا حوالي ثلاثة أمطار. سرى نشاط عجيب في دماغي و بدأت أرى الدنيا بخير
وجميلة بالفعل. و بينما كان قيس يعالج غطاء زجاجة الروج بأسنانه، تناولت مخطوطة سيرتنا الذاتية المشتركة.. هذه السيرة الروائية التي يتداخل فيها الواقعي و المتخيل، الأفكار السوداء مع الهلوسات الجميلة، الماضي والحاضر في لعبة سفر في الزمن ذهابا و إيابا بدون تخطيط مسبق و لا نظريات جاهزة.. والتي كنا قد أخذنا على نفسينا ألا نخط فيها حرفا واحدا إلا بعد أن يبدأ الشراب في اللعب برأسينا. قرأت الفصل الأخير فبدا لي أنه رائع بالفعل و يصعب علي تجاوزه أو على الأقل مجاراته و البقاء في نفس المستوى، فأدركت أني لم أسكر بعد و لست جاهزة وسرت في ذاتي موجة اكتئاب مفاجئ صعدت من أصابع قدمي وعلقت في الحلق.
شربت كأسي وطلبت آخر. قدمه لي قيس، الذي كان يدندن بأغنية من التراث الريفي، بلباقة و دون أن يبدي أية ملاحظة. أغاظتني طريقته تلك، رغم أني كنت أعرف أنه لم يقصد أن يثير أعصابي، وانفجرت فيه:
- ما هذه الأغنية!
- مالها!؟
- غير هذا الشريط
- كنت تحبينها!
- لم تعد تعجبني
- و أنا مازالت تعجبني
- أنت ذوقك رديء
......
كان يعرف تقلباتي المزاجية ـ هو أيضا له تقلباته ـ لذلك لم يزد حرفا. أحاطني بذراعه، فتركته يقبلني . انتبهنا إلى ثلاثة فتيان مراهقين يراقبوننا عن قرب و كأنهم إنبعثوا من الأرض. عرف قيس كيف يصرفهم بعينيه و دون أن ينبس ببنت شفة رغم أنه يحسن بعض العبارات باللهجة الطنجية تسعفنا في مثل هذه المواقف. نظر إلى ساعته و سألني إن كنت أرغب في التحرك. كانت الساعة تشير إلى الخامسة والنصف و لن تغرب الشمس إلا بعد ساعة على الأقل. إلا أن الشرطيين كانا قد غادرا الشاطئ الذي بدأ يمتلأ برواد آخرين من عشاق و سكيرين و صائدي لذة وجامعي قنينات وعلب البيرة الفارغة. و ضع زجاجة الروج التي كان ما يزال بها ثلاثة كؤوس أو أربعة في حقيبته، وعرجنا على الصخرة حيث سنجد بعد قليل من البحث زجاجة ريكارد.
تخلصنا في الطريق من زجاجة الروج. ابتعنا قنينة مياه معدنية وأكلنا سندويتشات في شارع موسى بن نصير. و في السابعة كنا في سينما "غويا" نحتسي كؤوس الريكار .
* الريفي: نسبة لأمازيغ الشمال المغربي
* البيانات أو البيان: تعني بلهجة الشمال المغربي نواة الفول السوداني