على شاطئ البحر أرسل ناظري فينطلق لا يعوقه إلا الأفق البعيد... تتهادى منه إلى الشاطئ موجات كل منها تتزين لملاقاة هذا الشاطئ بلون يختلف عما اتخذته صاحبتها، وإذا هي مرتمية عليه في إلحاح العاشق المشوق حاملة معها نسيماً يشتد حيناً ويلين أحياناً... يشتد فالشوق عارم، ويخفت فالشوق خفيف... والشاطئ رابض يستقبل كل ما برد، لا تلمح عليه من التغير غير بعض الماء يعلوه من أثر الخجل، ثم لا تلبث الرمال الظامئة أن تبتلع هذا الماء إلى غير رجعة وفي غير اكتفاء... والناس بين ذهاب وأوبة منهم من يولي الموجات نظره واهتمامه، ومنهم من شغلته حوريات أخرى، فهو غير حافل بشيء مما يدور حوله من غزل يرق ويحتدم... ومن الناس من اقتحم على الموجات غزلها فافسد من زينتها وعاق من شوقها... قاسياً عاتياً... وهل كان الإنسان إلا كذلك. . . فما الذي ساق صاحبي وأنا في هدأتي هذه يقطعها علي قائلاً في صوت أجش:
- سلام عليك!
- بسم الله الرحمن الرحيم... لا أنزل الله عليك السلام أبداً... من أين خرجت؟
- أعوذ بالله! أهذا لقاء؟
- فليكن وداعاً
- خيراً، ماذا بك!؟
- ليس بي غيرك، فاجلس صامتاً أو انصرف مشكوراً.
- آه. . . آسف، لقد قطعت عليك خيالك. . . آسف يا حضرة. . .
لا فائدة إذن، لقد آلمه لقائي فأراد أن يرده سخرية، وحسبي الله. . . لابد أن أقطع السخرية بمثلها واجعل الحديث كله مزاحاً. . . ليجلس. . . والبحر لن يغيض، والشاطئ لن يفر، والقسوة في الناس لن تزول: -
- لا. . . لا تأسف فهكذا أنت والله. . . با أنك عادة أكثر جموداً منك الساعة، فها أنت ذا تحس فتأسف وما كنت في يوم ذا إحساس، إجلس. . . وتكلم. . .
- أذنت لي. . . أي تنازل. . . كيف حالك وما حال الصيف معك؟ - أما حالي فالله محمود على كل شيء؛ وأما الصَّيف فلا أدري لماذا يمر بطيئاً. يخيل إلي أنه لن يزول. . . أنا لا التذ شيئاً هنا ولا يسرني غير وحدتي؛ وما كنت في يوم محباً للوحدة. . . ولكنني أجدها أقل سوءاً من غيرها.
- سحابة من ملل الصيف تزول إن شاء الله.
- وأنت. . .؟
- أنا ماذا؟
- متى تزول؟
- أعوذ بالله ماذا جرى لك؟ لقد أصبحت طويل اللسان إلى حد لا يطاق.
- أراك تطيقه
- فمتى أراك؟
- أمر عليك
- فأنت لا تريد أن تراني. . . ماذا بك. . . لن أنصرف أو أعرف.
- لقد أحسنت التهديد. . . مللت من قلة العمل والاسترخاء، وكسلت عن العمل في ذاته فاصبح حالي مزيجاً عجيباً من عمل أمامي أكسل عنه، وملل من هذا الكسل، وقعود عن إزالة هذا الملل
- كنودٌ ذلك الإنسان. . . لقد رأيتك والعمل يتكاثف عليك فتناشد الله العون وترجو منه أن يسوق إليك الصيف يرفع عنك حملك. . . وأجاب سبحانه الدعاء، وأزال عنك كدرك وساق إليك الصيف فإذا أنت تستقبله في هذا الفتور العابس وذلك الملل المصطنع.
- مرض. . .
- أنت طبيبه. . . إن نفسك هي أضرى أعدائك فحاربها. . . تضع أمامك المسالك المسدودة وهي قديرة أن تفتحها لك، وأنت قدير. . . مر نفسك تطعك، وامنعها أن تمل تمرح، وازجرها أن تعوج بك تستقم لك الحياة
- خطيب بارع. . .
- لا فائدة منك اليوم. أنا آت إليك غداً، وسوف أصحب معي رفقة ترتاح إليهم، ولأحارب أنا نفسك ما دمت تضعف عنها، سلام عليك.
- سلام؟
ومضى وسيأتي غداً. . كم كنت فظاً معه! ولكنه الحبيب الذي لا يكلفني اصطناعاً في إظهار عواطفي، فهو يقبلها كما أبديها، وأبديها كما أحسها. . . كم أحبه وكم تحمل!. على أية حال إنه غداً آت وما أظنه إلا متغلباً على نفسي. . . نعم إنها كما قال. . . سحابة صيف.
ثروت أباظة
* مجلة الرسالة - العدد 846
بتاريخ: 19 - 09 - 1949
- سلام عليك!
- بسم الله الرحمن الرحيم... لا أنزل الله عليك السلام أبداً... من أين خرجت؟
- أعوذ بالله! أهذا لقاء؟
- فليكن وداعاً
- خيراً، ماذا بك!؟
- ليس بي غيرك، فاجلس صامتاً أو انصرف مشكوراً.
- آه. . . آسف، لقد قطعت عليك خيالك. . . آسف يا حضرة. . .
لا فائدة إذن، لقد آلمه لقائي فأراد أن يرده سخرية، وحسبي الله. . . لابد أن أقطع السخرية بمثلها واجعل الحديث كله مزاحاً. . . ليجلس. . . والبحر لن يغيض، والشاطئ لن يفر، والقسوة في الناس لن تزول: -
- لا. . . لا تأسف فهكذا أنت والله. . . با أنك عادة أكثر جموداً منك الساعة، فها أنت ذا تحس فتأسف وما كنت في يوم ذا إحساس، إجلس. . . وتكلم. . .
- أذنت لي. . . أي تنازل. . . كيف حالك وما حال الصيف معك؟ - أما حالي فالله محمود على كل شيء؛ وأما الصَّيف فلا أدري لماذا يمر بطيئاً. يخيل إلي أنه لن يزول. . . أنا لا التذ شيئاً هنا ولا يسرني غير وحدتي؛ وما كنت في يوم محباً للوحدة. . . ولكنني أجدها أقل سوءاً من غيرها.
- سحابة من ملل الصيف تزول إن شاء الله.
- وأنت. . .؟
- أنا ماذا؟
- متى تزول؟
- أعوذ بالله ماذا جرى لك؟ لقد أصبحت طويل اللسان إلى حد لا يطاق.
- أراك تطيقه
- فمتى أراك؟
- أمر عليك
- فأنت لا تريد أن تراني. . . ماذا بك. . . لن أنصرف أو أعرف.
- لقد أحسنت التهديد. . . مللت من قلة العمل والاسترخاء، وكسلت عن العمل في ذاته فاصبح حالي مزيجاً عجيباً من عمل أمامي أكسل عنه، وملل من هذا الكسل، وقعود عن إزالة هذا الملل
- كنودٌ ذلك الإنسان. . . لقد رأيتك والعمل يتكاثف عليك فتناشد الله العون وترجو منه أن يسوق إليك الصيف يرفع عنك حملك. . . وأجاب سبحانه الدعاء، وأزال عنك كدرك وساق إليك الصيف فإذا أنت تستقبله في هذا الفتور العابس وذلك الملل المصطنع.
- مرض. . .
- أنت طبيبه. . . إن نفسك هي أضرى أعدائك فحاربها. . . تضع أمامك المسالك المسدودة وهي قديرة أن تفتحها لك، وأنت قدير. . . مر نفسك تطعك، وامنعها أن تمل تمرح، وازجرها أن تعوج بك تستقم لك الحياة
- خطيب بارع. . .
- لا فائدة منك اليوم. أنا آت إليك غداً، وسوف أصحب معي رفقة ترتاح إليهم، ولأحارب أنا نفسك ما دمت تضعف عنها، سلام عليك.
- سلام؟
ومضى وسيأتي غداً. . كم كنت فظاً معه! ولكنه الحبيب الذي لا يكلفني اصطناعاً في إظهار عواطفي، فهو يقبلها كما أبديها، وأبديها كما أحسها. . . كم أحبه وكم تحمل!. على أية حال إنه غداً آت وما أظنه إلا متغلباً على نفسي. . . نعم إنها كما قال. . . سحابة صيف.
ثروت أباظة
* مجلة الرسالة - العدد 846
بتاريخ: 19 - 09 - 1949