طه حسين - أديب

- 1 -

زعموا أن من أظهر خصائص الأديب حرصه على أن يصل بين نفسه وبين الناس، فهو لا يحس شيئا إلا أذاعه، ولا يشعر بشيء إلا أعلنه. وهو إذا انظر في كتاب أو خرج للتروض أو تحدث إلى الناس فأثار شيء من هذا في نفسه خاطرا من الخواطر، أو بعث في قلبه عاطفة من العواطف، أو حث عقله على الروية والتفكير لم يسترح ولم يطمئن حتى يقيد هذا الرأي أو تلك العاطفة أو ذلك الخاطر في دفتر من الدفاتر أو على قطعة من القرطاس. ذلك لأنه مريض بهذه العلة التي يسمونها الأدب، فهو لا يحس لنفسه وإنما يحس للناس. وهو لا يشعر لنفسه وإنما يشعر للناس، وهو لا يفكر لنفسه وإنما يفكر للناس، وهو بعبارة واضحة لا يعيش لنفسه وإنما يعيش للناس. وهو حين يأتي من الأمر هذا كله يخادع نفسه أشد الخداع ويضللها أقبح التضليل. فيزعم أنه مؤثر لا يريد أن يستمتع وحده بنعمة الإحساس والشعور والتفكير، وإنما يريد أن يشرك الناس في هذا الخير الذي تنتجه طبيعته الدقيقة الخصبة الغنية، فإذا كان متواضعا معتدل الرأي في نفسه فهو شقي تعس محزون يجب أن يعلن إلى الناس ما يجد من شقاء وتعس وحزن. لعلهم يرثون له أو يرأفون به أو يشفقون عليه، وربما لم ير في نفسه إيثارا ولم يحسس أنه شقي، وإنما آثر نفسه بالخير وأحبها قليلا أو كثيرا فهو يسجل ما يحس وما يشعر وما يفكر ليحفظه من الضياع، وليستطيع العودة إليه من حين إلى حين كلما خطر له أن يستعرض حياته الماضية. وكثيرا ما تعرض له الفرض التي تحمله على أن يستعرض حياته الماضية، والذاكرة قصيرة ضعيفة. فلم لا يسجل خواطره وعواطفه وآراءه التي يتكون منها تاريخه الفردي الخاص ليعود إليه كلما دعاه إلى ذلك جد الحياة أو هزلها، وما أكثر ما يدعو جد الحياة وهزلها إلى أن يستعرض الإنسان حياته الماضية وما اختلف عليه فيها من الأحداث.

يخدع الأديب نفسه هذه الضروب من الخداع. ويعللها بهذه الألوان من التعللات، وحقيقة الأمر أنه يكتب لأنه أديب لا يستطيع أن يعيش إلا إذا كتب، يكتب لأنه محتاج إلى الكتابة كما يأكل ويشرب ويدخن لأنه محتاج إلى الطعام والشراب والتدخين. وهو حين يكتب قلما يفكر فيما يحسن أن يكتب، وما ينبغي ألا يعرفه القرطاس أو يجري به القلم، كما أنه حين يأكل ويشرب ويدخن قلما يفكر فيما يلائم صحته وطبيعته ومزاجه من ألوان الطعام والشراب وأصناف التبغ؛ إنما هي حاجة تضطره إلى الحركة فيتحرك، وتدفعه إلى العمل فيعمل. فأما عواقب هذه الحركة ونتائج هذا العمل فأشياء قد يتاح الوقت للتفكير فيها في يوم من الأيام حين تصبح أمرا مقضيا لا ينصرف عنه، ولا سبيل إلى التخلص منه.

إذا كان هذا كله صحيحاً، وأكبر الظن أنه صحيح، فيجب أن يكون صاحبي الذي أريد أن أتحدث إليك عنه أديبا، فلست أعرف من الناس الذين لقيتهم وتحدثت إليهم رجلا أضنته علة الأدب واستأثرت بقلبه ولبه ونفسه كصاحبي هذا، كان لا يحس شيئا ولا يشعر شيئاً ولا يقرأ شيئاً ولا يرى شيئاً ولا يسمع شيئاً إلا فكر في الصورة الكلامية، أو بعبارة أدق في الصورة الأدبية التي يظهر فيها ما أحس وما شعر وما قرأ وما رأى وما سمع. وكان يجد مشقة شديدة في إخفاء تفكيره هذا على الناس، فكثيرا ما كان يقول لأصحابه إذا رأى شيئا أسخطه أو أرضاه: ما أخلق هذا الشيء أن ينشئ صورة أدبية ممتعة للسخط أو الرضى، وكان يقضي نهاره في السعي والعمل والحديث حتى إذا انقضى النهار وتقدم الليل وفرغ من أهله ومن الناس وخلا إلى نفسه أسرع إلى قلمه وقرطاسه وأخذ يكتب ويكتب ويكتب حتى يبلغ منه الإعياء. وتضطرب يده على القرطاس بما لا يعلم ولا يفهم، وتختلط الحروف أما عينيه الزائغتين، ويأخذه دوار، فإذا القلم قد سقط من يده، وإذا هو مضطر إلى أن يأوي إلى مضجعه ليستريح، ولم يكن نومه بأهدأ من يقظته، فقد كان يكتب نائماً كما كان يكتب يقظاً، وما كانت أحلامه في الليل إلا فصولا ومقالات، وخطبا ومحاضرات، ينمق هذه ويدبج تلك كما كان يفعل حين كانت تجتمع له قواه العاملة كلها، وكثيرا ما كان يحدث أصدقاءه بأطراف غريبة قيمة من هذه الفصول والمقالات التي كانت تمليها عليه أحلامه فيجدون فيها لذة ومتاعا، وكثيرا ما كان يقرأ عليهم فصولا من النثر ومقطوعات من الشعر أملتها عليه يقظته وسجلتها يده حين كان يخلو إلى نفسه بعد أن يكون قد ملأ عينيه وأذنيه وحسه وشعوره وقلبه وعقله بما يحيط به من الأشياء، وبما يمسه من الناس ومن الحياة، وكان أصدقاؤه إذا سمعوا منه هواجس الأحلام أو خواطر اليقظة ألحوا عليه أن يذيع ذلك وينشره، فيبتسم ثم يهزأ ثم يمتنع عليهم ويلح في الامتناع، لأنه كان يؤمن بأن ما يكتبه لم يصل بعد إلى أن يكون خليقا بأن يقدم إلى المطبعة، فهو كان يخاف المطبعة ويكبرها ويحيطها بشيء من التقديس غريب، وكان يتحدث بأن ما يقدم إلى المطبعة من الآثار المكتوبة أشبه شيء بما كان يقدمه الوثنيون القدماء إلى آلهتهم من الضحية والقربان، وبما يتقدم به الآن المؤمنون المترفون إلى إلههم من الصلاة والدعاء. فمن الحق أن تصطفى الضحية وأن يتخير القربان، وأن تكون الصلاة قطعة من النفس، وأن يكون الدعاء صورة للقلب، والعقل جميعا، وكان صاحبنا يرى أن ليس فيما كتب ضحية تصطفى، ولا قربان يختار، وانه لم يوفق بعد إلى أن يودع القرطاس قطعة من نفسه، أو يسطر عليه صورة قلبه وعقله، فما زالت الآماد بينه وبين المطبعة بعيدة، وما زالت الأستار والسجف دونه مسدلة، فليكتب إذا لنفسه لا للمطبعة، فإذا ضاق بنفسه وبما تملي فليظهر أصدقاءه على شيء منه ليرضي هذه الحاجة القوية التي نحسها جميعا إلى أن نشرك الناس فيما نجد من حس أو شعور، والحق أن صاحبي لم يكن يقدم على هذا الا كارهاً مضطرا حين لا يجد بداً من الاقدام، أو حين يسأله أصدقاؤه عما أحدث بعدهم، وكان حياؤه يمنعه من إظهار عقله وقلبه، كما يمنعه من عرض جسمه عاريا على الناس، ولكن أصدقاءه لم يكونوا في حاجة إلى أن يروا شخصه عاريا، وكانت حاجتهم شديدة إلى أن يروا نفسه كما هي، لأنها كانت جميلة خلابة تروعهم حينا وتثير في نفوسهم الحب والمودة دائما.

كان قبيح الشكل نابي الصورة تقتحمه العين ولا تكاد تثبت فيه، وكان إلى القصر أقرب إلى الطول، وكان على قصره عريضاً ضخم الأطراف مرتكبها، كأنما سوى على عجل فزادت بعض أطرافه حيث كان يجب أن تنقص، ونقصت حيث كان يحسن أن تزيد، وكان وجهه جهما غليظاً يخيل إلى من رآه أن في خديه ورما فاحشا، وكان له على ذلك أنف دقيق مسرف في الدقة، منبطح غال في الانبطاح، قد اتصل بجبهة دقيقة ضيقة لا يكاد يبين عنها شعره الغزير الجعد القاصم، لم تكن قد تقدمت به السن بل لم يكن جاوز الثلاثين، ولكن علامات الكبر كانت بادية على وجهه وقده لا يخدع عنها أحد، كان على قصره مقوس الظهر إذا قام، منحنياً إذا جلس، ولعل إدمانه على الكتابة والقراءة وإسرافه في الانحناء على الكتابة أو القرطاس هما اللذان شوها قده هذا التشويه، وقلما كان وجهه يستقيم أمامه، إنما كان منحرف العنق دائما إلى اليمين أو إلى الشمال؛ وقلما كانت عيناه الصغيرتان تستقران بين جفونه الضيقة، إنما كانتا مضطربتين دائما لا تكادان تستقران على شيء حتى تدعاه مصعدتين في السماء، أو تنحرفا عنه إلى ما يليه من إحدى نواحيه. ولم يكن صوته عذبا ولا مقبولًا، وإنما كان غليظاً فجاً، ولكنه مع ذلك لم يكن يخلو من نبرات حلوة تجري عليه إذا قرأ شيئا فيه تأثر وانفعال، وكان له ضحك غليظ مخيف يسمع من بعيد، بل كان كل ما يصدر عن صوته غليظاً مخيفاً، يسمع من بعيد، ولم يكن للنجوى معه سبيل، وكثيرا ما ضايقه ذلك حين كان في باريس، وكثيرا ما حمل ذلك الناس عامة وأصدقاءه خاصة على أن يضيقوا به ويجتنبوه إذا لقوه في قهوة أو ناد أو ملعب من ملاعب التمثيل. وهو على رغم هذا كله كان أحب الناس ألي وأكرمهم علي وآثرهم عندي وأحسنهم مسلكا إلى نفسي ومنزلا من قلبي، كان يزورني فانصرف إليه عن كل شيء، وأقضي معه الساعات، فإذا تركني خيل ألي أني لم أقض معه الا اللحظات القصار. وكنت إذا أعياني الدرس واحتجت إلى الرياضة أو الراحة، آثرت زيارته والتحدث إليه والاستماع له على كل ما كانت تقدم إلى القاهرة أو باريس من أنواع الرياضة والراحة.

- 2 -

فقد عرفته في القاهرة قبل أن يذهب إلى باريس ثم أدركته إلى باريس بعد أن سبقني إليها، عرفته مصادفة وكرهته كرها شديدا حين لقيته لأول مرة؛ كنا في الجامعة المصرية القديمة في الأسبوع الأول لافتتاحها وكنت أختلف إلى ما كان يلقى فيها من المحاضرات حريصاً عليها مشغوفاً بها معتزماً أن لا أضيع حرفاً مما يقول المحاضرون. وكان مجلسي لهذا دائماً قريبا من الأستاذ، فأني لمصغ ذات ليلة إلى الأستاذ وإذا بصوت من ورائي ينطلق بالحديث هادئا ولكنه، على هدوئه يغمر أذني جميعا، ويكاد يخفي علي صوت الأستاذ، فأجد في التخلص منه فلا أفلح، وأضيق بهذا الصوت ويضيق به صاحباي اللذان يكتنفانني، فنلتفت إلى صاحب الصوت نطلب إليه الصمت فلا يسكت الا ريثما يستأنف الحديث، ونراجعه مرة أخرى فلا يحفل بنا، فنشكوه إلى الأستاذ فيضطره الأستاذ إلى الصمت، حتى إذا انتهت المحاضرة وخرجنا من غرفة الدرس رأيناه قد وقف لنا ينتظرنا، فيعرض لنا في غلظة، فإذا زعمنا له أن من حقنا أن نسمع الأستاذ، وأن ليس له أن يصرفنا عنه قهقه قهقهة مخيفة، وقال في صوت ما نشك أن الأستاذ قد سمعه: (وماذا تريدون أن تسمعوا؟ ولكنكم معذورون، جئتم من الأزهر فكل شيء عندكم قيم، وكل شيء عندكم جديد).

واجتهدنا بعد ذلك في أن نجتنب مكانه من غرفة المحاضرات، وأن نختار لأنفسنا مجلساً بعيداً منه أقصى غاية البعد. تركناه ولكنه لم يتركنا، وكأنما عمائمنا كانت تغريه بنا وتحرضه علينا، فلم نكن نخرج من محاضرة حتى يعرض لنا ويأخذ بجبتي أو قفطاني وهو يسألني (أأعجبتك المحاضرة؟) فان قلت (نعم) قال: وماذا أعجبك منها؟ وهل فهمتها على وجهها؟ وكان يقول لي: هون عليك من هذا الحرص على المحاضرات، ولا تتهالك عليها هذا التهالك، فهي أقل غناء مما تظن وخير لك أن تقرأ من أن تسمع، فلما ألح علي في ذلك سألته وإذا كنت ترى هذا الرأي فما اختلافك إلى الجامعة؟ وما استماعك للمحاضرات وما تهويشك علينا بصوتك العالي وحديثك الذي لا ينقطع؟ فضحك وقال: الجامعة شيء جديد أحب أن أراه، وقد سئمت القهوة، ولو لم يكن في الجامعة الا أنت وأصحابك هؤلاء الذين تتفتح عقولهم للعلم الحديث فيتلقون ما يسمعون في كلف ونهم مصدرهما الجهل العميق، لكان هذا كافيا لأن اختلف إلى الجامعة واستمع للمحاضرات. ثم سألني ذات يوم: أين تقيم؟ أجبته: أقيم في حي كذا. قال: ومع من تقيم؟ قلت: مع جماعة من الأهل والأصدقاء كلهم يطلب العلم في الأزهر أو في المدارس المدنية، قال: إن منزلك بعيد وليست بيئتك بالتي تحب، فأنا لا أحب مجالس الطلبة، وأنا مع ذلك حريص على أن أجلس معك وأتحدث إليك فأطيل الحديث، بل أنا حريص على أن أقرأ معك بعض الكتب، فلابد إذا من أن نلتقي، ومن أن نلتقي في نظام واطراد فليكن ذلك عندي، ولك علي أن أردك إلى أهلك وأصدقائك قبل أن يتقدم الليل، ودون أن تجد في ذلك مشقة أو تحتمل فيه عناء. وكان يقول هذا بصوته الغليظ العريض في لهجة الحازم الواثق بأن أمره سيطاع، وقد هممت أن أرد عليه معتذراً، وما كان أكثر المعاذير! فلم أكن أستطيع أن أسهر ولا أتعرف إلى أحد دون إذن من أخي، وكان علي أن أغدو مع الفجر إلى درس الأصول، ولم يكن بد من أن أستعد لهذا الدرس وغيره من دروس الأزهر، وأن أعوض هذا الوقت الذي أضيعه كل مساء في الجامعة على كره من أخي في القاهرة وأسرتي في الريف. هممت أن أعتذر ولكنه لم يمهلني ولم يتح لي أن أقول حرفا، وإنما استوقف عربة ودفعني فيها دفعا وأمر خادمي الأسود الصغير أن يجلس إلى جانب السائق، وجلس هو إلى جانبي وقال للسائق بصوته الغليظ العريض: إلى القلعة، وكنت أسكن في أقصى الجمالية، فلما أخذت أقدر بعد الأمد بين داره وداري، وهممت أن أتكلم وضع يده على كتفي وقال: ألم أقل لك أني سأردك إلى حيث تقيم؟!

- 3 -

وقطعت بنا العربة أحياء مختلفة، ومضت بنا في أجواء متباينة وكنت أحس اختلاف الأحياء وتباين الأجواء فيما يصل إلي من أصوات الناس وحركاتهم، ومن اضطراب الأشياء من حولنا كما كنت أحس ذلك في سير العربة نفسها وفي لهجة السائق وهو يدفع الناس أمامه ويطلب أن يتنحوا له عن الطريق، أو أن يجنبوا أنفسهم خيله وعربته.

كان الحي رشيقاً أنيقاً، وكان الجو سمحاً طلقاً، وكانت الحركات والأصوات من حولي لا تخلو من شدة وعنف، ولكن فيها ظرفا وتأنقا، حتى إذا بلغنا شارع محمد علي ضاقت الطريق واشتد أمامنا الزحام وكثر من حولنا الصياح، وأخذت أصوات الأطفال ونساء الشعب تختلط بأصوات الرجال من العمال وسائقي عربات النقل، وانتشرت في الجو روائح ثقيلة تمتاز منها روائح البصل والثوم وقد أخذت تعمل فيهما النار، وارتفع صوت السائق واتصل، وكثر نذيره، وتحذيره وكثر من حوله لوم الناس له وتأنيبهم إياه، وتردد في الهواء هذا الصوت المعروف الذي يحدثه السائقون بأسواطهم حين يأتون بها هذه الحركة التي يرعون بها الخيل وينبهون بها المارة، ثم نتفسح الطريق وتتسع، ويصفو الجو، ويخف الهواء، وتهدأ الحركة، ويتنفس السائق مطمئنا، وتمشي الخيل رفيقة، ولكن ذلك لا يطول إلا ريثما تنعطف العربة ذات اليمين، وإذا نحن في حارة ضيقة هادئة قد ثقل فيها الهواء وفسد فيها الجو وكثرت في أرضها الأخاديد فالعربة تقفز بنا قفزا والسائق يهز سوطه في الهواء ويحذر وينذر في هدوء ورضى، ويدعو ذلك بعض النوافذ إلى أن تفتح، ويثير ذلك بعض الصبيان فيخرجون من بيوتهم أو من أوكارهم يبيتون بالسائق، ومنهم من يتعلق بالعربة ثم ينصرف عنها، ونحن نضحك من هذا كله ونضحك من السائق خاصة وهو ينظر أمامه ويلتفت وراءه ويضرب الهواء بسوطه ويطلق لسانه بألفاظ ترق حتى تبلغ المداعبة الحلوة، وتغلظ حتى تصل إلى الشتم القبيح، وكل ذلك يصل إلى نفسي فيحدث فيها آثارا مختلفة، ولكنها على اختلافها تتفق في شيء واحد هو الطرافة لأني لم أكن تعودت ركوب العربات، ثم يقف السائق فجأة وننزل من العربة، وإذا صاحبي يقول لي لم نبلغ البيت بعد، ولكننا انتهينا إلى حيث لا تستطيع العربة أن تمضي، فهل تعودت التصعيد والرقي في الجبل، فأنا لا أحب أن أسكن في السهل المنبطح فأكون كغيري من الناس، وإنما أحب أن أشرف على القاهرة وأن أخيل إلى نفسي أني لست منغمسا فيها وأني أدخلها إذا غدوت إلى عملي مع الصبح وأخرج منها إذا رحت إلى بيتي مع الليل، ولست أخفي عليك أني أجد لذة قوية حين أدخل المدينة مع النهار هابطاً إليها من هذه الربوة كأني أغزوها وأسقط عليها سقوط النسر على فريسته، وأجد لذة أخرى ليست أقل من تلك اللذة قوة حين أمضي النهار كله في المدينة مضطرباً مع الناس فيما يضطربون فيه من عمل، خائضا مع الناس فيما يخوضون فيه من حديث، مشاركا للناس فيما يأتون من خير وشر، نافعاً ضاراً منتفعاً محتملاً للضرر، حتى إذا كان المساء ضقت بهم وضاقوا بي وأويت إلى جامعتكم هذه الجديدة أريح نفسي بما اسمع من كلام فيه الممتع وفيه السخيف، ولكنه على كل حال ليس بذي غناء، حتى إذا أخذت بحظي من هذه الراحة الأولى رحت إلى بيتي فلا تسل عن هذا الشعور العذب الذي ينبسط على قلبي شيئا فشيئا، كلما دنوت من هذا المكان أحس كأني أنسل من المدينة وأتخفف من أثقالها وألقي آثامها من ورائي وأطهر جسمي ونفسي من أوضارها وأدرانها حتى إذا رقيت هذه الربوة وبلغت قمتها هذه (وكنت قد أحسست الجهد من الصعيد في طريق عالية ملتوية) وقفت وقفة من كان في مكروه فخلص منه، وأرسلت زفرة يخيل ألي أنها تحمل بقية ما علق بنفسي من شر المدينة، ثم تنفست ملء رئتي مرة ومرة ثم أقبلت هادئا مطمئنا قصير الخطى إلى هذا الباب. وهنا وقف ودق الباب دقتين ففتح لنا ثم أغلق من دوننا.


مجلة الرسالة - العدد 4
بتاريخ: 01 - 03 - 1933

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...