كنت على موعد معها. قالت أن لها أشياء مهمة ومستعجلة لابد أن تحدثني بشأنها. تلك هي طريقتها دائما، لتجبرني على تلبية دعوتها لشرب فنجان قهوة وتجديد اللقاء بي. لقاء غالبا ما ترتب تفاصيله بينها وبين نفسها وتباغتني بالدعوة إليه. وصلت إلى المقهى قبل الأوان بحوالي ساعة. فقررت أن أتفسح قليلا في محلات لمنتوجات الصناعة التقليدية بجوار المقهى ريثما يحين وقت اللقاء.
توقفت عند أحد المحلات، كان به رجل، شكله مثير للانتباه. جالس بورشته، كقطعة ديكور عتيقة. صامت كبركة آسنة، يضيئها فجر يصارع غبشه أول شعاع. قمحي البشرة، طويل الشعر غليظ القسمات و نظراته توحي بأن اقتحامه ليس بالأمر الهين. وبأنه خزان أسرار وتجارب ومعارك. أن ترتدي مثله لباسا من العصور القديمة وتعتمر رأسك بشاشية من دوم، كأنك خارج للتو من أحداث فيلم تاريخي قديم،أمر لوحده يتطلب شجاعة وقناعة استثنائيتين، لمواجهة مجتمع القطيع...
لكن عندما تقدمت إلى محله قبلي، سيدة عصرية ، بقوام رشيق تظهر عليها من خلال حركاتها وطريق حديثها ، أنها تتمتع بحيوية ونشاط أولائك الذين يقصدون في مشيهم ويبرمجون حياتهم وينعمون بوقتهم وينفقون بسخاء على أنفسهم. ساعتها، وقف الرجل، كما يليق بشخص محترم جدا يعرف قدر المرأة ومكانتها، وخفض لها جناح الذل والرضا. وحادثها بلباقة ولطف، كتاجر ماهر دون أن تفارق محياه إشراقة الحبور وابتسامة السعة والرحبة. و لما همت تلك السيدة بالانصراف، لاحق خطواتها الأولى بكلمات بالفرنسية تدل على وثوقه من نفسه وعلو كعبه.
لما رآني أبحلق في محله. سألني مرحبا:" عماذا يبحث سيدي؟" بصراحة لم يكن في نيتي أن أشتري شيئا، كنت فقط أزجي الوقت ريثما يحين وقت موعدي. لذلك قلت له بلباقة: " راقتني تحفك ...وإني أطبق المثل المغربي" اللي ما شرا يتنزه..." فرد علي بلطف : "مرحبا سيدي... تفرج مع راسك... "
لما أكثرت من الأسئلة حول بعض القطع الخزفية الجميلة المرصعة بطلاء فضي، وكذا بعض الأباجورات التي راقتني أشكالها وإبداعيتها.ربما حدس من لكنتي الشمالية المكنطة التي أنتمي إليها فسألني ليتأكد من صدق حدسه : "قل لي: من أين أنت؟ "
- أنا من "وزان". أجبته
- مرحبا، مرحبا بالشرفاء... أولاد دار الضمانة... زارتنا البركة.
- بصراحة أنا لست من الشرفاء… أنا من عامة الناس.
- أولاد "وزان" يا ولدي كلهم شرفاء.
- بصراحة، أنا لا يعني لي الشرف شيئا. الشرف الحقيقي، هو أن تكون أنت وما تملك في خدمة الناس....
- " تفضل اجلس أولا...تفضل ولا تتسرع أبدا...." قالها وهو ينفض كرسيا بالقرب منه. ثم أردف قائلا:" معك حق... لكن المنبت المتأصل شيء أساسي. "
لم يسمح لي أن أنبس ببنت شفة. إذ قال لي وهو يربت بيسراه على فخذي الأيمن، كنوع من التأكيد على أهمية ما سيحكيه لي : " اسمع ، اسمع... سأحكي لك حكاية حدثت معي في هذا السياق." ثم مد يده اليمنى إلى علبة السجائر التي كانت على طاولة صغيرة على يمينه وأشعل سيجارة وعرض علي واحدة. ثم مج رشفة طويلة فيها اللهفة والحرقة والوجع واللذة. بلع الدخان جميعه ولم يطلق العنان للقليل منه، إلا لأنه كان مرغما على التنفس. حيث أن خط الدخان السقيم، تلاشى بسرعة فائقة في فضاء رحب وجميل. التفت إلي وقد سبقت نظراته التعبير عما يعتمل في داخله. نظرات تخفي من ورائها أسرارا وتجارب ومعاناة. ثم شرع يحكي.
" أنا عشت وحيدا وغريبا. جلت وسافرت وغامرت كثيرا. وفي منتصف السبعينات من القرن الماضي. وبالضبط عام المسيرة الخضراء. ذهبت إلى الحج... ولعلمك أنا أصلا من منطقة لا تبعد كثيرا عن مدينة وزان إلا بحوالي ثلاثين كيلومتر... بلا شك تعرف حدكورت؟"
"طبعا. ولي فيها العديد من الأصدقاء..." أجبته. ولما حاولت مواصلة حديثي طارحا عليه بعض الأسئلة بخصوص بعض الأشخاص إن كان يعرفهم. قاطعني، و حسم كل شيء بجملة لخص فيها كل شيء:" أنا ازددت في حد كورت فقط. لكني لم أعش هنالك أبدا ولا أعرف أحدا...ثم ذلك ليس مهما." ثم واصل حكايته: "كنا في مزدلفة، قمنا برمي الجمرات... " فقاطعته مشاكسا له، لأخرجه عن جديته:" أنت المائة في المائة، رميت الشيطان عدو الله، بحجرات كبيرة...بغيتي تفلق باباه ." لكنه لم يهتم لهذه المزحة الحامضة. وواصل حكيه بنفس الجدية. وكأني به يقول لي:" اسمع يا رجل. إذا كان لك خطاب، فليس ثمة مزاح في الحكي ولا دعابة مع تلابيب الحكاية وروحها."
فقلت له: "واصل يا سيدي، فلن أقاطعك. لكني سأحتفظ لنفسي بحق التعليق وإبداء الرأي." لست كيسا ستملؤه بما تريد." رددت بيني وبين نفسي. ولو أن بعض الوصوليين، شعارهم في الحياة هو: " لا تمتلئ إلا الأكياس ذات الأفواه المفتوحة..." فبقوا طوال حياتهم فاتحين كل ثقبهم وما امتلأوا.
نظر إلي نظرة حادة وساخرة، قال لي من خلالها: " علق أو انتقد، ذلك أمر لا يعنيني" ثم واصل حكايته. وثوقه من نفسه أعجبني. لأن الناس الحقيقيون، غير المدعين لا يهتمون أبدا للأشياء الجانبية أو التقييمات البعدية لأقوالهم وأفعالهم. فهي في الغالب صادرة منهم عن إيمان وقناعة لا يخدش صفاء مرآتيهما، أي تشكيك.
" كان علي ذلك اليوم أن أعود إلى مكة، ولم تكن هنالك مواصلات كما صار عليه الحال اليوم. وحدها" بيكوبات" تقوم بنقل الناس. لكن ولا واحدة أرادت أن تتوقف لتحملني. تعبت من الانتظار. واستبد بي القلق والخوف. فقلت مع نفسي:" ما هذا يا سيدي ربي، أولست في بلاد المسلمين. بلد الرحمة والسلام والرأفة. أولست مسلما يعاني على قارعة الطريق، بينما يمر بي مسلمون دون اكثرات؟ ما بكل هؤلاء السائقين العابرين من أمامي لا يتوقفون؟ بصراحة أحسست "بحكرة" شديدة حتى اغرورقت عيني بالدموع. فهل سأظل مرميا هنا كقطعة حجر منسية، تتقاذفني الخطوات؟ أفي مهبط الوحي يعامل المسلمون مسلما على هذه الشاكلة؟ فقررت بيني وبين نفسي أن أوقف أول سيارة قادمة وأرتمي فيها، مهما كان الثمن. وما أراد أن يحصل فليحصل. لن يكون مهينا أكثر من هذه الإهانة وهذه "الحكرة "التي أنا فيها.
وما هي إلا لحظات، حتى اعترضت سيارة وأوقفتها، ثم ارتميت فيها بين الناس. بدا الكل مستغربا سلوكي. فتهاطلت علي الأسئلة من كل حدب وصوب. لكن الجميع، لما حكيت لهم قصتي، تفهم ظروفي وقدر فعلتي. والحمد لله،كان من بين الركاب رجل طاعن في السن. يتجاوز الثمانين سنة. بقي صامتا إلى أن هدأت وقطعت مسافة محترمة راكبا معهم. فبادرني بسؤال:
-" سمعت يا ولدي بأن أصلك مغربي؟" قالها بلهجة أهل الغرب ، بشمال المغرب. إذ نطق المغربي بالضمة على الميم.
- نعم سيدي، أنا من المغرب."
- من أي منطقة في المغرب؟
-من "حدكورت".
- أي منطقة بحدكورت؟
- من المركز...واسمي فلان.
- قل لي: " أولست ابن فلان بن فلان ؟"
- نعم أنا هو.. هل تعرف أبي؟
- الأسبوع الفارط، كنت عندك في البيت في الرباط...لكن للأسف لم أجدك... جئت للسلام عليك، قبل السفر إلى هنا...إلى حج بيت الله.
عندما قال لي هذا صعقت من الدهشة، وارتميت في أحضانه معانقا. سبحان الله، لم يكتب لي أن أراك لما قصدتني في بيتي، وكتب لي أن ألقاك بدون قصد في بيت الله الحرام على قارعة الطريق. إن العالم فعلا، قرية صغيرة جدا، جدا.
عندما سألته من يكون؟ قال لي باسما: "أنت ازددت على يدي... لما ولدت قبلك أبوك أولا، وكنت أنا ثاني شخص يقبلك من بعده. أنا أخو جدك، فلان بن فلان بن فلان الله يرحمهم جميعا.
ساعتها قلت:" الحمد لله. وإن كنت عشت وحيدا وغريبا، فإني شخص متأصل، تمتد جذوره في أعماق تربة زكية وطاهرة... "
فقلت له : " أتفهم أن تشعر بالفخر والاعتزاز، لأن ثمة مصادفة استثنائية حدثت في حياتك. وكشفت لك عن أصولك... لكني مع ذلك، لست مع أي تمييز بين الناس...لا أحد مسؤول عن مجيئه لهذه الدنيا. ولا أحد يختار أين يولد وابن من يكون... العبرة بما بصمت به حياتك، قبل أن ترحل عن هذه الدنيا...."
ساعتها رن هاتفي... فاعتذرت للرجل ووعدته بزيارة ثانية. ثم التحقت بموعدي بالمقهى لأبصم حياتي بتجربة أخرى.
(قاص وروائي من المغرب)
توقفت عند أحد المحلات، كان به رجل، شكله مثير للانتباه. جالس بورشته، كقطعة ديكور عتيقة. صامت كبركة آسنة، يضيئها فجر يصارع غبشه أول شعاع. قمحي البشرة، طويل الشعر غليظ القسمات و نظراته توحي بأن اقتحامه ليس بالأمر الهين. وبأنه خزان أسرار وتجارب ومعارك. أن ترتدي مثله لباسا من العصور القديمة وتعتمر رأسك بشاشية من دوم، كأنك خارج للتو من أحداث فيلم تاريخي قديم،أمر لوحده يتطلب شجاعة وقناعة استثنائيتين، لمواجهة مجتمع القطيع...
لكن عندما تقدمت إلى محله قبلي، سيدة عصرية ، بقوام رشيق تظهر عليها من خلال حركاتها وطريق حديثها ، أنها تتمتع بحيوية ونشاط أولائك الذين يقصدون في مشيهم ويبرمجون حياتهم وينعمون بوقتهم وينفقون بسخاء على أنفسهم. ساعتها، وقف الرجل، كما يليق بشخص محترم جدا يعرف قدر المرأة ومكانتها، وخفض لها جناح الذل والرضا. وحادثها بلباقة ولطف، كتاجر ماهر دون أن تفارق محياه إشراقة الحبور وابتسامة السعة والرحبة. و لما همت تلك السيدة بالانصراف، لاحق خطواتها الأولى بكلمات بالفرنسية تدل على وثوقه من نفسه وعلو كعبه.
لما رآني أبحلق في محله. سألني مرحبا:" عماذا يبحث سيدي؟" بصراحة لم يكن في نيتي أن أشتري شيئا، كنت فقط أزجي الوقت ريثما يحين وقت موعدي. لذلك قلت له بلباقة: " راقتني تحفك ...وإني أطبق المثل المغربي" اللي ما شرا يتنزه..." فرد علي بلطف : "مرحبا سيدي... تفرج مع راسك... "
لما أكثرت من الأسئلة حول بعض القطع الخزفية الجميلة المرصعة بطلاء فضي، وكذا بعض الأباجورات التي راقتني أشكالها وإبداعيتها.ربما حدس من لكنتي الشمالية المكنطة التي أنتمي إليها فسألني ليتأكد من صدق حدسه : "قل لي: من أين أنت؟ "
- أنا من "وزان". أجبته
- مرحبا، مرحبا بالشرفاء... أولاد دار الضمانة... زارتنا البركة.
- بصراحة أنا لست من الشرفاء… أنا من عامة الناس.
- أولاد "وزان" يا ولدي كلهم شرفاء.
- بصراحة، أنا لا يعني لي الشرف شيئا. الشرف الحقيقي، هو أن تكون أنت وما تملك في خدمة الناس....
- " تفضل اجلس أولا...تفضل ولا تتسرع أبدا...." قالها وهو ينفض كرسيا بالقرب منه. ثم أردف قائلا:" معك حق... لكن المنبت المتأصل شيء أساسي. "
لم يسمح لي أن أنبس ببنت شفة. إذ قال لي وهو يربت بيسراه على فخذي الأيمن، كنوع من التأكيد على أهمية ما سيحكيه لي : " اسمع ، اسمع... سأحكي لك حكاية حدثت معي في هذا السياق." ثم مد يده اليمنى إلى علبة السجائر التي كانت على طاولة صغيرة على يمينه وأشعل سيجارة وعرض علي واحدة. ثم مج رشفة طويلة فيها اللهفة والحرقة والوجع واللذة. بلع الدخان جميعه ولم يطلق العنان للقليل منه، إلا لأنه كان مرغما على التنفس. حيث أن خط الدخان السقيم، تلاشى بسرعة فائقة في فضاء رحب وجميل. التفت إلي وقد سبقت نظراته التعبير عما يعتمل في داخله. نظرات تخفي من ورائها أسرارا وتجارب ومعاناة. ثم شرع يحكي.
" أنا عشت وحيدا وغريبا. جلت وسافرت وغامرت كثيرا. وفي منتصف السبعينات من القرن الماضي. وبالضبط عام المسيرة الخضراء. ذهبت إلى الحج... ولعلمك أنا أصلا من منطقة لا تبعد كثيرا عن مدينة وزان إلا بحوالي ثلاثين كيلومتر... بلا شك تعرف حدكورت؟"
"طبعا. ولي فيها العديد من الأصدقاء..." أجبته. ولما حاولت مواصلة حديثي طارحا عليه بعض الأسئلة بخصوص بعض الأشخاص إن كان يعرفهم. قاطعني، و حسم كل شيء بجملة لخص فيها كل شيء:" أنا ازددت في حد كورت فقط. لكني لم أعش هنالك أبدا ولا أعرف أحدا...ثم ذلك ليس مهما." ثم واصل حكايته: "كنا في مزدلفة، قمنا برمي الجمرات... " فقاطعته مشاكسا له، لأخرجه عن جديته:" أنت المائة في المائة، رميت الشيطان عدو الله، بحجرات كبيرة...بغيتي تفلق باباه ." لكنه لم يهتم لهذه المزحة الحامضة. وواصل حكيه بنفس الجدية. وكأني به يقول لي:" اسمع يا رجل. إذا كان لك خطاب، فليس ثمة مزاح في الحكي ولا دعابة مع تلابيب الحكاية وروحها."
فقلت له: "واصل يا سيدي، فلن أقاطعك. لكني سأحتفظ لنفسي بحق التعليق وإبداء الرأي." لست كيسا ستملؤه بما تريد." رددت بيني وبين نفسي. ولو أن بعض الوصوليين، شعارهم في الحياة هو: " لا تمتلئ إلا الأكياس ذات الأفواه المفتوحة..." فبقوا طوال حياتهم فاتحين كل ثقبهم وما امتلأوا.
نظر إلي نظرة حادة وساخرة، قال لي من خلالها: " علق أو انتقد، ذلك أمر لا يعنيني" ثم واصل حكايته. وثوقه من نفسه أعجبني. لأن الناس الحقيقيون، غير المدعين لا يهتمون أبدا للأشياء الجانبية أو التقييمات البعدية لأقوالهم وأفعالهم. فهي في الغالب صادرة منهم عن إيمان وقناعة لا يخدش صفاء مرآتيهما، أي تشكيك.
" كان علي ذلك اليوم أن أعود إلى مكة، ولم تكن هنالك مواصلات كما صار عليه الحال اليوم. وحدها" بيكوبات" تقوم بنقل الناس. لكن ولا واحدة أرادت أن تتوقف لتحملني. تعبت من الانتظار. واستبد بي القلق والخوف. فقلت مع نفسي:" ما هذا يا سيدي ربي، أولست في بلاد المسلمين. بلد الرحمة والسلام والرأفة. أولست مسلما يعاني على قارعة الطريق، بينما يمر بي مسلمون دون اكثرات؟ ما بكل هؤلاء السائقين العابرين من أمامي لا يتوقفون؟ بصراحة أحسست "بحكرة" شديدة حتى اغرورقت عيني بالدموع. فهل سأظل مرميا هنا كقطعة حجر منسية، تتقاذفني الخطوات؟ أفي مهبط الوحي يعامل المسلمون مسلما على هذه الشاكلة؟ فقررت بيني وبين نفسي أن أوقف أول سيارة قادمة وأرتمي فيها، مهما كان الثمن. وما أراد أن يحصل فليحصل. لن يكون مهينا أكثر من هذه الإهانة وهذه "الحكرة "التي أنا فيها.
وما هي إلا لحظات، حتى اعترضت سيارة وأوقفتها، ثم ارتميت فيها بين الناس. بدا الكل مستغربا سلوكي. فتهاطلت علي الأسئلة من كل حدب وصوب. لكن الجميع، لما حكيت لهم قصتي، تفهم ظروفي وقدر فعلتي. والحمد لله،كان من بين الركاب رجل طاعن في السن. يتجاوز الثمانين سنة. بقي صامتا إلى أن هدأت وقطعت مسافة محترمة راكبا معهم. فبادرني بسؤال:
-" سمعت يا ولدي بأن أصلك مغربي؟" قالها بلهجة أهل الغرب ، بشمال المغرب. إذ نطق المغربي بالضمة على الميم.
- نعم سيدي، أنا من المغرب."
- من أي منطقة في المغرب؟
-من "حدكورت".
- أي منطقة بحدكورت؟
- من المركز...واسمي فلان.
- قل لي: " أولست ابن فلان بن فلان ؟"
- نعم أنا هو.. هل تعرف أبي؟
- الأسبوع الفارط، كنت عندك في البيت في الرباط...لكن للأسف لم أجدك... جئت للسلام عليك، قبل السفر إلى هنا...إلى حج بيت الله.
عندما قال لي هذا صعقت من الدهشة، وارتميت في أحضانه معانقا. سبحان الله، لم يكتب لي أن أراك لما قصدتني في بيتي، وكتب لي أن ألقاك بدون قصد في بيت الله الحرام على قارعة الطريق. إن العالم فعلا، قرية صغيرة جدا، جدا.
عندما سألته من يكون؟ قال لي باسما: "أنت ازددت على يدي... لما ولدت قبلك أبوك أولا، وكنت أنا ثاني شخص يقبلك من بعده. أنا أخو جدك، فلان بن فلان بن فلان الله يرحمهم جميعا.
ساعتها قلت:" الحمد لله. وإن كنت عشت وحيدا وغريبا، فإني شخص متأصل، تمتد جذوره في أعماق تربة زكية وطاهرة... "
فقلت له : " أتفهم أن تشعر بالفخر والاعتزاز، لأن ثمة مصادفة استثنائية حدثت في حياتك. وكشفت لك عن أصولك... لكني مع ذلك، لست مع أي تمييز بين الناس...لا أحد مسؤول عن مجيئه لهذه الدنيا. ولا أحد يختار أين يولد وابن من يكون... العبرة بما بصمت به حياتك، قبل أن ترحل عن هذه الدنيا...."
ساعتها رن هاتفي... فاعتذرت للرجل ووعدته بزيارة ثانية. ثم التحقت بموعدي بالمقهى لأبصم حياتي بتجربة أخرى.
(قاص وروائي من المغرب)