صلاح يوسف - تكوين تجمع الكتاب والفنانين التقدميين "ابادماك"

"عند تكوين تجمع الكتاب والفنانين التقدميين "ابادماك" في أواخر ديسمبر 68 وليس بعد مايو 69 كما يزعم بعض الذين يصنفون التجمع كبوق مايوي، كانت دوافع التكوين سلسلة من الهزات التي بدأت تخلخل عروش الديمقراطية وحرية التعبير والاعتقاد في ذلك الوقت، مما استوجب توحد كافة المبدعين التقدميين تحت لواء واحد يحميهم من التشتت ويجعل قرارهم فاعلاً ومؤثراًفما أقسى تكبيل يد الفنان أو إسكات صوته، وبالأخص عندما يجيء ذلك في عهد اتصف بالديمقراطية التي انتزعت وقتها من فوهة بندقية الحكم العسكري الأول

ولعل من أبرز المواقف التي أجمع كل صاحب فكر وحس فني وريشة وقلم على خطورتها، خروج جماعة لا تملك حق تكفير الغير بقرار يقضي بردة الأستاذ محمود محمد طه الذي كان على أيام تلك الفترة شعلة نشاط فكري جذبت قطاعات كبيرة ممن يحترمون فكر الرجل أو ممن يرغبون في مقارعته الحجة0 ولا أود أن أسهب في هذا المجال، ولكن ربما يكون أكثر الذين وقعّوا على عريضة الدفاع عن حرية الفكر ضد قضاة الأستاذ ، لا يؤمنون بفكره ولكنهم انطلقوا من حرص شديد على صيانة حقه في التعبير ومن مغبة استخدام التكفير ضد الآخرين إن هم عبّروا بما لا يرضي قضاة الأستاذ يوماً ما

وكان أيضاً من دواعي تكوين أبادماك، تلك (الفركشة) الشرسة والدامية التي نفذها دعاة الهوس الديني مستهدفين بها نشاط الجبهة الديمقراطية بجامعة الخرطوم عندما كانت تقدم جانباً من فنوننا الشعبية التي من الواجب أن نتوحد حولها ونرضي بها كأصالة يقوم عليها إرثنا الفني، بدلاً من النظر إليها بمنظار مظلم وظالم أعتبرها من قبيل التفسخ والإنحلال0 ولعل المتأمل لهذه الخلفية يدرك تماماً تشابه الأمس واليوم، فما تكفير وردة وإعدام الشهيد محمود محمد طه على أثر إصدار قوانين سبتمبر 83 أو حتى شغب وسقوط الباستيل ببعيدين عن الأذهان، إضافة إلى ممارسات الحجر الفكري العديدة في مجال الفنون ووسائل نشرها التي تقف دليلاً على وهن خيط الوصل بين أصحاب وجعة الحرية والتعبير

قصدت بهذه المقدمة المطولة أن أنبش جانباً من ذكريات أبادماك00 ففي أغسطس 1969م جاب أعضاء التجمع، بعض قرى الجزيرة تحقيقـاً لأحد شعارات نشاطهم الأدبي الفني الثقافي، وهو توصيل المعرفة والثقافة إلى الجماهير في مواقعها وكان التجمع يحشد لذلك أعمالاً مسرحية مثل سقوط دبشليم وهي من تأليف محمد الفيتورى، والكتاحة من تأليف خالد المبارك، فضلاً عن لفيف من الشعراء والكتاب والمغنيين والموسيقيين والتشكيلين بمعارضهم المتنقلة0 وقد حدث أن قدمت في وادمدنى في وقت واحد سبع ندوات وليالٍ شعرية ومعارض ومسرحيات وأغانٍ0 ثم توالى الطواف على قرى عديدة، أقف عند واحدة منها وهي بورتبيل التي تقع في وسط مشروع الجزيرة 0 وهناك كانت فرحة أهالي القرية كبيرة لمقدمنا الحاشد ولإصرارنا على الوصول إليهم رغم رداءة طرق الجزيرة الطينية في موسم الخريف00 وكنا قد درجنا على سؤال أهل القرى عن خلفية اسم قريتهم، وغالبـاً ما ترجع الأسماء إلى أسماء الشيوخ أو تنسب إلى الأولياء، إلا أن اسم بورتبيل الذي فيما علمنا كان مكونـاً من جزأين على غرار بورت سودان وعليه فإن كلمة بورت كلمة إنجليزية وبيل اسم لأحد الإنجليز الذين كانوا يشرفون على ذلك التفتيش الزراعي، وبحق إنني كنت أظن أن سكان تلك القرية الصغيرة سوف لا يحسنون استقبالنا بحسبان أن الثقافة كمٌ مهمل، وربما لا تجد الترحيب لديهم، غير أنهم فاجأونا بتقديم برنامج ثقافي من جانبهم أبرزوا فيه فنونهم وقدراتهم المسرحية ومن ثم أبرزنا نحن ما عندنا من فنون فتكامل عطاؤنا وعطاؤهم المشتركان كأروع ما يكون، ولم يفسد تسلسل العطاء تكاثر الحشرات التي اجتذبتها الإضاءة من كل حدب وصوب، أو تسلل عقارب المشروع الزراعي إلى مكان العرض وتسببها في لدغ طفلة كادت أن تموت بين يدي والدها الذي رفض إيقاف العروض حين أبدينا أسفاً وتحرجاً
وقد كان من ضمن ما خرج به تجمع أبادماك، هو اعتبار بورتبيل قرية صديقة وتم الاتفاق مع أهاليها على تبني أبادماك لعمل مسرحي تكون عناصره الفاعلة من بورتبيل، وبالفعل تم الوفاء بذلك وأنتدب الأستاذان طلحة الشفيع وعلى وراق، على ما أذكر، لإخراج عمل مسرحي كان هو مسرحية الفتريتة التي ألفها طلحة الشفيع، ولقد تواصل العمل لشهر أو يزيد حتى جاء العمل إلى خشبة المسرح القومي تعبيراً عن الوفاء وكسراً لحوائط المستحيل0 فقد أفضت التجارب إلى صعود بعض المزارعين الأميين مع أبنائهم على الخشبة لإبانة قدراتهم الكامنة بصورة مشرّفة

تلك إشارات جديرة بالتسجيل، فقد حَفَرت حروفها في ذاكرتي ذات يوم، كشاهد على ايجابيات التواصل الثقافي حين يتوفر له مناخ المعافاة والتضحية والإيمان"

صلاح يوسف


مقال نشر كمفكرة في أوائل عام 1989 بجريدة الخرطوم



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...