خفق قلبي بالحب لأول مرة وأنا صبي في الثالثة عشرة. خفق بحب شريفة، التي كان للفيلا الخاصة بوالدها شرفة مفتوحة على الشارع الطويل المعتم، وكانت تجلس وحدها كل مساء في الشرفة تحت ضوء مصباح صغير معلق ينشر هالة من النور الخفيف حول رأسها ويتفرق في هواء الشارع الصامت. لم أحدثها قط، لم أقترب منها، والأرجح أنها لم تلحظ وجودي، لأني كنت أكتفي بالمرور كل مساء على الرصيف المقابل لشرفتها، أخطف النظر الى وجهها وكتفيها وهي جالسة أشبه بنجمة مشعة في اكتمال شبابها وجمالها. كنت صبيا صغيرا مثل عشرات الصبية من شارعنا المعتم المهمل الصامت، فلم تعرف بأنني أتطلع إليها، كانت أول من خفق قلبي بها، أو أن ذلك كان أول أوهام المحبة، ومن ضوء تلك الشرفة ترامت في حياتي أوهام المحبات، وهما بعد آخر. وظللت طوال عمري أمشي على ذلك النور الخافت ما بين خيالي والحقيقة، وأنا أسأل نفسي: ما الذي اود أن أحققه في حياتي التي ظهرت عرضا؟ وهل يصلح العمد والقصد في رحلة تمت بالمصادفة؟
أحببت بعد ذلك بسنوات وأنا في السابعة عشرة، وكتبت إليها رسائل مطولة، وغمرتني بحنانها، لكن اعتقالي لسنوات أحبط كل شيء، وحين خرجت من المعتقل كانت قد تزوجت. ظللت طويلا أرى عينيها الواسعتين تشعان بضوء الشرفة القديمة، تتألقان بالوهم والأمل العميق.
سافرت خارج مصر وتزوجت، ولم يكن في قلب زوجتي ولا عينيها شيء لا من الحلم ولا من الوهم. عشت بجوارها لكن ليس معها، مثلما تسير بجوار شريط قطار، ثم تزوجت ثانية ، وثالثة، وكنت بدون وعي أفتش عن ذلك النور الخافت الذي أضاء قلبي، إلي أن التقيت بها، فوقعت في حبها والأدق أن أقول فارتفعت بحبها، ولم أجد سببا واضحا لذلك العشق العارم، وقلت لنفسي ليس حبا ذلك الذي نعرف أسبابه، لأن الحب يبقى بئرا عميقة من الأسرار والذكريات والصور التي تندلع مجتمعة فجأة مثل كرة من نار، لكننا افترقنا رغم المحبة، فانجرفت إلى ذكريات المحبات الخائبة التي مرت وأخذت أتساءل: لماذا لم يبق على أطراف روحي سوى مرارة من سعادة؟ وحزن من فرح؟ ويأس من أمل؟ وكيف تحطمت أوهامي الجديدة على صخرة أوهامي القديمة؟ فإذا بلا شيء بين يدي؟ لا شيء سوى بقايا حياتي التي انقضت ذرة مشعة بالخيال والحب والأمل. ها أنا ألقي على العالم نظرة أخيرة. أوصد أبوابه. أحكم الرتاج على نافذته المطلة على الزمن. ادير ظهري للدنيا، أغذ الخطى وقدماي تتعثران بالأغنيات القديمة، واستدارة عنقك، وبسمة عينيك، ونور الشرفة الخافت البعيد. أغذ الخطى وليس في قلبي سواك مشعة في دمي، مشعة في خيالي الذي فاق كل شيء، أمضي يغمرني شعور بالثقة بأنني حين ألقى وجه ربي سيرأف بي ويقول لي : مغفورة لك كل ذنوبك، كان قلبك يخترع العالم وقد أتعبك ذلك، واتعبتك الأحلام التي عاقبتك بالرقة وعذبتك بالحنان وبددتك بالشوق. استرح هنا واهدأ وكف عن اختراع العالم. ولسوف أجلس مطيعا ممتنا أستريح في ظل الرحمة، أضم ركبتي إلى صدري وأبذل قصاري جهدي لكي أنسى عينيك، ونور الشرفة الخافت بعيدا، وأنحي بعيدا الوهم العذب والأمل العميق.
***
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري
أحببت بعد ذلك بسنوات وأنا في السابعة عشرة، وكتبت إليها رسائل مطولة، وغمرتني بحنانها، لكن اعتقالي لسنوات أحبط كل شيء، وحين خرجت من المعتقل كانت قد تزوجت. ظللت طويلا أرى عينيها الواسعتين تشعان بضوء الشرفة القديمة، تتألقان بالوهم والأمل العميق.
سافرت خارج مصر وتزوجت، ولم يكن في قلب زوجتي ولا عينيها شيء لا من الحلم ولا من الوهم. عشت بجوارها لكن ليس معها، مثلما تسير بجوار شريط قطار، ثم تزوجت ثانية ، وثالثة، وكنت بدون وعي أفتش عن ذلك النور الخافت الذي أضاء قلبي، إلي أن التقيت بها، فوقعت في حبها والأدق أن أقول فارتفعت بحبها، ولم أجد سببا واضحا لذلك العشق العارم، وقلت لنفسي ليس حبا ذلك الذي نعرف أسبابه، لأن الحب يبقى بئرا عميقة من الأسرار والذكريات والصور التي تندلع مجتمعة فجأة مثل كرة من نار، لكننا افترقنا رغم المحبة، فانجرفت إلى ذكريات المحبات الخائبة التي مرت وأخذت أتساءل: لماذا لم يبق على أطراف روحي سوى مرارة من سعادة؟ وحزن من فرح؟ ويأس من أمل؟ وكيف تحطمت أوهامي الجديدة على صخرة أوهامي القديمة؟ فإذا بلا شيء بين يدي؟ لا شيء سوى بقايا حياتي التي انقضت ذرة مشعة بالخيال والحب والأمل. ها أنا ألقي على العالم نظرة أخيرة. أوصد أبوابه. أحكم الرتاج على نافذته المطلة على الزمن. ادير ظهري للدنيا، أغذ الخطى وقدماي تتعثران بالأغنيات القديمة، واستدارة عنقك، وبسمة عينيك، ونور الشرفة الخافت البعيد. أغذ الخطى وليس في قلبي سواك مشعة في دمي، مشعة في خيالي الذي فاق كل شيء، أمضي يغمرني شعور بالثقة بأنني حين ألقى وجه ربي سيرأف بي ويقول لي : مغفورة لك كل ذنوبك، كان قلبك يخترع العالم وقد أتعبك ذلك، واتعبتك الأحلام التي عاقبتك بالرقة وعذبتك بالحنان وبددتك بالشوق. استرح هنا واهدأ وكف عن اختراع العالم. ولسوف أجلس مطيعا ممتنا أستريح في ظل الرحمة، أضم ركبتي إلى صدري وأبذل قصاري جهدي لكي أنسى عينيك، ونور الشرفة الخافت بعيدا، وأنحي بعيدا الوهم العذب والأمل العميق.
***
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري