موسى غافل الشطري - إنطفاء..

كانا يلهوان ببراءة الأطفال . داهمهما الحب غفلة، بعد أن تعانقت عيونهما في وميض لم يألفه هو . فأخذت وجهه بين كفيها و قبلت شفتيه قبلة عميقة و هربت.
و رغم زواجها بعد غيابه ،أثناء مواصلة دراسته، بقيت علاقتهما متواصلة كأصدقاء طفولة . ومرت الأعوام و هو يلتقيها ليلاً عند غياب زوجها الطويل . حاول أن يقبلها ذات مرة، لكنها أبعدت وجهه و يديه بلطف و خرجت . كانت محاولته تلك ،لكي يُقَبِّلها كما طبعت هي قبلتها التي طبعَتْهاعلى فمه يوم ذاك .
أخيراً أذعن ألاّ يحاول مرة ثانية ،رغم تواصلها في المناسبات .بقي شوقه ينبعث في قلبه و عيناه عند كل لقاء يتحرى في عينيهاعن ذلك الوميض الذي سحر كيانه بكامله ، ولم يتكرر ثانية.
أَبَتْ عليه ذلك . و لم يتداولا في لقائهما سوى الأمور العامة، أو هكذا بدا الأمر. رغم الود النابض الذي يتجلى أثناء ذلك عبر ليالٍ كانت تكفي أن يبثا بها لواعجهما .
كان كل مايستطيع فعله : أن يتلقف ابنتها الحابية و يلثم خدها بقبلات حارة. و كأنه يرسلها رسالة مشفرة شوقاً لأمها. فتتناول ابنتها من بين يديه ، و تتشابك الأصابع ، و تقبل خدها بموضع قبلاته . هذا هو مدى ما تسمح لهما ظروفهما ، دون أن ينطقا ولو بكلمة يشيران بها للحب الغامر الذي يلهب جنبيهما .
كان مُتَجَلِّياً جداً لهما ما يخفيان من شوق . كانت هي التي قيدت مساحه تلهفه. فيرسل لها خلال قبلاته لطفلتها نوعاً من العتب على ما ألجم لسانيهما .
أَوْفَتْ للزوج : ألاّ تدعه يلمس سوى أصابعها حينما يتشابكان أثناء تناول الطفلة .
و مضت السنون . عشرات السنين ، و انقطع التواصل ، بعد أن سكن مدينة أخرى بناء لمقتضيات العمل الوظيفي . لكن شوقهما الدفين بقي طريا ، رغم مضي عقود عديدة من الزمن، و بقيا يتابعان بعضهما من بعيد .و توفي الزوج بعد أن خلف لها العديد من الأولاد . و صعق بما تناهى إلى سمعه فقدان بصرها المفاجئ .
لا يريد أن يلتقيها كفيفة البصر ، و يوجع قلبها . فتلافى أي لقاء ، و هو يعاود مدينتهما ، بمروره الخاطف .و تساءل مع نفسه :
ـ كيف أمست تلك العينين الجميلتين الناطقتين بذلك السحر و المشاعر؟
كيف حالهما لو التقيتها ؟ وأي نظرة حنان و شوق يمكن أن يطلا منهما ؟
لم تمهله ظروفه القاسية باللِّقاء حتى تجاوز عمراهما السبعين عاماً . إذ أثقلته الأيام .. فدأب مكابراً عبثاً ، على إزاحة ذكرياته معها جانباً .
ولكن عتابها وصل . واستشف على إنها عَنَتْ : إنه نسيَها . فطالبته بالحضور. أما هو فقد كان مروره يحرجه و أولادها و أحفادها يملؤون البيت .
* * *
عندما توفرت الفرصة واستجاب لرغبتها ، قادته ابنتها الى مأواها . تلك الطفلة التي كان يتلقفها .
كانت الدار خالية عدا الأم و البنت . كان لقاء ـ اختليا فيه لوحدهما ـ كأنه يرأب ذلك الصدع الذي سننت أطرافه الأعوام الطويلة و أزادته حدةً . و كأن ذكرياتها قد انكبحت طيلة عقود ثم انفتقت فجأة كالجراح المحتقن. فما أن حيّاها ، حتى بدأت يداها يتحرّيان، لتمسك بيديه برفق . كان وجهها السبعيني ، بدا و كأنه يزداد شحوباً ، ثم تورد تدريجياً ، ليوحي له باحتفاظه بجاذّبيته أيام زمان .
ـ غِبْتَ كثيراً ...؟
حاولت عمداً ألاّ تفتح عينيها .
ـ سمعتُ إنك أتيت لأحبّائِك ؟
ـ نعم . و لم أمكث طويلاً .
ـ حسناً تفعل . لابد أن يرف قلبك على أقاربك فتأتيهم؟ فهم أولى بالمعروف.
ـ ...
بدا نشيجها متريثاً ، و كأنه يخطو خطوات حذرة و فيها كبرياء ،ثم بدأ البكاء يعصف بجسدها . كان هناك ما تخبئه في فؤادها . و ربما كانت نادمة ، لأنها لم تسمح له أن يطفئ ضماه بقبلةٍ . فحافظت حينها على قبلتها يتيمة بلا إجابة . و ربما هو عتب لا تريد أن تفصح عنه . و هاهي تنعيه ببكاء موجع . بِشِعْرالقَوَّالات و بصوت رخيم مكلوم ، و الدموع ثَلَمَت السد الذي أنشأته ، ولم يصمد أمام الفيض . وفاتها إن البكاء ألهاها، فأسفرت أجفانها عن ابيضاض عينيها ، وانعدم سحر تلك النظرات . و كأن كدر السنين قد تراكم لتندثر معالم سحرهما . و شرعت يداها المرتجفتان تتفقدان ما ألفته عيناها آنذاك ، فهاما بحبه . بحثٌ ملهوفٌ ، في كل جسده المتاح ، من رأسه حتى قدميه ، و نشيجها العنيف يتواصل . بجرأة لم يألفها ، في تفقدٍ عبثيٍ لملامح وجهه ، و قبلات قد انهدَّ عنانها ، و الدموع لا قياد يَرْشِمْها .
كانت البنت قد أحضرت قدحي شاي و غادرت، و دموعها تنهمر. كانت ـ كما يبدو ـ على بينة من أمرهما.
لم يطل مكوثه طويلاً . كان من اللأئق أن ينتزع قبلة من وجهها و هي تقبله . لكنه لم يفعلها كما كان يحلم .
لا يعرف بماذا يسمي تجربته تلك ؟ أهي الخجل؟ الحياء؟ الجبن ؟ ليِفِّوِت فرصة تقبيل وجهها المتاح و المستسلم بالكامل . حلَّ بديلاً عن ذلك أيضاً و هو يودعها.. عذابٌ و تأنيبٌ لضميره. ثم صُعِقَ برحيلها المفاجئ، ليترك في قلبه ثغرة تنز ندماً؟

موسى غافل الشطري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...