من جرادة مدينة الفحم أحيي الساهرين على هذه الندوة..
أحيي أيضا هذا الحضور الكرام..
أحييهم كلهم بنكهة دفء الفحم في الليالي الصقيعية..
لا يستقيم الحديث عن أدب المناجم دون التطرق إلى لغة المنجم التي تعد أحد مكونات هذا الصنف الأدبي الذي يحاول جاهدا فرض ذاته في الساحة الثقافية والفنية...
ماذا يُقصد بلغة المنجم؟
لغة المنجم هي تلك المصطلحات التقنية التي يتداولها العمال بينهم قصد التواصل والتفاعل بسهولة مع محيطهم المهني، وتأدية واجبهم اليومي على أتم وجه.
ولغة المنجم هي لغة مهنية تندرج فيما يطلق عليه باللسانيات الاجتماعية والتي يقصد بها تلك التبدلات التي تتأثر بها اللغة من خلال علاقتها بالناطقين بها وذلك حسب فئتهم الاجتماعية ووسطهم المهني وغير ذلك...
كما أن هذه اللغة تهدف إلى ربط اللغة الأم بوظيفتها التواصلية، وتوسع من ارتباطاتها وعلاقاتها بالسياق اللغوي والاجتماعي العام وذلك حين تضخ فيها سيلا من المفردات تبعث فيها دينامية وحيوية تجنبها ما يطلق عليه موت اللغة...
ولغة الفحم هي جزء من لغة المنجم.. ولدت مع نشأة منجم الفحم واندثرت مع إغلاقه.. لم يبق منها إلا مفردات يسيرة..
عند التحاقهم للعمل بمنجم جرادة أول مرة، كانت الشركة تقوم بتدريب العمال على استيعاب أكبر عدد من المصطلحات التقنية المتداولة على غرار: "لاطايْ". "الفاصْما". "المارْطو". "التّْرايْ". "السّْكيبْ". "السانْتَرْ"... وأيضا فهم معنى "بْوازي". "بوصْ". "طاسْيونْ"... والغرض من هذا الاستئناس بآليات المنجم وأمكنته...
وعند الشروع في العمل يكون المتدرب قد اكتسب رصيدا لغويا منجميا سيسهل عليه التأقلم بسرعة مع عالم باطن الأرض..
لقد تكونت لغة الفحم من اللغة الفرنسية نظرا لأن المشرفين الأوائل عن المنجم والمسيرين لشؤونه كانوا من الفرنسيين..
وقد تُركت بعض المفردات على حالها كما تنطق بالفرنسية.. أما مفردات أخرى، ونظرا لصعوبة نطقها، فقد حُوّرت جزئيا أو كليا كي تتناسب مع النطق خاصة وأن العمال المغاربة انحدروا من قبائل وجهات متعددة وكان أغلبهم أميين..
لقد كتبتُ رواية "مينورْ شَرْبونْ"، وحين تكتب عن جرادة الفحم تصادف طريقك العشرات من هذه المصطلحات النابعة من باطن الأرض..
فكرت أول الأمر في ترجمة ما يمكن ترجمته إلى العربية الفصحى، لكني لاحظت أن هذه الكلمات فقدت بريقها ورنتها الجميلة التي تعوّد الناس على سماعها والنطق بها، فتراجعت عن فكرة الترجمة..
هناك مفردات ارتبطت بالحزن مثل "البوليما" التي تعني انهيار الصخر والتراب وما ينجم عن هذا من رعب وموت وعاهات.. عكس بعض المصطلحات المقترنة بالبهجة والسرور مثل "الكانزينا" التي ترمز إلى المال وما كان يتركه من انطباع حسن في نفوس أسر العمال..
كما انضافت مصطلحات أخرى إلى اللهجة المحلية وكانت تتردد بكثرة في فترة من الفترات على غرار:
"الدَّبّو"...
يحكي الرعيل الأول أن أصل الكلمة يعود إلى الكلمة الفرنسية debout:
عندما اقترب موعد نهاية العمل، أمَر أحد المسؤولين الفرنسيين بإحدى ورشات شركة المنجم فريق عمله بالوقوف استعدادا للانصراف. لما أطلقت la sirène صفيرها الحاد، أشار إليهم بالمغادرة.
ارتبطت كلمة debout في ذهن العمال المغاربة بهذا الصوت الذي يدوّي معلنا نهاية كل فترة عمل فأطلقوا عليه "الدَّبُّو"...
وقد ساعد هذا "الدَّبُّو" الساكنة على إدارة الوقت وتدبيره كما عمل على ضبط حركتهم اليومية خصوصا خلال ساعات النهار لأن أكثر الناس حينها لم يكونوا يملكون ساعات يدوية أو منبّهات. كما وُظفت الكلمة في عدة استعمالات، فكان ينعت بها أولئك الأطفال الصغار الذين يسترسلون في البكاء ويزعجون آباءهم إذ يشبهونهم ب "الدَّبُّو".
أما الكلمة الثانية فهي " كاصْويلا"..
كانت تطلق محليا على كل شخص وسيم أنيق الثياب والمظهر.. لا يزال بعض الساكنة القدامى يستعملون هذه الكلمة..
يعود أصل الكلمة إلى اسم أحد العمال الإسبان بمنجم الفحم بجرادة إبان الاستعمار يسمى "كاباصْويلو" والذي كان يظهر دائما في كامل زينته.. علِق هذا الاسم وأناقة صاحبه بمخيلة العمال بوجه خاص بحكم الاحتكاك اليومي به وبما أنه قد صعب عليهم نطقه، فقد حوّروه إلى "كاصْويلا" وشرعوا يطلقونه على كل شخص أنيق حسن الهندام...
محمد الدويمي
* مداخلة محمد الدويمي في اليوم الأول خلال الندوة الدولية في موضوع "المناجم في النتاجات الأدبية والفنيىة والسينمائية، والتي جرت أطوارها برحاب مركز الدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية بوجدة يومي 4 و5 نونبر 2022..
أحيي أيضا هذا الحضور الكرام..
أحييهم كلهم بنكهة دفء الفحم في الليالي الصقيعية..
لا يستقيم الحديث عن أدب المناجم دون التطرق إلى لغة المنجم التي تعد أحد مكونات هذا الصنف الأدبي الذي يحاول جاهدا فرض ذاته في الساحة الثقافية والفنية...
ماذا يُقصد بلغة المنجم؟
لغة المنجم هي تلك المصطلحات التقنية التي يتداولها العمال بينهم قصد التواصل والتفاعل بسهولة مع محيطهم المهني، وتأدية واجبهم اليومي على أتم وجه.
ولغة المنجم هي لغة مهنية تندرج فيما يطلق عليه باللسانيات الاجتماعية والتي يقصد بها تلك التبدلات التي تتأثر بها اللغة من خلال علاقتها بالناطقين بها وذلك حسب فئتهم الاجتماعية ووسطهم المهني وغير ذلك...
كما أن هذه اللغة تهدف إلى ربط اللغة الأم بوظيفتها التواصلية، وتوسع من ارتباطاتها وعلاقاتها بالسياق اللغوي والاجتماعي العام وذلك حين تضخ فيها سيلا من المفردات تبعث فيها دينامية وحيوية تجنبها ما يطلق عليه موت اللغة...
ولغة الفحم هي جزء من لغة المنجم.. ولدت مع نشأة منجم الفحم واندثرت مع إغلاقه.. لم يبق منها إلا مفردات يسيرة..
عند التحاقهم للعمل بمنجم جرادة أول مرة، كانت الشركة تقوم بتدريب العمال على استيعاب أكبر عدد من المصطلحات التقنية المتداولة على غرار: "لاطايْ". "الفاصْما". "المارْطو". "التّْرايْ". "السّْكيبْ". "السانْتَرْ"... وأيضا فهم معنى "بْوازي". "بوصْ". "طاسْيونْ"... والغرض من هذا الاستئناس بآليات المنجم وأمكنته...
وعند الشروع في العمل يكون المتدرب قد اكتسب رصيدا لغويا منجميا سيسهل عليه التأقلم بسرعة مع عالم باطن الأرض..
لقد تكونت لغة الفحم من اللغة الفرنسية نظرا لأن المشرفين الأوائل عن المنجم والمسيرين لشؤونه كانوا من الفرنسيين..
وقد تُركت بعض المفردات على حالها كما تنطق بالفرنسية.. أما مفردات أخرى، ونظرا لصعوبة نطقها، فقد حُوّرت جزئيا أو كليا كي تتناسب مع النطق خاصة وأن العمال المغاربة انحدروا من قبائل وجهات متعددة وكان أغلبهم أميين..
لقد كتبتُ رواية "مينورْ شَرْبونْ"، وحين تكتب عن جرادة الفحم تصادف طريقك العشرات من هذه المصطلحات النابعة من باطن الأرض..
فكرت أول الأمر في ترجمة ما يمكن ترجمته إلى العربية الفصحى، لكني لاحظت أن هذه الكلمات فقدت بريقها ورنتها الجميلة التي تعوّد الناس على سماعها والنطق بها، فتراجعت عن فكرة الترجمة..
هناك مفردات ارتبطت بالحزن مثل "البوليما" التي تعني انهيار الصخر والتراب وما ينجم عن هذا من رعب وموت وعاهات.. عكس بعض المصطلحات المقترنة بالبهجة والسرور مثل "الكانزينا" التي ترمز إلى المال وما كان يتركه من انطباع حسن في نفوس أسر العمال..
كما انضافت مصطلحات أخرى إلى اللهجة المحلية وكانت تتردد بكثرة في فترة من الفترات على غرار:
"الدَّبّو"...
يحكي الرعيل الأول أن أصل الكلمة يعود إلى الكلمة الفرنسية debout:
عندما اقترب موعد نهاية العمل، أمَر أحد المسؤولين الفرنسيين بإحدى ورشات شركة المنجم فريق عمله بالوقوف استعدادا للانصراف. لما أطلقت la sirène صفيرها الحاد، أشار إليهم بالمغادرة.
ارتبطت كلمة debout في ذهن العمال المغاربة بهذا الصوت الذي يدوّي معلنا نهاية كل فترة عمل فأطلقوا عليه "الدَّبُّو"...
وقد ساعد هذا "الدَّبُّو" الساكنة على إدارة الوقت وتدبيره كما عمل على ضبط حركتهم اليومية خصوصا خلال ساعات النهار لأن أكثر الناس حينها لم يكونوا يملكون ساعات يدوية أو منبّهات. كما وُظفت الكلمة في عدة استعمالات، فكان ينعت بها أولئك الأطفال الصغار الذين يسترسلون في البكاء ويزعجون آباءهم إذ يشبهونهم ب "الدَّبُّو".
أما الكلمة الثانية فهي " كاصْويلا"..
كانت تطلق محليا على كل شخص وسيم أنيق الثياب والمظهر.. لا يزال بعض الساكنة القدامى يستعملون هذه الكلمة..
يعود أصل الكلمة إلى اسم أحد العمال الإسبان بمنجم الفحم بجرادة إبان الاستعمار يسمى "كاباصْويلو" والذي كان يظهر دائما في كامل زينته.. علِق هذا الاسم وأناقة صاحبه بمخيلة العمال بوجه خاص بحكم الاحتكاك اليومي به وبما أنه قد صعب عليهم نطقه، فقد حوّروه إلى "كاصْويلا" وشرعوا يطلقونه على كل شخص أنيق حسن الهندام...
محمد الدويمي
* مداخلة محمد الدويمي في اليوم الأول خلال الندوة الدولية في موضوع "المناجم في النتاجات الأدبية والفنيىة والسينمائية، والتي جرت أطوارها برحاب مركز الدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية بوجدة يومي 4 و5 نونبر 2022..