قال السجين حرشو1 يخاطب زميله السجين حمود:
-اسمع يا حمود، تعرف طبعاً الجامع الأموي.. هناك إلى جانب الجامع ساحة صغيرة تدعى ساحة النوفرة، تفضي إليها بدرجات منحدرة، يقع في طرف منها مقهى صغير. كراسيه المصفوفة في خارجه أكثر من الكراسي القابعة في داخله، وكنت أستطيب فيه تدخين النارجيلة.
وخطفت في ذهن حمود صورة نارجيلة، وتخيل رأسها المضرم وذيلها الملتف وماءها الموار، وخامره شعور بأنه يسمع قرقرتها تواكب حواره الذي يلهج به في ذات نفسه، فكأنها كانت هي أيضاً تلغو، محدِّثة نفسها حواراً داخلياً يمتزج، كحواره الداخلي بكلمات حرشو وهو يستفيض في حديثه الشائق.
-اتخذت مجلسي على كرسي خارج المقهى، وجعلت أراقب بعض الزائرين الهابطين، لعلي اصطاد من بينهم غريباً ساذجاً، فأنت تعلم أنني لم أعد أقوى –بعد أن كسرت رجلي وقطعت في آخر حادث سطو قمت به، إثر قفزة متهورة من سطح مرتفع- لم أعد أقوى على تسلق الجدران، وانحرفت صنعتي من السطو إلى الاختلاس، وكل الدروب تؤدي –كما يقال- إلى الطاحون واقتنصت نظراتي المنقبة الجوالة، رجلاً قصيراً هزيلاً يضع على رأسه طربوشاً، وكان يسرِّح طرفه في جدار الجامع، متأملاً متعجباً، كأنما يراه لأول مرة، قلت في نفسي: هذا صيد ثمين ساقه الحظ إليك يا حرشو. وهبط الرجل من الدرج، ويداه معقودتان إلى خلف، هادئاً، راضياً، متئد الخطوة، فلم يكد يغادر الدرجة الأخيرة، ويضحي قريباً مني، حتى نهضت –طبعاً برجل واحدة، فالأخرى مقطوعة –متكئاً بيدي على الطاولة، وهتفت مرحباً، ماداً راحتي للمصافحة:
-أهلاً، أهلاً، أحمد أفندي، يا مائة ألف مرحباً بأحمد أفندي.
ورشقني الرجل بنظرة متعجبة، مستنكراً تحيتي، وقال: لست أحمد أفندي يا أخي، أنت مخطئ.
قلت: مستحيل يا أخي، ألست أحمد أفندي الأسطه الذي اجتمعت معه في مكة المكرمة وحججت معه منذ سبع سنوات؟؟
فقال: -أنت مخطئ يا أخي، لقد حججت أنا في العام الماضي، ولكنني لست أحمد أفندي، فلعله يشبهني...
قلت: -تفضل، تفضل يا أخي، سبحان الله، إنه يخلق من الأشباه أربعين، كأنك أحمد أفندي بلحمه ودمه، الله الله يا أحمد أفندي –وأطلقت زفرة متصلة- أين أنت الآن، سقى الله اليوم الذي زرنا فيه معاً قبر رسول الله في المدينة المنورة.
وتردد الرجل في الجلوس فقلت: -تفضل يا أخي، دعني أتأملك قليلاً، لأتذكر رفيق الحج أحمد أفندي فمنذ سبع سنوات لم أره، بعد أن عاد إلى بلده حلب- استبنت من لهجة الرجل أنه حلبي-.
-وجلس على الكرسي، كأنما يتحفز للنهوض بعد لحظة، ورأيت أن أشده إلى جلسة مطمئنة، بقدح من الشاي أطلبه، فهممت أن أنادي نادل المقهى، بيد أنه اعتذر، فيما كان ينظر في ساعة مذهبة أخرجها من نطاقه، وسددت إلى الساعة نظرة الباشق إلى عصفور شهي، كانت مذهبة، فيما أظن، وأجاب:
-شكراً بعد ربع ساعة تقريباً ستقام صلاة الجمعة.
قلت: -وأنا أيضاً انتظر موعد الصلاة، الصلاة عماد الدين، وقد توضأت وكنت موشكاً على النهوض حين لمحتك، فخفق قلبي وقلت في ذات نفسي: تراه أحمد أفندي الأسطه، صديق الحج، لكم أعانني هناك، في مكة والمدينة، فأنا كما ترى مقطوع الساق. أوه –وتنهدت- لقد أصابتها رصاصة في الثورة السورية، لم يكن بد من قطعها، هذا نصيبي من الجهاد يا أخي، أراك تبتسم يا حمود، يا خبيث. واستبنت في عين الرجل ألقة تشف عن الطمأنينة والإعجاب، هذه دلالة حسنة، سمكتي لا تنفر من طعم الصنارة. أنا في نظره إذن، حاج ومجاهد. وأردفت حلت علينا البركات يا أخي بقدومك، هل أعجبتك دمشق؟
فأجاب: -إنها تعجبني دوماً، أنا أحب دمشق، وأقدم إليها بين الحين والحين.
وسألته سؤالاً، بريئاً في الظاهر: -حلت علينا البركات، أهي زيارة أم تجارة؟
وحرن الجواب في فمه هنيهة، كان قلبي خلالها يخفق، قلقاً، وقلت في ذات نفسي: ذهبت يا حرشو بعيداً في السؤال، لعل الرجل قد ارتاب بك، وكان في وسعك أن تستنتج بأنه تاجر من بزته، ووقع في وهمي أن السمكة أحست بأن الطعم المقدم إليها يخفي خطراً ما، لا، يا سيدي.
كانت السمكة مغفلة، اقتربت هي نفسها من الطعم حين أجاب: قدمت يا أخي للتجارة والزيارة، جئت أعقد صفقة صغيرة مع تاجر صديق في سوق الحرير، ثم....
وبترت ابتسامة واسعة، مرتبكة، خجلى، جملته –كان قلبي، يتدحرج، خلفها، لاهثاً، نافد الصبر –وتوقف عن الكلام، فقلت مستحثاً جوابه- ثم ماذا، ثم ماذا؟
وغض الرجل طرفه، -قد والله بدا لي أنه أشبه بفتاة خفرة خجول- وتابع: -ثم أخطب ابنته، وأكمل نصف ديني وأتزوجها، هكذا تجدانني جئت للتجارة والزيارة معاً.
وقلت له: -مبروك، إن شاء الله يا أخي، هل رأيتها وأعجبتك؟
قال: -لا، ولكن علمت أن له ابنة، حسنة الخلق، هذا هو المطلوب المبتغى في الزواج، ولكن..
وتعثرت جملته، كما لو كانت تهم أن تقع وتنكسر، هيء، هيء، هيء، ولحقت جملته قبل أن تنقطع، أقلتها من عثارها، فقلت: -ولكن ماذا؟
فأجاب: -ولكن.. أخشى ألا تعجبني، كأن تكون دميمة، مثلاً..
وأشرقت في ذهني فكرة جريئة، ينبغي لي أن أجذب الخيط في اللحظة المناسبة. السمكة قريبة من الطعم. قلت –الحق معك يا أخي. لدي فكرة، ليس في ميسوري الآن أن أجلوها لك، فقد اقترب موعد الصلاة، فاعذرني، ولكن أستطيع أن أبسطها لك، إن شئت بعد انتهاء الصلاة.
ورمقني بنظرة رأفة، فيما كنت أنهض متوكئاً على عكازتي، مردداً: يا رب يا معين.
وسألني عن اسمي، فقلت: عبد الرحمن، وأنت؟. فأجاب: سليمان.
ومشى إلى جانبي، وصعدت عكازتي في الدرج، متباطئة- لا كمألوف عادتها، فهي، في الواقع، أخف من القرد في صعود الدرج والهبوط منها- ولما أفضينا إلى الجامع، حرصت على أن اتخذ مجلسي إلى جانبه، ووضعت عكازتي بحذائي، وصليت ركعتين، وأنا قاعد، فما أستطيع أن أقف للصلاة، بسبب محنة ساقي، وأطلت في السجود والابتهال، وعيناي لا تفارقانه وأصغيت إلى خطبة الجمعة، أو بدا علي أنني أصغي إليها، فقد كان رأسي مشغولاً بحوك خطة محكمة، احتال بها على الرجل فأسلبه ما لديه، فمنذ زمن بعيد لم يفتح الله علي، بقرش وهذا رجل، كما يبدو لي تاجر وافر الرزق، على أن خاطري الساهم الشارد في أفق الثروة المقبلة لم يكن يمنع فمي من ترديد استحسان لمقطع مؤثر من الخطبة فكان رأسي يتمايل ويتطوح ويهتز. لا تنس أن عينيَّ –مثل عيني الصقر- كانتا معلقتين بجاري. كنت أسارقه النظر، لأستوثق من أن السمكة الغافلة ما تزال قريبة من الصنارة. وانتهت الصلاة –لا أدري كيف- واصطنعت العجز عن الوقوف، فمد أخونا سليمان يده إلى إبطي، وساعدني على الوقوف وقلت له: -الله يجزيك الخير يا أخي، كان أحمد أفندي مثلك في النجدة واللهفة، حين حججنا معاً وزرنا قبر رسول الله، أين أنت يا أحمد أفندي، الله يحسن إليك ويمدك بالعافية، حيثما كنت. ولعله اشتهى أن يتعرف على أحمد أفندي- المقيم، في الواقع، في مخيلتي –فسألني عنه، فيما كنا نسعى في فناء الجامع، فقلت: -إنه في حلب، أحسب أنه موظف بالبلدية، إنه يشبهك يا أخي شبهاً عجيباً.
وجلسنا في المقهى وتحاشيت أن أخوض في حديث الزواج لئلا يذهب به الظن مذاهب في التأويل، وصفقت أنادي نادل المقهى، وتطلَّقت أسارير وجهه وسألني بصوت خفيض: ذكرت لي قبل الصلاة، أن لديك فكرة تريد أن تبسطها لي، إثر انتهاء الصلاة فما هي؟
اقتربت السمكة من الصنارة. أليس كذلك يا حمود؟ قلت –اسمع يا أخي، أعرف قريبة لي، هي فتاة يتيمة، في حيناً، تسكن عند خالتها، إنها ست بيت، فلفلة، ماهرة بالطبخ والخياطة- تعلمت الخياطة من أمها رحمها الله- وهي قسيمة وسيمة، مكتملة الخلق معتدلة القامة، أميل إلى الامتلاء. عمرها تسع عشرة سنة، لا، استغفر الله العظيم، عشرون سنة. ولكنها –أقول الحق- لا تحمل سوى الشهادة الابتدائية –السرتفيكا- فبعد أن مات والدها، لم تستطع إكمال تحصيلها، فسكنت لدى خالتها. إنها مقطوعة كما ترى.
ولمحت عينيه تنضحان وميضاً غريباً متطلعاً وسأل: أهي جميلة حقاً؟
فقلت: -بيضاء، ملتفة، وجهها مدور، تقول للقمر، ألا تغيب لأقعد بدلاً منك مقعد القاضي والمفتي والنقيب.
واستضحك صاحبنا سليمان لتعليقي، كما تستضحك أنت يا عفريت، وفرك كفيه في جذل ظاهر وسألني:
-أيتاح لي أن أراها، إذا أعجبتني خطبتها وتزوجتها بفضلك يا أخي.
قلت: -طبعاً، ولكن أنصحك بأن ترى ابنة صديقك التاجر أولاً، ثم ترى هذه الفتاة –اسمها جميلة، اسم على مسمى، -وتنتخب من تروق لك منهما.
فقال:-إذا أعجبتني قريبتك فلا ضرورة لرؤية ابنة صديقي التاجر، لئلا يستاء مني إن عدلت عنها ولم تعجبني.
قلت، وأنا أضرب على الوتر الحساس، وأتوقع الجواب: -كما تشاء، ولكن جميلة، لا تحمل سوى سرتفيكا.
فأجاب: -يا أخي، لا أريد فتاة متعلمة أكثر مني، لئلا تتفلسف علي. هل أستطيع أن أراها اليوم؟
قلت: -غداً إن شاء الله، فأنا مدعو، الليلة، إلى حفلة مولد.
وآثرت أن أقول غداً، لئلاً يحسب أنني أتقد شوقاً إلى تزويج قريبتي، وأتعجل الخلاص منها.
وقال: -أين يمكن أن أراك غداً؟ فقلت: أتعرف جامع الشيخ محي الدين؟
قال: -أعرفه جيداً، صليت فيه مراراً. قلت: عجباً كيف لم ألمحك من قبل، في هذا الجامع، وأنا لا أكاد أفارقه، على أي حال في ميسوري أن أراك غداً، في جامع الشيخ محي الدين بن العربي –قدس الله سره- ومسحت وجهي بباطن راحتي- بعد صلاة العشاء، ثم نتخذ أدراجنا إلى البيت، لترى جميلة، فإذا أعجبتك، قرأنا الفاتحة، لتكون جميلة زوجة وخادمة بالمطبخ.
قال: -توكلنا على الله، السلام عليكم.
وودعني ومضى، وبدا لي حين غاب عن ناظري، أن السمكة أحست بالخطر الكامن في الطعم المشتهى، فلاذت بالهرب، لا يا سيدي، كانت السمكة مغفلة مسكينة، ولعلك حزرت بأنني لم أذق طعم الرقاد، ليلتي تلك، وظللت ساهراً، مديراً في ذهني تفاصيل خطة محبوكة. وألهمتني ليلتي بخطة بارعة –ستعرفها من سياق حديثي- وحرصت على المجيء مبكراً إلى الموعد المرتقب، بعد أن وضعت في جيبي سكيناً وحبلاً وصرة ملبس- شريتها بعد الظهر، وستعرف لماذا أحضرتها، فيما بعد. جئت مبكراً، ليراني وأنا أسجد مصلياً، خاشعاً، وكادت خطتي تفسد حين لمحني صديق من حارتي، فتقدم مني، وأنا أغمغم بالصلاة وأسجد وأنحني، ليتأكد من ملامحي، كأن اللعين لم يصدق بأنني أنا حرشو الحرامي يمكن أن أتوجه إلى الله مصلياً، تائباً، وهتف: -الله أكبر، أهذا أنت؟ حرشو؟ تصلي؟ تراك غسلت ذنوبك وتبت؟
فلم أرد عليه، ونظرت إليه شزراً، واشتهيت أن أمسك عكازتي وأضربه على أم رأسه وأطرده قبل أن يأتي صاحبنا سليمان ويسمعه معلقاً على صلاتي، مستهزئاً بي، مستغرباً، ويكتشف من ثم، بأنني لص، ومرت فترة والملعون يدور حولي –كالثعلب يدور حول دجاجة مكسورة الرجل- مبتسماً، ساخراً، مستظرفاً صلاتي وسجودي، وأنا مطرق، أصطنع الصلاة، وشفتاي تختلجان بتلاوة صامتة، وقلبي يقرع صدري، متوجساً، قلقاً، حتى رأيته، يقف غير بعيد، ليصلي، فتنفست الصعداء، وأقسم لك أن صلاته كانت فاسدة، فقد لمحت، وهو يتمتم صلاته، ابتسامة عريضة تزحم شفتيه، وتكاد تنقلب إلى ضحكة. لعل الابتسام قد غلبه فلم يصدق أن في وسع حرشو أن يتجه، ذات يوم إلى القبلة ليصلي. بلى رأيت ابتسامة تشبه ابتسامتك يا حمود يا خبيث، ولمحت صاحبنا الحلبي يقترب مني، ولم يشأ أن يلقي علي بتحيته، فقد رآني أنحني، ساجداً مشغولاً بالصلاة، وآثر أن يصلي قريباً مني، وكاد قلبي أن يثب من صدري فرحاً، ويخب، متدحرجاً على سجادة الجامع ليلثم وجه صاحبنا سليمان المنحني للسجود. لا تنس أن ثمة خطراً مهدداًَ كان يتوعدني، في تلك الابتسامة الماثلة، القريبة، الابتسامة الماكرة التي استنكرت توبتي ووقوفي للصلاة، ورأيت من الأنسب أن أعجل بالخروج من الجامع مع صاحبنا سليمان قبل أن يفرغ الآخر من صلاته فأنا أخشى أن يعود إلى تعليقه ومهزأته ويحسر عن وضعي- كلص متقاعد مبتور الساق ومحتال من الطراز الأول- أنت تبتسم وتهز رأسك، لا بأس. وسلَّم عليَّ سليمان –وكان قد انتهى من صلاته- في بشاشة وقال له:
-كيف كانت حفلة المولد، أمس، يا سيد عبد الرحمن؟
وأقول لك الحق أنني نسيت اسمي المنتحل عبد الرحمن، فانتبهت له وابتسمت ابتسامة خاطفة متآمرة مع ذات نفسي، ولكني لم أنس ما زعمت له بأنني مدعو إلى حفلة مولد، فقد اشتريت بعد ظهر ذلك اليوم سكاكر من الملبس- من أشهى أنواع الملبس المحشو باللوز- ووضعتها ضمن صرة ورقية ملونة مما هو مألوف تقديمه في الموالد، فلما سمعته يسألني عن حفلة المولد، مددت يدي إلى جيبي، كمن تذكر شيئاً، وسحبت صرة الملبس وقلت له:
-حرصت يا أخي على أن تشاركني في بركة المولد، فسمحت لنفسي بأن أستأذن صاحب الحفلة بأخذ حصة صديق عزيز من بركة المولد، فأعطاني هذه الصرة فهي لك، أرجو من الله أن نأكل مثلها في فرحة عرسك.
وشاعت الغبطة في وجه صاحبنا وتناولها شاكراً ودسَّها في جيبه، وسألني:
-أيكون البيت بعيداً؟
قلت: بعض الشيء، بيد أن الطقس جميل، والسير يحلو معك، على رغم محنتي برجلي.
وأقسم لك، أنني كدت أعدل، فيما نحن نسير، عن خطتي، فلم أر، عمري كله، رجلاً في مثل سذاجته وطيبته، وخامرني إحساس عنيف بالرأفة، وكدت ألوي عكازتي هذه، وانكفئ وأختلق عذراً ما، وأترك الرجل وشأنه، ولكن عكازتي اللعينة لم تشأ أن تنحرف. الذنب عليها، كانت قد جنحت لسبب لا أدريه، إلى الدرب المرسوم المختار في خطتي والمؤدي إلى المقبرة بلى في مثل هذا الوقت لا ترى أثراً للسابلة في المقابر، فما يحب الناس أن يمروا في العشيات بين القبور، واستشعر الرجل، حين أفضينا إلى المقبرة بعض الوحشة، ولعله الخوف، فسألني مرة أخرى بصوت تسري فيه الرعشة: ترى أيكون البيت بعيداً، لماذا نمر بين القبور يا أخي؟
قلت: لا، البيت أضحى قريباً، وقد آثرت أن نمر من هنا، لنقرأ الفاتحة على قبري والدي جميلة، ليغمراها بالرضا والبركة قبل زواجها.
فقال: هاه، حسن.
وبدا أنه استراح، بعض الشيء إلى هذا التعليل, ولكن مشيته، وهو يسعى أمامي، كانت متزايلة مترددة. ووقفت، كانت الأنفاس تتلاحق في صدري وقلت له: هذا قبر أبي جميلة وهذا قبر أمها.
وبدا لي أن الوقت المناسب قد أزف لأشد قصبة الصيد، وأجذب الصنارة، فقد اقتربت السمكة من الطعم ودغدغته بخطمها. وكان الرجل واقفاً على قيد خطوتين، حائراً يتوضح مكاني في العتمة، ويتلَّفت يمنة ويسرة، فلم يكد يبسط كفيه ليقرأ الفاتحة، حتى مددت، في خفة، عكازتي –عصا الصنارة- إلى قدميه وجذبتها جذبة يسيرة، فانبطح الرجل وصرخ: ما هذا أعوذ بالله.
قلت: لا تخف، هذا أنا.
وانقضضت عليه ووضعت يدي على فمه لئلا يصرخ ويستغيث وسحبت السكين من جيبي وقلت له:
-إن صرخت صرخة واحدة، ذبحتك، شف هذه السكين الماضية في يدي.
واستسلم المسكين، مشدوهاً جزعاً، وأنا أوثق يديه إلى خلف، وأربط رجليه بحبل جلبته معي، وأحمد الله أن الظلمة سترت عني عينيه الذاهلتين المعاتبتين، لعلي كنت أفرج عنه وتأخذني الشفقة عليه لو أنني رأيتهما. واكتفى بأن يردد، بنبرة باكية، ملوعة، هاجت الدمع في عيني: أهكذا يا أخي عبد الرحمن، أهكذا؟
وتذكرت اسمي المنتحل: عبد الرحمن، وضحكت، وجرفت ضحكتي إحساسي بالرأفة، ومددت يدي إلى جيوبه أبحث عن محفظته، وتذكرت الساعة المذهبة، فامتدت أناملي تتقرَّاها في نطاقه وتحسست، ثمة، شيئاً يشبه أن يكون صرة صغيرة، فسللتها، متلهفاً، وحللت عقدتها، فوسوست النقود وسوسة أشبه بنجوى العشاق، وتعرفت أطراف أناملي النقود. وجدتها ثقيلة، هذه ليست بفرنكات بل ليرات ذهبية، عرفتها من ثقلها وملمسها فقد نشلت وسرقت، ليرات كثيرة، من قبل، حتى ألفتها أناملي. وعاد أخونا إلى جملته التي تفتت الأكباد: -أهكذا يا أخي عبد الرحمن، أهكذا؟
وطغت فرحتي بالليرات الذهبية، فمحت شعوري المرهف بالرأفة، وأذهلتني حتى عن الساعة الذهبية المنشودة –وكنت عليها حريصاً، فلعلها من بركة الحج، وقلت له: -هس، اسكت، وإلا ذبحتك.
وخشيت أن يصرخ بعد أن أتركه، وهاجمتني فكرة قتله والخلاص منه، ولكن جملته الحزينة المؤسية، ترددت بصوت خفيض معاتب: أهكذا يا أخي عبد الرحمن، أهكذا؟
وبرق في ذهني خاطر، فأخرجت منديلاً واسعاً من جيبي، لأكمم به فمه، وتذكرت شيئاً –لا تضحك- تذكرت صرة الملبس ومددت يدي إلى جيبه فأخرجتها وقلت: أعطيك صرة ملبس وتعطيني صرة الليرات، واحدة، بواحدة.
وتناولت ملبسة ووضعتها في فمي. هم، ما أطيبها!، ثم تناولت ملبسة أخرى وقلت بلهجة آمرة: افتح فمك.
وامتثل –ففتح فمه، بحيث يسع لقمة كبيرة –فيما أحسب- فقد تلمَّست يدي في العتمة، موضعه من وجهه ودسست فيه ملبسة، ثم كممته وأعدت صرة الملبس إلى جيبه وقلت له: سأتركها لك حتى تتذكرني بحلاوتها فهي من بركة المولد.
وبينما كنت أكمم فمه ألفيت رأسه عارياً، لعل طربوشه هوى على الأرض في سقطته تلك، وبحثت عنه فوجدته قابعاً، مختبئاً بين قبرين، وتناولته ومسحت ما علق به من تراب بكمي ثم ركزته على رأس أخينا، خفت عليه من البرد والرشح، فلربما قضى ليلته تلك في المقبرة، وبرد الليل –كما تعلم- مؤذ، ألا ترى يا حمود أنني طيب القلب ابن حلال؟
فأجاب حمود: أي نعم. الله لا يعطيك عافية.
وعدت مسرعاً، وكدت أقع وأتعثر فقد تصدى قبر لعكازتي وأزلقها فترنحت ولكنني تماسكت وهرولت، في خفة الغزال، والعكازة تتراقص في العتمة: طراك، طراك، ومضيت إلى بيتي وهو قريب من المقبرة، وشعرت، فيما كنت أدير المفتاح في القفل بأن لساني يدير اللوزة المتبقية من الملبسة الذائبة في فمي. كانت أشهى لوزة ذقتها، عمري كله، وعلى ضوء قنديل شحيح النور عددت الليرات فإذا هي خمس وعشرون ليرة ذهبية رشادية وإحدى وعشرون ليرة إنكليزية أم حصان، وجعلت ألمسها، أداعبها، ألثمها، فلما أويت إلى الفراش، وضعت الصرة تحت وسادتي واستسلمت إلى نوم عميق، لا أدري كيف، وأقسم لك أن تلك الجملة الحزينة اللعينة تبعتني إلى النوم، فقد رأيت في حلمي أخانا سليمان ينظر إليَّ معاتباً ويغمغم جملته: أهكذا يا أخي عبد الرحمن، أهكذا؟ وبكيت في الحلم، أي والله، ونثرت الليرات أمامي وجعلت ألهو بها كطفل، فحذفت وسوستها بقايا رغبة عارمة في البكاء، وكذلك تنتهي قصتي، وبقيتها معروفة فقد عثر على الرجل موثقاً مكمماً، وهو يئن، فجلا لرجال الشرطة أوصافي. بحث عني في كل مكان. سجلي حافل، ولا فخر، فليس هناك من يقوم بمثل هذه السرقة سوى حرشو مبتور الساق عاثر الحظ. اختبأت ثلاثة أيام لدى صديق ثم فضحتني هذه اللعينة- وهز عكازته- أوسعوني ضرباً حتى أقررت وأعيدت الليرات إلى صاحبها، هكذا جئت إلى هنا، آه لو لم تكن ساقي مقطوعة لما كان في ميسور أحد أن يقبض علي ولكن هذه العكازة بنت الكلب وشت بي، تعالي معي يا عكازتي اللعينة، تفوه عليك، انتهت فرصة التنفس يا رب يا معين، طراك، طراك، طراك.
1كانت نقابة المحامين بدمشق، قد أوكلت إلي، في بدء عهدي بالمحاماة، منذ ربع قرن، الدفاع عن حرشو هذا فقصته التي يرويها لزميله السجين حقيقية لم أضف إليها سوى ما يقتضيه الفن القصصي من وشي وتزويق. "ب. ح."
* المصدر: مجلة "الموقف الأدبي" (دمشق) - العدد 7 تشرين الثاني "أكتوبر" 1971م.
-اسمع يا حمود، تعرف طبعاً الجامع الأموي.. هناك إلى جانب الجامع ساحة صغيرة تدعى ساحة النوفرة، تفضي إليها بدرجات منحدرة، يقع في طرف منها مقهى صغير. كراسيه المصفوفة في خارجه أكثر من الكراسي القابعة في داخله، وكنت أستطيب فيه تدخين النارجيلة.
وخطفت في ذهن حمود صورة نارجيلة، وتخيل رأسها المضرم وذيلها الملتف وماءها الموار، وخامره شعور بأنه يسمع قرقرتها تواكب حواره الذي يلهج به في ذات نفسه، فكأنها كانت هي أيضاً تلغو، محدِّثة نفسها حواراً داخلياً يمتزج، كحواره الداخلي بكلمات حرشو وهو يستفيض في حديثه الشائق.
-اتخذت مجلسي على كرسي خارج المقهى، وجعلت أراقب بعض الزائرين الهابطين، لعلي اصطاد من بينهم غريباً ساذجاً، فأنت تعلم أنني لم أعد أقوى –بعد أن كسرت رجلي وقطعت في آخر حادث سطو قمت به، إثر قفزة متهورة من سطح مرتفع- لم أعد أقوى على تسلق الجدران، وانحرفت صنعتي من السطو إلى الاختلاس، وكل الدروب تؤدي –كما يقال- إلى الطاحون واقتنصت نظراتي المنقبة الجوالة، رجلاً قصيراً هزيلاً يضع على رأسه طربوشاً، وكان يسرِّح طرفه في جدار الجامع، متأملاً متعجباً، كأنما يراه لأول مرة، قلت في نفسي: هذا صيد ثمين ساقه الحظ إليك يا حرشو. وهبط الرجل من الدرج، ويداه معقودتان إلى خلف، هادئاً، راضياً، متئد الخطوة، فلم يكد يغادر الدرجة الأخيرة، ويضحي قريباً مني، حتى نهضت –طبعاً برجل واحدة، فالأخرى مقطوعة –متكئاً بيدي على الطاولة، وهتفت مرحباً، ماداً راحتي للمصافحة:
-أهلاً، أهلاً، أحمد أفندي، يا مائة ألف مرحباً بأحمد أفندي.
ورشقني الرجل بنظرة متعجبة، مستنكراً تحيتي، وقال: لست أحمد أفندي يا أخي، أنت مخطئ.
قلت: مستحيل يا أخي، ألست أحمد أفندي الأسطه الذي اجتمعت معه في مكة المكرمة وحججت معه منذ سبع سنوات؟؟
فقال: -أنت مخطئ يا أخي، لقد حججت أنا في العام الماضي، ولكنني لست أحمد أفندي، فلعله يشبهني...
قلت: -تفضل، تفضل يا أخي، سبحان الله، إنه يخلق من الأشباه أربعين، كأنك أحمد أفندي بلحمه ودمه، الله الله يا أحمد أفندي –وأطلقت زفرة متصلة- أين أنت الآن، سقى الله اليوم الذي زرنا فيه معاً قبر رسول الله في المدينة المنورة.
وتردد الرجل في الجلوس فقلت: -تفضل يا أخي، دعني أتأملك قليلاً، لأتذكر رفيق الحج أحمد أفندي فمنذ سبع سنوات لم أره، بعد أن عاد إلى بلده حلب- استبنت من لهجة الرجل أنه حلبي-.
-وجلس على الكرسي، كأنما يتحفز للنهوض بعد لحظة، ورأيت أن أشده إلى جلسة مطمئنة، بقدح من الشاي أطلبه، فهممت أن أنادي نادل المقهى، بيد أنه اعتذر، فيما كان ينظر في ساعة مذهبة أخرجها من نطاقه، وسددت إلى الساعة نظرة الباشق إلى عصفور شهي، كانت مذهبة، فيما أظن، وأجاب:
-شكراً بعد ربع ساعة تقريباً ستقام صلاة الجمعة.
قلت: -وأنا أيضاً انتظر موعد الصلاة، الصلاة عماد الدين، وقد توضأت وكنت موشكاً على النهوض حين لمحتك، فخفق قلبي وقلت في ذات نفسي: تراه أحمد أفندي الأسطه، صديق الحج، لكم أعانني هناك، في مكة والمدينة، فأنا كما ترى مقطوع الساق. أوه –وتنهدت- لقد أصابتها رصاصة في الثورة السورية، لم يكن بد من قطعها، هذا نصيبي من الجهاد يا أخي، أراك تبتسم يا حمود، يا خبيث. واستبنت في عين الرجل ألقة تشف عن الطمأنينة والإعجاب، هذه دلالة حسنة، سمكتي لا تنفر من طعم الصنارة. أنا في نظره إذن، حاج ومجاهد. وأردفت حلت علينا البركات يا أخي بقدومك، هل أعجبتك دمشق؟
فأجاب: -إنها تعجبني دوماً، أنا أحب دمشق، وأقدم إليها بين الحين والحين.
وسألته سؤالاً، بريئاً في الظاهر: -حلت علينا البركات، أهي زيارة أم تجارة؟
وحرن الجواب في فمه هنيهة، كان قلبي خلالها يخفق، قلقاً، وقلت في ذات نفسي: ذهبت يا حرشو بعيداً في السؤال، لعل الرجل قد ارتاب بك، وكان في وسعك أن تستنتج بأنه تاجر من بزته، ووقع في وهمي أن السمكة أحست بأن الطعم المقدم إليها يخفي خطراً ما، لا، يا سيدي.
كانت السمكة مغفلة، اقتربت هي نفسها من الطعم حين أجاب: قدمت يا أخي للتجارة والزيارة، جئت أعقد صفقة صغيرة مع تاجر صديق في سوق الحرير، ثم....
وبترت ابتسامة واسعة، مرتبكة، خجلى، جملته –كان قلبي، يتدحرج، خلفها، لاهثاً، نافد الصبر –وتوقف عن الكلام، فقلت مستحثاً جوابه- ثم ماذا، ثم ماذا؟
وغض الرجل طرفه، -قد والله بدا لي أنه أشبه بفتاة خفرة خجول- وتابع: -ثم أخطب ابنته، وأكمل نصف ديني وأتزوجها، هكذا تجدانني جئت للتجارة والزيارة معاً.
وقلت له: -مبروك، إن شاء الله يا أخي، هل رأيتها وأعجبتك؟
قال: -لا، ولكن علمت أن له ابنة، حسنة الخلق، هذا هو المطلوب المبتغى في الزواج، ولكن..
وتعثرت جملته، كما لو كانت تهم أن تقع وتنكسر، هيء، هيء، هيء، ولحقت جملته قبل أن تنقطع، أقلتها من عثارها، فقلت: -ولكن ماذا؟
فأجاب: -ولكن.. أخشى ألا تعجبني، كأن تكون دميمة، مثلاً..
وأشرقت في ذهني فكرة جريئة، ينبغي لي أن أجذب الخيط في اللحظة المناسبة. السمكة قريبة من الطعم. قلت –الحق معك يا أخي. لدي فكرة، ليس في ميسوري الآن أن أجلوها لك، فقد اقترب موعد الصلاة، فاعذرني، ولكن أستطيع أن أبسطها لك، إن شئت بعد انتهاء الصلاة.
ورمقني بنظرة رأفة، فيما كنت أنهض متوكئاً على عكازتي، مردداً: يا رب يا معين.
وسألني عن اسمي، فقلت: عبد الرحمن، وأنت؟. فأجاب: سليمان.
ومشى إلى جانبي، وصعدت عكازتي في الدرج، متباطئة- لا كمألوف عادتها، فهي، في الواقع، أخف من القرد في صعود الدرج والهبوط منها- ولما أفضينا إلى الجامع، حرصت على أن اتخذ مجلسي إلى جانبه، ووضعت عكازتي بحذائي، وصليت ركعتين، وأنا قاعد، فما أستطيع أن أقف للصلاة، بسبب محنة ساقي، وأطلت في السجود والابتهال، وعيناي لا تفارقانه وأصغيت إلى خطبة الجمعة، أو بدا علي أنني أصغي إليها، فقد كان رأسي مشغولاً بحوك خطة محكمة، احتال بها على الرجل فأسلبه ما لديه، فمنذ زمن بعيد لم يفتح الله علي، بقرش وهذا رجل، كما يبدو لي تاجر وافر الرزق، على أن خاطري الساهم الشارد في أفق الثروة المقبلة لم يكن يمنع فمي من ترديد استحسان لمقطع مؤثر من الخطبة فكان رأسي يتمايل ويتطوح ويهتز. لا تنس أن عينيَّ –مثل عيني الصقر- كانتا معلقتين بجاري. كنت أسارقه النظر، لأستوثق من أن السمكة الغافلة ما تزال قريبة من الصنارة. وانتهت الصلاة –لا أدري كيف- واصطنعت العجز عن الوقوف، فمد أخونا سليمان يده إلى إبطي، وساعدني على الوقوف وقلت له: -الله يجزيك الخير يا أخي، كان أحمد أفندي مثلك في النجدة واللهفة، حين حججنا معاً وزرنا قبر رسول الله، أين أنت يا أحمد أفندي، الله يحسن إليك ويمدك بالعافية، حيثما كنت. ولعله اشتهى أن يتعرف على أحمد أفندي- المقيم، في الواقع، في مخيلتي –فسألني عنه، فيما كنا نسعى في فناء الجامع، فقلت: -إنه في حلب، أحسب أنه موظف بالبلدية، إنه يشبهك يا أخي شبهاً عجيباً.
وجلسنا في المقهى وتحاشيت أن أخوض في حديث الزواج لئلا يذهب به الظن مذاهب في التأويل، وصفقت أنادي نادل المقهى، وتطلَّقت أسارير وجهه وسألني بصوت خفيض: ذكرت لي قبل الصلاة، أن لديك فكرة تريد أن تبسطها لي، إثر انتهاء الصلاة فما هي؟
اقتربت السمكة من الصنارة. أليس كذلك يا حمود؟ قلت –اسمع يا أخي، أعرف قريبة لي، هي فتاة يتيمة، في حيناً، تسكن عند خالتها، إنها ست بيت، فلفلة، ماهرة بالطبخ والخياطة- تعلمت الخياطة من أمها رحمها الله- وهي قسيمة وسيمة، مكتملة الخلق معتدلة القامة، أميل إلى الامتلاء. عمرها تسع عشرة سنة، لا، استغفر الله العظيم، عشرون سنة. ولكنها –أقول الحق- لا تحمل سوى الشهادة الابتدائية –السرتفيكا- فبعد أن مات والدها، لم تستطع إكمال تحصيلها، فسكنت لدى خالتها. إنها مقطوعة كما ترى.
ولمحت عينيه تنضحان وميضاً غريباً متطلعاً وسأل: أهي جميلة حقاً؟
فقلت: -بيضاء، ملتفة، وجهها مدور، تقول للقمر، ألا تغيب لأقعد بدلاً منك مقعد القاضي والمفتي والنقيب.
واستضحك صاحبنا سليمان لتعليقي، كما تستضحك أنت يا عفريت، وفرك كفيه في جذل ظاهر وسألني:
-أيتاح لي أن أراها، إذا أعجبتني خطبتها وتزوجتها بفضلك يا أخي.
قلت: -طبعاً، ولكن أنصحك بأن ترى ابنة صديقك التاجر أولاً، ثم ترى هذه الفتاة –اسمها جميلة، اسم على مسمى، -وتنتخب من تروق لك منهما.
فقال:-إذا أعجبتني قريبتك فلا ضرورة لرؤية ابنة صديقي التاجر، لئلا يستاء مني إن عدلت عنها ولم تعجبني.
قلت، وأنا أضرب على الوتر الحساس، وأتوقع الجواب: -كما تشاء، ولكن جميلة، لا تحمل سوى سرتفيكا.
فأجاب: -يا أخي، لا أريد فتاة متعلمة أكثر مني، لئلا تتفلسف علي. هل أستطيع أن أراها اليوم؟
قلت: -غداً إن شاء الله، فأنا مدعو، الليلة، إلى حفلة مولد.
وآثرت أن أقول غداً، لئلاً يحسب أنني أتقد شوقاً إلى تزويج قريبتي، وأتعجل الخلاص منها.
وقال: -أين يمكن أن أراك غداً؟ فقلت: أتعرف جامع الشيخ محي الدين؟
قال: -أعرفه جيداً، صليت فيه مراراً. قلت: عجباً كيف لم ألمحك من قبل، في هذا الجامع، وأنا لا أكاد أفارقه، على أي حال في ميسوري أن أراك غداً، في جامع الشيخ محي الدين بن العربي –قدس الله سره- ومسحت وجهي بباطن راحتي- بعد صلاة العشاء، ثم نتخذ أدراجنا إلى البيت، لترى جميلة، فإذا أعجبتك، قرأنا الفاتحة، لتكون جميلة زوجة وخادمة بالمطبخ.
قال: -توكلنا على الله، السلام عليكم.
وودعني ومضى، وبدا لي حين غاب عن ناظري، أن السمكة أحست بالخطر الكامن في الطعم المشتهى، فلاذت بالهرب، لا يا سيدي، كانت السمكة مغفلة مسكينة، ولعلك حزرت بأنني لم أذق طعم الرقاد، ليلتي تلك، وظللت ساهراً، مديراً في ذهني تفاصيل خطة محبوكة. وألهمتني ليلتي بخطة بارعة –ستعرفها من سياق حديثي- وحرصت على المجيء مبكراً إلى الموعد المرتقب، بعد أن وضعت في جيبي سكيناً وحبلاً وصرة ملبس- شريتها بعد الظهر، وستعرف لماذا أحضرتها، فيما بعد. جئت مبكراً، ليراني وأنا أسجد مصلياً، خاشعاً، وكادت خطتي تفسد حين لمحني صديق من حارتي، فتقدم مني، وأنا أغمغم بالصلاة وأسجد وأنحني، ليتأكد من ملامحي، كأن اللعين لم يصدق بأنني أنا حرشو الحرامي يمكن أن أتوجه إلى الله مصلياً، تائباً، وهتف: -الله أكبر، أهذا أنت؟ حرشو؟ تصلي؟ تراك غسلت ذنوبك وتبت؟
فلم أرد عليه، ونظرت إليه شزراً، واشتهيت أن أمسك عكازتي وأضربه على أم رأسه وأطرده قبل أن يأتي صاحبنا سليمان ويسمعه معلقاً على صلاتي، مستهزئاً بي، مستغرباً، ويكتشف من ثم، بأنني لص، ومرت فترة والملعون يدور حولي –كالثعلب يدور حول دجاجة مكسورة الرجل- مبتسماً، ساخراً، مستظرفاً صلاتي وسجودي، وأنا مطرق، أصطنع الصلاة، وشفتاي تختلجان بتلاوة صامتة، وقلبي يقرع صدري، متوجساً، قلقاً، حتى رأيته، يقف غير بعيد، ليصلي، فتنفست الصعداء، وأقسم لك أن صلاته كانت فاسدة، فقد لمحت، وهو يتمتم صلاته، ابتسامة عريضة تزحم شفتيه، وتكاد تنقلب إلى ضحكة. لعل الابتسام قد غلبه فلم يصدق أن في وسع حرشو أن يتجه، ذات يوم إلى القبلة ليصلي. بلى رأيت ابتسامة تشبه ابتسامتك يا حمود يا خبيث، ولمحت صاحبنا الحلبي يقترب مني، ولم يشأ أن يلقي علي بتحيته، فقد رآني أنحني، ساجداً مشغولاً بالصلاة، وآثر أن يصلي قريباً مني، وكاد قلبي أن يثب من صدري فرحاً، ويخب، متدحرجاً على سجادة الجامع ليلثم وجه صاحبنا سليمان المنحني للسجود. لا تنس أن ثمة خطراً مهدداًَ كان يتوعدني، في تلك الابتسامة الماثلة، القريبة، الابتسامة الماكرة التي استنكرت توبتي ووقوفي للصلاة، ورأيت من الأنسب أن أعجل بالخروج من الجامع مع صاحبنا سليمان قبل أن يفرغ الآخر من صلاته فأنا أخشى أن يعود إلى تعليقه ومهزأته ويحسر عن وضعي- كلص متقاعد مبتور الساق ومحتال من الطراز الأول- أنت تبتسم وتهز رأسك، لا بأس. وسلَّم عليَّ سليمان –وكان قد انتهى من صلاته- في بشاشة وقال له:
-كيف كانت حفلة المولد، أمس، يا سيد عبد الرحمن؟
وأقول لك الحق أنني نسيت اسمي المنتحل عبد الرحمن، فانتبهت له وابتسمت ابتسامة خاطفة متآمرة مع ذات نفسي، ولكني لم أنس ما زعمت له بأنني مدعو إلى حفلة مولد، فقد اشتريت بعد ظهر ذلك اليوم سكاكر من الملبس- من أشهى أنواع الملبس المحشو باللوز- ووضعتها ضمن صرة ورقية ملونة مما هو مألوف تقديمه في الموالد، فلما سمعته يسألني عن حفلة المولد، مددت يدي إلى جيبي، كمن تذكر شيئاً، وسحبت صرة الملبس وقلت له:
-حرصت يا أخي على أن تشاركني في بركة المولد، فسمحت لنفسي بأن أستأذن صاحب الحفلة بأخذ حصة صديق عزيز من بركة المولد، فأعطاني هذه الصرة فهي لك، أرجو من الله أن نأكل مثلها في فرحة عرسك.
وشاعت الغبطة في وجه صاحبنا وتناولها شاكراً ودسَّها في جيبه، وسألني:
-أيكون البيت بعيداً؟
قلت: بعض الشيء، بيد أن الطقس جميل، والسير يحلو معك، على رغم محنتي برجلي.
وأقسم لك، أنني كدت أعدل، فيما نحن نسير، عن خطتي، فلم أر، عمري كله، رجلاً في مثل سذاجته وطيبته، وخامرني إحساس عنيف بالرأفة، وكدت ألوي عكازتي هذه، وانكفئ وأختلق عذراً ما، وأترك الرجل وشأنه، ولكن عكازتي اللعينة لم تشأ أن تنحرف. الذنب عليها، كانت قد جنحت لسبب لا أدريه، إلى الدرب المرسوم المختار في خطتي والمؤدي إلى المقبرة بلى في مثل هذا الوقت لا ترى أثراً للسابلة في المقابر، فما يحب الناس أن يمروا في العشيات بين القبور، واستشعر الرجل، حين أفضينا إلى المقبرة بعض الوحشة، ولعله الخوف، فسألني مرة أخرى بصوت تسري فيه الرعشة: ترى أيكون البيت بعيداً، لماذا نمر بين القبور يا أخي؟
قلت: لا، البيت أضحى قريباً، وقد آثرت أن نمر من هنا، لنقرأ الفاتحة على قبري والدي جميلة، ليغمراها بالرضا والبركة قبل زواجها.
فقال: هاه، حسن.
وبدا أنه استراح، بعض الشيء إلى هذا التعليل, ولكن مشيته، وهو يسعى أمامي، كانت متزايلة مترددة. ووقفت، كانت الأنفاس تتلاحق في صدري وقلت له: هذا قبر أبي جميلة وهذا قبر أمها.
وبدا لي أن الوقت المناسب قد أزف لأشد قصبة الصيد، وأجذب الصنارة، فقد اقتربت السمكة من الطعم ودغدغته بخطمها. وكان الرجل واقفاً على قيد خطوتين، حائراً يتوضح مكاني في العتمة، ويتلَّفت يمنة ويسرة، فلم يكد يبسط كفيه ليقرأ الفاتحة، حتى مددت، في خفة، عكازتي –عصا الصنارة- إلى قدميه وجذبتها جذبة يسيرة، فانبطح الرجل وصرخ: ما هذا أعوذ بالله.
قلت: لا تخف، هذا أنا.
وانقضضت عليه ووضعت يدي على فمه لئلا يصرخ ويستغيث وسحبت السكين من جيبي وقلت له:
-إن صرخت صرخة واحدة، ذبحتك، شف هذه السكين الماضية في يدي.
واستسلم المسكين، مشدوهاً جزعاً، وأنا أوثق يديه إلى خلف، وأربط رجليه بحبل جلبته معي، وأحمد الله أن الظلمة سترت عني عينيه الذاهلتين المعاتبتين، لعلي كنت أفرج عنه وتأخذني الشفقة عليه لو أنني رأيتهما. واكتفى بأن يردد، بنبرة باكية، ملوعة، هاجت الدمع في عيني: أهكذا يا أخي عبد الرحمن، أهكذا؟
وتذكرت اسمي المنتحل: عبد الرحمن، وضحكت، وجرفت ضحكتي إحساسي بالرأفة، ومددت يدي إلى جيوبه أبحث عن محفظته، وتذكرت الساعة المذهبة، فامتدت أناملي تتقرَّاها في نطاقه وتحسست، ثمة، شيئاً يشبه أن يكون صرة صغيرة، فسللتها، متلهفاً، وحللت عقدتها، فوسوست النقود وسوسة أشبه بنجوى العشاق، وتعرفت أطراف أناملي النقود. وجدتها ثقيلة، هذه ليست بفرنكات بل ليرات ذهبية، عرفتها من ثقلها وملمسها فقد نشلت وسرقت، ليرات كثيرة، من قبل، حتى ألفتها أناملي. وعاد أخونا إلى جملته التي تفتت الأكباد: -أهكذا يا أخي عبد الرحمن، أهكذا؟
وطغت فرحتي بالليرات الذهبية، فمحت شعوري المرهف بالرأفة، وأذهلتني حتى عن الساعة الذهبية المنشودة –وكنت عليها حريصاً، فلعلها من بركة الحج، وقلت له: -هس، اسكت، وإلا ذبحتك.
وخشيت أن يصرخ بعد أن أتركه، وهاجمتني فكرة قتله والخلاص منه، ولكن جملته الحزينة المؤسية، ترددت بصوت خفيض معاتب: أهكذا يا أخي عبد الرحمن، أهكذا؟
وبرق في ذهني خاطر، فأخرجت منديلاً واسعاً من جيبي، لأكمم به فمه، وتذكرت شيئاً –لا تضحك- تذكرت صرة الملبس ومددت يدي إلى جيبه فأخرجتها وقلت: أعطيك صرة ملبس وتعطيني صرة الليرات، واحدة، بواحدة.
وتناولت ملبسة ووضعتها في فمي. هم، ما أطيبها!، ثم تناولت ملبسة أخرى وقلت بلهجة آمرة: افتح فمك.
وامتثل –ففتح فمه، بحيث يسع لقمة كبيرة –فيما أحسب- فقد تلمَّست يدي في العتمة، موضعه من وجهه ودسست فيه ملبسة، ثم كممته وأعدت صرة الملبس إلى جيبه وقلت له: سأتركها لك حتى تتذكرني بحلاوتها فهي من بركة المولد.
وبينما كنت أكمم فمه ألفيت رأسه عارياً، لعل طربوشه هوى على الأرض في سقطته تلك، وبحثت عنه فوجدته قابعاً، مختبئاً بين قبرين، وتناولته ومسحت ما علق به من تراب بكمي ثم ركزته على رأس أخينا، خفت عليه من البرد والرشح، فلربما قضى ليلته تلك في المقبرة، وبرد الليل –كما تعلم- مؤذ، ألا ترى يا حمود أنني طيب القلب ابن حلال؟
فأجاب حمود: أي نعم. الله لا يعطيك عافية.
وعدت مسرعاً، وكدت أقع وأتعثر فقد تصدى قبر لعكازتي وأزلقها فترنحت ولكنني تماسكت وهرولت، في خفة الغزال، والعكازة تتراقص في العتمة: طراك، طراك، ومضيت إلى بيتي وهو قريب من المقبرة، وشعرت، فيما كنت أدير المفتاح في القفل بأن لساني يدير اللوزة المتبقية من الملبسة الذائبة في فمي. كانت أشهى لوزة ذقتها، عمري كله، وعلى ضوء قنديل شحيح النور عددت الليرات فإذا هي خمس وعشرون ليرة ذهبية رشادية وإحدى وعشرون ليرة إنكليزية أم حصان، وجعلت ألمسها، أداعبها، ألثمها، فلما أويت إلى الفراش، وضعت الصرة تحت وسادتي واستسلمت إلى نوم عميق، لا أدري كيف، وأقسم لك أن تلك الجملة الحزينة اللعينة تبعتني إلى النوم، فقد رأيت في حلمي أخانا سليمان ينظر إليَّ معاتباً ويغمغم جملته: أهكذا يا أخي عبد الرحمن، أهكذا؟ وبكيت في الحلم، أي والله، ونثرت الليرات أمامي وجعلت ألهو بها كطفل، فحذفت وسوستها بقايا رغبة عارمة في البكاء، وكذلك تنتهي قصتي، وبقيتها معروفة فقد عثر على الرجل موثقاً مكمماً، وهو يئن، فجلا لرجال الشرطة أوصافي. بحث عني في كل مكان. سجلي حافل، ولا فخر، فليس هناك من يقوم بمثل هذه السرقة سوى حرشو مبتور الساق عاثر الحظ. اختبأت ثلاثة أيام لدى صديق ثم فضحتني هذه اللعينة- وهز عكازته- أوسعوني ضرباً حتى أقررت وأعيدت الليرات إلى صاحبها، هكذا جئت إلى هنا، آه لو لم تكن ساقي مقطوعة لما كان في ميسور أحد أن يقبض علي ولكن هذه العكازة بنت الكلب وشت بي، تعالي معي يا عكازتي اللعينة، تفوه عليك، انتهت فرصة التنفس يا رب يا معين، طراك، طراك، طراك.
1كانت نقابة المحامين بدمشق، قد أوكلت إلي، في بدء عهدي بالمحاماة، منذ ربع قرن، الدفاع عن حرشو هذا فقصته التي يرويها لزميله السجين حقيقية لم أضف إليها سوى ما يقتضيه الفن القصصي من وشي وتزويق. "ب. ح."
* المصدر: مجلة "الموقف الأدبي" (دمشق) - العدد 7 تشرين الثاني "أكتوبر" 1971م.