عمر أبو القاسم الككلي - حادثة الشرفة المقابلة.. قصة

أثناء شرب الشاي

حادثة الشرفة المقابلة

تلقاه، مع انفتاح الباب، صمت ثقيل جاف. كان ابنه، الذي تجاوز السنة، يندفع ناحية الباب لاثغا: “بابا.. بابا..” فور سماعه حركة المفتاح في القفل. في الأيام الأخيرة صارت أمه سرعان ما تهب خلفه وتحمله، رغم الصراخ والرفس وضربه رأسه على صدرها، لاجئة به إلى حجرة النوم.

أغلق الباب. خلع حذاءه قرب العتبة، ودخل مخوضا في خشونة الصمت وخضخضة الهواجس. لعل زوجته عند إحدى الجارات، أو لعلها تركت البيت فارة بالطفل. لابد أنها تركت رسالة في مكان ما تخبره فيها بقرارها ومخططها. لم يكن متعجلا العثور عليها. وضع الكيس ومفتاح السيارة ومفتاح الشقة فوق المنضدة الموجودة في الردهة. بالكيس خبز، إضافة إلى زبادي وجبنة وعدد من البالونات لابنه. دائما تأخذ زوجته المفتاحين وتضعهما في درج معين من أدراج خزانة المطبخ، وتضع الأشياء الأخرى حيث يجب أن تكون. وكثيرا ما تفعل ذلك مع وابل مركز من اللوم والتوبيخ على عدم عنايته.

ذهب إلى الحمام ليغسل يديه ووجهه وقدميه.

انتقل إلى غرفة النوم ليبدل ملابسه.

لاحظ اختفاء ملابس زوجته وكل أشيائها..

دخل المطبخ. فتح الثلاجة الخاوية وتناول زجاجة الماء (يبدأ في تناول الماء باردا قبل حلول موسم الحر) ملأ كوبا وتجرعه على مهل. شرع في إعداد كوب من الشاي.

منذ سنوات أخذ يتغلغل في وجدانه شعور بأن الحياة قد فقدت طعمها ورونقها. فلا طعم للشاي والقهوة والتبغ، ولا للطعام والشراب والفاكهة، ولا رونق لحلاقة الوجه والاستحمام والجماع والنوم، لا بهجة في مداعبة الزوجة وملاعبة الطفل وممازحة صديق. لا متعة في السكر أو التنزه أو الجلوس في مقهى. لا انسجام في الاختلاط بالناس ولا سكينة في الركون إلى الوحدة. لا راحة في التحدث ولا طمأنينة في الاحتماء بالصمت والشرود. لا رونق لأي شيء. أي شيء، إطلاقا. لقد صار إنسانا بلا متع أو لذائذ، وبلا أحلام أو رغبات، يمارس أشياءه بحكم الضرورة والعادة. ربما إثباتا للوجود. أو، ربما، بدافع أمل واحد وحيد بقي لديه، وهو أن يهزم تبلد الأحاسيس يوما ويسترد بعض المتع. في البداية ظن أن وراء المشكلة خللا عضويا ما. لكن المعاينات والفحوصات الطبية نفت ذلك. فاعتبر الحالة اختلالا وجدانيا. بعض الأصدقاء صرحوا بأن لديهم نفس الحالة تقريبا. صار الآن يحس بأن جاذبية الحياة، برمتها، نزلت إلى الصفر.

جهز كوب الشاي. قرر أن يجلس ليحتسيه في الشرفة، وينظر في ما ينبغي عليه عمله.

وهو يتجه إلى الشرفة، لاحظ ورقة صغيرة مطوية فوق منضدة الردهة، تنحشر إحدى زواياها تحت إبريق الماء الزجاجي. سحبها وأخذها معه.

جلس على كرسي البلاستيك. رشف من كوب الشاي رشفة قصيرة، ثم وضعه فوق المنضدة البلاستيكية. أشعل سيجارة. امتص نفسا عميقا. احتبسه في رئتيه قليلا، ثم حرره متمهلا. فتح رسالة زوجته:

“أخيرا قمت بما كان يجب أن أقوم به منذ زمن. الحياة معك ما عادت ممكنة. لقد فررت بابني. لا أريد له أن يطير كالعصافير. أريده أن ينمو في دفء أحضاني، ويكبر تحت رعايتي. لا أريد منك شيئا. أنا قادرة على إعالته. أرجو أن يسوى الأمر دونما ضجيج.”

أعاد قراءة الرسالة. فكر بأن زوجته كانت، عند الحاجة، دقيقة ومركزة وواضحة في كلامها. نظر إلى الشرفة المقابلة في البناية المواجهة.


* *

كان أحيانا يجلس، مع زوجته، في الشرفة، يتناولان شايا أو قهوة، معهما ابنهما الصغير حين لا يكون نائما. في الشهور الأخيرة كثيرا ما كانا يشاهدان رب الأسرة الساكنة في الشقة المقابلة يخرج إلى الشرفة بهيئة شعثاء متوترة.. يقف قليلا متشبثا بالسياج، متطلعا حوله، ثم يصيح صيحات عالية متتالية:

– ما عادت الحياة تطاق. ما عادت تطاق.

يضرب سياج الشرفة براحتيه عدة ضربات متلاحقة متسارعة.. يصفع جانبي رأسه بضع صفعات صائحا بصوت أقل حدة مخلوط بالبكاء:

– لا تطاق. أبدا، لا تطاق.

في إحدى العشيات، وبينما كانا يجلسان في الشرفة حول كوبين من الشاي يحسبان حجم الديون المتراكمة عليهما دون أن يجدا الفرصة لسداد ولو جزء منها، ويحاولان توزيع المبلغ الضئيل المتبقي لديهما على الأيام القادمة قبل الموعد المتوقع للإفراج عن راتب أحدهما، ظهر رجل الشقة المقابلة في الشرفة حاملا ابنه، الذي لا يبدو أنه تعدى السنتين، بين ذراعيه، صائحا بأعلى صوته:

– أصبحت الحياة لا تطاق.

كان الطفل يبكي ضاربا الهواء بيديه ورجليه. استمر الرجل يصيح:

– ماذا أفعل ؟. لماذا لا يطير أطفال البني آدم مثل صغار العصافير؟. هكذا…

وطوح بالطفل الصارخ في الفراغ من ارتفاع الطابق الرابع. أطلق الطفل زعقة ضارية، كما لو كانت زعقة الحياة إذ تجد نفسها، على حين غرة، في قبضة الموت، فتزعق من شدة إحباطها وعجزها وخذلانها. انبترت الزعقة عند ارتطام الطفل بالأرض. انطلقت صرخات وشهقات من جهات مختلفة، وتداخلت في المستطيل الذي تطل عليه مجموعة البنايات. شهقت زوجته ووثبت ناهضة، فتعثرت وخرت مغشيا عليها.

ظلت أكثر من يومين مضطربة، تبكي بوجه مسود وعينين منتفختين، متسائلة بين الحين والآخر:

– هل ما شاهدناه وقع فعلا؟. هل هذا معقول؟.

– للأسف، لقد وقع فعلا.

– هل هذا معقول؟.

– ليس كل ما يحدث معقولا.

عندما تماثلت إلى الهدوء، بعد أيام، وبينما كانا مستلقيين في غرفة المعيشة، تنظر هي إلى شاشة التلفزيون المكتوم الصوت، ويتصفح هو مجلة دون أن يجد القدرة على قراءة شيء منها،قال دون أن يحول عينيه عن المجلة:

– تساؤل وجيه!.

أحس بحركة التفاتها نحوه. قال:

– إنه ليس تساؤلا عبثيا، كما يبدو في الظاهر.

قالت بخفوت:

– ما هو؟.

يبدو أنها ظنته يعلق على تساؤل وارد بالمجلة.

– ذلك الذي صرخ به الرجل الذي قذف بابنه.

صاحت:

– ماذا؟.

– أعني من ناحية…

لكنها انتفضت فجأة. حملت الطفل الذي كان يغفو إلى جانبها ولجأت به إلى غرفة النوم، مغلقة عليهما الباب بالمفتاح.

من يومها لم تعد تترك الطفل معه أبدا. إذا أرادت أن تدخل الحمام أو المطبخ أو غرفة الاستقبال تحمله معها وتغلق الباب بالمفتاح، أو تقفل عليه غرفة النوم، إذا كانت هي ستغادرها لبرهة قصيرة. لم تعد تذهب إلى العمل أو تغادر البيت مطلقا. حاول كثيرا أن يخرجها من حالتها، ولكنها كانت تتمسك بأنه ينوي قتل ابنها. أثناء الليل كثيرا ما كان ينتبه على صراخها.


* * *

أعاد قراءة الرسالة:

“الحياة معك ما عادت ممكنة…”

نهض: “ما عادت ممكنة”.

تطلع حوله. كان صمت فترة الظهيرة وسكونها سائدين. امتص بقايا السيجارة، ثم داس عقبها بعنف وبطء. رشف رشفة من الشاي. أتجه إلى الحمام.

عاد جلس على الكرسي. تناول رشفة شاي. استشعر الوخز الطفيف في رسغه الأيسر. فكر بأن الانتحار اكتشاف، أو اختراع، إنساني عظيم، لم تنصفه البشرية. تساءل: “ترى في أية ظروف، وكيف، انتحر أول منتحر في التاريخ”. ارتشف آخر رشفة شاي متبقية. تطلع إلى السماء الربيعية الصافية. فكر أنه لم يعد هناك معنى في أن يتأمل ما حوله. شعر ببعض الارتخاء. نظر إلى غدير الدم الصغير المتجمع على أرضية الشرفة. أغمض عينيه. فكر بأن زوجته وأقاربه وأصدقاءه سيفاجأون كثيرا. تساءل عما يمكن أن يعتقده البعض حول سبب انتحاره. شعر بمزيد من الارتخاء ورغبة في النوم، فحاول أن يتخذ، في كرسيه، وضعا أكثر ملاءمة. لم يكن يتوقع أن الموت يمكن أن يكون هينا وسلسا، بل وأنيسا، إلى هذا الحد. الناس تظلم الموت كثيرا. ها أن كل شيء ينتهي دون ضجيج، كما عبرت زوجته في رسالتها. رن جرس الشقة. قال دون أن يفتح عينيه: “ترى من القادم…” قال: “سبقت الشفرة الرنين “. ضحك في نفسه. قال: “إنه تعبير طريف ولا شك. لكن لن يصل إلى أحد “. تردد الرنين عدة مرات، ثم انقطع. أخذته شبه غفوة… أخذ فضاء الساحة التي أمامه يكتظ بأطفال متصائحين يطيرون في تشكيلات متبدلة. كان ابنه من بينهم. حط ابنه على حاجز الشرفة لاثغا:”بابا.. بابا..” واستمر يبتسم ويصدر صيحات ابتهاج مهتزا ومتمائلا كما لو كان يرقص ومثلما كان يفعل كثيرا. فتح ذراعيه وحاول أن يقول: “تعال”. فلم يخرج صوت. نهض نحوه شارعا أحضانه، فطار ابنه محوما في فضاء الساحة متغرغرا بالضحك. لاحظ أن زوجته كانت تطير إلى جانب ابنه. قفز في الفراغ طائرا خلفهما. أحس بنفسه يطير بخفة ويسر، في البداية، ثم تعاسر تنفسه وتثاقل جسده وأحس بنفسه يهوي ببطء – مندفعا برأسه – في غور دامس.


تأويل

بعد أن انتهى الكاتب من كتابة قصته وغربلتها وتدقيقها والتدقيق فيها، وتوزيع الضوء والظل، والحرارة والبرودة، والتوتر والارتخاء، والطراوة والصلابة على أجزائها، حتى استوت بالكيان الذي تبدت به أعلاه، وأيقن أن مدى قدرته الفنية ينتهي دون إمكانية إضافة مزيد من التجويد، عرضها على زوجته.

جلس يراقبها وهي منكبة على القراءة راصدا تجهم ملامحها كلما أوغلت في القصة.

بعد أن فرغت من القراءة،ألقت بالأوراق أمامها، على منضدة الردهة.

صمتت قليلا.

التفتت نحوه.

هجس بغضبها المكتوم الوشيك الانفجار.

الإعلانات
الإبلاغ عن هذا الإعلان

– قصة جيدة!.

كانت تتكيء بأحد مرفقيها على المنضدة شابكة أصابعها على بطنها. نظرت في عينيه مباشرة:

– تتكلم عن نفسك. واضح.وعنا. سأمك من الحياة.. منضدة الردهة.. منضدة الشرفة.. خزانة المطبخ.. إهمالك.. غضبي.. ابننا.. ديوننا.. ثلاجتنا الخاوية.. الرواتب المتأخرة، إلى آخره.

صمتت مسددة نظرها إلى عينيه. ظل جالسا في كرسيه دون أن يرد.

– لقد استوعبت الرسالة من قصتك هذه. إنك تريد مني أن أذهب وأتركك. ليكن، طالما أن هذه رغبتك.

ثم هبت ناهضة، مسقطة الكرسي الخشبي الذي كانت جالسة عليه.

استمر جالسا مكانه يسمع جلبتها وزخات سخطها وهي تجمع أشياءها. حملت ابنها الذي سرت إليه عدوى التوتر فانخرط في نوبة بكاء وصراخ، وجرجرت الحقيبة. وهي تمر به قالت دون أن تلتفت إليه:

– انتحر إذا شئت، فلم تعد تعنيني. كانت غلطة من البداية.

ومضت.

لبث مكانه مذهولا وهو يسمع، عبر باب الشقة المفتوح، صراخ الطفل ووقع خطواتها الثقيلة على سلم العمارة، إلى أن تلاشيا.

نهض. أوصد باب الشقة. ذهب إلى المطبخ. تناول كوبا من الماء البارد (يبدأ في تناول الماء باردا قبل حلول موسم الحر). أخذ يعد كوبا من الشاي. قال: “أ معقول أن يؤول الأمر إلى هذه النهاية؟ “. رد على نفسه: “ليس كل ما يحدث معقولا “. داهمه شعور بأن جاذبية الحياة، برمتها، قد تدنت إلى الصفر…



ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...