في ربيع العام ١٩٨٨ أنفقت وطالبين عربيين ؛ طالبا وطالبة ، فصلا دراسيا كاملا في دراسة قصيدتين من الشعر الفلسطيني مع المستشرقة الألمانية ( انجليكا نويفرت ) .
كانت القصيدة الأولى هي قصيدة محمود درويش " عابرون في كلام عابر " التي شغلت ٩٠ بالمائة من الفصل الدراسي ، فيما كانت الثانية للشاعر خليل توما . أنجزت ( نويفرت ) دراسة مفصلة عن قصيدة درويش وتلقي الإسرائيليين لها في ١٩٨٨ ، وترجمتها أنا إلى العربية في ١٩٩٢ ونشرتها في مجلة كنعان في العام ١٩٩٨ ، وسبب تأخر النشر هو اعتذار الشاعر أسعد الأسعد عن نشرها في مجلة " الكاتب " التي نشرت فيها مجموعة دراسات مترجمة .
في دراستها تتوقف ( نويفرت ) أمام ترجمات عبرية عديدة وتناقشها وتبين الاختلاف بينها ، وهذا الاختلاف مهم جدا لأصحاب نظرية التلقي عموما .
بعد ذلك بسنوات قرأت مقالا للكاتب حسن البطل في " الأيام " أتى فيه على معلم مدرسة في العراق حدد امتحانا لطلابه ، وكان الطلاب ضاجين غير منتبهين ، ولما سأل أحد الجالسين في الصفوف الأخيرة زميله عن موعد الامتحان ، أجابه بأن الأستاذ يقول إنه ألغى الامتحان .
المثالان السابقان مهمان في أثناء الكتابة عن تلقي نص ما أو ترجمة نص ما عموما ، وهو ما انشغلت به في الأسبوعين الماضيين اللذين أعدت فيهما قراءة ترجمة الشاعر المغربي مبارك وساط لقصة ( فرانز كافكا ) " التحول " ، فقد دفعني الفضول إلى معرفة اللغة التي اتكأ عليها وساط في ترجمته ، وشغلني الأمر كثيرا فأخذت أبحث عن الترجمات الأخرى للقصة نفسها يحدوني سؤال مهم هو :
- هل اطلع المترجم على الترجمات السابقة ورأى أنها رديئة وأن ترجمته ستكون الأفضل ؟
واضطررت إلى اقتناء ترجمات أخرى ومراسلة أدباء وكتاب اسألهم عن بعض الترجمات واللغات التي نقلت عنها ، فقد لاحظت أن " التحول " ترجمت تسع ترجمات عن الألمانية والإنجليزية والفرنسية والتشيكية ، بل عرفت أنها ترجمت إلى الإنجليزية خمس ترجمات .
السؤال الذي راودني وأنا أقرأ ترجمة مبارك وساط ظل يلازمني وأنا أنظر في ترجمة العنوان وترجمة الصفحة الأولى معا . حقا ما الذي يدفع مترجما ما إلى ترجمة عمل ترجم من قبل ؟
اللافت أن أول ترجمة أنجزت كانت في العام ١٩٥٧ وقام بها منير بعلبكي عن الانجليزية وقد بسطها للقراء ، ما يعني أن ترجمة ثانية وربما ثالثة كانت ضرورية .
منذ العام ٢٠٠٠ تقريبا ، وربما قبل ذلك بقليل ، نشرت حوالي سبع ترجمات لمترجمين مختلفين هم ابراهيم وطفي عن الألمانية ، والدسوقي فهمي وأرجح أنها عن الألمانية ، وخالد البلتاجي عن التشيكية ، ووساط مبارك عن الألمانية مستعينا بالترجمة الفرنسية ، وعلي شيري عن الإنجليزية ، ويوسف عطا الطريفي عن الإنجليزية ، ومحمد أبو رحمة ، ونبيل حفار عن الألمانية ، وفيم كان العنوان في الترجمات الإنجليزية نفسه " The Metamorphsis " اختلف في الترجمات العربية " المسخ " و " الانمساخ " و " التحول / الدودة العمياء " ، وقد ناقش بعض المترجمين والنقاد العنوان مبدين رأيهم في انحيازهم إلى عنوان محدد . والملاحظ هو أن سبع ترجمات من الترجمات التسع صدرت في السنوات السبع الأخيرة ، ما يثير سؤالا مهما حول الالتفات إلى هذه القصة التي كتبت قبل أكثر من مائة عام .
( قبل أن ألتفت إلى الترجمات كانت فكرة تحول الإنسان إلى حشرة تلح على ذهني ، وقد عبرت عن واقعنا في ١٩٩٣ في " ليل الضفة الطويل " قائلا : " تصعد إلى غرفتك . تتناول كتابا ما . " الأفضل أن يتحول المرء إلى حشرة . الأفضل ألا يشاهد المرء التلفاز . الأفضل أن يتحول المرء إلى كائن بيولوجي " ) .
لكن السؤال الأهم من السؤال السابق هو:
- ماذا أضافت الترجمة اللاحقة للترجمة السابقة ؟ وبم اختلفت عنها ؟ وهل كان المترجم اللاحق قرأ الترجمات السابقة وكان له رأي فيها ورأى أن ترجمته ستكون الأفضل ؟
في البحث العلمي غالبا ما يتساءل الدارس وهو يعكف على دراسة موضوع إن كان سيأتي بجديد ، لأن دراسته إن لم تأت بجديد ستكون عديمة الجدوى .
شحصيا انشغلت في الأيام العشرة الأخيرة بقراءة الصفحة الأولى من قصة كافكا وقراءة أربع ترجمات مختلفة لها ، عن ثلاث لغات ، فهل ثمة تتطابق في الترجمات أم أن هناك اختلافات بينها ؟ وهل الاختلافات جزئية أم جوهرية ؟
ما من شك أن هناك اختلافات بينها وليس ثمة تطابق بين اثنتين منها تطابقا تاما ، وأكثرها يقول المعنى عموما ويفتقد قوة العبارة في النص الأصلي ، وهذا أمر طبيعي ومتوقع . ( إن برهنة هذا يتطلب إدراج الترجمات الخمسة والإشارة إلى الفروق بينها وهو ما سأفعله )
وربما احتاج المرء إلى النظر في الترجمات الإنجليزية الخمسة والنظر فيها ، علما بأنها تطابقت في العنوان ، ويجب بعدها إثارة الأسئلة نفسها التي أثيرت حول الترجمات العربية.
وأنا أدرس في ألمانيا في مدينة ( بامبرغ ) لفتت إحدى زميلاتي نظري إلى شخص وقالت لي :
- هذا الشخص موضع إعجاب أهل المدينة وبه يفخرون ، فهو مترجم رواية ( جيمس جويس ) " يوليسيس " ولقد أنفق في ترجمتها خمسة عشر عاما ؟
الترجمة عذاب وتحتاج إلى معاناة ، ولقد أنفقت الأيام العشرة الأخيرة وأنا أقوم بإحماء لترجمة الصفحة الأولى من قصة كافكا ، ومقارنتها بالترجمات العربية لها . هل كتبت ما أردت أن أكتبه عن القصة ؟
طبعا لا . أحيانا ترمي إلى شيء ثم تسير في طريق آخر مختلف .
الجمعة
١٣ / ١١ / ٢٠٢٠
www.facebook.com
كانت القصيدة الأولى هي قصيدة محمود درويش " عابرون في كلام عابر " التي شغلت ٩٠ بالمائة من الفصل الدراسي ، فيما كانت الثانية للشاعر خليل توما . أنجزت ( نويفرت ) دراسة مفصلة عن قصيدة درويش وتلقي الإسرائيليين لها في ١٩٨٨ ، وترجمتها أنا إلى العربية في ١٩٩٢ ونشرتها في مجلة كنعان في العام ١٩٩٨ ، وسبب تأخر النشر هو اعتذار الشاعر أسعد الأسعد عن نشرها في مجلة " الكاتب " التي نشرت فيها مجموعة دراسات مترجمة .
في دراستها تتوقف ( نويفرت ) أمام ترجمات عبرية عديدة وتناقشها وتبين الاختلاف بينها ، وهذا الاختلاف مهم جدا لأصحاب نظرية التلقي عموما .
بعد ذلك بسنوات قرأت مقالا للكاتب حسن البطل في " الأيام " أتى فيه على معلم مدرسة في العراق حدد امتحانا لطلابه ، وكان الطلاب ضاجين غير منتبهين ، ولما سأل أحد الجالسين في الصفوف الأخيرة زميله عن موعد الامتحان ، أجابه بأن الأستاذ يقول إنه ألغى الامتحان .
المثالان السابقان مهمان في أثناء الكتابة عن تلقي نص ما أو ترجمة نص ما عموما ، وهو ما انشغلت به في الأسبوعين الماضيين اللذين أعدت فيهما قراءة ترجمة الشاعر المغربي مبارك وساط لقصة ( فرانز كافكا ) " التحول " ، فقد دفعني الفضول إلى معرفة اللغة التي اتكأ عليها وساط في ترجمته ، وشغلني الأمر كثيرا فأخذت أبحث عن الترجمات الأخرى للقصة نفسها يحدوني سؤال مهم هو :
- هل اطلع المترجم على الترجمات السابقة ورأى أنها رديئة وأن ترجمته ستكون الأفضل ؟
واضطررت إلى اقتناء ترجمات أخرى ومراسلة أدباء وكتاب اسألهم عن بعض الترجمات واللغات التي نقلت عنها ، فقد لاحظت أن " التحول " ترجمت تسع ترجمات عن الألمانية والإنجليزية والفرنسية والتشيكية ، بل عرفت أنها ترجمت إلى الإنجليزية خمس ترجمات .
السؤال الذي راودني وأنا أقرأ ترجمة مبارك وساط ظل يلازمني وأنا أنظر في ترجمة العنوان وترجمة الصفحة الأولى معا . حقا ما الذي يدفع مترجما ما إلى ترجمة عمل ترجم من قبل ؟
اللافت أن أول ترجمة أنجزت كانت في العام ١٩٥٧ وقام بها منير بعلبكي عن الانجليزية وقد بسطها للقراء ، ما يعني أن ترجمة ثانية وربما ثالثة كانت ضرورية .
منذ العام ٢٠٠٠ تقريبا ، وربما قبل ذلك بقليل ، نشرت حوالي سبع ترجمات لمترجمين مختلفين هم ابراهيم وطفي عن الألمانية ، والدسوقي فهمي وأرجح أنها عن الألمانية ، وخالد البلتاجي عن التشيكية ، ووساط مبارك عن الألمانية مستعينا بالترجمة الفرنسية ، وعلي شيري عن الإنجليزية ، ويوسف عطا الطريفي عن الإنجليزية ، ومحمد أبو رحمة ، ونبيل حفار عن الألمانية ، وفيم كان العنوان في الترجمات الإنجليزية نفسه " The Metamorphsis " اختلف في الترجمات العربية " المسخ " و " الانمساخ " و " التحول / الدودة العمياء " ، وقد ناقش بعض المترجمين والنقاد العنوان مبدين رأيهم في انحيازهم إلى عنوان محدد . والملاحظ هو أن سبع ترجمات من الترجمات التسع صدرت في السنوات السبع الأخيرة ، ما يثير سؤالا مهما حول الالتفات إلى هذه القصة التي كتبت قبل أكثر من مائة عام .
( قبل أن ألتفت إلى الترجمات كانت فكرة تحول الإنسان إلى حشرة تلح على ذهني ، وقد عبرت عن واقعنا في ١٩٩٣ في " ليل الضفة الطويل " قائلا : " تصعد إلى غرفتك . تتناول كتابا ما . " الأفضل أن يتحول المرء إلى حشرة . الأفضل ألا يشاهد المرء التلفاز . الأفضل أن يتحول المرء إلى كائن بيولوجي " ) .
لكن السؤال الأهم من السؤال السابق هو:
- ماذا أضافت الترجمة اللاحقة للترجمة السابقة ؟ وبم اختلفت عنها ؟ وهل كان المترجم اللاحق قرأ الترجمات السابقة وكان له رأي فيها ورأى أن ترجمته ستكون الأفضل ؟
في البحث العلمي غالبا ما يتساءل الدارس وهو يعكف على دراسة موضوع إن كان سيأتي بجديد ، لأن دراسته إن لم تأت بجديد ستكون عديمة الجدوى .
شحصيا انشغلت في الأيام العشرة الأخيرة بقراءة الصفحة الأولى من قصة كافكا وقراءة أربع ترجمات مختلفة لها ، عن ثلاث لغات ، فهل ثمة تتطابق في الترجمات أم أن هناك اختلافات بينها ؟ وهل الاختلافات جزئية أم جوهرية ؟
ما من شك أن هناك اختلافات بينها وليس ثمة تطابق بين اثنتين منها تطابقا تاما ، وأكثرها يقول المعنى عموما ويفتقد قوة العبارة في النص الأصلي ، وهذا أمر طبيعي ومتوقع . ( إن برهنة هذا يتطلب إدراج الترجمات الخمسة والإشارة إلى الفروق بينها وهو ما سأفعله )
وربما احتاج المرء إلى النظر في الترجمات الإنجليزية الخمسة والنظر فيها ، علما بأنها تطابقت في العنوان ، ويجب بعدها إثارة الأسئلة نفسها التي أثيرت حول الترجمات العربية.
وأنا أدرس في ألمانيا في مدينة ( بامبرغ ) لفتت إحدى زميلاتي نظري إلى شخص وقالت لي :
- هذا الشخص موضع إعجاب أهل المدينة وبه يفخرون ، فهو مترجم رواية ( جيمس جويس ) " يوليسيس " ولقد أنفق في ترجمتها خمسة عشر عاما ؟
الترجمة عذاب وتحتاج إلى معاناة ، ولقد أنفقت الأيام العشرة الأخيرة وأنا أقوم بإحماء لترجمة الصفحة الأولى من قصة كافكا ، ومقارنتها بالترجمات العربية لها . هل كتبت ما أردت أن أكتبه عن القصة ؟
طبعا لا . أحيانا ترمي إلى شيء ثم تسير في طريق آخر مختلف .
الجمعة
١٣ / ١١ / ٢٠٢٠
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.