نمر سعدي - كحلُ الفراشة.. إيقاعات نثريَّة -1- (كتاب كامل)

كحلُ الفراشة
ايقاعات نثريَّة


بوَّابةٌ أولى


نصوصٌ على حافةِ الحاسَّةِ الزرقاء


(1)
ما روتهُ الفراشةُ

الشاعر الفلسطيني الراحل راشد حسين قال ذات مرة في لقاء صحفي أن الشاعر أو الفنان إذا تزوَّج يصبح في حالة جاذبيَّة سوريالية غريبة ومعقَّدة فملائكة السماء تشدُّهُ من شعرهِ نحو الأعلى بينما تشدُّهُ ملائكة الأرض وهم زوجتهُ وأولادهُ من قدميهِ نحو الأسفل ..لقد صدقَ ولكنهُ نسيَ الحبيبة التي تشدُّ من القلبِ والروح أيضاً.
***********
أول رواية عظيمة صنعت قدري العابق بعطر الحبر بطريقة ما وجرَّتني من تلابيب قلبي إلى عالم الأدب رواية الفارس الخالد لميشال زيفاكو ..كانت رواية طويلة بمجلدين وكنت في التاسعة من عمري ..رواية حافلة بالحب والتضحية من أجمل ما قرأت في حياتي..فيها طاقة تصويرية ورومانسية هائلة..تُنسيك نفسكَ وتجعلكَ تعيش أجواء عصر النهضة في فرنسا الملكيَّة..بعدها جاءت مرحلة روايات جرجي زيدان التاريخية.
حدثت هذه الرواية في أزهى عصور الفروسية والسيف في فرنسا وأوربا كلها وفي هذه الرواية تبين لنا كيف استطاع بطلنا الفارس الخالد ريكبمرج أن ينتصر على مكائد خصومه وخصوم بلاده وهم من أصحاب الوجاهة والنفوذ. ميشال زيفاكو روائي تملكت نفسه مشاعر الرغبة بانتصار الحب والعدل والإخلاص في هذا العالم الملئ بالظلم. ورواية الفارس الخالد واحدة من رواياته التي نالت شهرة كبيرة وترجمت إلى الكثير من اللغات ولاقت وما تزال تلاقي الرواج لما تحمله في طياتها من هذه المعاني العظيمة.
**********
(نعم) مع علامة سؤال تختصرُ دوار البحر .. هذه الكلمة المصابة بقمرِ الذهول قفزت من فمها كالسمكةِ البريئة عندما قالَ لها أُحبكِ.
**********
فاطمة بالنسبة لي ليست مجرَّد رمز أنثويٍّ فقط , وليستْ موتيف عشق عربي رتيب النغمة , مثلما هي عند الكثير من الشعراء العرب القدامى والأحياء . منذ أمرئ القيس وحتى نزار قباني وأحفادهما , فاطمة عندي هي أعمق وأبعد من تجليَّات اللازورد في مرايا الروح , والحضور المشتعلُ أبداً بأطياف الغيابْ.
*********
آه ما أجمل روح تشرين.. تشرينُ زهرةٌ صخريَّةٌ..قمرٌ أخضرُ...طيرٌ أبيضُ الحزنِ والسكينةِ يبلِّلهُ النعاس.
*********
ما أجمل حورية البرق الحمراء ..التي ترقص الفلامنكو في سماء حيفا..أعشقها من بعيد وأرى قدميها الورديتين المشتعلتين بالغيوم وقلبها المتوهج بزرقة البحر الليلية..هنا ..الآن.
*********
أتوَّجع لا من أجلِ ما حدثَ وما سيحدثُ في الآتي والغدِ بل من أجلِ سؤال تائه ومن يقيني أنهُ لا يوجد في هذا الكونِ قوة واحدة عادلة تقفُ إلى جانبِ العرب وحقهم الضائع في اختيارِ مصيرهم... قوة واحدة لا غير تملكُ ضميراً إنسانياً يقظاً بل ومتوهجاً.
********
الكتابة هي فن الحذف .. هكذا قالَ شاعرٌ ما .. هيَ عندي فن الصمتِ أيضاً.. فأنا عندما أعيشُ حالات بيات شعري طويلة أتعلَّمُ في اللغة شيئاً جديداً.. أسلوباً ما..مجازاً ما ..وجعاً ما.. فأحس أنني ما زلتُ في الشعرِ أحبو كطفلٍ صغير.
********
بعدما رحل الشاعر حبيب الزيودي عرض عليَّ الفيسبوك طلب إضافته لقائمة الأصدقاء فبعثتُ طلب صداقة له بحركة غير إرادية تحكَّم فيها الحب له ولشعره والحنين الهائل إلى المتفيزيقيا ..الآن أتذكرَّ أنني بعد موت محمود درويش وبحركة غير إرادية أيضاً حاولت الإتصال بهاتفهِ الجوَّال الذي كان مجهولا لي من قبلُ بعد أن قرأت قصيدة للشاعر سميح القاسم سجَّل فيها رقم هاتف توأم روحه وصديق عمره الراحل..الآن لا أعرف ماذا أسمِّي هذا التصرُّف هل هو الجنون الصرف؟ أم الحب المطلق ؟ أم هو حنين الروح لوردة المتفيزيقيا؟
********
لا كلامَ في فمي أروع من كلامكِ الذي يشبه زهر اللوز.
*******
شوق عظيم يجرفني للأماكن تلك...التي تركتُ شيئا فيها وتركتْ شيئاً فيَّ..شيئاً يشبه فتات الضوء العطري.
*******


(2)
فسحةٌ لكلامِ البنفسج

يدُ الله وحدها التي صبَّت ماء نعناع الموسيقى فيَّ كانت وراء شغفي بالتفاعيل والغنائية.. وليأتِ شاعر يقنعني بقصيدة النثر كأنسي الحاج أو محمد الماغوط كي أسلِّمَ لهُ مفاتيح قلبي.. الشعر الممسوس بكهرباء الموسيقى عالية الشحنة له طقوسه الغرائبية ومشهده النوراني ونفسُه العذب منذ جرير والبحتري وأبو تمام والمتنبي حتى أحمد شوقي والسياب ومحمود درويش كلهم كانَ يدخل في حالة وجد موسيقي حين يكتب أو تتلبسهُ روح أبولو أو فاغنر.
***********
عندما صمتَ قلبهُ في الظهيرة الأخيرة كانَ يتناولُ فطورَهُ السماويَّ ممسكاً رغيفَ خبزٍ بيمينهِ بحركة ضاغطةٍ لا ارادية.
وماذا قالَ.. ؟
لا شيءَ كانت عيناهُ تحتشدانِ بالغصص والأسرارِ المبهمة.. وبكل شيء.. هكذا حدثني أخوه الأكبر البارحة..
الأنقياء دائما يذهبون الى الله.
**********
يحيِّرني الذي يقولُ كن طيباً كحمامةٍ وحكيماً كأفعى..
كيفَ يحسنُ جمعَ الضدَّين؟ يا له من طباق.
**********
شجرة الزيتون التي تـُجزُّ ضفائرُها، تبكي بحرقة واختلاج.. أسمعها تبكي.. أسمعها تتنهد.. بكاءُ الشجرة أكثر بكاء موجع في الدنيا.. بكاءُ الشجرة... الشجرة المرأة.
*********
كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة.. نعم هو كذلك يا نفَّري فقد ازدادَ شطبي وحذفي حتى لم يتبقَ لي من الصفحة المخطوطة ذات القطع الكبير أكثر من سطر واحد مكوَّن من عدةَّ كلمات.. يا لهذا المعنى السراب.
**********
قالَ همنغواي: أكتب كأنك تموت غداً..
هل سمع بقولِ علي بن أبي طالب رضي الله عنهُ إعمل لدنياكَ كأنك تعيش أبداً ولآخرتك كأنك تموتُ غداً؟
*********
صدقاً أقولُ : ليسَ ثمَّة جمالٌ لم يكن عبئاً على قلبي.
*********
الظاهر أني لن أبرأ من مرض الحنين.. وإلا فما هو سرُّ غرامي بالأمكنة؟ اليوم مثلاً تحسَّستُ بعينيَّ مناطق كثيرة في وسط البلاد وفي المثلث كأني أنظر الى جنتي الموعودة.. أهو شوقُ آدمَ المخبوءِ فيَّ الى الجنَّة التي طُردَ منها.. آهِ يا أمي الأرض.. في قلبي مليون حشرجة.. لم يبقَ لي سواكِ.
*********
الضوء الأزرق للمدهش الراحل حسين البرغوثي ينتمي الى صنف الكتب العظيمة التي تترك فينا شيئا ما .. تكسرُ ضلعا برفيف فراشةٍ .. نتغيَّر طفيفا بعدَ قرائتها.. لم أنم قبل عدَّة أيام حتى أتممت قراءة الصفحات المئة والثمانين خلال عدَّة ساعات وهو رقم قياسي بالنسبة لي اذ نادرا ما أنهي رواية بمثل هذه السرعة.. والأجمل من كلِّ شيء أنها تصيبك بنعمةِ الصمت.. شكرا لك حسين البرغوثي أعتز بأنني أقرأ لراءٍ عظيمٍ مثلك.
*********
لا أملكُ قلبَ قديِّس لأعرفَ سببَ تسرُّبِ الملحِ الأسود المُرِّ والقاسي الى طعامي ومائي وهوائي صباحَ هذا اليوم ليغمِّسَ خبزي بالدمع الذي لم أصدِّق عجزي الكامل عن رفضهِ وأنا أشاهد النساء والأطفال في مخيَّم اليرموكِ وهم يبحثون حتَّى عن الأعشابِ البريِّةِ التي لا تصلح للأكل لإسكاتِ جوعهم. كأنَّ محمود درويش كانَ يراهم بقلبهِ عندما قالَ وأنتَ تعدُّ فطوركَ فكِّر بغيركَ لا تنسَ قوتَ الحمامْ.
*********
أسرقُ شهقةَ الشِعرِ من إمرأةٍ عابرةٍ بسيطةٍ وطيبَّةِ القلبِ جداً تقولُ على بُعدِ قمرٍ مني أنامُ بعينينِ مغمضتينِ وقلبٍ مفتوحٍ أو الحبُّ تغريبتي في بدئي ونهايتي فطوبى للغرباءِ.. طوبى لقلبٍ سمكيٍّ في الماءْ.
*********
لا أقول أنها تستطيع أن تجعل الزمان يتوقف عن جريانهِ كرمى لجمالها الأوحد أو ينتظر كغودو تحتَ شجرةِ الشمسِ.. أو مثلاً باستطاعتها أن تجعل كلَّ أيامِ السنةِ ربيعاً لا يذبلُ.. فكلُّ هذا مجازٌ لا يسمن ولا يغني من حقيقةٍ.. يكفيها أنَّ باستطاعتها أن تمسك بالنظريةِ النسبيةِ بيدها وتطلقها كطير أخضر في الفضاء اللا متناهي. يكفيها أنها تربي على يديها القصائدَ كلَّها.
**********


(3)
خفقاتٌ لإضاءةِ الروح

لا أعرف لماذا أكتب بالضبط وكيف قادني القدر إلى الشعر ..الناس العاديون البسطاء يسمّون الذي يكتب مجنونا ..ربما هذا الرأي المسبق أو الصورة النمطية للكاتب لديهم ..كنت أعتقد أنني أكتب لأخلق ذلك التوازن في روحي القلقة أو لتحرير المياه الجوفية لرتابة الحياة ومللها من بئر الجسدِ الأرتوازي ..أو ربما لإضاءةِ نفق مظلم بالحزن غير المفسَّر في جوانيَّةِ النفس..اليوم أضحك من تلك النظريات ..بعد عشرين سنة من اشتعال أصابعي بالحبرِ المقدَّس وتخبطِّ القلبِ في مصيدةِ النصاعة التي تلمعُ من وراءِ القصيدة الحقيقية..لا أعرف لماذا أكتب أو أفكِّرُ بالكتابة بالضبط.
**********

أنا مهووس بالحبر والورق..مع احترامي للحاسوب والكيبورد ..-بعد كل هذه الثورة الالكترونية ..- حتى أنَّ العديد من الكتّاب والشعراء قد نسيَ رائحة الحبر ولون الورق ..ولكنني أنصاع لعطر الحبر ولوهج الورق حتى اذا أردت كتابة كلمة واحدة أخربشها وبعد ذلك أشطبها وألغيها. حتى أفقر ستاتوس أكتبه على الورق بتذَّمر أحيانا ..لا أعرف ما هيَ قصتي مع الحبر والورق.
************
قرأت خلال عشرين سنة المئات من المجموعات الشعرية لشعراء عرب وأجانب وملكت تلك الحاسة التي تستطيع أن تميِّز بن الحقيقي واللا حقيقي.. تستطيع أن تعرف ذلك النوع من الشعر الذي عندما تقرؤه تحسُّ بأن قمة رأسك قد أُنتزعت وأنك تسبح فوق الغيوم على حدِّ اميلي ديكنسون .... شعر محمود درويش ينتمي الى هذا النوع من الشعر .. هو شعر يبلغُ مستوى رفيع من الجمالية والحساسية .. ومكاشفة الذات .. شعر حقيقي يجوب مساحات شاسعة وعالية جدا من النور ..هذه كلمة حق لا أقَّل ولا أكثر.. مشهورة بوجوه كل المتخرِّصين كذَّابي الشعر الذين لا يروق لهم تربُّع درويش على هرم الشعر العربي وهي على كل حال انطباع ذاكرة قارئة .. باحثة أبدا عن أشياء الجمال .
**********

لتفكيك نص ما أحتاج إلى عدة قراءات قد تتجاوز العشرة أحيانا.. أُلغي بها نرجسيتي وأمسحُ هالة الانبهار عن عينيَّ
*********

الفرح يرفضُ أن ينام .. الفرح بالشعر لا ينامُ أصلا .. في هذا الزمن الخالي من أحلام الشعر عزاء كاتب أو شاعر ما في هذه الحياة أن يُحتفى بنصوصه في مكان ما من الأرض وهو لا يدري .. وأشدِّد على كلمة لا يدري ..لأنها تحملُ في طيَّاتها فرحاً لا ينام ولأن هذا الاحتفاء في الجانب الآخر من الأرض يعني لي الكثير من الأشياءِ الجميلة.
***********

موسيقى مرئية مصطلح اخترعته في خريف عام ٢٠٠٣ وهو اسم مجموعة شعرية لي صدرت عام ٢٠٠٨ عن مؤسسة ومجلَّة مواقف واسم قصيدة لي كتبتها حسب ما أظن في سنة ٢٠٠٣ أو بعدها بقليل ونشرتها قبل عام ٢٠٠٦ في صحف محلية وعلى النت أي قبل صدور كتاب يوميات محمود درويش أثر الفراشة والذي يحتوي على قصيدة نثرية تحمل هذا العنوان .. وقبل اطِّلاعي على الكتاب ..سبحان الله من توارد الخواطر ووقع الحافر على الحافر
********
يقولُ لي الشخصُ الغريبُ اليومَ أنه ممنوعٌ من انتظارِ أيِّ شيءٍ.. أجيبهُ أن لاشيءَ أجملُ من الانتظارِ بالنسبةِ لي .. الحياةُ كلُّها انتظارٌ لما لا يأتي
********

قال الشاعر التونسي الخالد أبو القاسم الشابي مرَّة في قصيدة: وأنظر الوادي يغطِّيه الضباب المستنير..
قرأت قصيدة الشابي قبل زمن بعيد فلم أفهم حينها معنى هذا الضباب المستنير الذي يعنيه الشاعر الرومانسي الحالم الكبير إلا فيما بعد.. اليوم مثلا هذا الضبابُ المستنير الذي ذكره الشابي في قصيدته قبل عشرات السنين يغطِّي كل هضاب وجبال المنطقة الخضراء التي أعيش فيها منذ الصباح الباكر.. يا له من جمال أخَّاذ.. ساحر.. شاعري .. ربيعي .. يمتازُ بهِ آذار الذي يشكِّل جسراً طبيعيَّا وجمالياً.. رومانسيا عذبا بينَ فصليْ الشتاءِ والربيع.. ضباب أبيض كثيف فراشيٌّ تتخلَّله أشعة شمسية ذهبية خجولة.. كم أحب هذا الطقس منذ الصغر رغم ذرات الغبار الصغيرة المشبَّعة بالرطوبةِ في هوائهِ.. كأنه الطقس المثالي للشاعر الذي يسكنني.
*********

بعد أن يتحوَّل الطغاة الى رماد أسود ستطلعُ وردةُ العتابا السورية النقيَّة الصافية البيضاء من تحت هذا الرماد وتمتزج بيد صبية.
**********
همِّي الشخصي جداً هو نفسهُ همِّي العام الكوني.. أتلاشى في كلِّ شيءٍ.. وكلُّ شيءٍ أيضاً يتلاشى فيَّ.. يخيَّلُ لي وأنا أفكِّرُ بالجميع أنَّ الجميعَ أيضاً يفكرون بي.. العصفورُ الذي حطَّ على مقربةٍ مني يكلُّمني في صباحي الربيعيِّ الجميل وأنا لا أفهمهُ.. لكني رغم نفسي أردُّ لهُ التحيَّة.. أتماهى مع فرحهِ المقتضب كما تتماهى الكائنات الصغيرةُ مع صمتي المفتعل.. كلُّ الحياةِ تماهٍ بتماهٍ إذن.
**********


(4)
خبطُ الأجنحة المائية


كارولين طالبة أدب مقارن أميركية بيضاء.. جميلة ذات شعر ذهبي.. لا تفارق البسمة وجهها الناصع.. كانت تدرس الأدب الانجليزي في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك.. جاءت عام 2007 في بعثة دراسية صيفية الى جامعة حيفا.. كانت تعطي دروس خصوصية في اللغة الانجليزية.. وقد درَّستني عدة دروس فبدأت معي بسونيتات شكسبير قراءة وتفكيكا وشرحا.. كنت أودُّ لو بدأت من الشعر الأميركي المعاصر.. تشارلز بوفوسكي مثلا أو آن سكستون.. ولكنها أصرَّت على شكسبير ولغتهِ العالية.. كارولين وأظنها كانت من أصول يهودية.. فتاة جدا لطيفة ومحبة للشعوب الأخرى وإنسانية إلى حدِّ مرهف.. كانت تحب حيفا وتتنزَّه بشكل يومي في حي وادي النسناس الشهير وتتناول الفلافل.. قالت لي مرَّة أثناء تدرسيها لي أنها تحب الشعب الفلسطيني ومعلمها الحيفاوي الأصل المدرِّس في جامعتها النيويوركية العريقة البروفيسور بشير أبو منَّة وتعتبره أحد عباقرة هذا العالم وأنه يملك عقلا من أصفى العقول على مستوى العلوم الانسانية في العصر الحاضر..
المهم في الأمر أنني بعثت في الماضي لمكتبة جامعة كولومبيا كتبا شعرية لي ظلت لسنوات لا تظهر في كتالوج المكتبة الالكتروني.. حتى يئست من البحث عنها.. إلى أن جائتني رسالة من مدرِّستي عاشقة الشعر.. تخبرني فيها عن وجود الكتب ورابط البحث.. شكرا لكِ عاشقة الشعرِ والحياة والفراشات الصفراء والخضرة. أي إنسان ممكن أن ينسى سونيتات شكسبير بعد سنوات طويلة ولكنه لن ينسى فتاة مثل كارولين..
*********

لم تلتصق به صفةٌ طوال حياتهِ كما التصقت بهِ صفة حالم.. لا عاشق للسراب.. لا شاعر.. لا أي لعنة أخرى.. كان الجميع يقولونها له وكأنهم يقيِّمون شخصيَّته بعد خبرة.. بفرح من اكتشفَ كنزا.. مئات البشر قالوها له.. حتى آنيتا عاملة المطعم نادته مرَّة بها مطلقةً ضحكةً مجلجلة كأنما أصيبتْ بمس.. لا أدري كيفَ اصطلحوا عليها ولم يصطلحوا على أي كلمة أخرى؟ حالم؟!

********

في الزمن الالكتروني لا أحد يهتم ولا يتكلَّم مع أحد.. حتى قهوة الصباح لا تُشرب بمعزل عن نقر الهاتف أو اللابتوب... الزوج والزوجة والأولاد والبنات على مدار الساعة مشدودون بجاذبية غريبة عجيبة الى الفيسبوك.. أو تويتر أو الواتس أب أو الفايبر.. أصبحت عواطف الناس كالزهور الاصطناعية والزجاج.
********

سحرُ البيان الذي في سورتي الرحمن والملك لا حدود له... ما عليك إلا الانصات بهدوء.. الطاقة الجمالية في القرآن لا يقوى كلُّ قلبٍ على استيعابها..
انسيابية هذا النثر المركَّب تذهلك. موسيقا الألفاظ تحاول تسكين الموج المتلاطم في مكان ما من روحك.. كل شِعر عظيم متأثر بشكل أو بآخر بلغة القرآن الكريم.
********

هناكَ أزمة قراءة.. الآن ما فائدة أن يطبع الشاعر أو الروائي مثلا ألف نسخة من كتابه.. أظن أنه يكفيه ربع هذا العدد ان كان هو الوحيد من سيقوم بتوزيع كتابه على الأصدقاء أو المكتبات العامة أو الجامعية؟
باعتقادي ألف نسخة كثير وفائض عن الحاجة في وقت لا أحد فيه يقرأ وليس مستعدا أن يقرأ أي شيء.. العالم الافتراضي يشدُّ الناس بحبال سحرية حتى أن عدد الذين لا يزالون يتمتعون بنعمة القدرة على القراءة الورقية قد أخذ بالتقلِّص حتى لم يعد مجديا أن يقاس بعدد الجمهور الافتراضي.. لا أظن أنه سيقوم بتوزيع أكثر من مئة نسخة على أصدقائه ومثلها على المكتبات وكل ذلك مجانا لوجه الله تعالى.. مرةً لفت نظر صديق لي وجود كم لا بأس به من كتبي عندي في البيت فقال مازحا ماذا تفعل بها..؟ قلت له لا شيء.. أي صاحب مكتبة محلية اذا قلت له أنك تريد أن تهدي مكتبته عدة نسخ فانه يشط ويولول كمن أصابه مس من الجنون أو عبرت أمامه أفعى..
لا أحد يقرأ الشعر.. الناس يعتبرونه هذيانا وكلاما فارغا لا أكثر..
قالَ لي أفضل شيء تفعله أن تعطيها لمن يشحذ عليها.. وقهقه بسخرية.. مستغربا أني لم أجن من الكتابة طول عمري قرشا واحدا ويعاتبني بشدة على انني وزعت قسما منها على الأصدقاء والمكتبات العامة على نفقتي.. قلت له هذه طريق شاقة.. لا تقاس بالمال بل بالمتعة.. عندما كنت صغيرا كنت أحلم دائما في النوم واليقظة أن أطبع كتابا والآن تجيء أنت وتقول لي (وبعدين مع هذي الكتب شاغلة مساحة من البيت.. ارميها أو اعطيها لمن يشحذ عليها؟)
********

أنكيدو لم يكن من أصدقائها ولم يكن يعرفها أو لمحها يوما تملأُ الجرارَ من منابعِ البلورِ الحديثةِ.. لكنه عندما تفتَّحت الزهرةُ البريَّةُ المتوحشةُ الزرقاءُ عن وجهها القمريِّ الناصع تجرأ وقالَ لها كمن يحدِّثُ نفسَهُ أو يهمسُ للهواءِ المراوغ أنتِ أشبهُ النساءِ بأفروديتَ الجديدةِ يا من قددتِ قميصي بقبلة.
أنكيدو لم يكن أنكيدو.
*********

تتسِّعُ اللغة أحيانا .. تتسعُّ كثيرا.. حتى أننا اذا نقلنا كتابا عن لغة أخرى فغالبا ما تلتبس علينا ألفاظ كثيرة.. لتأدية الكلمة عدة معانٍ.. حتى أنه لفت نظري قبل عدة أيام أن عنوان رواية الكولومبي جبرييل غارسيا ماركيز الخالدة مئة عام من العزلة هو في اللغة الأصل واللغة الانجليزية مئة عام من الوحدة.. وأظن أن للعزلة معنى آخر.. العزلة في نظري لا تعني الوحدة.. ممكن أن تكون معزولا أو معتزلا مع من تريد.. ولكن للوحدة معنى مختلفاً ليس المعنى نفسه الذي تؤديه العزلة.. أيضا ترجمة صالح علماني لرواية أخرى لماركيز حملت عنوان ذاكرة غانياتي الحزينات.. بينما ترجمة المترجم الأستاذ رأفت عطفة الرائعة حملت عنوان ذكرى عاهراتي الجميلات.. هنا التبس الأمر عليَّ ولم أعد أعرف من أصابَ ومن أخطأ.. ولا أظن أن الغانية هي بالضرورة عاهرة أو العكس.. وهل الذكرى هي الذاكرة؟ لا.. الذاكرة شيء والذكرى شيء آخر.. هكذا أعرف.. وهذا الشيء لا يمس أو يقلل من أهمية هذين المترجمين الفذين.. أيضا هناك عنوان آخر لمجموعة قصصية وهو ايرينديرا البريئة.. فكيف تتحول هذه الايرينديرا في ترجمة أخرى أو مقال لأحد الروائيين المهمين الى ايرينديرا الغانية؟ وهناك ترجمة لرواية مهمة لنفس الكاتب ينشرها أحدهم بعنوان خريف البطريق بينما هي في ترجمة المترجم التونسي البارع محمد علي اليوسفي خريف البطريرك.. فأين البطريق وهو اسم لطائر بحري من البطريرك؟ اليوم اطلعت على كتاب مئة عام من العزلة مترجما الى اللغة العبرية وقد وجدت كلمة الوحدة بدل العزلة.. هذه اللغة العبرية التي انطمست وذابت أكثر من ألفي سنة.. العبرية لغة بسيطة ومختصرة ومحدودة اذا قيست بلغة جبارة كاللغة العربية.. ولكن هناك من بعثها من غياهبها ومن اشتغل على إحياء ألفاظها بعد أن كانت لغة عنقائية (من عنقاء) ولغة توراة منقرضة وبائدة.. أما نحن فنعمل على طمس وتغييب ومحو لغة هي من أروع اللغات الحية في الوجود.
********

بالنسبة له لم يفعل أيَّ شيء منذ عشرين عاماً.. سوى تربية هشاشته كما تُربَّى الورود في القوارير.. أو الطيور في القفص الذهبي.. حتى وهو يحلمُ بالفراشاتِ أو يدخِّنُ سيجارة الصباح كانَ يربِّي الهشاشة في الغابة البشريَّة.. كانت ذاكرته مقبرة للروايات.. هكذا قالَ لي شقيقهُ قبل شهر ومنذ ذلك الحين وأنا أفكِّر بكلامهِ الهلامي.
هل تربيةُ الهشاشة وظيفةُ الانسان الحديث؟
********

حياة جابرييل غارسيا ماركيز الشخصية والأدبية لم تكن بمعزلٍ عن الفانتازيا السحرية أو العجائبية.. والا فكيف نفسِّر نجاح كاتب مغمور حتى مطالع السبعينات.. كانَ يبيع علب الكولا بيبسي وباعَ سيارته لينفق على نفسهِ وأسرتهِ في وقت كتابتهِ لرائعته مئة عام من العزلة بينما كانت زوجته تشتري الحليب والخبز بالدين..؟ النجاح بعد ذلك كانَ منقطع النظير.. بيعُ 30 مليون نسخة من الرواية وتتويجٌ عالميٌّ بنوبل؟ الشيء الأغرب والملفت في حياتهِ هو ثقته العمياء بعملهِ. كانَ يعرف أنَّ مشروعه الأدبي سينجح.. آمن بهذا منذ البداية.
نجاح كنجاح ماركيز يسمَّى في أدبنا العربي فانتازيا.
********

أسعى دائماً إلى توريةِ شمسٍ صغيرةٍ عاشقةٍ في ثيابِ امرأة..
شمسٍ صغيرةٍ لا تُرى ولكنني أسعى إليها على عينيَّ.
********

ما قبل عصر الفيسبوك غفوت قليلا في قطار صباحي ينهبُ مسافةً زرقاء ما بين مدينتين ساحليتين في فلسطين.. حيفا وعكا.. حلمتُ بأنني أكتب كتاباً ينتمي الى تيار الكتابة عبر النوعية.. كله مكوَّنٌ من فقرات نثرية مرقمة لا تزيد الواحدة عن خمسةِ أسطر ولا تخضعُ لوزنٍ ولا لقافية ولا هي قصة أو قصيدة أو مقالة أو خاطرة بالمعنى الحرفي.. بل هي مزيج مبتكر وكوكتيل من أجناس أدبية كثيرة.. فقرات مثل نقاط الماء.. صغيرة ومدونةَّ على حائط الحياةِ الرمادي.. تحملُ حديث الروحِ لا أكثر.. وتعجُّ بصخب القلب البريء.. الفيسبوك الآنَ يؤسِّسُ لمثل هذا النوع من الكتابة.
********

خمسة أيام أو أكثر وأنا أكتب ذهنياً لنفسي أفكاراً متحررةً لقصائدَ قادمة.. حارَّة وحادَّة وثائرة ومنفعلة تارةً وفرحة ورومانسية وشفَّافة وبسيطةً تارةً أخرى.. في النهاية محوتها كلها من ذهني.. لا أعرف لماذا.. ولم أندم عليها.. هل لأنني أعيش التحرر فقط في ذهني؟ ربما لأسباب كثيرة أخرى.. مرَّة قلت في قصيدة.. كل الذي أعنيه لا أرويه.. وكل الذي أرويهِ لا أعنيه.. هذا تدريب أوَّلي على تماهي الوجه مع القناع. يقولُ لي صديقي جرِّب أن تقول ما تريد وسترى كم مقصلةً ستُنصبُ من أجلك أو كم صليباً سيُرفعُ لك.. الأفضل أن تحلم بالحداثةِ نائماً في خيمةِ أبي سفيان.
********

مرضٌ اسمهُ البكاء

أبو أحمد صديق قديم.. رجل شهمٌ.. قوي البنية.. مربوع القامة.. حاد النظرات.. في وجههِ بقيَّةُ ملاحةٍ شوَّهها حزنٌ ساهمٌ.. يشعلُ الشيبُ أطرافَ خصلات شعره العسليِّ.. يبدو كأنهُ على أعتاب الخمسين لكن الحقيقة أنه في أواخر سنوات الثلاثين.. التقيتُ به صدفةً قبلَ بضعةِ أيَّام في محَّلٍ لبيعِ أدوات البناء.. إنسان صلب قضى حياته عاشقاً للكتب والروايات والفنون.. روحهُ بشفافية فراشة صيفية وهو منذ نعومة أظفاره يعملُ في مجال العمل الشاق والبناء.. كانت فرصة سعيدة لتبادل الحديث والنوستالجيا والقهوة والسجائر معه.. قال لي أنه دائمُ الشعور بالحنين المبهم والقلق من دون أيِّ سبب لذلك.. فلقد دفعَ ديونه وديون زوجته للمؤسسات الحكومية التي كانت تطاردهُ بالمسدسات المسلولة وتقضُّ قيلولة والدهِ المسنِّ الذي ناهزَ الثمانين عاماً.. إلى أن صرخَّ بوجههِ ذاتَ يومِ بعدما ضاقَ بجرائرهِ.. روح شوفلك شغلة غير شغلة الكتب والروايات اللي رايحة تخرب بيتك.. جيالك كلهم صاروا مدراء شركات محترمين وأنت ما زلت صعلوكاً صغيراً تبكي على كسرة الخبز وبدك مصروف جيبتك من أمك.. أمك الآن في السماء.. إعتمد على نفسك وذراعك.. كانَ يقود بعصبية ويتصرَّف بعصبية ويتشاجر مع زوجته وعابري الطريق طوال أسبوع بعد كلام والدهِ.. سألته بحنوٍّ لمَ طلَّق زوجتَهُ أمَّ طفليهِ فحدَّق طويلاً في الفراغِ بحزن وقالَ لي أتصدَّقُ حتى هذه اللحظة أني لا أعرف.. اللعنةُ عليَّ.. لم أفهم عبارته الأخيرة وماذا يقصدُ بها.. قال لي تصوَّر أنا إنسان نصفهُ ذئبٌ شريدٌ ونصفُ الآخر عصفور ضعيف.. طولَ حياتي لم أحسب حساباً لأيٍّ كانَ.. ومرَّت عليَّ ظروف قاسية عشتُ فيها كما يعيش المتسوِّلون في الشوارع.. أنا الآن في بحبوحة.. لم أعد أخشى من الحجز على حسابي المصرفي من طرف أية مؤسسة حكومية تدَّعي أنها تساعدُ البشر ولكنها في الحقيقة تنصبُ لهم المقاصل غير المرئية والصلبان الحريرية.. لكن هناك حالة غريبة تنتابني منذ عدَّة شهور. عندما أصل بيتي في المساء بعد يوم عمل شاق.. وأستحم وأجلس لتناول العشاء..تتجمعُّ الدموعُ المعجونة بالأثير في عينيَّ كالغيومِ الصغيرة وأدخلُ في بكاءٍ حارٍّ وعميق.. في الليلِ أستيقظُ نتيجةَ كابوس أسود وأدخل حالة البكاء ذاتها من جديد.. من غير سبب.. مجرَّد بكاء نظيف أبيض.. لا أدري ما الذي يجعلني أبكي.. وبهذه الطريقة الطفولية؟ حياتنا كلها يا صديقي تؤسسُّ للقلق. ولكنني دفعتُ لهم ما يريدون من ضرائب... وتبتُ عن أشياء كثيرة أخرى.. من أينَ يأتي القلقُ يا عزيزي.. من أينَ؟ الآن أريد أن أحيا لحظةً واحدةً كما أريد.
******

دائما أتفاجأ بلفظة محبرة عندَ قراءتي لديوان جديد.. كنت أعتقد أنها سقطت من قاموس القصيدة الحديثة .. هيَ لفظة رومانتيكية تعني دَوَاة ، ، قِنِّينَة صَغِيرَة بِهَا حِبْرٌ .. لا أظنها تحمِّل القصيدة الواقعية دلالةً مهمَّة في نظري. لا أعرف ما الذي تفعلهُ بعدُ في قواميس شعراء حداثيين؟
******

بعيداً عن الشعرِ.. بعيداً عن قلقِ الشعرِ تحديداً.. أهمسُ لنفسي: جمالكُ الكاريبيُّ لم يكُ عبئاً عليَّ.. الآنَ ماذا جنيتُ منكِ سوى الحرائقِ المطيرةِ؟ بعدما أحرقتِ دمي انسللتِ بخفة النورس الأزرق وتركتِ فيَّ شتاءاتٍ يتيمةً تبحثُ عن مخرجٍ من جسدي.. بينما دموعُ الطبيعةِ تتكوَّر في قلبي الصغير.
******

منذ وقت طويل عندما لا أنام في الليل أتذكر في الصباح بيت بشار بن برد
لم يطل ليلي ولكن لم أنمْ
ونفى عني الكرى طيفٌ ألَّمْ

وبما أن الشيء بالشيء يذكر أتذكر بيته الرقيق الجميل المنطوي على المفارقة البديعة

إنَّ في برديَّ جسماً ناحلاً
لو توكأتِ عليهِ لانهدمْ

وأحيانا أضيف على ما أتذكره أشياء من عندي من باب التداعيات. كهذين البيتين

حكمةُ الشهوةِ في الشقوةِ أو
سرُّ هذا الحبِّ في ذاكَ الألم
جسدي كالسلَّمِ المنخورِ كم
أرتقي فيهِ لجنَّاتِ الندمْ
******
هذا الصباح أتناول رواية السلالم الرملية لسليم بركات.. المركونة كغيرها في مكتبتي منذ سنوات في عصر النت والفيسبوك.. يخيَّلُ لي في البداية أنني أقرأ شِعراً.. سرعان ما أتراجع ثمَّ أقنعُ نفسي أنَّ ما أقرأه لا يتعدَّى أن يكون نوعاً حديثاً من القصَّةِ أو ما يشبه يوميات شعرية تأملية.. عجيب أمر هذا الكردي المدهش الذي يمزج الرواية والقصة والشعر والأسطورة والتاريخ بخفَّةِ ومهارةِ ساحرٍ في نصِّ مفتوحٍ يستعصي بكثافة لغته البريَّة الجامحة والذاهبة في شمس الماضي على أي إطار أو جنس أدبي.. هذه الرواية تشبهُ الى حدٍّ ما الطائر الملوَّن الغريب الذي يحلِّق سعيداً في السماء فإذا حاولتَ أن تسجنه في قفص فهو سرعان ما يتلاشى ويموت.
*******

أكثر شيء ممكن أن يعكِّر صفو نفسك ويُبكي قلبك بدموع غزيرة ويجعلك تنرفز حد الجنون في هذا اليوم الصيفي الذي يشوي الجلد بحرارتهِ اللاهبة الجحيمية منظر امرأة شابة سمراء طويلة تحمل طفلة بالكاد عمرها شهرين وتلفها بخرقة بيضاء وتتسوَّل على مفرق الشارع السريع ... وأنت تحصي نقودك في البيت أو تشاهد التلفاز أو تقرأ شعر الغزل والحب والانسانية أو تنام على هدير المكيِّف أو تتناول الطعام الذي تحسنُ زوجتك طهيهُ .. أو تضع ابنتكَ في حضنك وتقبلها أو تقود سيارة جديدة وتشغِّل المكيِّف فيها على أقصى درجة فكِّر بغيرك ..فكِّر بغيرك .. من يأكلون لحم الشموس أو تأكلهم الشموس بلا رحمة ..بلا رحمة.. صدقتَ يا محمود درويش.. صدقت.
********

رحم الله الشاعر الفلسطيني الكبير الدكتور جمال قعوار الذي رحل الى ربه هذا الصباح .. آه كم عرفنا هذا الطريق الممتد من ساحة العين حتى مدخل جريدة الأخبار في شارع النمساوي .. كما يمتد الحنين من القلب حتى آخر السماء.. كان شاعرا وصديقا كبيرا وكثيرا ما كنت أراه يكتب قصائده أحيانا في مكانٍ ما وهو يسرح ويشط في التأمل ..وأعتقده كان يرتجل القصيدة ارتجالا لتمكنِّهِ من صنعتهِ.. أو كان يرتجل بعض القصائد الغزلية.. كنت معجبا بهذه الطريقة في الكتابة وكانت تربطني به صداقة الطالب بأستاذه. في فترة لاحقة كان يختفي ولا أراه يذرعُ شوارعَ الناصرة.. فأعرف من البعض أنه كان يلعب النرد في صالون للحلاقة في منطقة العين مع بعض الأصدقاء القدامى ... أثرهُ الشعري يشبه أثر العطر في الوردة ..لروحه السلام.
**********


(5)

رذاذٌ على وردةِ الذاكرة

زرتُ مكتبة جامعة حيفا أول مرة قبل 12 عاماً في ربيع عام 2002.. هي من ربىَّ فيَّ القلق الوجوديَّ العظيم.. منذ سنوات ثلاث لم أزرها..قبل أيام زرتها فوجدتها عبارة عن مدينة صغيرة من الكتب.. ليسَ هناكَ في هذه الحياة ما هو أجمل من التشرّد الجميل في مدن الكتب.. حتى من غير انتساب للجامعات المكتظة بالفراشات الملونات. وبعطر الحب الغامض. الشعراء رواد المكتبات هم صعاليك هذا العصر الذين يهيمون في صحراء القصيدة وفي مدن الكتب بنفس القلق الوجودي الأول الذي سكن الشنفرى.
********
تسللتُ مرَّة الى أصبوحة شعرية في جامعة ما.. كنتُ غريبا كمن هبط من غيمة. اندسستُ بين طلبة اللغة العربية وآدابها.. أصغي الى حوار الطلبة اليومي العابر أكثر ممَّا أصغي الى القصائد الملقاة كأوراق في الريحِ.. تسألني طالبةٌ هل تحملُ قلما.. أرد بالنفي.. ربما لم أحمل قلما في حياتي وأخرج من البيت.. أنزعج من شبك القلم في جيبِ القميص كمثقف. إذن ماذا تفعلُ هنا.. أجيبها: لا شيء.. فقط هبطتُ من غيمة. أتركيني أنامُ على هامش القصيدة.. ولا تطلبي مني أن أصف لكِ سعادتي.
********
روادتني أمنية سرِّية صغيرة منذ الصغر تتمثَّل بقراءة الأعمال الأدبية شعرية كانت أو روائية وهي مكتوبة بخط يد المؤلف.. هكذا أتنفسها بالعين أكثر.. أفهم اشاراتها السيكولوجية الخفية بلغتي كما أشاء. اللغة المطبوعة أجدها جامدة شبه ميِّتة أشبه بتماثيل الجير.. عكس اللغة المخطوطة المتموِّجة الضاجة بالحياة.
********
شاهدتُ مرةً فيلما وثائقيا عن حياة الشاعر الكويتي فهد العسكر وتأثرت بمشهدٍ فيه يجمعُ أحدُ أقرباء الشاعر كل مسوداتهِ الشعرية التي تركها خلفه بعد أن حصلَ عليها بواسطة أختهِ في دلو معدنيٍّ ويحرقها بكلِ برودةِ أعصاب ولا مبالاة.. مسألة حرق الإرث الأدبي كثيرا ما أصابتني بالحزن والرهبة والقلق.. وتذكرت ما قالهُ لي أحد الأقرباء (على سبيلِ السخرية) منذ زمن بعيد وأنا أعدُّ مسوَّدات شعرية قديمة أنه حتما سيكون مصيرُ هذه الأوراق الشعرية البالية والمتآكلة في نارِ المدفأة. بعدَ سنين أحرقتها أنا بنفسي عندما اكتشفتُ الهوَّة بينها وبينَ ما أريدُ الوصولَ اليهِ.
********
القلق شبيهٌ بوخزة الحب.. هو غيمٌ ناصع البياضِ والغموض أيضاً.
********
يغنِّي المشرَّدُ في حديقةِ الأمِّ في حيفا: تكلَّم إليَّ بالورودِ.... أو زهرةُ ابتسامتها الصغيرةُ تضيءُ قلبَه الليليَّ البعيد.. الى آخر الأغنية.
*******
نسيمُ أنوثتها الخفيف حوَّل الذئب الشرسَ الى حَمَل وديع.. بينا كانَ جمالها يقفُ على حياد ويراقبُ عن بعد.
********
المسلسل المكسيكي الحابس للأنفاس (قهوة ذات رائحة إمرأة)الذي تابعته في صيف وخريف عام 1997 وكان يبث في الساعة الحادية عشرة من صباح كل يوم سبت.. لا أعرف الآن كيف عاد ليصيبني بمرض الحنين.. الخفي .. الخفيف.. النظيف.. المليء بالخدر.. وسكرات الحب.. والشِعر أيضاً.
ما هو الحنين؟ أن تترك شيئا من روحك في زمانٍ ما أو مكانٍ ما؟ ما هو الحنين.. أهو الرائحة كما قال محمود درويش؟ ما هو الحنين؟ما هو؟
سأتكلَّم عن حنيني حتى لو لم يكن هناكَ فيسبوك.
********
كي تكتبَ قصيدة أو كي تبدع بأيِّ فن في هذا الزمن بالذات أنت بحاجة دائما الى فسحة فكل شيء يحاصرك من كلِّ الجهات... قلقك.. انشغالك.. غضبك.. حزنك.. تشظيِّ روحك في الأمكنة.. حنينكُ الى ذاتكَ الأولى.. كل شيء يحاصرك من الجهات الست.. لم يحدِّد أي فسحة يريد ولكنني ظننته يعني فسحة من الحريَّة.. هكذا قالَ مرة شاعر عالمي لا يحضرني اسمه الآن.. لكن ليس فقط من أجل الإبداع نحتاجُ إلى فسحة من حريَّة.. لكي نعيش في هذا الزمن نحن بحاجة دائما الى فسحة من حب وإيمان وتأمل وراحة وشغف.. أفكر أن المثقَّف في وقتنا الراهن يقبضُ على جمرةِ الثقافة بكلا جناحَيْ قلبهِ المائي.
*******

كانَ النصُّ الأدبي قبلَ إغراء الشاشة الزرقاءِ يتكوَّنُ بهدوء في الظلِّ أو ظلامِ الحالة الشعورية وهذا ما يتيحُ لهُ أن يتنفَّس على مهلهِ وأن ينمو رويداً رويدا تماما كزهرةٍ على شرفةِ المخيِّلة.. كانت المساحة الفاصلة بينه وبين الرغبة العارمة للنشر تتيحُ له ولو قليلا من الوقت كي يتمتَّع بقدرٍ كبيرٍ من الحريَّة والتموِّج واللمعان في فضاء من البحث عن الجمال وفي فسحةٍ نقبض فيها على خفقة الروحِ الهاربة واصطيادها لتوظيفها في مكانٍ ما من القصيدةِ.. في محاولات إعادةِ الكتابة والتشذيب والمحو.. كانت فنيَّة الحذف هي يدُ الشاعر الخفيَّة التي تكتبُ القصيدةَ أو النص الأدبي.. حينها كانت الكتابة لغرضِ الكتابةِ فقط ( بالنسبةِ لي على الأقل ) وأيضا لإزاحة صخرة ألم وجوديٍ عظيمٍ عن القلبِ.. كنتُ أؤمنُ بمسألةِ الإجادة حتى لو استغرق العملُ على كتابة قصيدة واحدة شهوراً طوالاً وأعتبرها الهدف الأسمى الوحيد الذي يتمايلُ في الذهنِ.. أصبحت الآن السرعة وإغراءُ هذه الشاشةِ الزرقاء بنشر أيِّ نصِّ فارغٍ من قيمتهِ الأدبية وباستعجال قياسي محموم هي ما يتحكمُّ بأيادي الشعراءِ الخفيَّة وبأنفاسهم اللاهثة أبداً إلى ضوءِ آخرِ النفق.
*******

حيفا أقرب إلى قلبي مني..أقرب من نبض القلب.. كل شيء أحبه في هذه المدينة.. كل شيء.. أزقتها.. شوارعها.. رائحةَ بحرها.. صعلكتي البريئة في مكتباتها وجامعتها.. كأنَّ لها روحاً تجذبني إليها.. هيَ لا كالمدن.. فيها شيءٌ ما من المرأة العصيةِ..عشت فيها عام 2000 أجمل أيام حياتي.. أنا مدينٌ لهذا العام طيلة حياتي لأنه أمدَّني بالخميرةِ التي تلوِّن أخيلتي بألوان الطيفِ.. كلُّ شيءٍ فيها يذكرني بلوركا ومحمود درويش والأشعار البحرية والطيور الزرقاء.. أحب وردة ليلها التي تجرح الروح من غير أن تمسها.. أحب نهارها البنفسجي.. حتى خصوماتي الصغيرة مع الأصدقاء فيها أحبها. أنا في حالة عشقٍ دائمٍ معها. أجملُ الأشعار تلك التي كتبتها في ظلِّ هذا العشق.
*******

كيفَ ضيَّعتكِ في زحمةِ أيامي الطويلة؟
أشعر أن قول السياب هذا يتشظَّى فيَّ منذ الطفولة.
********


(6)
أصواتٌ من القلبِ

أكلُّ شيء يفلت مني. حياتي كلها، ذكرياتي، مخيلتي بما تحتويه، شخصيتي؟ الكل يتبخر، أحس باستمرار أنني كنت شخصاً آخر، وأنني أحس بالذي أعانيه هو مشهد من سيناريو آخر.. من أكون؟.. كم من ذوات أنا؟ من هو أنا؟ ما هو ذلك الفاصل الموجود بيني وبيني؟!!

هذا مقطع للشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا مؤلف كتاب اللا طمأنينة.. فيرناندو عاش يحلمُ وكتب أيضا بلغة الحلم التي كان يمليها عليه شخوصه الوهميون.. هو في نظري من أكثر الشعراء العالميين تعبيرا عن نفسية الشاعر الحديث القلقة.. شخوصه لا ينتهون بل يتناسلون إلى الأبد.
***********

أجمل شيء في هذه الحياة أن تعيش كشاعر.. ليس مهما أن تكتب.. ولكن كونك شاعراً في عالمٍ مليءٍ بالأوغاد وأولاد الحرام يجعلكَ دائماً على خط تماس مع نار الحياة التي لا تقتاتُ إلاَّ على أعصابك وعاطفتك الإنسانية.. ترفعُ قلبك المتوثِّب للحريَّة الغائبة في وجهِ الريحِ بيدٍ مشتعلةٍ كفتيل قنبلة.. أن تكون شاعراً في هذا الزمن القذر أعتقدُ أنه مشروعُ قدِّيس. ولكنك تحيا رغم كلِّ شيء بنشوةٍ عظيمةٍ كأنكَ سماءٌ من المحبة.
***********

عندما يأتيك المديح من شاعر كبير بكل المقاييس فأوَّلُ ما ينتابك رذاذٌ خفيفٌ من البكاء. حتى لو كنتَ لا تنظرُ إلا الى أسفل نهركَ ولا تتاجرُ بمدائح وشهادات المبدعين الكبار.
***********

منذ سنين عديدة وأجمل لحظاتي الصباحية عندما أجلس وأستمع إلى حكايا كبار السن وهم في أغلبهم ثمانيون ومحدثون جيدون يتذكرون أصغر التفاصيل التي عاشوها في صغرهم أيام حكم الانتداب الانجليزي في فلسطين وخلال فترة ( الهجيج ) أي تهجير سكان فلسطين الأصليين إبَّان النكبة عام 1948.. أحدهم قبل عدة أيام حدَّث عن نساء قرية سعسع جنوب شفاعمرو وكيفَ أنهنَّ كنَّ يحملن جرار اللبن الثقيلة على رؤوسهنَّ مسافة طويلة الى مدينة حيفا بينما تغوصُ أقدامهنَّ الحافية في طينِ الشتاء.. كنَّ يسرنَ حافيات لأن المنطقة سهلية موحلة.. المسافة بين سعسع وحيفا ربما تتعدَّى العشرين كيلو مترا يقطعنها اللبانات في الثانية صباحاً بنشاط لكي يصلن إلى المدينة مع بزوغ شمس الفجر.. ويرجعن محمَّلات بالخضارِ ومؤونة البيت في الظهرِ.. محمَّلات في الذهاب والإياب.. كانت الحياةُ صعبة جداً ولكنها بريئة وعفوية وصادقة.. صباحات مغمَّسة بروائح التبغ والهالِ والقهوة العربية وحكايات طويلة وغير منتهية للبطولة والتضحية والعشق.
***********

في الماضي كانوا يخدعونها بقولهم حسناءُ .. اليوم يخدعونها بوضع لايك لصورتها.. ولكن لم أفهم معنى الخدعة هنا إذا كانت فعلاً جميلةً.

**********

الذي ينظِّرُ للشِعرِ وهو ليسَ بشاعرٍ ولن يكون.. والذي يتكلَّم عن الحبِّ وهو ليس بعاشقٍ.. كالأعزب الذي كانَ يتفلسف عن الحياةِ الزوجية.

*********

داليا رابيكوفتش شاعرة عبرية مهمَّة ذاتُ حسٍّ إنسانيٍّ رفيع.. انتحرت في عام 2005 بعدَ معاناة طويلة من الاكتئاب والحزن.. قبل رحيلها بفترة قصيرة قالت في حوار تلفزيوني معها أن شاعرا فلسطينيا شاباً من رام الله على ما أذكر جاء الى تل أبيب واتصلَّ بها كي تساعده على أن يجتاز محنةً ما أو تجد له عملاً.. تقول داليا كنتُ جدا حزينة لأنني لا أعرف كيف أساعد هذا الشخص لدرجة أنني كنتُ أستيقظ في الليلِ وأبكي.. من زاوية أخرى حدَّثني مرةً صديقٌ وهو شاعرٌ ناشئٌ أنه اتصلَّ بمن يدَّعون الثقافة ويتمسَّحون بالشِعرِ (والانسانية) من أبناء شعبهِ لمساعدةٍ ما.. فأشبعوهُ سباباً وشتائمَ على الهاتف ومن يومها لم يتصل بأحد.
**********

ماذا تفعلُ بي يا جون شتاينبك عندما أقرأ لك؟
تحيلني إلى طائرٍ يحلِّقُ فوقَ حدائق الغيوم..
كيفَ تحشدُ كلَّ هذا المجاز في بوتقةٍ من ضوءٍ أيها الساحر؟
ولكنني بحزن أسأل: هل أنتَ أنت من كنتَ تشبِّهُ أصابعَ الطيَّار الأمريكي الذي يقصفُ ويحرقُ فيتنامَ وأهلها الأبرياء بأصابعَ تلاعبُ البيانو؟
***********

بما أن غنائيتك هي لغة الحلم.. تفكِّرُ دائماً باللغة المضادة .. لغةِ الحياة الموجعة.. بمحمد الماغوط مثلاً.. وبلغتهِ البريَّة الجامحة الغاضبة كفرسٍ غجرية.. تنادي الشاعر الذي سحقت قلبه القدم الحجرية.. لعلَّهُ يأتي ويأخذ بيدك في هذا النفق المظلم.. كيفَ تستطيع بلغة حلمك الذي يعيش في مكانٍ ما خارجَ حياتكَ أن تعبِّر عن غضب وقلق هذهِ الحياة الحديثة وعصبها المتوتِّر؟
كيفَ ستكتب حلمكَ/ غضبكَ/ قلقكَ/ حزنكَ/ بعدَ اليوم؟
***********

هذه الحياةُ ذاتُ الوجعِ الكابوسي المزمن.. كم أحبها..
أنا الذي حوَّلتها بكل ما أوتيتُ من حبٍّ وحلمٍ وإرادة إلى قصيدة طويلة..
***********

هذه الحمامة التي على غلاف ديواني الشعري "وقت لأنسنة الذئب" تعيدني إلى لحظاتِ عشقي الطفوليِّ للحمام قبلَ عشرين عاماً.. أيام كنتُ أبحثُ عن هذا الطائر المملوءِ بالطمأنينةِ كما لو كنتُ عاشقاً.. أريد أن أُشبعَ يديَّ من هذا المخلوقِ الذي يثير حنيني بمجرَّدِ تحليقهِ في زرقةِ السماءِ اللا متناهية.. أتذكرُّ أنني حاولتُ مساعدةَ حمامةٍ على التحليقِ وكانت تستندُ على غصن شجرةٍ بعلو 8 أمتار بجانب دارنا ما أدَّى إلى سقوطها وتهشُّم جناحها تهشُّماً طفيفاً.. منذ تلك اللحظة وبيني وبين الحمام شبه علاقة روحية.. محبة نورانية.. فأنا عشتُ فترة طويلة من طفولتي كنتُ أظنُّ فيها أن الله خلقَ الروح على هيئة حمامة. أنا آسف جداً يا حبيبتي الحمامة.. روحك أنقى منا جميعاً.
***********

يا للهول.. سراب العاطفة تسرَّبَ إلى نصوصي الشعرية الكثيرة التي كتبتها في هذه التجربة الفيسبوكية الغنية بشكل مذهل.. هذا ما اكتشفته عندَ مراجعتي لملف القصائد المكتوبة آخر سنتين ونصف.. كلُّها عاطفية حتى لو لم تكن قصائد حب. أكثر شيء يعجبني في قصائدي أنها نفَسٌ لي وتعبِّرُ عني وعن حلمي الروحي بصورة حقيقية.
**********

ذوقي الموسيقي صعب جداً.. أحيانا أضطر لسماع مئة أغنية كي أُعجب بواحدة.. ولكن متى أعجبتني تلك الأغنية الواحدة فإنني أسمعها مئات المرات ولا أملُّ منها إلا بعد أسابيع أو شهور طويلة.. في واقع الحياة يتحكَّم هذا الذوق الصعب جدا أيضا بانتقاء الأصدقاء.
***********

قالَ أحدهم.. رحيل الأم هو أكبر مأساة في الحياة ممكن أن يُمنى بها نصف الشعراء.. بينما يُمنى النصف الثاني بمأساة الزواج...
قلتُ له هذه نظرية فيها نظر.
********

كل قصيدة جديدة أكتبها أحسُّ من خلالها أنني أكتب الشعر لأوَّل مرة.. كل حوار هاتفي مباشر على الراديو أشعر أيضا من خلال رجفة صوتي أنني أتحدث عن تجربتي الشعرية لأول مرة.
**********


صباح هذا السبت شعرتُ بوخزةٍ حنين للقدس.. نوستالجيا غريبة نازعتني اليها.. هناك فترة استمرت من عام 1995 حتى 2010 كانت تقام فيها كل صباح سبت رحلة الى مدينة القدس للصلاة في الأقصى والتسوق ثم الرجوع ما قبل المغرب بقليل.. كان قسم كبير من أهل القرية يسافر الى هذه المدينة المقدَّسة المزدانة بوهج الأصالة والعابقة بأنفاس التاريخ.. والتي نترك فيها شيئا من أرواحنا رغما عنا خلال زيارتنا لها.. تذكرت اليوم أن أمي طلبت مني ذات مرة أن أرافقها الى أجمل مدن الأرض.. لا أذكر الآن إن كنت رافقتها أم لا حينها ولكنني ذهبتُ إلى القدس فيما بعد مرات عديدة وطفت في حاراتها وأسواقها طويلا ومشيت في طريق آلامها أجرُّ صليباً خفيَّا وزرت كنائسها ومساجدها كلَّها.. كأن ما طلبته أمي مني قبلَ سنوات عديدة كانَ شبه وصيَّة.
**********

في التاسع من نوفمبر قبل واحد وخمسين سنة من الآن تم نقل الشاعر الانجليزي الويلزي الكبير ديلان توماس إلى المستشفى في نيويورك بعدما انهار من جرَّاء احتسائه أكثر من 18 قدحا من مشروب كحولي.. ليفارق حياة قصيرة ملأها بالحب والشعر والانكسار والأمل واليأس وهو في التاسعة والثلاثين.. يعتبر ديلان أحد أكبر الشعراء الانجليز في القرن العشرين.. ديلان شاعر استفزازي نبوئي لم يكن متصالحاً مع الأشياء وحاول بأسلوب رومانسي مثقل بالاستعارات والايحاءات العميقة تعرية قضايا وجودية شائكة.. قبل ايام قرأت له عدة قصائد متفرقة على الشبكة العنكبوتية وشعرت بتداخل غريب لروح قصيدته مع نفسي. الشعراء الحقيقيون كديلان توماس حزانى بلا سبب ورومانسيون بلا طائل ومنسيون بلا ذاكرة.
***********

بغض النظر عن التحولات التي شهدتها المنطقة فما زال للشعر توهجه وألقه في نفوس شعب ترَّبى على محبة هذا الفن الجميل( ديوان العرب) رغم أنه يكاد ينسحب قليلا الى ناحية النخبة المثقفة.. ولكن التجارب الفردية لا تزال مشتعلة بنار الشعر الأبدية.. التجارب التي يمثِّلها الكثير من الشعراء العرب ومنهم على سبيل المثال العراقي سعدي يوسف واليمني عبد العزيز المقالح واللبناني شوقي بزيع والسوري أدونيس وغيرهم.. منهم من تُرجم إلى لغات عالمية كثيرة وحظي باهتمام نقدي على مستوى رفيع مثل أدونيس وسعدي يوسف..
أفكر أحياناً أن صورة الانجاز الشعري لدينا هي بالمجمل صورة فردية بكل المقاييس.. عكس حالة الشعر العالمي التي تأخذ شكل الكورس الجماعي.. هناك شعراء في غاية الأهمية ولكن أشعر أنه لا يهتم بهم أحد وهم يعيشون على هامش الحياة الثقافية العربية في شبه عزلة افتراضية قسرية ولا نجد لهم الا بعض المشاركات عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.. هناك اذن انكسار معيَّن في حالة التلقي الشعري.. ولكن ماذا تريد من أمة يبلغ عدد أفرادها أكثر من ثلاثمئة مليون فرد أغلبهم لا يحسنون فك الخط أو القراءة في عصر الفضائيات والشبكة العنكبوتية من الطبيعي أن نلمس انحيازا للصورة التي أصبحت قادرة أكثر من الكلمة على إيصال الفكرة.. بالرغم أن أحلامَ القصيدةِ كانت في الماضي تدغدغُ طموح الشارع العربي وتدفع بالانسان إلى حملِ روحهِ على راحتهِ والالقاءِ بها في مهاوي الردى والثورةِ على البؤسِ السياسي والثقافي.
للصورة أهمية كبرى طبعا وهي تملك مقدرة عجيبة على النفاذ الى عقل ونفسية الانسان المتلقي وتحريضه على التحرك والنهوض .. ولكن للقصيدة العربية أيضا دورها في رسم خارطة التغيير والثورات التي حصلت فكأن الشعرَ برقُ الروحِ وحدائقُ الحريَّة المعلَّقةُ وما هذا الفراغُ الذي يسكنُ مساحاتِ الكلمةِ سوى وعدٍ بيوتوبيا جميلةٍ وهبةٍ لحريَّةٍ منتظرةٍ وفردوسٍ حالمٍ بالخلاصِ.
بالنسبة لمسألة عجز القصيدة عن وصف المشاهد اليومية التي نراها كل لحظة فلا أعتقد أن هذا القول صحيح إذ أن الشعر الحقيقي من المستحيل أن يكون عاجزا عن وصفها ولملمتها بحساسية عالية كأنها نقاط بلورية في صحراء مظلمة.. لأن اللغة العربية بتركيبتها الفذة لغة واسعة ولا تضيق تعابيرها بوصف مشهد هنا ومشهد هناك خصوصا اذا ما استعملها شاعر يعرف ما يريد منها ومن توظيفاتها المدهشة.
اشير إلى أن أجمل ما قدمته لنا تقنيات لغة الحداثة وفنية التعبير عالية الوضوح والصفاء التصويري هو هذا التزاوج الجميل والرائع والمكثَّف بين القصيدة والصورة.. وأجمل القصائد في تاريخ الشعر العربي هي تلك القصائد التي استثمرت الصورة لكي تقدِّم تجاوزاً ملفتا وتترك أثرا بالغ الأهمية.
***********
تجميل قبح هذا العالم هو الفعل الأكثر شقاءً في الوجود.
**********
محمود درويش شاعر مذهل بحق متمرِّس أحد أجمل الشعراء الكونيين الممسوسين بإيقاع اللغة وجماليات الشعر الصافي.. يصعب توصيفه والالمام بجوانب عبقريته وايقاع قصيدته وفرادته الشعرية.. عاش قديس شعر ومات قديس شعر.. كان الشعر يجري في مجرى نفسه وفي دورته الدموية.. من من شعراء اليوم يخلص للشعر مثلما أخلص له درويش.. من يجعل من القصيدة رسالة حياة؟ أهمية درويش تكمن في العروض في وقت نجدُ فيه الأغلبية الساحقة من الشعراء العرب مفتونين بقصيدة النثر التي لا أحاربها ولا أتخذ موقفاً منها فأنا حاولت أن أجرِّب كتابتها في أكثر من قصيدة وديوان.. ولكنني أعتقد أنها أفقدت الشعر العربي الكثير من سحرهِ.. من يتقن من الشعراء الشباب العروض اليوم؟ شعراء التيك أوي والنثريات الضحلة والفيسبوك والطنين الفارغ لن يأتوا بمحمود درويش آخر لأن الشعر لا يشكل لهم رسالة حياة وأنا أراهن على هذا الشيء لأن الشاعر الحقيقي الموهوب دائم البحث عن المعادلة الصعبة في كتابة القصيدة وعن سماوات جديدة للتحليق بعيداً وعن أرض جديدة لم تحرث.. وكل ذلك من دون التخلِّي عن الموروث وجمالياته وتجديد الايقاع الشعري للبحور العربية الذي أعتقد أن أهمية محمود يكمن شيءٌ منها في هذا التجديد .. بالاضافة الى لغتهِ المنتقاة وأساليب تعبيره الملفتة والجديدة.. كيف نريد من شاعر لا يعرف البحور ولا الأوزان أن يكون محمودا آخر.. محمود كان يحثنا على الطيران في سماء الشعر بينما نحن كنا نريد ملاصقة الأرض.
*********


(7)
أوجاعٌ نثريةٌ / حبقٌ مضافٌ للقلب

(كلُّ شيء يفلت مني، حياتي كلها، ذكرياتي، مخيلتي بما تحتويه، شخصيتي؟ الكل يتبخر، أحس باستمرار أنني كنت شخصاً آخر، وأنني أحس بالذي أعانيه هو مشهد من سيناريو آخر.. من أكون؟.. كم من ذوات أنا؟ من هو أنا؟ ما هو ذلك الفاصل الموجود بيني وبيني؟)

هذا مقطع للشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا مؤلف كتاب اللا طمأنينة.. فيرناندو عاش وهو يحلمُ وكتب أيضا بلغة الحلم التي كان يمليها عليه شخوصه الوهميون.. هو في نظري من أكثر الشعراء العالميين تعبيرا عن نفسية الشاعر الحديث القلقة.. شخوصه لا ينتهون بل يتناسلون إلى الأبد.
***

أتناول رواية السلالم الرملية لسليم بركات.. المركونة كغيرها في مكتبتي منذ سنوات في عصر النت والفيسبوك.. يخيَّلُ لي في البداية أنني أقرأ شِعراً.. سرعان ما أتراجع ثمَّ أقنعُ نفسي أنَّ ما أقرأه لا يتعدَّى أن يكون نوعاً حديثاً من القصَّةِ أو ما يشبه يوميات شعرية تأملية.. عجيب أمر هذا الكردي المدهش الذي يمزج الرواية والقصة والشعر والأسطورة والتاريخ بخفَّةِ ومهارةِ ساحرٍ في نصِّ مفتوحٍ يستعصي بكثافة لغته البريَّة الجامحة والذاهبة في شمس الماضي على أي إطار أو جنس أدبي.. هذه الرواية تشبهُ الى حدٍّ ما الطائر الملوَّن الغريب الذي يحلِّق سعيداً في السماء فإذا حاولتَ أن تسجنه في قفص فهو سرعان ما يتلاشى ويموت.
***

كانَ النصُّ الأدبي قبلَ إغراء الشاشة الزرقاءِ يتكوَّنُ بهدوء في الظلِّ أو ظلامِ الحالة الشعورية وهذا ما يتيحُ لهُ أن يتنفَّس على مهلهِ وأن ينمو رويداً رويدا تماما كزهرةٍ على شرفةِ المخيِّلة.. كانت المساحة الفاصلة بينه وبين الرغبة العارمة للنشر تتيحُ له ولو قليلا من الوقت كي يتمتَّع بقدرٍ كبيرٍ من الحريَّة والتموِّج واللمعان في فضاء من البحث عن الجمال وفي فسحةٍ نقبض فيها على خفقة الروحِ الهاربة واصطيادها لتوظيفها في مكانٍ ما من القصيدةِ.. في محاولات إعادةِ الكتابة والتشذيب والمحو.. كانت فنيَّة الحذف هي يدُ الشاعر الخفيَّة التي تكتبُ القصيدةَ أو النص الأدبي.. حينها كانت الكتابة لغرضِ الكتابةِ فقط ( بالنسبةِ لي على الأقل ) وأيضا لإزاحة صخرة ألم وجوديٍ عظيمٍ عن القلبِ.. كنتُ أؤمنُ بمسألةِ الإجادة حتى لو إستغرق العملُ على كتابة قصيدة واحدة شهوراً طوالاً وأعتبرها الهدف الأسمى الوحيد الذي يتمايلُ في الذهنِ.. أصبحت الآن السرعة وإغراءُ هذه الشاشةِ الزرقاء بنشر أيِّ نصِّ فارغٍ من قيمتهِ الأدبية وباستعجال قياسي محموم هي ما يتحكمُّ بأيادي الشعراءِ الخفيَّة وبأنفاسهم اللاهثة أبداً إلى ضوءِ آخرِ النفق.
***

حيفا أقرب إلى قلبي مني..أقرب من نبض القلب.. كل شيء أحبه في هذه المدينة.. كل شيء.. أزقتها.. شوارعها.. رائحةَ بحرها.. صعلكتي البريئة في مكتباتها وجامعتها.. كأنَّ لها روحاً تجذبني إليها.. هيَ لا كالمدن.. فيها شيءٌ ما من المرأة العصيةِ..عشت فيها عام 2000 أجمل أيام حياتي.. أنا مدينٌ لهذا العام طيلة حياتي لأنه أمدَّني بالخميرةِ التي تلوِّن أخيلتي بألوان الطيفِ.. كلُّ شيءٍ فيها يذكرني بلوركا ومحمود درويش والأشعار البحرية والطيور الزرقاء.. أحب وردة ليلها التي تجرح الروح من غير أن تمسها.. أحب نهارها البنفسجي.. حتى خصوماتي الصغيرة مع الأصدقاء فيها أحبها. أنا في حالة عشقٍ دائمٍ معها. أجملُ الأشعار تلك التي كتبتها في ظلِّ هذا العشق.
***



الأوتار المائية التي تسكنُ قلبي لا تهدأُ أبداً.. والسماءُ التي تسكنني منذ الصغر لا تريدُ الخروجَ من جسدي المشتعلِ بنارٍ باردةٍ لأستريحَ لحظةً واحدةً.. ماذا أفعلُ إذن؟
********
بنفس الرغبة القوية بالكتابة حدَّ الإيمان يستمرُّ الشاعرُ المجهول بالانسحابِ أكثرَ إلى الظلِّ أو إلى ما وراءَ الستارة.. كلهم يقولون هذا.. أصدقاؤه .. إخوته .. أهل بلدهِ.. جيرانه الكثر.. منذ أن تلطَّخَت أصابعه بالحبر السماوي الغامض.. ولا شيء يقولهُ أو يبرِّر عزلته الاختيارية بهِ.. لا شيءَ يفعلهُ سوى محاولةِ لملمةِ هذا الرذاذ الذي يتطايرُ عن جذوةِ روحه.. بتأملٍ مجروح..الكتابةُ فقاعةُ حلم لا تقلُّ سعادةً عن عزلتهِ التي ارتضاها لنفسهِ.
*******

صديقي الذي يشبه طائر الدوري والذي قاسمني في أعوامٍ خلت وردَةَ الأخوَّة وبرودةَ كانون وخبز الصباح المغمَّسَ بالسعادة والغبطة والنكات الطازجة.. يكبرني بعامين من الزرقةِ والصفاء والتذمُّر من الصقيع والموتِ الشتائيِّ الحزين وطيران روحهِ على أجنحة عاصفة ثلجية.. مات كما لا يشتهي.. في أوجِ الصقيع.. هو الآنَ يجلسُ في ناحيةٍ ما من السماءِ متحوِّلاً إلى أقحوانةٍ ثلجيَّة مشتعلة.
********

جمالهنَّ هو الشيءُ الحقيقيُّ الوحيدُ الذي سوفَ يقهرُ الموتَ..
********
في يناير تحطُّ على القلبِ ذاتُ الأغنية التي سمعتها قبل عام كفراشةٍ من زنبق.. وينتابني إحساسٌ غامضٌ ورغبةٌ بيضاءُ بمشاهدةِ فيلم يسوع المسيح للمرَّةِ الألف على اليوتيوب.. وقراءةِ شعرِ أبي تمَّام وكتابات حسين البرغوثي أكثر من أي وقت آخر في السنة..
في ينايرَ تفلتُ أجملُ القصائدِ من يدي في النهار وأرجعُ في المساء محمَّلاً بالنثرِ الركيك..
في ينايرَ تجتاحني شهوةٌ للبكاءِ من دونِ سببْ..
ربما في هذا الشهر تسافرُ فراشاتُ جسدي نحوَ حدائق الجنوب.
**********

من كثرةِ الدموعِ التي ذرفتها أصابعُكِ الرقيقةُ نبتتْ في القلبِ عاصفةٌ كهربائيةٌ لا تهدأُ أبداً.
**********
أجمل اللحظات تلك التي تخلعُ فيها عن منكبيك أعباء القصيدة وأنت تتأملها بصمتِ عاشق.
*********
النقد العربي المصاب بعقدة الخوف ورقصة الدراويش لن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام ما دامَ ينظرُ إلى الخلفِ أو إلى الأسفل بعدم ثقة ويجتر لغةً جافةً حول أسماء مكرَّسة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.. بعكس النقد الغربي الرائي إلى الأعلى والذي يحترف الطيران العمودي والبحث الدائم عن أسماء جديدة.. المشكلة في الناقد العربي تكمن في ظنِّهِ أن دراسته (الزائدة ) عن الشاعر الفذ والرائد الكبير الذي رحل قبل عشرات السنين والذي تناولت تجربته مئات الكتب والأبحاث والدراسات النقدية ستوصله ذات يوم إلى نوبل للأدب.
**********
في كلِّ مرَّة يجتاحني فيها عطرُ الروزا أوقنُ أنَّ للعطر روحاً من أقحوان الغيمِ الخفيف. من قالَ أنَّ للنباتاتِ العطريةِ رائحةً فقط؟ وإلا فما معنى أن أنسى مدينة كاملةً زرتها ذاتَ صيف وأتذكرَ فقط عطر نبتة الروزا اللاذع.. العميق؟ ما معنى تأريخي لفترة من طفولتي برائحتها التي تشبهُ جيِّداً رائحة الحب الأوَّل؟ ما معنى أنني لا أنسى امرأة واحدة ليديها رائحةٌ تشبهُ رائحة عطر نبتةِ الروزا التي كانت تنمو في زاوية من زوايا حديقتها المنزلية وفي حديقةِ روحي معاً؟ لعلَّ هذه النبتة العطرية تركت بصمتها بقوة موجعة في ذاكرتي وفضاء قلبي وعلى مسامات يديَّ.. كما لم تتركهُ أيُّ نبتةٍ أخرى.
**********
بما أن الفيسبوك يشبه الى حد كبير جدا ما نطلق عليه في اللهجة العامية ( ديوان عربي) يجمع إخوة أو أصدقاء لا (أعدقاء) فأظن أنه يجب أن يسود جو من احترام رأي الغير أو حرية التعبير الشخصي.. ما دمت أنا ألتزم باحترامي لرأي من يختلف عني في المورد والمشرب والفكر والطبع والدين فالواجب أن يبادلني غيري نفس الشعور.. لا أحصر كلامي في رأي نشرته مرة عن شاعر أو ملك مات أو حتى إنسان صعلوك.. بأي حق تجد من لم تشعر بوجوده أو تعرف أنه صديقك في صفحتك منذ أكثر من سنتين ونصف يحتج على منشور شخصي لك لأنكترحمت على فلان وقلت كلمة حق في علان..؟ لا يهم ... المهم أن نتعلَّم كيف نحترم خصوصية الآخر.. أقول هذا الكلام لأنني لم أجرِّح ولو مرَّة واحدة أصدقائي الذين يختلفون عني. لم أدعُ صديقي الملحد إلى الإيمان ولم أعاتب صديقي الآخر الذي كان مهووسا بلغة من ( الزنار وتحت) في أغلب منشوراته والأخيرة التي ذهبت مع الريح عندما لم يعجبها نشري لأغنية من الراي المغربي منذ مدَّة طويلة.. نسيتُ اسمها ورسمها.
**********
الرواية هي حديقة القصيدة الخلفية وماؤها اللا مرئي.. أجمل الأشعار تلك التي كُتبت تحت تأثير الروايات العظيمة.. وفي ظلِّ قرائتها.. يستطيع أيُّ شاعر في لحظة اعتراف أن يسمي كلَّ تلك الروايات التي كتبَ بفضلها أجملَ قصائدهِ.. بالرغم من أنَّ الرواية في أجمل تجلياتها المتوهجة لغةُ الوعي.. بينما القصيدة تعبيرٌ عن حلم فضفاض بلغةِ اللا وعي.
*********
"أنا نفسي لا أستطيع أن أقول ما أفكر فيه بصراحة."
اذا كان الشاعر أدونيس يقول هذا الكلام.. فما الذي تستطيع أن تقوله طبقةُ الشعراء المسحوقين والمغيَّبين والمهمَّشين والبائسين ومن لا بواكي لهم؟

*******
اليوم قرأت على نفس واحدٍ رواية (ورَّاق الحب) للسوري خليل صويلح.. لم أقرأ في الشهور الأخيرة رواية حابسة للأنفاس مثلها.. تقرأها كما لو أنك تحلِّق في فضاء الغواية ودهشة المجاز وعبق الشِعر.. رواية مكتوبة بحذق لغوي عالي المستوى.. مفعمة بروائح الحب وممجدة لفلسفة الجسد بلغة تبلغ بجماليتها حدَّ القداسة.. أعجبتني جدا.. هي واحدة من أجمل الروايات العربية في رأيي.

*********

يقول الشاعر السوري الجميل نزيه أبو عفش: الله قريبٌ من قلبي
وأقول: أنا قريبٌ من حبي.. ذلك الحب الذي يشِّكل لي أجمل توازن روحي في الحياة حتى ولو كانَ حلماً ناقصاً..

*********

كم أُشفقُ على أشباه الشعراء.. من أينَ يأتون بكل هذه الركاكة يا الله.. ولا أحد منهم لديه الجرأة والصدق ليقول لنفسهِ (ليس للغيرِ) أنه شاعرٌ فاشلٌ..؟ قصائدهم لها طعم الكاوتشوك الممضوغ.. ارحموا الفضاءَ الذي يغصُّ بها.. نريدُ هواءً جبليا نقياً.

*********
قال لي أحد أجمل الشعراء منذ ربيعٍ بعيدٍ أن أهم حاسة يمتلكها الشاعر هي حاسةُ الشم.. ليس لأن باستطاعتهِ أن يلتقط بأنفهِ أخفى تلك الروائح الزكية التي تنبعث من جميع الفصول والنباتات والمدن والرياح واللحظات فحسب.. بل لأنه وهذا الأهم يستطيع أن يتنسَّم عبقَ الأنوثةِ الغامض الذي يبعدُ عنهُ مسافات ضوئية.. ابتسمتُ.. فردَّ عليَّ بقهقةٍ عذبه: ربمَّا جعلَ الله للشاعرَ خياشيمَ غير مرئيَّةٍ في قلبهِ كما تلك التي للأسماك. كأنه يقصدُ أن الشاعر ليسَ إلا سمكةً عمياءَ تخفقُ في ماءٍ أنثوي.
*********
في آذار فقط تهدأ ثورة دمك العاطفي.. تصادف سيدةً بجمالٍ حزين وعينين من عسلٍ فتقولُ لها كم أن فمها جميلٌ وبأنك لا تعرف كيف تكبحُ نحلاً هائجاً حولَ فمكَ يشتهي تقبيله.. لا إضاعةَ لوقتٍ في حديث عن عطور ساحرة أو حالة طقس أو ما شابه.. ربما لو كانت دون الثلاثين حتما ستعجب بمجاملاتك التافهة.. ولكن لا شيء يثيرها الآن غير الصمت ونظراتك الحزينة التي التقت بحزن عينيها الذاهب إلى أقرب كوكب.. هي بمنديلها الكستنائيِّ في نظرك أجمل من كلِّ جميلات هوليوود.. وأنت شاعرٌ منسيٌّ في ذاكرةٍ ما..
**********
كلما أقرأ منشورا لامرأة تشكو لعنة زواجها وظلم زوجها أو المجتمع لها وبؤس حياتها وهي لا حولَ لها ولا قوَّة أحس كأن روحي تتمزَّق وأن غيوم دموع كبيرة تتجمع في عينيَّ من وقع مفارقة واقعية كبيرة بين ما تقاسيه امرأة ما قُدِّر لها أن تعيش في الجانب المظلم وبين امرأة أخرى في الجانب المضيء أراها كلَّ لحظة متحررة جميلة قوية واثقة بنفسها وبجمالها ومستقلة شخصيا وماديا وهي قادرة أن تسحق غرور أكبر رجل يتربص بها بكعب نعلها إن أرادت..
مشكلة بعض المجتعات التقليدية ليس في أنها لم تفهم مشاعر الأنثى فحسب.. بل لأنها تتوهَّم أن بامكانها أن تبني علاقة ناجحة بين رجل وامرأة لا شيء فيها من التضحية والمساواة والمحبة.. والايمان بحرية الآخر..
**********
سرعان ما يختفي زهر اللوز.. يذوب أو ينطفئ.. ولكنه يتوهج في قلبك الى الأبد.
*******

وأنتِ تشربينَ قهوتكِ السماوية.. لم تكن شمس الربيع سوى نادلتكِ الجميلة.
********

ماذا سأجني من شوبنهاور ونيتشه وكيركغارد وسارتر وكامو في هذا الربيع العاشق؟
ما ينقصني الآن هو شعر الحب الصافي. وقراءة رسائل جبران لمي زيادة وكافكا لميلينا وغسان كنفاني لغادة السمان ونزار قباني لبلقيس ولويس أراغون لإلزا وخليل حاوي لديزي الأمير وبابلو نيرودا لماتيلدا..
أحتاجُ إلى جهدٍ وطاقةٍ هائلين (لا أمتلكهما الآن) لتذويب قراءات فلسفية ووجودية وجمالية في القصيدة التي سأكتبها لكِ ذاتَ يومٍ ولكنك تصنعينَ قصيدتي على طبقِ رقصتكِ الباذخة بهدوءِ وقدرةِ ملاك.. وأنتِ ترقِّصينَ كل الأغاني الحزينة.
********

طوال حياتي لم أكن مرتعباً إلا من فكرة واحدة.. وهي فكرة فقدان أمي.. كانت تجعلني هشَّاً كعصفورٍ صيفيٍّ صغيرٍ يواجه عاصفةً ثلجيةً لا ترحم..
أمي كانت لي أكثر من أم.. كانت بقوة شخصيتها تشكِّلُ إحدى السماوات العظيمة التي كنتُ أتكأُ عليها وأنظرُ إلى الأعلى ساخراً من كلِّ العواصف وأوجاع الحياة. كانت جذور النور التي أستمدُّ منها عنفواني وفرحي.
شكرا يا الله أنك استجبت لي وأنا أدعوك في السرِّ أن تمدَّ لي بحياتها.. إلى صباح ذلك اليومِ المشؤوم.. حينَ تحوَّلت هذه الفكرة من المجرَّد إلى المحسوس وانقضَّت عليَّ بكل ما فيها من قسوةٍ وفظاظةٍ مثل كابوسٍ ينهشُ الروحَ في أيلول 2009.
**********


كانَ يجدرُ بي أن أتحدَّثَ عن الفرنسيةِ (سين) التي التقيتها صباحَ الأحد في مكتبة الجامعة فلم ننبس بحرفٍ رغمَ معرفتنا العميقة لبعض.. عن صلتها برسائل أرتور رمبو وحبِّ بودلير لجال ديفال.. عن جمالها الذي لا يهرم أبداً بل يزداد نضارةً وصباً وتوهجاً.. عن جدائلها الذهبية التي تهتاج وتتموَّجُ في نهاري الربيعيِّ العاشق منذ عام الفين.. والتي تغسلُ آلاف النوارس في الفضاءِ الأزرقِ برذاذ الحنين.. (سين) هذه ربما تكون احدى حفيدات إلزا.. كانَ يجدرُ بي أن أحدثكم بإسهاب موجع عنها لولا غيابُ أحد الأصدقاء صباحَ الثلاثاء.. ممزَّقاً بينه لعنة امرأتين.. مشرداً منبوذاً.. متمرداً خاسراً.. كانَ يجدرُ بي منذ سنين طويلة أن أكتب رثاءً لشخصٍ مات مظلوماً.. لغارسيا لوركا أو تشي جيفارا مثلاً أو المهدي بن بركة أو حتى سيد قطب ولكنني لم أستطع لذلك سبيلا.. كلَّ ليلة عندما آوي لفراشي أفكِّر بهؤلاء.. لم أتحدَّث عن سين ولم أكتب قصيدةَ رثاء لأحد ولم أصف علاقتي بمدينةٍ زرتها ونسيتُ قلبي فيها.. ولم أتأسَّف على صديقٍ خاصمني قبل سنوات رغمَ حُبِّي له لأنني صارحته بحقيقةٍ أوجعته.

***
يلتقي شاعران في نقطة ما.. شاعر كذا وشاعر كذا..شاعر حقيقي وشاعر فاشل الى نهاية الكلام الذي نسيته.. هذا لا يعني أنني أعني أحدا بل أبني كلامي على المجهول.. كما تقول رواية ما: اختصم رجلان في الجاهلية.. أو شركاء في السوق.. هل تذكر لنا الرواية أسماء الذين اختصموا؟ فلماذا تريدون أن تُذكر أسماء؟ وما سر ولعنا نحن العرب بالأسماء.. ألم نشبع من الفتنة بعد؟ ومتى نتخلص من سوء الفهم الذي يشخصن الكلام دائما..؟
***
الصديق الذي ينكركَ على أرض الواقع أو يتظاهرُ بأنه يجهلكَ تماما بعد ثلاث سنين صداقة في العالم الافتراضي.. هو في نظري أسوأ نكرانا من يهوذا الاسخريوطي.. ولا لزوم له. حقيقةً هناك بشرٌ وجودهم مثل غيابهم عدم. ذكروني بفكرة تقول أن الفيسبوك من زاوية أخرى حراثةٌ في بحر أو صراخٌ في صحراء خالية.
***
هناك من يسألني متى يبكي الرجل ومتى تبكي المرأة..؟ هل تصدقون؟ ما هذا الترف الشعوري؟
***
فكرةُ إحالة ما أكتب عليَّ شخصيَّاً من أكثر الأفكار المزعجة والمقيتة التي من الممكن أن يصطدمَ بها الشاعر في حياتهِ.
***
(رنينُ المعول الحجري يزحفُ نحوَ أطرافي)
هذا البيت الشعري قاله السياب قبل ما يربو على نصف قرن.. هل كان يرى بعين قلبهِ أن ثمة برابرة متخفين لا يزالون في نطفة الغيب ستسيطر عليهم يوما ما شهوةُ التكسير والتدمير بمعاول حجرية.. فينسلون من كهوفهم المظلمة ويمعنوا في هدم احدى أعظم الحضارات القديمة.. حضارة ما بين النهرين.. هذه حرب ضروس لا تنتهي بين الأمل العبقري وحبِّ الحياة والعمل والفن لدى الشعوب القديمة ومنها الأشوريون والكلدانيون وبين اليأس واللاجدوى من الحياة وشهوةِ تدمير كل شيء جميل على هذه الأرض لدى هؤلاء البرابرة الجدد.
***
شغفي ببعضِ قصائدي بحجم قبضة القلب المفتوحةِ على المطلق..
***
الانسانُ هو قيمة تضحيته في سبيل ما يؤمنُ ويحلمُ به.
***
أفكر في هؤلاء الحياديين أو (الأرقام الاضافية) والهامشيين الذين لا تربطني بهم أي صلة أو رابط روحي أو قبس محبة أو تواصل إنساني منذ فتحت حسابي على الفيسبوك.. طالما لم يكرَّسوا هذه الفسحة الزرقاء إلا للغربة وللمسافات الرملية الشاسعة التي تترامى بيننا ما يقارب الثلاث سنوات والتي حاولت جاهدا وحالما أن أبددها.. ربما هناك بعض الأنانية أو النرجسية فيما أقول أو في نفوس من أقصدهم ولكن بما أن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف.. وبما أنني باحث أبدي عن كل شيء.. ولا أريد أن أجرح أحداً بحذفي له كما يفعل الكثيرون.. أتساءل لماذا يستمرُ بصداقتي من أشكِّلُ عبئاً ثقيلاً عليه؟ أو بعبارة أدق لا يشدُّهُ ولو خيطٌ واحدٌ دقيقٌ من الاهتمام.
***
رغم مغالاة الشاعر أدونيس فيما يتعلَّق بالدين إلا أن في بعض أقواله الكثير من الحقيقة.. فليست داعش على حد تعبيرهِ إلا تنويعاً جديداً لتاريخٍ دمويٍّ ابتدأه الخوارج والزنادقة والملاحدة ومن فسرَّوا الدين على هواهم وفصَّلوه على مقاساتهم..مشيراً إلى أن غبار حروب العرب ضدَّ بعضهم البعض لم يهدأ أبداً.
***
داعش هي الكابوس الأسود الذي تمخضَّ عنه الربيع العربي القارس بدلَ حلم المدينة الفاضلة.
***
كانت إحدى مآسي الشاعر الفرد الذي انتهى زمنه أن يمنى بمجموعة هي من أكثر الناس نفاقا وبعدا عن قيم الصدق والشعر تتدفأ بأسطورته وتتحلق حول هالته فتحجب نورها عن الآخرين.
***

عندما تصرخُ الدماءُ بصخب جنوني حتى تصم الأرواح في حروبِ الدينِ والطائفية..
عندما تبحثُ في مهاوي الردى العربيَّة عن الحريَّة يصبح كلُّ شيء عبثاً جنونياً لا لزوم له.. عندها (وأنا همومي شخصية صغيرة) أسخر من نفسي كلما حاولتُ أن أقرأ أدبا جميلا أو أكتب قصيدة جديدة أو أستمع لموسيقى على اليوتيوب.
***

بعثت لي قبل عدة أيام تقول ألا تستطيع أن تتخلى عن بعض الأشباح من أجلي؟ قلت بلى.. وسألتها من تقصدين بالأشباح؟ قالت المتوارون..
آه كم هناك من أشباح في العالمين.. الافتراضي والحقيقي.
***

إلى متى يا شمسَ دانتي الجحيمية تتسلينَ بتعذيبنا؟
***

رسائل رائعة من مكتبات وجامعات غربية تصل إلى البريد الإلكتروني لذلك الحالم العربي المتبرع لها بكتابٍ من نتاجهِ.. رسائل كلها تقدير وتشجيع لهذا الكائن الهشِّ المسكون بوهم الحبرِ والذي يواجه عصف الحياةِ بأجنحةِ فراشةٍ وحدهُ ويربِّي فرخَ حلمهِ في عشِّ قلبهِ.. لكنه إذا أهدى أي مكتبة أو جامعة عربية كتابا فإنَّ كتابه يسقط في هاوية من هاويتين.. الأولى حاويةُ القمامة والثانية يدُ أي أكاديمي أو مسؤول أو عابث تتوصَّل اليه لتسرقهُ وتركنهُ بلا أي اهتمام في زاوية من زوايا مكتبته غير المقروءة.. حتى من دون أن تقول هذه المؤسسة للمؤلف شكرا.. لا أستغرب هذا التصرف فالعرب ما زالوا يعيشون متأخرين عن الشعوب الأخرى بما يعادل خمسة قرون وربما أكثر.
***
صديقةٌ عزيزةٌ وكاتبةٌ جميلةٌ ومبدعةٌ تحتفي بقصائدَ لي في ندوة ثقافيةٍ في وطنٍ حبيبٍ ينزفُ منذ خمس سنوات.. هل يريد الشاعر أكثرَ من ذلك؟ لا أعتقد.. هذه جائزته المعنويَّةُ الكبرى.. كانت قصائدي مجرَّدَ حلمٍ من حبرٍ وورقٍ.. ومسودَّاتٍ مركونةٍ في أحد الأدراج إلى أن أطلقتها هذه الحوريَّة الجميلةُ في الفضاءِ الورديِّ.. فأصبحت طيوراً زرقاءَ وحدائقَ معلَّقةً وظلالاً لفراديسَ منسيةٍ وعطوراً ليمونيةً.. هل يريدُ الشاعرُ أكثرَ من ذلكَ؟! لا أظن.
***
أقولُ لي دائماً قولةَ امرئ القيس الأثيرة ( اليومَ خمرٌ وغداً أمرٌ)
أي لا تعكِّر فرحَ الحاضرِ الذي بيدكِ بقلقِ المستقبل الذي على الشجرة.. ربما أكونُ مخطئاً في عيون البعض.
***
لا أجدُ توصيفاً (للمثقَّف) الذي يمتدحُ الطاغية.
***
وظيفةُ الشاعر أن يحوِّلَ منطق الحديد والنحاس إلى ذهب كما يقول السيَّاب.
***
أعترف أنني قرأتُ الكثيرَ من الكتب.. شعراً عربياً وأجنبيا ودراسات ومسرح ونقد ورواية وغيرها.. ولكن هذه الكتب بغضِّ النظر عن استفادتي منها أو نفوري المطلق من عوالمها لم تترك إلا ضباباً أبيضَ في ذهني.. يشبهُ حفيفَ القطن الغيمي.. منذ صيف 2008 وأنا أكتب بصعوبة بالغة.. أقصدُ أنني أعجزُ عن لمس البرقِ الأخضرَ الطالعِ من سديمِ الضبابِ الأبيض.. أشعرُ دائماً أنَّ كلَّ قصيدةٍ أتهيَّأُ لكتابتها هي الأولى لي.. الكتابة في نظري ممارسةٌ صعبةٌ.. بل صعبةٌ جداً. وغوايةٌ محفوفةٌ بالمكرِ لم تخلِّصني ولو للحظة واحدة من فداحةِ شعوري بتفاهة ما أكتب. القراءة والكتابة ليستا سوى وسيلةٍ لتزجيةِ هذه الحياةِ بحلوها ومرِّها... يأسها وأملها.. حزنها وفرحها.
***

كيفَ يستطيع روائي مترجَم إلى لغات عالمية ويظن نفسه عظيما وقامَ بنشر روايات كثيرة تنضح بالفكر الإنساني وقيم الحرية والجمال والمحبة.. كيفَ يستطيع أن يفكر بعقلية راعي البقر الأمي.. (مع بالغ الاعتذار لراعي البقر المسكين وطيب القلب..) ويستولي على الحساب الفيسبوكي لزوجته الشاعرة المثقفة الدكتورة ويحذف ويحظر من يشاء.. كيف..؟ ينقصه بعدَ ذلكَ أن يخلِّلها في مرطبان وينظر إليها وهو يكتب روائعه..
ذكَّرني هذا الروائي بشاعر من بلد عربي آخر تزوَّج بشاعرة وناشطة حقوق إنسان قبل سنوات فحرمها من هواء الحريَّة وعاملها تماما كما عاملَ الروائي المصاب بالهوس المرضي والبرانويا زوجته الصبيَّة الجميلة الرقيقة.

***
أحياناً أشكُّ بأني كتبتُ قصيدةً حقيقيَّةً واحدةً.. ربمَّا كتبتُ شيئاً يشبهُ التمويهَ النفسيَّ.. كأني أكذبُ على أنايَ وعلى الآخر.. أو كلَّما حاولتُ أن أغوصَ في نصِّي لا أجدُ في جوَّانيتهِ البوح الحقيقي الخبيء في القلب منذ الطفولة.. لا أعثر على الاعترافِ البريءِ الذي يعبِّرُ عني كإنسان وكشاعر.
القصيدةُ كتبتْ نفسَها بنفسها إذن.. وأنا مجرَّدُ ذلكَ القرويِّ الذي لا علاقةَ لهُ بالشِعر.. والذي تشتعلُ روحُهُ بوجعٍ غامضٍ.
***
الذي يعرفُ العربيَّة جيِّداً ويعرفُ خفايا شعريَّتها وألفاظها ويفهم فلسفتها كما ينبغي يُدركُ أنها لغتانِ في لغةٍ.. لغةٌ لكلِّ شيءٍ ولغةٌ للشِعر.. للشِعرِ فقط..
كيفَ يستطيع شاعرٌ إذن أن يحشرُ في قصيدتهِ كلماتٍ أقلُّ ما يُقالُ عنها أنها غيرُ شعريَّةٍ وجافةٌ ومبتذلةٌ وتصلحُ لعلمِ الاجتماعِ أو التاريخِ أو لعلمِ الفضاء أكثر مما تصلحُ للشِعرِ في حين يدَّعي الكتابةَ وفقَ نسقٍ أو سياقٍ جماليٍّ خاص..؟ قيمةُ النصِّ في نظري تنبعُ من فرادةِ وقداسةِ الكلمات القريبةِ البعيدةِ التي تكوِّنهُ.
***
من الممكن أن يدفع الإنسان ثمن أخطائهِ ومن الممكن أن يسلم بجلدهِ ولكن لا نستطيع أن نقيس الحياة بمقاييس محدَّدة ومعيَّنة أو نحشرها في حكمة نمطيَّة.. أعرف الكثير ممن جمحوا بلا حدود في كلِّ شيء وخرجوا من دون أي خسائر.. وأعرف من ظلَّ يمشي الحيط الحيط كل حياتهِ وكانَ مسالماً جداً ولكنه سقط سقطة مريعة.
***
هل تصيبكَ هذه الحالة.. أنك لا تستطيع أن تتأملَّ صورتها من فرطِ ما تشعرُ بهِ من وجعِ شيءٍ ما.. غامضٍ ولا نهائيٍّ.. هو أعلى وأكملُ وأعمقُ من الجمال؟
***
(أريدُ أن أكتبَ كتاباً وأرسلهُ إلى مكتبة بعيدة.. في آخر الأرض.. لكي أرتاحَ من بعضِ شغفي)
هكذا قلتُ لعامل المقهى الحيفاوي في تموز 2008 عندما فتح فمه وعينيه مذهولاً.. تحكي عن جد.. هذا الكتاب اللي على الطاولة إلك؟ يعني إنتَ كتبتهُ...؟ لم يكن هو وحدهُ مذهولاً أنا أيضا كنتُ مذهولاً بكتابي أكثرَ منهُ.
***
هذه الأرضُ النبيَّة الطاهرة المطهَّرة القدِّيسة ماذا بوسعي أن أقولَ لها وهي تحتاجُ الآنَ لمن هو أنقى من شاعرٍ عابرٍ ليمدحها.. كلما أردتُ أن أكتبَ لها كلمة واحدة أخجلُ من نفسي. من أنا لأقولَ لها ما أقولُ لها؟
*******
القدسُ أرضٌ أم سماءٌ من رخامٍ ساجدٍ قدَّامَ عرشِ اللهِ؟
هذا هو السؤال الجوهري الوجودي المجازي الذي ظلَّ يلاحقُ عدَّة قصائدَ لي بلا إجابة شافية منذ طفولتي حتى الآن.
********
كلَّما مرَّ عامٌ كلَّما تضاعفَ شغفي بكلِّ شيء وتفتَّحت وردةُ الحياة على المطلق.
*******
كأنهُ توارد مصادفات غريبة هذا الذي يحصل لي عادةً في الأسبوع الأخير من تشرين أوَّل منذ بضعة سنوات.. أوَّلُ المطرِ.. بُحَّةُ الصوت.. رغبةٌ جامحة للكتابةِ.. مرض حاسوبي.. حنيني لقراءةٍ حكاية من ألف ليلة وليلة على وقع هطول مطر ناعم على شكل سمفونية.. وأخيراً استيقاظي من النوم وهجسي بتعديل شطر من قصيدة جديدة حتى قبل أن أفعل أي شيء آخر وأخرج.. التعديل قبل كلِّ شيء.
*******
هناك قصيدةٌ بعينها لامست قلباً.. لامست شيئاً ما في ذلك القلبِ السماوي.. قصيدةٌ لي كتبتها قبل عامين وأكثر.. جعلت قارئة ما تبحث عن صفحتي الخصوصية وغير المتاحة للعامة وتكتب لي رسالة مديح أصابتني بالدهشة.. لا تحتاجُ القصيدة سوى لرسالة قصيرة واحدة تبلِّلُ قلبي بمثل هذا المطر الخريفي المنهمر في الخارج.. تجعلني أخرج وأقف على شرفة البيت لعشرِ دقائق ساهماً متأملا نعومة المطر التشرينيِّ وداخلاً فيما يُشبه حالة الوجد الصوفي.
********
غالبا ما تشكِّل الكتابة توازناً روحانياً لي أو تبديداً لطاقةٍ غيرِ مرغوبٍ بها إذا احتبست فانها لا ريب ستكون ضارَّةً.. عندما تحتبس قصيدةٌ ولا أستطيع كتابتها لأيامٍ أو ربما لأسابيع على الرغمِ من تمايلِ أطيافها في مخيِّلتي فإنني أُرهق نفسي بالأعمال الشاقة حول البيت.. أخلق عملا من لاشيءٍ.. أو أذهب مشياً على الأقدام في رحلة إلى وادي صفوريَّة الذي يبعد عن بيتي حوالي سبعة كيلومترات وأعود.. ثم أخلد بعدها للنوم وأنا منطفئ من التعب.
إذا احتبست القصيدة أياما فأنت ستقاتل الهواء من العصبية بلا سبب.. حتى من غير أن توقظك طواويس جارك الحبيب في الخامسة من صباح السبت وهي في فترة تزاوجها الربيعيَّة.. ومن غير أن يقلِّد أحد الأشقياء الصغار صوت الكلب قريبا من نافذة نومك.. أو يمازحك أحد الأقرباء باتصال عبثي وهو يرغي كلاما غير مفهومٍ بالروسية.. أو يطلبُ منك معتوهٌ آخر عبرَ إتصال مزعج في السادسة صباحاً بصوتٍ يشبه زعيق صفارةِ الإنذار أن تعيد له امرأة من القرية كانت طلَّقته قبل عشر سنوات.
**********
لماذا يصرُّ بعض(الشعراء) الذين لا يعرفون البحور والأوزان على كتابة القصيدة الموزونة؟ طالما أنك لا تعرف البحر الكامل من البحر المتوسط لماذا تكتب عشرة أسطر على إيقاع الكامل وفي السطر الحادي عشر وبطريقة فجائية من دون سابق إنذار تصدمنا بجدار نثري سميك وغير موزون..؟ يا رجل إرحمنا.. هلكتنا.. كرهتنا بالبحور والأوزان.. تسوق بنا وكأنك في سباق رالي متهور.. تخفض من الغيار الخامس إلى الأول فجأة وتفرمل وأنت في أقصى سرعة.
***********
سؤال منطقي.. ما فائدة أن يكتب الشاعر قصيدة تفعيلة أو قصيدة عمودية طالما أن الأغلبية الساحقة لا تعرف البحور الشعرية العربية والأوزان والايقاعات ولا تفرِّق بين قصيدة النثر والشعر الموزن وبين الرمل والسكَّر.. ومن المستحيل في النهاية أن تقنع أحدهم بأن ما تكتبه موزون؟

***********
كلمة(شْلاتي) تعبير شعبي فلسطيني يستعمله أهل الجليل.. أو بالأحرى جزء منهم حتى أكون دقيقا في قولي.. لا أعرف بالضبط معنى هذه الكلمة التي يغمى عليَّ من الضحك عندما يقولها أحد أمامي.. ربما تجمع الصعلوك إلى فاقد القيمة.. لا يهم.. في صغري سمعت امرأة في الخمسين من عمرها تقول لأصحاب عرس وهي تشير لمجموعة من الشباب المدعوين:عازمين كل هذول الشلاتية ومش عازمين ابني؟ والله ما بحضر الكو عرس.. سكرتُ حينها من الضحك.. الآن كم من (الشلاتية) في حياتنا؟ شلاتية للردح والمدح والشعر والعهر والرقص والتهريج.. ولكل شيء.
**********


(8)
قصاصات عطريَّة

كهفُ الحوريَّات

أجملُ القصائدِ الموزونة تلكَ التي تقرأها وكأنها بلا وزن.. كأنهُ ذائبٌ في حناياها وبينَ تلابيبِ أنهارها.. أو أنها لم تُكتب من أجلهِ فقط.. لتدلَّ عليهِ كما دلَّتْ عينا عاشقةٍ على قمرٍ.. ولم تُخلقْ لتسيرَ في ظلِّ نرجسهِ الانتهازيِّ.. هي امرأة من قوسِ قزَحٍ.. نافرةٌ كالمهرةِ الجموحِ.. تتمرَّدُ على سطوةِ الإيقاعِ والرملِ والبياضِ وتركضُ محلولةَ الضفائرِ في الريحِ وعندَ حوافِ الموج الليليِّ.. لا تريدُ لأحدٍ أن يأخذها من يدها إلى أيِّ شأنٍ من شؤونها الكثيرةِ.. غيمةٌ تسمعُ هديرها وتحسُّ بهِ يدغدغُ ظاهرَ يدكَ كالعصفورةِ العصبيَّة.. أبداً لم يكن الوزن قفصاً شكليَّاً وذهبيَّاً للشِعرِ الأفكار المسبقة هيَ التي جعلتْ منهُ قفصاً ومحارةً وكهفاً تنامُ فيهِ الحوريَّات.. فدع المرأة التي تسكنُ في القصيدةِ أن تسيرَ الهوينى أو ترقصَ رقصتَها الصباحيَّة ودع الطيورَ لكي تحلِّقَ.. تذويب الوزن في القصيدة أن أبلغ بها إلى حدود الصفاء الشعري الذي كان يعنيه الشعراء الحقيقيون وعلى رأسهم شاعرنا الأسطوري محمود درويش. أن أكتب قصيدة موزونة من غير أن ينتبه الآخرون إلى أنها موزونة من فرط جمالها ومن نعومةِ تدفَّق الماءِ من تلقاءِ نفسهِ فيها وليس من جرَّاء موسيقاها فهو ما يصبو إليه قلبُ الشاعرِ فيَّ. أجملُ القصائدِ الموزونة كأنها وجعُ الماءِ على فمِ الحبيبةِ القرمزيِّ وتنهيدةُ الحصى تحتَ أقدامها.
***



سونيتات شكسبير

في هذا الربيع رجعتُ إلى سونيتات شكسبير أتملَّاها وأعيدُ قراءتها مقارناً ما بينَ ترجماتها الكثيرة.. منها ما يبلغُ حدَّ الروعة والدهشة الحقيقيَّة بجوهرِ البوحِ الحقيقي العذب الصافي ومنها ما هو دونَ ذلكَ بكثير.. ولكن لا أشعار تحرِّكُ القلبَ وتجعلهُ كنسمةِ صَبا مثل هذه الغزليَّات الإنجليزية المكتوبة قبل أكثر من أربعةِ قرون لتصلحَ لكلِّ عشَّاقِ العصور.. مع أنني منحاز لترجمة جبرا المقاربة للنصِّ الأصلي والفاتحة لمغالق الجملةِ الشكسبيريَّةِ إلا أنَّ الترجمات الرصينة الأخرى أعجبتني وراقت لي بالرغمِ من الاختلاف والتباين الطفيفين في ترجمات سونيتات شكسبير تلكَ التي أنجزها جبرا ثم بدر توفيق يليه كمال أبو ديب وأخيرا ترجمة عبد الواحد لؤلؤة المدهشة.. الشيء الوحيد الذي لم أستطع أن أفهمه في الترجمات الأخرى المنجزة في الخمسينيات والستينيات هو لماذا حاول البعض ترجمتها شعراً عموديا وأحيانا على البحور المجزوءة؟ حتى في سونيتات شكسبير نبحث عن القيود؟!
***

مكانُ القصيدةِ المثالي

شاطئُ البحرِ في صباحٍ ربيعيٍّ غائمٍ هو المكان المثالي للمشي والتأمل.. واصطياد خيوط القصائد وأسماكها المراوغة.. هنا عاشقٌ يسندُ رأسه المحشوَّ بالغيوم على كتفِ حبيبتهِ وعاشقةٌ تسندُ رأسها على كتفِ حبيبها.. وأنا منهمكٌ بقراءةِ دواوين رياض صالح الحسين المحمَّلة على هاتفي الجوَّال.. وأرجئُ مشاغل الحياة لساعتين تقريبا.. القصيدة التي لم يكتبها ذلك العاشق لحبيبته الجميلةِ ذات الشَعرِ المنساب كحريرِ الليلِ حاولتُ أنا كتابتها واصطيادها لهما.. بينما في الروحِ تشعُّ عينا امرأةٍ تحبُّ عكا وتسألُ نفسها دائماً : من أجمل أنا أم صبايا عكا؟ ولكن القصيدة حينَ هممتُ بتدوينها فرَّتْ مني كما فرَّتْ السمكة الذكيَّة.
*****

البشرُ الهامشيُّون هم الأكثرُ هشاشةً ورقةً وعفويَّةً على تطبيقات واتساب وفايبر، المرأة التي كنتَ تظنُّها قاسيةً أو متسلِّطةً والتي أرهقتْ الرجالَ بصدودها وعنفوانها تصبحُ شاعرةً رقيقةً وامرأةً أخرى على واتساب في رسائلها الصباحيَّةِ لجارتها أو صديقتها.. في كلِّ كلمةٍ بسيطةٍ تقولها.. مرهقة.. تعبانة.. اشتقتُ إلكْ.. كأنَّ كلامَها ترجيعاتُ موجةٍ عاشقة أو أنَّاتُ محارةٍ في محيط، الرجالُ الأشدَّاءُ المتجهِّمون يصبحون عشَّاقاً قدامى و(جنتلمانات) حقيقيِّين وهم ينقرون بأصابعهم الغليظةِ شاشاتِ هواتفهم من أماكن بعيدة، ويتركون رسائلَ قصيرةً صادقةً وخارجةً من القلبِ يحملها رنينٌ مباغتٌ وناعمٌ إلى مساءات نسائهم. كأنَّ التخاطبَ عن بُعد يصفِّي أرواحَ البشَر من الشوائبِ والنرجسيَّة.
*****
فوضويَّةُ القراءة


نادراً ما كنتُ أتركُ الرواياتِ في المنتصف، لم يحدث ذلك تقريباً معي في الماضي حتى لو بلغتْ صفحاتُ الرواية 700 صفحة، ولكنني في الفترةِ الأخيرةِ تركتُ الكثيرَ من الكتب في المنتصف، روايات، دراسات، دواوين شعر وغيرها، عشرات الكتب الالكترونية والورقية، لا أعرفُ السبب، كأنهُ هروبٌ من النهايات، سواء كانت سعيدةً أو حزينةً، أو بحثٌ أبديٌّ عن فسحِ التأمُّلِ في عالمِ المادة، ولكن لكي تقرأ فأنتَ بحاجةٍ إلى الإطاحةِ بناقوسِ القلقِ الوجودي الذي يسكنُ أضلاعَكَ إلى هاويةٍ منسيَّةٍ، هكذا تركتُ رائعة الكاتب الأمريكي الشهير همنغواي (وداعاً للسلاح) بعد مئة صفحة لأقفز إلى قراءة بعض كتابات جان جينيه وبورخيس وهنري ميلر، منهم انتقلتُ إلى كتاب (اللاطمأنينة) لبيسوا ثمَّ إلى عوالم كافكا الكابوسيَّة.. فجأةً وجدتُ نفسي مشغوفاً بالشاعرين العراقي حسب الشيخ جعفر والفارسي المتصوِّف فريد الدين العطَّار، أنا قارئٌ لا منهجيٌّ، أو صرتُ قارئاً لا منهجياً، حتى أنني أغلقتُ روايةَ (عندما بكى نيتشة) للكاتب الأمريكي إرفين د. يالوم قبلَ نهايتها بقليل رغمَ تأثري وإعجابي الكبيرين بها وأعدتُ قراءةَ المجموعة القصصية الرائعة (الخيمة) للكاتب المغربي المبدع محمد شكري وصوتي الداخلي يقول: أريدُ أن أسكنَ إحدى روايات أو قصص مجنون الورد هذا.. أو أسكنَ إحدى الأغاني المغربية إلى الأبد.. كم أنتَ جميلٌ ومختلفٌ يا محمد شكري.
***

حيرةٌ مشتهاة

قصيدتكَ هي لعنتكَ الأبديةُ أيها الشاعر، فقاعةُ النور الهلاميَّةُ التي ترى فيها وجهكَ في السرداب المظلم، غزالتكَ التي تتودَّدُ إليها فتنفر، تدنو منها فتبتعد، تراوغها فتستعصي، نجمتكَ الخضراءُ المحترقةُ على تلَّةِ العنقاء، حبيبتكَ المغرورةُ المنسيَّةُ التي تنادي باسمها فتخرجُ لكَ لسانها بسخريةٍ مُرَّة، هي حيرتكَ المشتهاةُ واللحظةُ التي تنتظرها طوال عمركَ ولكنها لا تجيء، أو تجيءُ بعدَ فوات الأوان، مرايا قلبكَ السرابيَّةُ والسمكةُ الماكرةُ، وهي الفسحةُ المستحيلةُ المعلَّقةُ على شرفةٍ لا تطال، هيَ غبارُ القُبَل الذي تنفضهُ بفمكَ عن قميص احداهنَّ.
*********

حبرٌ بطعم الشغف

كيفَ انتهى عصرُ الحبرِ وتغيرَّت تلك العوالم الجميلة في هذه السرعة القياسية؟ في أواخر التسعينيات كنتُ أكتبُ القصيدة وأشمُّها على الورق، كما يشمُّ العاشقُ رسالةَ حبيبته الأولى ،كانَ لحبر القصيدةِ عبقٌ خاص، أبعثها بالفاكس أحيانا أو أضعها في الظرف البريدي وأرسلها لعنوان صحيفة الإتحاد الحيفاوية، وفي مرَّات كثيرة أذهبُ بنفسي لتسليمها للمحرِّر الأدبي في ذلك الوقت لأنتظرها في الثلاثاء الأدبي على أحرِّ من الجمر، كانت همومي صغيرةً والحياةُ بريئةً حينها، وكانت تربطني صداقةٌ حقيقيةٌ بالمحرر الأدبي في الأتحاد، نتكلَّم بشكل شبه يومي، نادرا ما كنتُ في حيفا ولم أمر بمكتبهِ لإلقاء التحية، كان شغفي الشعري هو الذي يوقظني من النوم في صبيحة اليوم التالي من أجل هدف مقدَّس واحد، أن أذهب لحيفا وأعودَ بالصحيفة لأرى قصيدتي المنشورة، بعد هذا العالم بسنوات جاء دور البريد الالكتروني ليحتلَّ فراغ الورق والحبر والبريد البطيء، مرحلة تشبه الحلم لكنها أقلُّ تعباً من سابقتها، مئات القصائد نشرتها عبرَ ما يُسمَّى البريد الالكتروني أو الايميل، ببساطة تبعث القصيدة أو المقالة إلى مجموعة بريديَّة تحوي عناوين الجرائد والصحف والأصدقاء المهتمين، الآن أفكِّرُ أن هذه المرحلة انقرضتْ أو تكاد تنقرض في ظلِّ سطوة الفيسبوك ومواقع التواصل، أغلب الكتَّاب والشعراء انضمَّوا تدريجيَّا إلى هذه الغرفة الكونية، انتهى وقت المجموعات البريديَّة والشعور بمسؤولية ما نكتبهُ، أصبحنا نمارسُ العبث الكتابي اليومي في الفضاءات الزرقاء، هل هناك من لا يزالُ يكتب بالحبر ويضعُ قصائده أو مقالاته في الدرج أسابيعَ وشهوراً لتختمر التجربة أو لتزهر القصائد، ويبعث ما يكتبهُ في النهاية بالفاكس أو البريدِ الأرضي إلى الجهة التي يريد؟
*****
أحبُّ الشعراء إلى نفسي الصعاليك بقلوبهم حتى لو كانوا أرستقراطيين، فالصعلكة الحقيقية هي صعلكة القلب.
*****






(9)
خفقُ الأنفاس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...