"أترى هذه القبور الواقفة؟ لقد نصبوها هنا تذكارات لشخوص لا يحتاجون منهم تخليدا ولا تبجيلا. هم في غنًى عمّا يُخلّدهم في الأذهان؛ مناقبهم وعلومهم وآثارهم تدلّ عليهم. عظامهم صارت رميما في أمكنة متفرّقة في هذه المدينة المنافقة. لا حاجة لهم بمن يهرف على الناس باسمهم، بإنشاء هذه الشواهد النشاز لهم هنا. لم يفعلوا أكثرَ من توفير مراحيضَ إضافية للسكارى والمشرّدين. لينظروا إلى حالك وحالي الآن هنا أولاً، قبل أن يُقدّسوا الموتى أو يبنوا لهم أضرحة مُزيَّفة! تأمّلْ المشهد جيدا؛ بالله عليك: ألا يبدو الأمر مضحكاً؟!"...
قال لي، وهو يتوسّد خيباته ويمسح، طيفُ شيخٍ بلحية لوّحتها شمسُ الساحة الضاجّة نكاية بوحدته. لم أتبيّنْ له ملامحَ رغم أني كنتُ شديد القرب منه. شيءٌ ما يُضبّب الرؤية، شيءٌ هلاميّ غريب. هممتُ بالرد عليه، لكنْ لم أقدرْ. ألجمَتْ لساني قوة خارقة، قوةٌ هلامية غريبة، لا يمكن أن تكون إلا في.. حلم.
-نُضْ، نوض، نوووضْ! وْأنت باقي خامْر ليّ تْم! البوطة خْوات ليّ وفوقها لعجينة. إيوا نوْض، واش ما تتسمعشّ؟ خاصّني باش نطيّب.
تبيّنتُ نبرتها، أخيرا، بصعوبة. يا إلهي! حتى الأحلام لا تكتمل في هذا البيت، رغم أنها غامضة ومضبّبة. كان حلماً، إذن. الواقع بدأ وأنا أنزل الأدراج حاملا القنينة الضّخمة. فوق ذلك أربعون درهماً على الريق سيأخذها ذلك الجنّي الذي لا يحلم ولا ينام. في السابعة، وربما السّادسة، يكون واقفاً خلف واجهته الزجاجية الصّغيرة، متأهباً لالتقاط دراهم أهل الحيّ.
كان يومَ جمعة. نقاشٌ صباحيّ بدأ ضاحكاً، لينتهيَ إلى ما ينذر بدراما إضافية إن تواصَل.
-ألفَ مرّة قلتُ لك لا توقظيني بهذه الكيفية! أحتاج إلى فتح عينَيّ بهدوء حتى أحتفظ ولو بمَشاهد من أحلامي. هي، أصلا، غير واضحة بما يكفي وتقضين، بطريقتك الغبيّة هذه، على ما علق منها بذاكرتي. لا تعودي إلى...
-واخّا، أسيدي، غادي نخلّي لعجينة تكرْم ليّ باش تبقى أنت تْحلم عليّ تمّ!
فضّلتُ التوقف. عبرتْ بخيالي مأثورة سقراط حين سأله أحد تلاميذه عن الزواج.. أَجابَه "تزوجْ، فإن رُزقتَ بامرأة طيبة أصبحت سعيداً، وإن رُزقت بامرأة شقية أصبحت مثلي، فيلسوفا". لكنْ ماذا عساه يفعل مَن لم يدرك، مثلي، سعادة ولا هو صار فيلسوفا، مثلك يا حكيم؟!
ضجِراً وبدون شهية، بلعتُ "بطبوطة" ساخنةً مغموسة في بعض الزّيت وكثير من المربى. أحتاج كثيرا من الحلاوة في كل ما آكل وأشرب؛ هذي الحياة اللعينة لا تَنِي تلقمني المرَارات. صببتُ كأس شاي إضافيا وقصدت السّْطيحة لأدخّن سيجارة. ثم غادرتُ البيت لا ألوي على شيء ولا أعرف لي وجهة.
شمسٌ فبرايرية حارقة تبثّ دفئها في الأرجاء. لا شيء ثابت في هذه المدينة متقلّبة المزاج. حتى في هذا الشهر البارد والممطر قد تفاجئك حرارة متسيّدة في أي صباح. قد تبيتُ على إيقاع زخّات لا تتوقف وصقيع يُجمّد الدماء في العروق وتفتح عينيك في اليوم الموالي على أشعة لاسعة. قادتْني خطواتي، المتعثرة في حُفر الطريق والحياة، نحو "لقْواسْ". حشرتُ جسدي الضئيل، المنخورَ خيباتٍ وتخليات، وسط ثلاثة ركاب دون حتى أن أسأل عن الوجهة. المهمّ عندي في مثل هذه الظروف أن أبتعد. تذكّرتُ مقولة حكيمة أخرى قرأتُها في مكان ما ولا أذكر من قالها، مؤداها أنّ طريق السفر (قد) يكون أهمّ من نقطة الوصول.
من خلال نوافذ الناقلة بدت الأشجار في كامل ألقها. غبطتُها؛ قد اغتسلتْ ممّا علق بها من قذارات المدينة وأهل المدينة، فيما أُحسّني محمّلاً بأدران أزلية لا يُذهبها اغتسال. أشعة الشمس تتسلل من بين القطرات التي تنحدر عبر أوراق النارنج نحو الأسفل فتُحلّ بعضَ سكينة في القلب الموجوع. طيور تنطّ نشوى بغيث السّماء. فوق الأسوار وأسلاك الكهرباء تنقر رياشها بمناقيرها وتتبادل زقزقات جذلى. النظرة إلى الأشياء والناس والعالم تكون مختلفة بعد ليلة ماطرة. لم أسمع، طيلة الرحلة، شيئا ممّا كان يقال. سابحاً في عوالمي الخاصة، لم أنتبه إلا والناقلة تُعرّج يميناً وتصير في مواجهة الساحة الضاجّة أصواتاً وحركة وزعيق أبواق الشاحنات والحافلات. باب دكّالة كانتِ الوجهةَ إذن. عالَم فريد قائم بذاته؛ مسافرون قادمون من كل الاتجاهات أو ذاهبون إليها. أطيافُ فتيات تائهات، هاربات من سقطاتهنّ في قرى ومدن نائية لا ترحم ولا تغفر الفضائح. لصوص وحمقى ومشرّدون ومجرمون وقتَلة يؤجّلون مصيرهم المحتوم. يؤجّلون موعدهم مع الزنازن وهم يستترون بالأسوار أو يهيمون على وجوههم في الدروب الضيّقة المتشابهة خلفها.
ترجّلتُ قبالة الباب الخلفيّ للمحطة الطرقية الصاخبة. هي مناسَبة لأزور صديقي الكتبي السّي عمَر، قلتُ لي، وأنا ألفّ يميناً بمحاذاة سور المحطة القصير. صفعتْني روائح نتِنة وزادت خطواتي ترنّحاً. ابتعدتُ نحو الجهة الأخرى وقد مادت الأرض من تحتي وتراقصت الأجساد التي تروح وتجيء أمامي، صارت كما أشباح تائهة. بول وبراز المشرّدين والسكارى يشكلان مشهدا مقرفاً يبعث على التقيؤ. "أخّ" من مدننا النتِنة المُدّعية! لا غرابة إن كان أكثر من نصف معالم حضاراتنا المتعاقبة قد تآكَل بفعل قصف "حامض" من كائنات تُشاركنا عنوة فضاءاتنا، وليس بفعل عواملَ أخرى. هل علينا أن نُعيّن لكل شبر عسساً وعسكرا ليحرسوه من سوائل وفضلات هذا الصنف من البشر!؟
فجأة، استفزّني مشهد كهل ممدّد أمامي، في الجهة الثانية. استحوذ على كل اهتمامي دفعة واحدة. يا إلهي! كيف يُعقَل أنه لا يزال هنا؟ لا أدري لماذا شعرتُ بأنني رأيتُه من قبل. هل زرتُ الساحة من قبلُ وكان هنا؟ لكنْ متى حدث ذلك؟ لا أتذكر أَنّي زرتُ المكان في الفترة الأخيرة. ودون أن أشعر بشيء من حولي ولا بي، سايرتُ خطواتي وقطعتُ الطريق. زعيق بوق درّاجة بخارية تخترق طبلة أذني. مرقتْ بمحاذاتي وتجنّب الشبح الذي يقودها قدمي اليمنى في آخر لحظة. تقاطر من بين شدقَيه الحيوانيّين كلماتٌ غاضبة لم أتبيّنْها كاملة، لكنْ سمعتُ بعضها "وا فيقْ ألسّي القْـ... وْجمع كـ... شْويّة، وْأنتَ غادي فوسط الشانطي بحالْ إلى غادي فالفيرمة ديال بّاكْ.. تّفوو عْلى بشرْ كي دايرْ".
اذهبْ إلى الجحيم أيها الجحش. ردّت أعماقي دون كلمات. صرتُ قريباً منه الآن. جلباب صوفيّ يبدو أن لونه كان يوماً أخضر يلفّ جسداً هزيلا ومهزوماً. طيف شيخٍ بلحية لوّحتها شمسُ الساحة الضاجّة نكايةً بوحدته. بقايا رجُل انتهتْ به أقداره مرمياً في قارعة الطريق كأي شيء تافه.
أفزعني وهو يقوم، فجأة وكأنه شعر بخطواتي ونظراتي الفضولية نحوه، ويصيح في وجهي، لكنْ بلغة واضحة اخترقتْ كلماتها كياني مثلَ سهام مسمومة:
"أترى هذه القبور الواقفة؟ لقد نصبوها هنا تذكارات لشخوص لا يحتاجون منهم تخليدا ولا تبجيلا. هم في غنًى عمّا يُخلّدهم في الأذهان؛ مناقبهم وعلومهم وآثارهم تدلّ عليهم. عظامهم صارت رميما في أمكنة متفرّقة في هذه المدينة المنافقة. لا حاجة لهم بمن يهرف على الناس باسمهم، بإنشاء هذه الشواهد النشاز لهم هنا. لم يفعلوا أكثرَ من توفير مراحيضَ إضافية للسكارى والمشرّدين. لينظروا إلى حالك وحالي الآن هنا أولاً، قبل أن يُقدّسوا الموتى أو يبنوا لهم أضرحة مُزيَّفة! تأمّلْ المشهد جيدا؛ بالله عليك: ألا يبدو الأمر مضحكاً؟!"...
ألمٌ شديد في رأسي. أشعّة الشمس الحارقة سياطٌ لاهبة تُضاعف عذاب الصداع الذي يشقّ رأسي. كأن كلّ حرارتها تتجمّع فوق دمااغي أنا دون خلق الله في هذه الساحة الضاجّة خلائقَ وأطيافاً. كأنّي بها متواطئة مع هذا الكهل، الذي لا أذكر أين رأيتُه، لمضاعفة آلامي. هممتُ بالرد عليه. وددتُ لو أوقفه وهو يقوم، في حركة سريعة ومباغتة، ويبتعد. لكنْ لم أقدرْ. ألجمَتْ لساني قوة خارقة، قوةٌ هلامية غريبة، لا يمكن أن تكون إلا في.. حلم. آه، حلمُ الليلة.. كان هو، ذلك الشيخ الذي رأيتُ في الحلم...
قال لي، وهو يتوسّد خيباته ويمسح، طيفُ شيخٍ بلحية لوّحتها شمسُ الساحة الضاجّة نكاية بوحدته. لم أتبيّنْ له ملامحَ رغم أني كنتُ شديد القرب منه. شيءٌ ما يُضبّب الرؤية، شيءٌ هلاميّ غريب. هممتُ بالرد عليه، لكنْ لم أقدرْ. ألجمَتْ لساني قوة خارقة، قوةٌ هلامية غريبة، لا يمكن أن تكون إلا في.. حلم.
-نُضْ، نوض، نوووضْ! وْأنت باقي خامْر ليّ تْم! البوطة خْوات ليّ وفوقها لعجينة. إيوا نوْض، واش ما تتسمعشّ؟ خاصّني باش نطيّب.
تبيّنتُ نبرتها، أخيرا، بصعوبة. يا إلهي! حتى الأحلام لا تكتمل في هذا البيت، رغم أنها غامضة ومضبّبة. كان حلماً، إذن. الواقع بدأ وأنا أنزل الأدراج حاملا القنينة الضّخمة. فوق ذلك أربعون درهماً على الريق سيأخذها ذلك الجنّي الذي لا يحلم ولا ينام. في السابعة، وربما السّادسة، يكون واقفاً خلف واجهته الزجاجية الصّغيرة، متأهباً لالتقاط دراهم أهل الحيّ.
كان يومَ جمعة. نقاشٌ صباحيّ بدأ ضاحكاً، لينتهيَ إلى ما ينذر بدراما إضافية إن تواصَل.
-ألفَ مرّة قلتُ لك لا توقظيني بهذه الكيفية! أحتاج إلى فتح عينَيّ بهدوء حتى أحتفظ ولو بمَشاهد من أحلامي. هي، أصلا، غير واضحة بما يكفي وتقضين، بطريقتك الغبيّة هذه، على ما علق منها بذاكرتي. لا تعودي إلى...
-واخّا، أسيدي، غادي نخلّي لعجينة تكرْم ليّ باش تبقى أنت تْحلم عليّ تمّ!
فضّلتُ التوقف. عبرتْ بخيالي مأثورة سقراط حين سأله أحد تلاميذه عن الزواج.. أَجابَه "تزوجْ، فإن رُزقتَ بامرأة طيبة أصبحت سعيداً، وإن رُزقت بامرأة شقية أصبحت مثلي، فيلسوفا". لكنْ ماذا عساه يفعل مَن لم يدرك، مثلي، سعادة ولا هو صار فيلسوفا، مثلك يا حكيم؟!
ضجِراً وبدون شهية، بلعتُ "بطبوطة" ساخنةً مغموسة في بعض الزّيت وكثير من المربى. أحتاج كثيرا من الحلاوة في كل ما آكل وأشرب؛ هذي الحياة اللعينة لا تَنِي تلقمني المرَارات. صببتُ كأس شاي إضافيا وقصدت السّْطيحة لأدخّن سيجارة. ثم غادرتُ البيت لا ألوي على شيء ولا أعرف لي وجهة.
شمسٌ فبرايرية حارقة تبثّ دفئها في الأرجاء. لا شيء ثابت في هذه المدينة متقلّبة المزاج. حتى في هذا الشهر البارد والممطر قد تفاجئك حرارة متسيّدة في أي صباح. قد تبيتُ على إيقاع زخّات لا تتوقف وصقيع يُجمّد الدماء في العروق وتفتح عينيك في اليوم الموالي على أشعة لاسعة. قادتْني خطواتي، المتعثرة في حُفر الطريق والحياة، نحو "لقْواسْ". حشرتُ جسدي الضئيل، المنخورَ خيباتٍ وتخليات، وسط ثلاثة ركاب دون حتى أن أسأل عن الوجهة. المهمّ عندي في مثل هذه الظروف أن أبتعد. تذكّرتُ مقولة حكيمة أخرى قرأتُها في مكان ما ولا أذكر من قالها، مؤداها أنّ طريق السفر (قد) يكون أهمّ من نقطة الوصول.
من خلال نوافذ الناقلة بدت الأشجار في كامل ألقها. غبطتُها؛ قد اغتسلتْ ممّا علق بها من قذارات المدينة وأهل المدينة، فيما أُحسّني محمّلاً بأدران أزلية لا يُذهبها اغتسال. أشعة الشمس تتسلل من بين القطرات التي تنحدر عبر أوراق النارنج نحو الأسفل فتُحلّ بعضَ سكينة في القلب الموجوع. طيور تنطّ نشوى بغيث السّماء. فوق الأسوار وأسلاك الكهرباء تنقر رياشها بمناقيرها وتتبادل زقزقات جذلى. النظرة إلى الأشياء والناس والعالم تكون مختلفة بعد ليلة ماطرة. لم أسمع، طيلة الرحلة، شيئا ممّا كان يقال. سابحاً في عوالمي الخاصة، لم أنتبه إلا والناقلة تُعرّج يميناً وتصير في مواجهة الساحة الضاجّة أصواتاً وحركة وزعيق أبواق الشاحنات والحافلات. باب دكّالة كانتِ الوجهةَ إذن. عالَم فريد قائم بذاته؛ مسافرون قادمون من كل الاتجاهات أو ذاهبون إليها. أطيافُ فتيات تائهات، هاربات من سقطاتهنّ في قرى ومدن نائية لا ترحم ولا تغفر الفضائح. لصوص وحمقى ومشرّدون ومجرمون وقتَلة يؤجّلون مصيرهم المحتوم. يؤجّلون موعدهم مع الزنازن وهم يستترون بالأسوار أو يهيمون على وجوههم في الدروب الضيّقة المتشابهة خلفها.
ترجّلتُ قبالة الباب الخلفيّ للمحطة الطرقية الصاخبة. هي مناسَبة لأزور صديقي الكتبي السّي عمَر، قلتُ لي، وأنا ألفّ يميناً بمحاذاة سور المحطة القصير. صفعتْني روائح نتِنة وزادت خطواتي ترنّحاً. ابتعدتُ نحو الجهة الأخرى وقد مادت الأرض من تحتي وتراقصت الأجساد التي تروح وتجيء أمامي، صارت كما أشباح تائهة. بول وبراز المشرّدين والسكارى يشكلان مشهدا مقرفاً يبعث على التقيؤ. "أخّ" من مدننا النتِنة المُدّعية! لا غرابة إن كان أكثر من نصف معالم حضاراتنا المتعاقبة قد تآكَل بفعل قصف "حامض" من كائنات تُشاركنا عنوة فضاءاتنا، وليس بفعل عواملَ أخرى. هل علينا أن نُعيّن لكل شبر عسساً وعسكرا ليحرسوه من سوائل وفضلات هذا الصنف من البشر!؟
فجأة، استفزّني مشهد كهل ممدّد أمامي، في الجهة الثانية. استحوذ على كل اهتمامي دفعة واحدة. يا إلهي! كيف يُعقَل أنه لا يزال هنا؟ لا أدري لماذا شعرتُ بأنني رأيتُه من قبل. هل زرتُ الساحة من قبلُ وكان هنا؟ لكنْ متى حدث ذلك؟ لا أتذكر أَنّي زرتُ المكان في الفترة الأخيرة. ودون أن أشعر بشيء من حولي ولا بي، سايرتُ خطواتي وقطعتُ الطريق. زعيق بوق درّاجة بخارية تخترق طبلة أذني. مرقتْ بمحاذاتي وتجنّب الشبح الذي يقودها قدمي اليمنى في آخر لحظة. تقاطر من بين شدقَيه الحيوانيّين كلماتٌ غاضبة لم أتبيّنْها كاملة، لكنْ سمعتُ بعضها "وا فيقْ ألسّي القْـ... وْجمع كـ... شْويّة، وْأنتَ غادي فوسط الشانطي بحالْ إلى غادي فالفيرمة ديال بّاكْ.. تّفوو عْلى بشرْ كي دايرْ".
اذهبْ إلى الجحيم أيها الجحش. ردّت أعماقي دون كلمات. صرتُ قريباً منه الآن. جلباب صوفيّ يبدو أن لونه كان يوماً أخضر يلفّ جسداً هزيلا ومهزوماً. طيف شيخٍ بلحية لوّحتها شمسُ الساحة الضاجّة نكايةً بوحدته. بقايا رجُل انتهتْ به أقداره مرمياً في قارعة الطريق كأي شيء تافه.
أفزعني وهو يقوم، فجأة وكأنه شعر بخطواتي ونظراتي الفضولية نحوه، ويصيح في وجهي، لكنْ بلغة واضحة اخترقتْ كلماتها كياني مثلَ سهام مسمومة:
"أترى هذه القبور الواقفة؟ لقد نصبوها هنا تذكارات لشخوص لا يحتاجون منهم تخليدا ولا تبجيلا. هم في غنًى عمّا يُخلّدهم في الأذهان؛ مناقبهم وعلومهم وآثارهم تدلّ عليهم. عظامهم صارت رميما في أمكنة متفرّقة في هذه المدينة المنافقة. لا حاجة لهم بمن يهرف على الناس باسمهم، بإنشاء هذه الشواهد النشاز لهم هنا. لم يفعلوا أكثرَ من توفير مراحيضَ إضافية للسكارى والمشرّدين. لينظروا إلى حالك وحالي الآن هنا أولاً، قبل أن يُقدّسوا الموتى أو يبنوا لهم أضرحة مُزيَّفة! تأمّلْ المشهد جيدا؛ بالله عليك: ألا يبدو الأمر مضحكاً؟!"...
ألمٌ شديد في رأسي. أشعّة الشمس الحارقة سياطٌ لاهبة تُضاعف عذاب الصداع الذي يشقّ رأسي. كأن كلّ حرارتها تتجمّع فوق دمااغي أنا دون خلق الله في هذه الساحة الضاجّة خلائقَ وأطيافاً. كأنّي بها متواطئة مع هذا الكهل، الذي لا أذكر أين رأيتُه، لمضاعفة آلامي. هممتُ بالرد عليه. وددتُ لو أوقفه وهو يقوم، في حركة سريعة ومباغتة، ويبتعد. لكنْ لم أقدرْ. ألجمَتْ لساني قوة خارقة، قوةٌ هلامية غريبة، لا يمكن أن تكون إلا في.. حلم. آه، حلمُ الليلة.. كان هو، ذلك الشيخ الذي رأيتُ في الحلم...