تعتمد بعض الاتجاهات المعاصرة في النقد الأدبي إلى تتبع جزئية أو عنصر معين في أعمال كاتب ما، تتبعاً أفقياً، بهدف الكشف عن كيفية تعامل هذا الكاتب مع هذه الجزئية، فتدرس المقدمات أو العقدة مثلاً في القصة، أو تدرس القافية أو اللازمة في القصيدة إلخ .
ونحن نعتقد أن النهاية في القصة القصيرة من أهم أجزاء بنيتها، إن لم تكن أهمها، فالقصة القصيرة ـــ فيما نرى هي نظام إشاري يحمل رسالة عبر مجموعة من الدوال تتمثل في عناصر بناء هذه القصة في شخوص وأحداث (سواء داخلية أم خارجية)، إلخ بمعنى أن كلا من هذه الدوال هي عنصر في هذا النظام الإشاري، أي أن لها وظيفة تلعبها في اكمال هذا النظام من ناحية، وفي توصيل رسالته (أو دلالته) أيا كانت نوعية هذه الدلالة، من ناحية أخرى ويخرج مصطلح الرسالة أو مصطلح الدلالة، هنا من التقسيم المثالي للدلالة إلى دلالة مباشرة أو ايحائية : إلخ، ذلك أن كل نظام إشاري (مثل اللغة) يحمل كما من المعلومات يمكن قياسه وحسابه ، سواء كانت هذه المعلومات معلومات مما تعارفنا عليه ونستعمله، أو كانت معلومات غامضة أو محسوسة فقط ، مثل الدلالات التي تعطيها لنا لغة الشعر، ولغة القصة القصيرة أيضا، ولكنها في النهاية كلها معلومات.
والنهاية هي الموضع الذي يكتمل فيه هذا النظام الإشاری، كما تكتمل فيه الرسالة : في هذا الموضع يضع الكاتب قلمه، ويشعر أنه انتهى مما يود قوله بهذا الخصوص، ولهذا الموضع ـــ لهذا السبب أهمية خاصة لدى الدارس، الذي يود أن يدرس لماذا وضع الكاتب قلمه هنا بالتحديد وما هي دلالة ذلك. وينقل العمل (القصة) إلى القارىء . فتكون النهاية هي الموضع الأخير الذي يصل إليه القاريء وبعده يرفع عينيه عن القصة ليتأمل فيما أراد المؤلف أن يرسله إليه.
وبمعنى آخر، فإن هذا الموضع هو صاحب الإشارة الأخيرة في هذا النظام الاشاري وهو من ثم صاحب التأثير الأخير الذي تتركه القصة على قارئها، وعلى هذا التأثير يترتب كثير من موقف القاريء من القصة . وهنا أهمية أخرى للنهاية.
والنهاية بما أنها الموضع الأخير في القصة، تمثل طرفا في علاقة معقدة ومركبة. فهي في علاقة مع بقية أجزاء النص. هي في علاقة مع تطور الأحداث (إذا كان ثمة أحداث في القصة) وفي علاقة مع تطور الشخصيات أو الشخصية الواحدة. وادراك وتتبع هذه العلاقة بين النهاية والقصة أمر في غاية الأهمية، لأنها تكشف أبعاد رؤية الكاتب، وكيفية فهمه لطبيعة حركة الحدث وطبيعة تطور الشخصية، وإلى أي مصير هي سائرة هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن رؤية الكاتب لهذه العلاقة تمثل واحدة من خصوصياته الفنية، حيث أنه يتميز بها عن غيره من الكتاب المعاصرين. ومن ناحية ثالثة، فإن فهم الكاتب لطبيعة النهاية وعلاقتها ببقية القصة، تعكس رؤية الكاتب لحركة المجتمع الذي تعيش فيه شخصياته وتجری فيه قصصه، ويعيش هو نفسه فيه، بل وفهمه، أيضا الطبيعة حركة التاريخ ولقوانينه المسيرة الأساسية، وخاصة إذا كانت دراسة النهاية تشمل إنتاج كاتب مكتمل لا مجرد قصة واحدة .
لقد كان النقد التقليدي والقصة التقليدية، يهتمان بالنهاية اهتماماً بالغاً من منطلق أن هذه النهاية هي لحظة التنویر” التي تضيء العمل كله. ولكن مدخلنا لا ينظر إلى النهاية – مسبقا ــ هذه النظرة . أنه يبحث بهدف الوصول إلى طبيعة ونوعية النهاية، ومن ثم فهو يدرس الموضع الذي ترد فيه النهاية، (الفقرة الأخيرة غالباً) لكي يصنف الأنماط التي ترد في هذا الموضع النهائي . هذا المدخل، لا يحمل أفكاراً مسبقة إزاء نهايات قصص يحيي الطاهر عبد الله، لأن واحدة من المسلمات (أو التي أصبحت مسلمات) أن هذا الكاتب كاتب مُجدَّد ومتمرد على القصة القصيرة السابقة له في مصر. فقد كان طريق هذا الكاتب و(جيله) هو البحث عن شكل أو أشكال جديدة للقصة المصرية القصيرة. ومن هنا تأتي الأهمية الأخيرة لهذه الدراسة وصولا إلى طبيعة هذا البحث في شكل النهايات.
حكايات للأمير يحى الطاهر
إن دراسة إنتاج يحيي الطاهر عبد الله في القصة القصيرة، تكشف أن شكلين أساسيين تمحور حولهما انتاجه، مع تمايزات بين كل من الشكلين وبين القصص التي كتبت في إطار كل شكل على حدة .
الشكل الأول ــ والأسبق زمنيا، والأكثر غلبة في إنتاجه، هو ما يمكن أن نسميه (القصة – الحدث)، وهذا الشكل – فيما نعني – هو الشكل الذي تتضمن فيه القصة حدثا بارزا أساسياً يبدأ وينتهي. ويمكن القول، أن هذا الشكل هو الشكل التقليدي للقصة القصيرة عامة قبل يحيي ولكن الخصوصية التي ميزت يحيي هي كيفية تعامله هذا الحدث. إن الحدث هذا – في معظم الحالات – يتخلص من مسألة الوسط التقليدي، وتأتي القصة جميعا في سعي لتقديم لمحات متعددة، ليست مترابطة ظاهريا، وتأتي النهاية إما كإيقاف الحدث عند نقطة معينة ، قد تكون حاسمة، أو مائعة، أو كنوع من الجمع لخيوط الحدث .
في هذا الشكل الأول تندرج قصص مجموعة (ثلاث شجرات تثمر برتقالا) ماعدا قصة ( ثلاث شجرات تثمر برتقالا) وقصص مجموعة (الدف والصندوق) ما عدا أربع قصص منها هي : (حج مبرور وذنب مغفور)، و(الجد حسن) و (إيقاعات بطيئة ومنتظمة أيضا) في (الجثة). ثم مجموعة (حكايات للأمير) ما عدا (حكاية أخيرة عن الطير الأليف والطير الجارح ) .
أنا وهى وزهور العالم
أما الشكل الثاني : فهو ما يمكن أن نسميه (القصة اللوحة) وفي هذا الشكل تخلو القصة من الحدث المتتابع ولكنها ترصد مجموعة من الجزيئات الحدثية الصغيرة أو الملامح المتجاورة (لا المتعاقبة)، سواء كانت هذه الملامح أشياء أو أشخاصاً أو تداعيات داخلية ولذا فان القصة في هذا الشكل – تبدو كأنها لوحة ثابتة العناصر، لا تشعر فيها بحركة هذه العناصر وتداخلها و جدلها كما يحدث في قصص الشكل الأول. وفي هذا الشكل تندرج قصص مجموعة (أنا وهي وزهورالعالم ) ماعدا قصة (الدرس) بالإضافة إلى القصص المستثناه من الشكل الأول التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة وعدد قصص هذا الشكل أربع عشرة قصة .
من الواضح طبعا، أن النهاية تلعب دوراً هاماً في قصص الشكل الأول أكثر من دورها في الشكل الثاني وإن كان التمييز بين الشكلين ليس حاداً لدرجة اختفاء الحدث من قصة اللوحة أو انعدام شكل اللوحة في بعض القصص التي بها حدث. كما أن بعض نهايات قصص اللوحة تقترب في طبيعتها من نهايات قصص الحدث. فمثلا في قصة (جبل الشاي الأخضر) سنجد النهاية قريبة من نهايات اللوحة (كما سيتضح فيما بعد)، ذلك أن القصة تنتهي بتأكيد واحد من أهم (بل أهم) العناصر السائدة في القصة أي السيطرة الرجولية في مجتمع القصة، في النهاية يصعد الأب ليحضر الليمون من أجل الابن لا من أجل الأبنة، أما الابنة فتظل معلقة من عرقوبها دون أن يهتم بها أحد.
وفي قصص الحدث سنجد نهاية واضحة إلى حد كبير وإن كان الكاتب يراوغ كثيرا في تحديدها ويمكننا أن نجد ثلاثة أنماط للنهايات في هذه القصص هي نمط المواجهة، ونمط الهروب ثم نمط النهاية المأساوية. واذا تتبعنا هذه الأنماط حسب تسلسلها الزمني، فسوف نجد أن النمط المأساوي يأتي متأخراً (في حكايات للأمير أساساً) وإن بدأ في بعض قصص (الدف والصندوق). أما النمطان الأولان فهما يردان منذ البداية، ويتضاءلان في المجموعتين الأخيرتين (أنا وهي وزهور العالم، وحكايات للأمير) .
ثلاث شجرات يحى الطاهر
في نمط المواجهة تندرج أربع قصص من (ثلاث شجرات تثمر برتقالا) هی (طاحونة الشيخ موسى ومحبوب الشمس ومعطف من الجلد وقابيل الساعة الثانية) ۰۰ في هذه القصص سنجد أن النهاية تدل على انتصار من نوع ما، قائم على المواجهة فنظير في (طاحونة الشيخ موسي) يستطيع أن يواجه معتقد أهل القرية في أن الماكينة لا يمكن أن تدور دون التضحية بطفل، بمعتقد آخر لهم في بركة الشيخ موسی. فينتصر عليهم كاشفاً عن قدرة الرأسمالي على التلاعب بمعتقدات الجماهير وتوظيفها لخدمة مصالحه. وفي (محبوب الشمس) يتغير موقف (محبوب) من كراهية لأهل القرية إلى حب لهم، فقد غابت الشمس وتأزمت الأمور. ويقرر أن يواجه غياب الشمس، بالحلم بعودتها من أجله (من أجل الرغيف الناضج ولون شعره الشمسي) ومن أجل أهل القرية الذين قرر أن يتعالى على احتقارهم له بسبب لونه. وفي (معطف من الجلد) لا تستطيع الشخصية أن تتراجع، فهي واقعة بين نقيضين : المطر ومطاردة، البوليس من ناحية وعدم قدرة صديقه صاحب البيت على ايوائه من ناحية أخرى، ومن ثم فإنه يقرر أن يواجه هذا الموقف بالمعطف من الجلد الذي (صنع خصيصاً للمطر). وفي (قابيل الساعة الثانية) حيث العمل الحكومي لا يسمح للموظف بأجازة ليتخلص من دورتة البيروقراطية القاتلة، فيقرر أن يستقيل، فيقدم ورقة بيضاء.
في هذه القصص الأربعة سنشعر أن الشخصية تواجه، ولكنها أما مواجهة مدانه من قبل الكاتب كما في قصة (الطاحونة)، ونضيف إليها أيضا قصة (حكاية أم دليلة طاهية الموت) في حكايات للأمير. وأما مواجهة بالسلب كما في القصص الثلاثة الأخيرة وهذه المواجهة السلبية هي التي تسود في قصص هذا النمط .
الدف والصندوق
في قصته العالية (مجموعة الدف والصندوق) سنجد : “لن أواجه مواجهة ولن أستسلم كبقرة .. مكر الثعالب يغلب القوى الباطش”. وفي (الشهر السادس من العام السادس) من نفس المجموعة سنجد المواجهة تأتي من خلال التعلق بأمل هو عودة الابن، تتشبث به جميع الشخصيات : الأب والأم والابنه، وهو أمل يبدو واهياً بسبب عدم الإيحاء بالقدرة على تحقيقه وفي قصة (الدرس) من مجموعة (أنا وهي وزهور العالم) تأتي النهاية قريبة من ذلك، فالكاتب يطالبنا بأسلوب مباشر أن نواجه البدائي بالخوف “لو واجه ابن زماننا البدائي لرأی البدانی – بدلا من ظهره ــ تقلصات في الوجه وجحوظا في العينين وفما فاغراً، أشياء تنطق بالخوف الصريح، هنا كان البدائي لا شك سيتراجع بهدي التجربة والغريزة الآلهية .. أما قصة (اليوم الأحد) في نفس المجموعة، فإننا نشعر أن نهايتها أجود نهايات قصص يحيى بشكل عام، فبعد رحيل القتيل والسيارات والجمع، ياتی (الضاوى) العامل بدكان الأحذية ليرش الماء ویكنس، وليقود الحياة إلى سيرتها الطبيعية “وسارت العربات بطيئة فمسرعة رتلا طويلا بكل لون .
وفي مجموعة ( حكایات للأمير) سنجد ثلاث قصص في هذا النمط، أشرنا إلى (حكاية أم دليلة) سابقا، والأخريان هما «حكاية صيف» و (قفص لكل الطيور) ۰۰ وفي أولاهما سنجد المواجهة بالخوف القرين يخاف من الثعلب (ابن الشعب) ولكنه لا يفعل شيئا إلا أن يقول ذلك لنفسه. وفي الثانية سنجد فصيح المحامي ينتصر ويكسب زجاجة الكينا ويخرج الجميع أبرياء، ولكنه انتصار بالوهم والخيال، فهو يقنع القضاة بأن المذنبين ليس فيهم لحم (بل عظام) يستحق الحكم عليهم .. فيخرج جميع المذنبين أبرياء : ساكن القلعة والفقراء والتجار، ولا أحد مذنب .
كل قصص المواجهة عند الكاتب إذن تتجه – فيما عدا قصة واحدة ــ إلى المواجهة السلبية بالخوف أو المكر أو الحيلة أو الأمل الضعيف . وكأن هذا النمط يلتقي بدرجة أو بأخرى مع النمط الثاني : النمط الهروبی هذا النمط الثاني سنجد عشر قصص ست منها في (ثلاث شجرات تثمر برتقالا) تبدأ بـ (الكابوس الأسود) حيث الغرق هو المصير الوحيد الممكن لهذا المخمور المعذب في كل جزئیات حياته، وان كان ثمة إمكانية ضئيلة للنجاة من الغرق (كان بمقدوره أن يصرخ .. كان الماء بعيداً عن فمه) ولكن من أين له ذلك وليس هناك أحد غيره، وهو لا يحسن العوم.
وفي قصتي (حصار طروادة) و (الثلاث ورقات) سيتم الهروب بطريقة موحدة هو رد الفعل العكسي . الشخصية الحزينة التي تود البكاء في حصار طروادة تنتهي بالانفجار في الضحك مع كل الأخرين الذين يضحكون عليها وعلى أشياء أخرى، وفي (الثلاث ورقات) تنتهي الشخصية التي تعذبت – طوال الطريق ــ خوف الموت بالرغبة في الموت .
وفي قصص (ليل الشتاء) و (35 البلتاجي 52 عبد الخالق ثروت، والوارث) تشترك النهاية الهروبية في طريقة أخرى هي التعالي على واقع القصة، عن طريق التعلق بأمل ماض أو ذكرى كما في الأولى أو بالوهم بالحل حيث نجد (عباس دندراوي في الثانية يتوهم أنه تخلص من مشكلاته مع العالم بوهم قتل نفسه.أو بالاغراق في الكابوس الذي يسيطر على الوارث) ليحقق في هذا الكابوس بعضا من أحلامه في حضن أمه وبالهرب من منظر الجمس الذي قتل زوجته الخائنة ..إلخ .
وسوف نجد في قصص (الدف والصندوق ): ( الدف والصندوق ــ والوشم، والمهر) تكثيفا لطريقة التعالي هذه . فالأخت، في «الدف والصندوق» تذهب في غيبوبة مرضية تحلم فيها بتحقق حلمها الجنسي مع أخيها وبالتخلص من الخوف عليه. وفي (المهر) تفشل الشخصية في تحقيق الهدف (الأخذ بالثأر) فتطلق النار في الهواء وتبكی، بدعوى أنه (يجب ألا يعود إلى هذا الصمت). وفي الوشم يهرب (جابر) من مشكلاته (عدم القدرة على تحقيق الزواج من فتاته) إلى الغجرية حيث «تنقش بیدین مدربتين على الجلد بالإبرة قلبا بداخله جمل واقف له وجه إنسي» .
ويستمر نمط التعالي هذا في قصة وحيدة من قصص (حكايات للأمير) : (هكذا تكلم القرآن). في هذه القصة نهایتان : نهاية حلم مخيبة للآمال في النعيم، وربما بسبب هذا النعيم في الحلم تخيب الآمال، (حسب قانون الكاتب في مجموعة حكايات للأمير كما سیأتی). ثم نهاية القصة التي تشير إلى الرغبة في العودة إلى الحلم الذي سبق أن رأيناه ينتهی بخيبة أمل – النهاية هنا مركبة الحلم بالعودة إلى الحلم الذي ينتهی نهاية محبطة.
***
بعد هذين النمطين قطع تسلسل قصة الحدث – لنعود إلى قصة اللوحة، حيث جاءت هذه القصص (الشكل الثاني) زمنيا بعد النمطين الماضيين. فهي تتمثل أساساً في قصص مجموعة (أنا وهي وزهور العالم)، وإن كنا نجد بدايتها في مجموعتي (ثلاث شجرات) و(الدف والصندوق) .
إن النهاية في قصة اللوحة ليست نهاية على النحو السابق، ولكنها لمسة أخيرة إذا التعبير، قد يكون لمسة مستقلة أو متداخلة من اللمسات السابقة لها .
في قصة (ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا) يظل الحوار دائرا حول عودة الأب وامتلاك الشجرات الثلاثة التي تثمر برتقالا، وينتهي الحوار بتأكيد هذه الملكية، دون حدوث جديد على الحور. وتأكيد الملكية هنا ليس فقط للشجرات، بل أيضا للـ ( هناك ) كما نفهم من تركيب الجملة الأخيرة وهناك لنا ثلاث شجرات كبيرة تثمر…) إن تركيب الجملة هنا يؤكد الملكية ويؤخر الاثمار، كما هو واضح من حالة الـ (هناك) : فلسطين ويستمر هذا النمط في قصة (حج مبرور وذنب مغفور من مجموعة الدف والصندوق) حيث تنتهي اللوحة التي يرسمها النقاش استعدادا لاستقبال الحاج العائد، بتساؤل .. أيرسم الرجل بحجم الجمل ثلاث مرات أم يصنع في يده بدل العصا سيفا قاطعا !، ومن الواضح أن هذه النهاية تؤكد أحد ملامح اللوحة (القصة) وهو السيطرة التقليدية التي يحتلها الرجل في مجتمع القصة، والتي تتبدى طوال الاستعداد لعودته، والخوف منه (حتى وهو في الخارج) .. إلخ
ونجد هذه النهاية التي تؤكد ملمحاً من ملامح القصة في قصتي إيقاعات بطيئة ومنتظمة أيضا (والجثة ) من مجموعة (الدف والصندوق ) ثم فی قصص (الشجرة، والبكاء والثالث)، (شموس)، (إلى الشاطيء الآخر) من مجموعة (أنا وهي وزهور العالم). أما بقية قصص هذه المجموعة فسوف نجد النهاية أكثر دلالة من مجرد تأكيد أحد فهي تضيف إلى أحداث القصة كما في قصة (أنا وهي وزهور العالم) سنجد هنا أنه من خلال التقابل بین جزئی اللوحة الربيع والخريف، والتقابل أيضا بين نهايتهما، يمكننا أن نصل إلى أنه رغم ثبات العالم، إلا أن الحياة ممكنة.
وفي (أنشودة الطراد والمطر) تكشف النهاية عن خيالية الفعل في القصة كلها، وتؤكد مع ذلك (أو بذلك) استمرار الخوف المتوهم من المطاردة من خلال كلمة واحدة في الجملة الأخيرة – (وكان ظلي هناك – بعيدا – يسبح في برك الوحل الصغيرة، وهی کلمة الوحل. وفي (البكاء والثالث). سنجد النهاية تجمع خيوط القصة نحو الانفجار في البكاء، وتلم هذه الخيوط في (تلاوة ماسونيه) نحو الشعور الواقعي بأنه (مهان) وفي ( .العنف القبيح) تقود القصة الشخصية نحو الرغبة فی الضرب حتى الموت .
أما قصة (حكاية أخيرة عن الطير الأليف والطير الجارح) في مجموعة (حكايات للأمير)، فأنها تقود الشخصية إلى الهروب من خلال التقابل بين عالمين، عالم إعلانات الفيلم، والعالم الواقعی، وكلاهما فيه تقابل بین ولد وبنت.وهو تقابل لا يحل، ولذا فان نتيجته الطبيعية في الهروب منه. هذه هي السمات الأساسية للنهاية في قصص اللوحة، ومن الواضح أن الأساس فيها هو عدم إنهاء القصة بموقف محدد، وفي أفضل الحالات فإن ما يحدث هو تأكيد آخر خيوط ملامح اللوحة وتثبيته، أو تأكيد التعارض عن الذي لا يحل .
***
بهذه الأنماط الثلاثة من نهايات قصص بحي الطاهر عبد الله، يكمن عالم له قدر من الاستقلال البشري في هذا العالم يعيشون حياة معقدة مليئة بالمشاكل وليست لديهم القدرة (ولا الرغبة – ربما على تجاوز هذه المشاكل .. ومن ثم فأنهم أما أن يغرقوا فيها ولا يجدون لها حلا، وتنتهي القصة – في هذه الحالة عند التسجيل والتثبت والرصد التجاوری، فيما أسميناه بقصة اللوحة، أو هم يحاولون تجاوز هذه المشاكل تجاوزا بالسلب في النمط الذي أسميناه بنمط المواجهة، أو في حالة ثالثة – هم يهربون من هذه المشكلات بالوهم أو التعالي ..إلخ . ويكاد الإنسان يتصور هذه الحلقة المغلقة التي يعيش فيها هؤلاء البشر، تلك الحلقة الجهنمية التي تحيط بهم وهم مسلوبو القدرة على مواجهتها، وما يفعلونه هو أنهم ينظرون إليها بسكون وألم، وبغيظ أحيانا، ويحاولون كسرها بطريق المكر والخداع.. ثم لا شيء .
وتبدو هذه الحلقة انعكاسا للدائرة التي عاش فيها يحيي الطاهر مع الشعب المصري في زمنه، في ظل سُلطة حملت اسم الشعب وصارت تحقق باسمه إنجازات متعددة وكبيرة في المجالات المختلفة، دون أن يشارك فيها هذا الشعب، بحرص منها، ما دامت تحقق كل شيء باسمه وهو مقهور وصامت (وخاصة بعد 65)، ولا يدري حتى إن كان ما يتحقق هو رغباته أم لا، وما إذا كان راغباً في تغيير هذه الدائرة. وأمام أديب مثل يحيي الطاهر، حاول ممارسة السياسة فقهر، يبدو مثل هذا المجتمع مجتمعا مغلقا بلا إمكانيات، ويبدو التاريخ أمامه ثابتاً لا يتحرك وإن كنا نجد الحياة لديه تتحرك حركتها العادية رغم كل شيء كما في قصة مثل (اليوم الأحد) أو في رواية (الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة).
ثم تأتي (حكايات للأمير) متجاوزة، لتقدم عالما مُختلفا إلى حد بعيد، البشر في هذا العالم الجديد، يعيشون الحياة، ويتطلعون إلى تحقيق أحلامهم، وقد يحققونها، ولكنهمم يحققونها بالطرق المزيفة، والسُلطة (في هذا العالم الجديد) تساعدهم على تحقيق هذه الطموحات بل تغذيها فيهم، كما تغذي فيهم الطرق المزيفة والخائنة.
ولأن الأمور مع هذه السُلطة، وهذا العالم، أوضح بكثير مما كانت عليه من قبل، فقد تغير موقف الفنان تغيراً بيناً .. لقد صار يشعر بأنه لا يستطيع أن يصمت أمام ما يحدث، لا يكفي تسجيله ورصده ، وأصبح قادرا – بعد أن تحررت رؤيته المقيدة – على أن يعي جدلية هذه العلاقات الجديدة إلى حد ما، وأن يمدها إلى مصيرها الطبيعي وهي الانهيار والانتحار.
غير أن هذا الموقف الجديد في هذا النمط من النهايات يأخذ طابعاً أخلاقياً قدرياً في الأغلب الأعم – ويكاد المرء يشعر بأن لدي الكاتب رغبة دفينة وقدرية في معاقبة كل من يحاول أن يحقق تطلعاته، حتى ولو كانت مشروعة، فهي تتحقق بطرق خاطئة في ظل العلاقات التقليدية الخاطئة، أو العلاقات الجديدة المزيفة الخائنة. ويمكن أن نجد بدایات هذا الشعور منذ قصص (أنا وهي وزهور العالم) بل وفي بعض قصص (الدف والصندوق) وخاصية (الفخاخ منصوبة للمحبين، والموت في ثلاث لوحات).
في القصة الأولى تتحطم الشخوص الأساسية (شمر والزغبي)، أما الشخصية الأخيرة في (تستحق الجنون لأن الشخصية الأخيرة) حسب عنوان الفقرة الأخيرة من القصة . هنا نجد أنه لا فرار من العقاب لكل هذه الشخصيات. ويبدو أن الجنون للشخصية الأخيرة نتيجة لخوفها من الشخصيات الأخرى، ومع ذلك فنحن نشعر أن النهاية نهاية ميلودرامية القصة تقليدية، وإن كان أسلوبها يخفف من تقليديتها كثيراً .
وفي القصة الثانية (الموت في ثلاث لوحات)، تموت حزينة بعد أن مات البشاري، وماتت فهيمة، ونشعر هنا أن موت فهيمة موت مجاني، لا معنى له، وخاصة أنها تحملت موت السابقين وهي تنتظر ابنها، الذي يعود (كما في الطوق والأسورة)، ونشعر أن النهاية في الرواية أكثر فنية وإنسانية من نهايتها هنا.
وإذا كان العقاب في هاتين القصتين يبدو مجانيا، وغير مبرر. فإن العقاب في (حكايات للأمير) يبدو منطقياً ومفهوما للخيانة، أو محاولة الخيانة الطبقية، رغبة في تحقيق الطموحات حتی لو كانت مشروعة. سنجد أن العقاب المأساوي يحل بشخصيات تسع من (حكايات للأمير) تبدأ بـ (من الزرقة الداكنة حكاية) وإن كان يبدو العقاب هنا يبدو أقل مأساوية من القصص الباقية .. فالكونت يرحل بعد أن أثرى واغتني وأفسد بعضا من أهل البلد. ولكن المأساوية تبدو واضحة منذ (حكاية عبد الحليم أفندي) الذي تدرج في خيانة، وفي مواجهة واحدة من بنات الطبقة التي خانها، ينهار إذ لا يستطيع أن يقرأ لها الخطاب، ويهرب إلى حضن أمه .
وفي (حكاية الريفية)، تخون الفتاة طبقتها، بالزواج من ثری فتعاقب بالموت هي وزوجها، وتقترب منها حكاية (دليلة) فهي لم تمت، وإن كان يُمكن اعتبارها قد ماتت نفسياً وانسانياً وفي (حكاية الصعيدي الذي عمده التعب فنام تحت حائط الجامع القديم) يعاقب الصعيدى لمجرد أنه فكر في خرق قاعدة المؤلف، لمجرد أنه فكر في أن يخون عمال البناء ليصبح بواباً. وفي (حكاية برأس وذيل) يبدو العقاب أكثر تعقيداً. فجاد المولى حاول أن يتعالم، وأن يكسر قوانين الطبيعة بالصنعة، فقرر أن يصيغ القطة البيضاء سوداء ليعالج بلحمها زوجته، وما يحدث هو أن القطة تهاجمه فيخاف، فيضربها تحت عيني زوجته وابنه بعنف حتى يقتلها وبهذا يبدو أنه حقق حلمه بالحصول على لحم ولكنه في الواقع فشل تماماً في تحقيق الحلم، لأن القطة الميتة لم تكن سوداء بعد، كما أنها ميتة لا مذبوحة.
في قصة (حكاية بزخارف) يعاقب عباس برده طفلا في اصلاحية الأحداث وهو عقاب يبدو بسيطا، ولكن الواقع أنه حرمه من كل أحلامه في الحصول على فتاته، التي كانت في كنف زوج صاحب سُلطة. ونفس العقاب بحل بـ (حنا) في (حكاية ميلودرامية) لأنه حاول أن يحصل على حقه من مغتصبة، ولكن بالسرقة وهو لا يعاقب (ظاهرياً) على السرقة، بل للاشتباه فيه أمام السينما، وهو عقاب يبدو ميتافيزيقياً قدرياً!
وفي حكاية (من يعلق الجرس) يبدو التاجر الناجح – في النهاية – مستسلماً لواقع الزمن الذي لا يقهر اطلاقا ويصل العقاب المأساوي أقصاه في قصة (ترنيمة للأمير)، حيث أنهما يحترقان، لا بسبب الخيانة الطبقية، أو بسبب الطريق غير المشروع لتحقيق الطموحات، بل لأنهما لم يتزوجا، وربما لأنهما خانا بلدهما، فهاجرا إلى فرنسا واليمن. أما الشخصية الثالثة فهی تحترق بالخمر. وقد يمكن القول أن العقاب الذي حل بالحبيبين، كان عقاباً لأنهما خاناه معا.
إن نهايات هذا النمط (المأساوی) يكاد يحكمها قانون قدرى، وهي أقرب إلى نهايات الحكايات الشعبية في مغزاها الأخلاقي، وفي حبكتها الساذجة إلى حد كبير. ويمكننا أن نعتبرها طريقا آخر من طرق المواجهة الشعبية التي لجأ إليها الكاتب سابقاً في القصص السابقة من خداع ومكر، ولكن الذي جعل الكاتب ينتقل إلى هذا الطريق الإنتقامي القاسی في هذه المجموعة، بتكثيف واضح، هو الأمر الذي جعلنا نرى أن رؤية الكاتب قد تغيرت تغيراً بيناً. لقد صار الأمر يتطلب إدانة .. انتقاماً
المصادر :
– يحيي الطاهر عبد الله ( ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا)، المصرية للكتاب، القاهرة، ۱۹۷۰.
۔ يحيي الطاهر عبد الله (الدف والصندوق)، وزارة الإعلام، العراق، 1974.
– يحيي الطاهر عبد الله .. أنا وهي وزهور العالم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ۱۹۷۷.
– يحيي الطاهر عبد الله – حكايات للأمير حتی ينام، دار الفكر المعاصر، القاهرة، ۱۹۷۸ .
د. سيد البحراوي
1982مجلة خطوة العدد الثالث
sadazakera.wordpress.com
ونحن نعتقد أن النهاية في القصة القصيرة من أهم أجزاء بنيتها، إن لم تكن أهمها، فالقصة القصيرة ـــ فيما نرى هي نظام إشاري يحمل رسالة عبر مجموعة من الدوال تتمثل في عناصر بناء هذه القصة في شخوص وأحداث (سواء داخلية أم خارجية)، إلخ بمعنى أن كلا من هذه الدوال هي عنصر في هذا النظام الإشاري، أي أن لها وظيفة تلعبها في اكمال هذا النظام من ناحية، وفي توصيل رسالته (أو دلالته) أيا كانت نوعية هذه الدلالة، من ناحية أخرى ويخرج مصطلح الرسالة أو مصطلح الدلالة، هنا من التقسيم المثالي للدلالة إلى دلالة مباشرة أو ايحائية : إلخ، ذلك أن كل نظام إشاري (مثل اللغة) يحمل كما من المعلومات يمكن قياسه وحسابه ، سواء كانت هذه المعلومات معلومات مما تعارفنا عليه ونستعمله، أو كانت معلومات غامضة أو محسوسة فقط ، مثل الدلالات التي تعطيها لنا لغة الشعر، ولغة القصة القصيرة أيضا، ولكنها في النهاية كلها معلومات.
والنهاية هي الموضع الذي يكتمل فيه هذا النظام الإشاری، كما تكتمل فيه الرسالة : في هذا الموضع يضع الكاتب قلمه، ويشعر أنه انتهى مما يود قوله بهذا الخصوص، ولهذا الموضع ـــ لهذا السبب أهمية خاصة لدى الدارس، الذي يود أن يدرس لماذا وضع الكاتب قلمه هنا بالتحديد وما هي دلالة ذلك. وينقل العمل (القصة) إلى القارىء . فتكون النهاية هي الموضع الأخير الذي يصل إليه القاريء وبعده يرفع عينيه عن القصة ليتأمل فيما أراد المؤلف أن يرسله إليه.
وبمعنى آخر، فإن هذا الموضع هو صاحب الإشارة الأخيرة في هذا النظام الاشاري وهو من ثم صاحب التأثير الأخير الذي تتركه القصة على قارئها، وعلى هذا التأثير يترتب كثير من موقف القاريء من القصة . وهنا أهمية أخرى للنهاية.
والنهاية بما أنها الموضع الأخير في القصة، تمثل طرفا في علاقة معقدة ومركبة. فهي في علاقة مع بقية أجزاء النص. هي في علاقة مع تطور الأحداث (إذا كان ثمة أحداث في القصة) وفي علاقة مع تطور الشخصيات أو الشخصية الواحدة. وادراك وتتبع هذه العلاقة بين النهاية والقصة أمر في غاية الأهمية، لأنها تكشف أبعاد رؤية الكاتب، وكيفية فهمه لطبيعة حركة الحدث وطبيعة تطور الشخصية، وإلى أي مصير هي سائرة هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن رؤية الكاتب لهذه العلاقة تمثل واحدة من خصوصياته الفنية، حيث أنه يتميز بها عن غيره من الكتاب المعاصرين. ومن ناحية ثالثة، فإن فهم الكاتب لطبيعة النهاية وعلاقتها ببقية القصة، تعكس رؤية الكاتب لحركة المجتمع الذي تعيش فيه شخصياته وتجری فيه قصصه، ويعيش هو نفسه فيه، بل وفهمه، أيضا الطبيعة حركة التاريخ ولقوانينه المسيرة الأساسية، وخاصة إذا كانت دراسة النهاية تشمل إنتاج كاتب مكتمل لا مجرد قصة واحدة .
لقد كان النقد التقليدي والقصة التقليدية، يهتمان بالنهاية اهتماماً بالغاً من منطلق أن هذه النهاية هي لحظة التنویر” التي تضيء العمل كله. ولكن مدخلنا لا ينظر إلى النهاية – مسبقا ــ هذه النظرة . أنه يبحث بهدف الوصول إلى طبيعة ونوعية النهاية، ومن ثم فهو يدرس الموضع الذي ترد فيه النهاية، (الفقرة الأخيرة غالباً) لكي يصنف الأنماط التي ترد في هذا الموضع النهائي . هذا المدخل، لا يحمل أفكاراً مسبقة إزاء نهايات قصص يحيي الطاهر عبد الله، لأن واحدة من المسلمات (أو التي أصبحت مسلمات) أن هذا الكاتب كاتب مُجدَّد ومتمرد على القصة القصيرة السابقة له في مصر. فقد كان طريق هذا الكاتب و(جيله) هو البحث عن شكل أو أشكال جديدة للقصة المصرية القصيرة. ومن هنا تأتي الأهمية الأخيرة لهذه الدراسة وصولا إلى طبيعة هذا البحث في شكل النهايات.
حكايات للأمير يحى الطاهر
إن دراسة إنتاج يحيي الطاهر عبد الله في القصة القصيرة، تكشف أن شكلين أساسيين تمحور حولهما انتاجه، مع تمايزات بين كل من الشكلين وبين القصص التي كتبت في إطار كل شكل على حدة .
الشكل الأول ــ والأسبق زمنيا، والأكثر غلبة في إنتاجه، هو ما يمكن أن نسميه (القصة – الحدث)، وهذا الشكل – فيما نعني – هو الشكل الذي تتضمن فيه القصة حدثا بارزا أساسياً يبدأ وينتهي. ويمكن القول، أن هذا الشكل هو الشكل التقليدي للقصة القصيرة عامة قبل يحيي ولكن الخصوصية التي ميزت يحيي هي كيفية تعامله هذا الحدث. إن الحدث هذا – في معظم الحالات – يتخلص من مسألة الوسط التقليدي، وتأتي القصة جميعا في سعي لتقديم لمحات متعددة، ليست مترابطة ظاهريا، وتأتي النهاية إما كإيقاف الحدث عند نقطة معينة ، قد تكون حاسمة، أو مائعة، أو كنوع من الجمع لخيوط الحدث .
في هذا الشكل الأول تندرج قصص مجموعة (ثلاث شجرات تثمر برتقالا) ماعدا قصة ( ثلاث شجرات تثمر برتقالا) وقصص مجموعة (الدف والصندوق) ما عدا أربع قصص منها هي : (حج مبرور وذنب مغفور)، و(الجد حسن) و (إيقاعات بطيئة ومنتظمة أيضا) في (الجثة). ثم مجموعة (حكايات للأمير) ما عدا (حكاية أخيرة عن الطير الأليف والطير الجارح ) .
أنا وهى وزهور العالم
أما الشكل الثاني : فهو ما يمكن أن نسميه (القصة اللوحة) وفي هذا الشكل تخلو القصة من الحدث المتتابع ولكنها ترصد مجموعة من الجزيئات الحدثية الصغيرة أو الملامح المتجاورة (لا المتعاقبة)، سواء كانت هذه الملامح أشياء أو أشخاصاً أو تداعيات داخلية ولذا فان القصة في هذا الشكل – تبدو كأنها لوحة ثابتة العناصر، لا تشعر فيها بحركة هذه العناصر وتداخلها و جدلها كما يحدث في قصص الشكل الأول. وفي هذا الشكل تندرج قصص مجموعة (أنا وهي وزهورالعالم ) ماعدا قصة (الدرس) بالإضافة إلى القصص المستثناه من الشكل الأول التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة وعدد قصص هذا الشكل أربع عشرة قصة .
من الواضح طبعا، أن النهاية تلعب دوراً هاماً في قصص الشكل الأول أكثر من دورها في الشكل الثاني وإن كان التمييز بين الشكلين ليس حاداً لدرجة اختفاء الحدث من قصة اللوحة أو انعدام شكل اللوحة في بعض القصص التي بها حدث. كما أن بعض نهايات قصص اللوحة تقترب في طبيعتها من نهايات قصص الحدث. فمثلا في قصة (جبل الشاي الأخضر) سنجد النهاية قريبة من نهايات اللوحة (كما سيتضح فيما بعد)، ذلك أن القصة تنتهي بتأكيد واحد من أهم (بل أهم) العناصر السائدة في القصة أي السيطرة الرجولية في مجتمع القصة، في النهاية يصعد الأب ليحضر الليمون من أجل الابن لا من أجل الأبنة، أما الابنة فتظل معلقة من عرقوبها دون أن يهتم بها أحد.
وفي قصص الحدث سنجد نهاية واضحة إلى حد كبير وإن كان الكاتب يراوغ كثيرا في تحديدها ويمكننا أن نجد ثلاثة أنماط للنهايات في هذه القصص هي نمط المواجهة، ونمط الهروب ثم نمط النهاية المأساوية. واذا تتبعنا هذه الأنماط حسب تسلسلها الزمني، فسوف نجد أن النمط المأساوي يأتي متأخراً (في حكايات للأمير أساساً) وإن بدأ في بعض قصص (الدف والصندوق). أما النمطان الأولان فهما يردان منذ البداية، ويتضاءلان في المجموعتين الأخيرتين (أنا وهي وزهور العالم، وحكايات للأمير) .
ثلاث شجرات يحى الطاهر
في نمط المواجهة تندرج أربع قصص من (ثلاث شجرات تثمر برتقالا) هی (طاحونة الشيخ موسى ومحبوب الشمس ومعطف من الجلد وقابيل الساعة الثانية) ۰۰ في هذه القصص سنجد أن النهاية تدل على انتصار من نوع ما، قائم على المواجهة فنظير في (طاحونة الشيخ موسي) يستطيع أن يواجه معتقد أهل القرية في أن الماكينة لا يمكن أن تدور دون التضحية بطفل، بمعتقد آخر لهم في بركة الشيخ موسی. فينتصر عليهم كاشفاً عن قدرة الرأسمالي على التلاعب بمعتقدات الجماهير وتوظيفها لخدمة مصالحه. وفي (محبوب الشمس) يتغير موقف (محبوب) من كراهية لأهل القرية إلى حب لهم، فقد غابت الشمس وتأزمت الأمور. ويقرر أن يواجه غياب الشمس، بالحلم بعودتها من أجله (من أجل الرغيف الناضج ولون شعره الشمسي) ومن أجل أهل القرية الذين قرر أن يتعالى على احتقارهم له بسبب لونه. وفي (معطف من الجلد) لا تستطيع الشخصية أن تتراجع، فهي واقعة بين نقيضين : المطر ومطاردة، البوليس من ناحية وعدم قدرة صديقه صاحب البيت على ايوائه من ناحية أخرى، ومن ثم فإنه يقرر أن يواجه هذا الموقف بالمعطف من الجلد الذي (صنع خصيصاً للمطر). وفي (قابيل الساعة الثانية) حيث العمل الحكومي لا يسمح للموظف بأجازة ليتخلص من دورتة البيروقراطية القاتلة، فيقرر أن يستقيل، فيقدم ورقة بيضاء.
في هذه القصص الأربعة سنشعر أن الشخصية تواجه، ولكنها أما مواجهة مدانه من قبل الكاتب كما في قصة (الطاحونة)، ونضيف إليها أيضا قصة (حكاية أم دليلة طاهية الموت) في حكايات للأمير. وأما مواجهة بالسلب كما في القصص الثلاثة الأخيرة وهذه المواجهة السلبية هي التي تسود في قصص هذا النمط .
الدف والصندوق
في قصته العالية (مجموعة الدف والصندوق) سنجد : “لن أواجه مواجهة ولن أستسلم كبقرة .. مكر الثعالب يغلب القوى الباطش”. وفي (الشهر السادس من العام السادس) من نفس المجموعة سنجد المواجهة تأتي من خلال التعلق بأمل هو عودة الابن، تتشبث به جميع الشخصيات : الأب والأم والابنه، وهو أمل يبدو واهياً بسبب عدم الإيحاء بالقدرة على تحقيقه وفي قصة (الدرس) من مجموعة (أنا وهي وزهور العالم) تأتي النهاية قريبة من ذلك، فالكاتب يطالبنا بأسلوب مباشر أن نواجه البدائي بالخوف “لو واجه ابن زماننا البدائي لرأی البدانی – بدلا من ظهره ــ تقلصات في الوجه وجحوظا في العينين وفما فاغراً، أشياء تنطق بالخوف الصريح، هنا كان البدائي لا شك سيتراجع بهدي التجربة والغريزة الآلهية .. أما قصة (اليوم الأحد) في نفس المجموعة، فإننا نشعر أن نهايتها أجود نهايات قصص يحيى بشكل عام، فبعد رحيل القتيل والسيارات والجمع، ياتی (الضاوى) العامل بدكان الأحذية ليرش الماء ویكنس، وليقود الحياة إلى سيرتها الطبيعية “وسارت العربات بطيئة فمسرعة رتلا طويلا بكل لون .
وفي مجموعة ( حكایات للأمير) سنجد ثلاث قصص في هذا النمط، أشرنا إلى (حكاية أم دليلة) سابقا، والأخريان هما «حكاية صيف» و (قفص لكل الطيور) ۰۰ وفي أولاهما سنجد المواجهة بالخوف القرين يخاف من الثعلب (ابن الشعب) ولكنه لا يفعل شيئا إلا أن يقول ذلك لنفسه. وفي الثانية سنجد فصيح المحامي ينتصر ويكسب زجاجة الكينا ويخرج الجميع أبرياء، ولكنه انتصار بالوهم والخيال، فهو يقنع القضاة بأن المذنبين ليس فيهم لحم (بل عظام) يستحق الحكم عليهم .. فيخرج جميع المذنبين أبرياء : ساكن القلعة والفقراء والتجار، ولا أحد مذنب .
كل قصص المواجهة عند الكاتب إذن تتجه – فيما عدا قصة واحدة ــ إلى المواجهة السلبية بالخوف أو المكر أو الحيلة أو الأمل الضعيف . وكأن هذا النمط يلتقي بدرجة أو بأخرى مع النمط الثاني : النمط الهروبی هذا النمط الثاني سنجد عشر قصص ست منها في (ثلاث شجرات تثمر برتقالا) تبدأ بـ (الكابوس الأسود) حيث الغرق هو المصير الوحيد الممكن لهذا المخمور المعذب في كل جزئیات حياته، وان كان ثمة إمكانية ضئيلة للنجاة من الغرق (كان بمقدوره أن يصرخ .. كان الماء بعيداً عن فمه) ولكن من أين له ذلك وليس هناك أحد غيره، وهو لا يحسن العوم.
وفي قصتي (حصار طروادة) و (الثلاث ورقات) سيتم الهروب بطريقة موحدة هو رد الفعل العكسي . الشخصية الحزينة التي تود البكاء في حصار طروادة تنتهي بالانفجار في الضحك مع كل الأخرين الذين يضحكون عليها وعلى أشياء أخرى، وفي (الثلاث ورقات) تنتهي الشخصية التي تعذبت – طوال الطريق ــ خوف الموت بالرغبة في الموت .
وفي قصص (ليل الشتاء) و (35 البلتاجي 52 عبد الخالق ثروت، والوارث) تشترك النهاية الهروبية في طريقة أخرى هي التعالي على واقع القصة، عن طريق التعلق بأمل ماض أو ذكرى كما في الأولى أو بالوهم بالحل حيث نجد (عباس دندراوي في الثانية يتوهم أنه تخلص من مشكلاته مع العالم بوهم قتل نفسه.أو بالاغراق في الكابوس الذي يسيطر على الوارث) ليحقق في هذا الكابوس بعضا من أحلامه في حضن أمه وبالهرب من منظر الجمس الذي قتل زوجته الخائنة ..إلخ .
وسوف نجد في قصص (الدف والصندوق ): ( الدف والصندوق ــ والوشم، والمهر) تكثيفا لطريقة التعالي هذه . فالأخت، في «الدف والصندوق» تذهب في غيبوبة مرضية تحلم فيها بتحقق حلمها الجنسي مع أخيها وبالتخلص من الخوف عليه. وفي (المهر) تفشل الشخصية في تحقيق الهدف (الأخذ بالثأر) فتطلق النار في الهواء وتبكی، بدعوى أنه (يجب ألا يعود إلى هذا الصمت). وفي الوشم يهرب (جابر) من مشكلاته (عدم القدرة على تحقيق الزواج من فتاته) إلى الغجرية حيث «تنقش بیدین مدربتين على الجلد بالإبرة قلبا بداخله جمل واقف له وجه إنسي» .
ويستمر نمط التعالي هذا في قصة وحيدة من قصص (حكايات للأمير) : (هكذا تكلم القرآن). في هذه القصة نهایتان : نهاية حلم مخيبة للآمال في النعيم، وربما بسبب هذا النعيم في الحلم تخيب الآمال، (حسب قانون الكاتب في مجموعة حكايات للأمير كما سیأتی). ثم نهاية القصة التي تشير إلى الرغبة في العودة إلى الحلم الذي سبق أن رأيناه ينتهی بخيبة أمل – النهاية هنا مركبة الحلم بالعودة إلى الحلم الذي ينتهی نهاية محبطة.
***
بعد هذين النمطين قطع تسلسل قصة الحدث – لنعود إلى قصة اللوحة، حيث جاءت هذه القصص (الشكل الثاني) زمنيا بعد النمطين الماضيين. فهي تتمثل أساساً في قصص مجموعة (أنا وهي وزهور العالم)، وإن كنا نجد بدايتها في مجموعتي (ثلاث شجرات) و(الدف والصندوق) .
إن النهاية في قصة اللوحة ليست نهاية على النحو السابق، ولكنها لمسة أخيرة إذا التعبير، قد يكون لمسة مستقلة أو متداخلة من اللمسات السابقة لها .
في قصة (ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا) يظل الحوار دائرا حول عودة الأب وامتلاك الشجرات الثلاثة التي تثمر برتقالا، وينتهي الحوار بتأكيد هذه الملكية، دون حدوث جديد على الحور. وتأكيد الملكية هنا ليس فقط للشجرات، بل أيضا للـ ( هناك ) كما نفهم من تركيب الجملة الأخيرة وهناك لنا ثلاث شجرات كبيرة تثمر…) إن تركيب الجملة هنا يؤكد الملكية ويؤخر الاثمار، كما هو واضح من حالة الـ (هناك) : فلسطين ويستمر هذا النمط في قصة (حج مبرور وذنب مغفور من مجموعة الدف والصندوق) حيث تنتهي اللوحة التي يرسمها النقاش استعدادا لاستقبال الحاج العائد، بتساؤل .. أيرسم الرجل بحجم الجمل ثلاث مرات أم يصنع في يده بدل العصا سيفا قاطعا !، ومن الواضح أن هذه النهاية تؤكد أحد ملامح اللوحة (القصة) وهو السيطرة التقليدية التي يحتلها الرجل في مجتمع القصة، والتي تتبدى طوال الاستعداد لعودته، والخوف منه (حتى وهو في الخارج) .. إلخ
ونجد هذه النهاية التي تؤكد ملمحاً من ملامح القصة في قصتي إيقاعات بطيئة ومنتظمة أيضا (والجثة ) من مجموعة (الدف والصندوق ) ثم فی قصص (الشجرة، والبكاء والثالث)، (شموس)، (إلى الشاطيء الآخر) من مجموعة (أنا وهي وزهور العالم). أما بقية قصص هذه المجموعة فسوف نجد النهاية أكثر دلالة من مجرد تأكيد أحد فهي تضيف إلى أحداث القصة كما في قصة (أنا وهي وزهور العالم) سنجد هنا أنه من خلال التقابل بین جزئی اللوحة الربيع والخريف، والتقابل أيضا بين نهايتهما، يمكننا أن نصل إلى أنه رغم ثبات العالم، إلا أن الحياة ممكنة.
وفي (أنشودة الطراد والمطر) تكشف النهاية عن خيالية الفعل في القصة كلها، وتؤكد مع ذلك (أو بذلك) استمرار الخوف المتوهم من المطاردة من خلال كلمة واحدة في الجملة الأخيرة – (وكان ظلي هناك – بعيدا – يسبح في برك الوحل الصغيرة، وهی کلمة الوحل. وفي (البكاء والثالث). سنجد النهاية تجمع خيوط القصة نحو الانفجار في البكاء، وتلم هذه الخيوط في (تلاوة ماسونيه) نحو الشعور الواقعي بأنه (مهان) وفي ( .العنف القبيح) تقود القصة الشخصية نحو الرغبة فی الضرب حتى الموت .
أما قصة (حكاية أخيرة عن الطير الأليف والطير الجارح) في مجموعة (حكايات للأمير)، فأنها تقود الشخصية إلى الهروب من خلال التقابل بين عالمين، عالم إعلانات الفيلم، والعالم الواقعی، وكلاهما فيه تقابل بین ولد وبنت.وهو تقابل لا يحل، ولذا فان نتيجته الطبيعية في الهروب منه. هذه هي السمات الأساسية للنهاية في قصص اللوحة، ومن الواضح أن الأساس فيها هو عدم إنهاء القصة بموقف محدد، وفي أفضل الحالات فإن ما يحدث هو تأكيد آخر خيوط ملامح اللوحة وتثبيته، أو تأكيد التعارض عن الذي لا يحل .
***
بهذه الأنماط الثلاثة من نهايات قصص بحي الطاهر عبد الله، يكمن عالم له قدر من الاستقلال البشري في هذا العالم يعيشون حياة معقدة مليئة بالمشاكل وليست لديهم القدرة (ولا الرغبة – ربما على تجاوز هذه المشاكل .. ومن ثم فأنهم أما أن يغرقوا فيها ولا يجدون لها حلا، وتنتهي القصة – في هذه الحالة عند التسجيل والتثبت والرصد التجاوری، فيما أسميناه بقصة اللوحة، أو هم يحاولون تجاوز هذه المشاكل تجاوزا بالسلب في النمط الذي أسميناه بنمط المواجهة، أو في حالة ثالثة – هم يهربون من هذه المشكلات بالوهم أو التعالي ..إلخ . ويكاد الإنسان يتصور هذه الحلقة المغلقة التي يعيش فيها هؤلاء البشر، تلك الحلقة الجهنمية التي تحيط بهم وهم مسلوبو القدرة على مواجهتها، وما يفعلونه هو أنهم ينظرون إليها بسكون وألم، وبغيظ أحيانا، ويحاولون كسرها بطريق المكر والخداع.. ثم لا شيء .
وتبدو هذه الحلقة انعكاسا للدائرة التي عاش فيها يحيي الطاهر مع الشعب المصري في زمنه، في ظل سُلطة حملت اسم الشعب وصارت تحقق باسمه إنجازات متعددة وكبيرة في المجالات المختلفة، دون أن يشارك فيها هذا الشعب، بحرص منها، ما دامت تحقق كل شيء باسمه وهو مقهور وصامت (وخاصة بعد 65)، ولا يدري حتى إن كان ما يتحقق هو رغباته أم لا، وما إذا كان راغباً في تغيير هذه الدائرة. وأمام أديب مثل يحيي الطاهر، حاول ممارسة السياسة فقهر، يبدو مثل هذا المجتمع مجتمعا مغلقا بلا إمكانيات، ويبدو التاريخ أمامه ثابتاً لا يتحرك وإن كنا نجد الحياة لديه تتحرك حركتها العادية رغم كل شيء كما في قصة مثل (اليوم الأحد) أو في رواية (الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة).
ثم تأتي (حكايات للأمير) متجاوزة، لتقدم عالما مُختلفا إلى حد بعيد، البشر في هذا العالم الجديد، يعيشون الحياة، ويتطلعون إلى تحقيق أحلامهم، وقد يحققونها، ولكنهمم يحققونها بالطرق المزيفة، والسُلطة (في هذا العالم الجديد) تساعدهم على تحقيق هذه الطموحات بل تغذيها فيهم، كما تغذي فيهم الطرق المزيفة والخائنة.
ولأن الأمور مع هذه السُلطة، وهذا العالم، أوضح بكثير مما كانت عليه من قبل، فقد تغير موقف الفنان تغيراً بيناً .. لقد صار يشعر بأنه لا يستطيع أن يصمت أمام ما يحدث، لا يكفي تسجيله ورصده ، وأصبح قادرا – بعد أن تحررت رؤيته المقيدة – على أن يعي جدلية هذه العلاقات الجديدة إلى حد ما، وأن يمدها إلى مصيرها الطبيعي وهي الانهيار والانتحار.
غير أن هذا الموقف الجديد في هذا النمط من النهايات يأخذ طابعاً أخلاقياً قدرياً في الأغلب الأعم – ويكاد المرء يشعر بأن لدي الكاتب رغبة دفينة وقدرية في معاقبة كل من يحاول أن يحقق تطلعاته، حتى ولو كانت مشروعة، فهي تتحقق بطرق خاطئة في ظل العلاقات التقليدية الخاطئة، أو العلاقات الجديدة المزيفة الخائنة. ويمكن أن نجد بدایات هذا الشعور منذ قصص (أنا وهي وزهور العالم) بل وفي بعض قصص (الدف والصندوق) وخاصية (الفخاخ منصوبة للمحبين، والموت في ثلاث لوحات).
في القصة الأولى تتحطم الشخوص الأساسية (شمر والزغبي)، أما الشخصية الأخيرة في (تستحق الجنون لأن الشخصية الأخيرة) حسب عنوان الفقرة الأخيرة من القصة . هنا نجد أنه لا فرار من العقاب لكل هذه الشخصيات. ويبدو أن الجنون للشخصية الأخيرة نتيجة لخوفها من الشخصيات الأخرى، ومع ذلك فنحن نشعر أن النهاية نهاية ميلودرامية القصة تقليدية، وإن كان أسلوبها يخفف من تقليديتها كثيراً .
وفي القصة الثانية (الموت في ثلاث لوحات)، تموت حزينة بعد أن مات البشاري، وماتت فهيمة، ونشعر هنا أن موت فهيمة موت مجاني، لا معنى له، وخاصة أنها تحملت موت السابقين وهي تنتظر ابنها، الذي يعود (كما في الطوق والأسورة)، ونشعر أن النهاية في الرواية أكثر فنية وإنسانية من نهايتها هنا.
وإذا كان العقاب في هاتين القصتين يبدو مجانيا، وغير مبرر. فإن العقاب في (حكايات للأمير) يبدو منطقياً ومفهوما للخيانة، أو محاولة الخيانة الطبقية، رغبة في تحقيق الطموحات حتی لو كانت مشروعة. سنجد أن العقاب المأساوي يحل بشخصيات تسع من (حكايات للأمير) تبدأ بـ (من الزرقة الداكنة حكاية) وإن كان يبدو العقاب هنا يبدو أقل مأساوية من القصص الباقية .. فالكونت يرحل بعد أن أثرى واغتني وأفسد بعضا من أهل البلد. ولكن المأساوية تبدو واضحة منذ (حكاية عبد الحليم أفندي) الذي تدرج في خيانة، وفي مواجهة واحدة من بنات الطبقة التي خانها، ينهار إذ لا يستطيع أن يقرأ لها الخطاب، ويهرب إلى حضن أمه .
وفي (حكاية الريفية)، تخون الفتاة طبقتها، بالزواج من ثری فتعاقب بالموت هي وزوجها، وتقترب منها حكاية (دليلة) فهي لم تمت، وإن كان يُمكن اعتبارها قد ماتت نفسياً وانسانياً وفي (حكاية الصعيدي الذي عمده التعب فنام تحت حائط الجامع القديم) يعاقب الصعيدى لمجرد أنه فكر في خرق قاعدة المؤلف، لمجرد أنه فكر في أن يخون عمال البناء ليصبح بواباً. وفي (حكاية برأس وذيل) يبدو العقاب أكثر تعقيداً. فجاد المولى حاول أن يتعالم، وأن يكسر قوانين الطبيعة بالصنعة، فقرر أن يصيغ القطة البيضاء سوداء ليعالج بلحمها زوجته، وما يحدث هو أن القطة تهاجمه فيخاف، فيضربها تحت عيني زوجته وابنه بعنف حتى يقتلها وبهذا يبدو أنه حقق حلمه بالحصول على لحم ولكنه في الواقع فشل تماماً في تحقيق الحلم، لأن القطة الميتة لم تكن سوداء بعد، كما أنها ميتة لا مذبوحة.
في قصة (حكاية بزخارف) يعاقب عباس برده طفلا في اصلاحية الأحداث وهو عقاب يبدو بسيطا، ولكن الواقع أنه حرمه من كل أحلامه في الحصول على فتاته، التي كانت في كنف زوج صاحب سُلطة. ونفس العقاب بحل بـ (حنا) في (حكاية ميلودرامية) لأنه حاول أن يحصل على حقه من مغتصبة، ولكن بالسرقة وهو لا يعاقب (ظاهرياً) على السرقة، بل للاشتباه فيه أمام السينما، وهو عقاب يبدو ميتافيزيقياً قدرياً!
وفي حكاية (من يعلق الجرس) يبدو التاجر الناجح – في النهاية – مستسلماً لواقع الزمن الذي لا يقهر اطلاقا ويصل العقاب المأساوي أقصاه في قصة (ترنيمة للأمير)، حيث أنهما يحترقان، لا بسبب الخيانة الطبقية، أو بسبب الطريق غير المشروع لتحقيق الطموحات، بل لأنهما لم يتزوجا، وربما لأنهما خانا بلدهما، فهاجرا إلى فرنسا واليمن. أما الشخصية الثالثة فهی تحترق بالخمر. وقد يمكن القول أن العقاب الذي حل بالحبيبين، كان عقاباً لأنهما خاناه معا.
إن نهايات هذا النمط (المأساوی) يكاد يحكمها قانون قدرى، وهي أقرب إلى نهايات الحكايات الشعبية في مغزاها الأخلاقي، وفي حبكتها الساذجة إلى حد كبير. ويمكننا أن نعتبرها طريقا آخر من طرق المواجهة الشعبية التي لجأ إليها الكاتب سابقاً في القصص السابقة من خداع ومكر، ولكن الذي جعل الكاتب ينتقل إلى هذا الطريق الإنتقامي القاسی في هذه المجموعة، بتكثيف واضح، هو الأمر الذي جعلنا نرى أن رؤية الكاتب قد تغيرت تغيراً بيناً. لقد صار الأمر يتطلب إدانة .. انتقاماً
المصادر :
– يحيي الطاهر عبد الله ( ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا)، المصرية للكتاب، القاهرة، ۱۹۷۰.
۔ يحيي الطاهر عبد الله (الدف والصندوق)، وزارة الإعلام، العراق، 1974.
– يحيي الطاهر عبد الله .. أنا وهي وزهور العالم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ۱۹۷۷.
– يحيي الطاهر عبد الله – حكايات للأمير حتی ينام، دار الفكر المعاصر، القاهرة، ۱۹۷۸ .
د. سيد البحراوي
1982مجلة خطوة العدد الثالث
دلالات النهايات في قصص يحيى الطاهر عبدالله
د. سيد البحراوي تعتمد بعض الاتجاهات المعاصرة في النقد الأدبي إلى تتبع جزئية أو عنصر معين في أعمال كاتب ما، تتبعاً أفقياً، بهدف الكشف عن كيفية تعامل هذا الكاتب مع هذه الجزئية، فتدرس المقدمات أو العق…