عندما بدأت حياتي الأدبية لم تكن بلادنا قد عرفت المكتبات، وكان العثور على كتاب معين من الصعوبة بمكان. وكانت بعض المجلات والصحف تتسلل وتصل إلى أيدي ناشئة الأدب، ومنها مجلة احتوت مقالاً يتناول فيه صاحبه كتاب «الأيام» لطه حسين، وتوقف عند الجزء الأول منه ليقتبس هذه الفقرة، التي تناول فيها طه حسين محاولاته الأولى كطفل ضرير ليتجاوز سياج المنزل الذي تعيش فيه الأسرة، وهذه الفقرة تصور ما بقي في ذاكرته من ذاك الوقت في ذكرى واضحة بينة لا سبيل إلى الشك؛ فإنما هي ذكرى هذا السياج الذي كان يقوم أمامه من القصب، والذي لم يكن بينه وبين الدار إلاّ خطوات قصار. هو يذكر هذا السياج كأنه رآه أمس، يذكر أن قصب هذا السياج كان أطول من قامته، فكان من العسير عليه أن يتخطاه من وراء.
ويذكر أن قصب هذا السياج كان مقترباً، كأنما كان متلاصقاً، فلم يكن يستطيع أن ينسل من ثناياه. ويذكر أن قصب هذا السياج كان يمتد من شماله إلى حيث لا يعلم له نهاية، وكان يمتد عن يمينه إلى آخر الدنيا من هذه الناحية. وكان آخر الدنيا من هذه الناحية قريباً، فقد كانت تنتهي إلى فتاة عرفها حيث تقدمت به السن، وكان لها في حياته، أو قل في خياله، تأثير عظيم. سحرني أسلوب هذه الفقرة الطويلة المنشورة في المجلة، وبدأت أبحث باهتمام عن كتاب الأيام الذي لم أعثر عليه إلاّ بعد عامين أو أكثر، عندما رجوت أحد التجار الذين يكثرون السفر إلى عدن للبحث عن نسخة من الكتاب في المكتبة الوحيدة المشهورة هناك، والتي تعمل على استيراد الكتب الحديثة من مصر، وقد تحقق لي ذلك، واقتنيت الكتاب، وتوقفت عند جزئه الأول المكتوب بلغة وجدانية بديعة. ولم تكن كذلك بقية الأجزاء التي كتبها طه حسين في وقت متأخر، ورصد فيها تطورات حياته، وما استجد بها من هموم وقضايا معرفية. ولا أظن أن هذا هو موقفه وحده من كتاب الأيام، فإنما هو موقف كثير من قرائه الذين توقفوا باهتمام وإعجاب عند الجزء الأول، وأبهرهم هذا الأسلوب المشوق، والذي لا يخلو من شعرية كامنة في ثنايا السطور.
كان لأبي العلاء المعري أثر واضح في شخصية طه حسين، فقد تأثر بمستوى حياته، كما تأثر بشعره ونثره، وصار من أشد المحبين والمعجبين بذلك الشاعر العظيم، وكتب عنه أكثر من كتاب تناول فيه مراحل من حياته مع دراسات عميقة لشعره وأفكاره التي لاتزال جيدة ومعاصرة في أثرها ومعانيها.
لقد وجد في أبي العلاء شبيهاً مؤثراً، لا سيما في بداية حياته، بما سماه المعري بالسجون الثلاثة، التي عاشها في إطار حياته، وكما حددها في: فقدانه بصره، ولزوم منزله، وكما قال: في كون روحه في الجسم الخبيث.
لقد تناول عدد من الكتاب المعاصرين حياة المعري وتوقفوا عند أفكاره وعمق نظراته إلى الحياة والناس، لكن أحداً من هؤلاء لم يتعمق في تلك الحياة ولا في تلك الأفكار، كما تعمق فيها طه حسين. ولا ننسى أن رسالته للدكتوراه الأولى، وكانت في الجامعة المصرية، كانت بعنوان (ذكرى أبي العلاء). من هنا فقد كان المعري شغل طه حسين الشاغل، يتناوله في دراسته الطويلة وفي كتاباته الصحافية، فارتبط اسمه بذلك الشاعر الجليل كما لم يرتبط باسمٍ آخر من القدماء والمعاصرين. وقد ظل حتى بعد سفره إلى باريس ودراسته في السوربون وفياً لمثاله الأعلى يفاخر به ويحاضر عنه ويدعو تلاميذه إلى الاقتراب منه والإفادة من معارفه اللغوية والفكرية، ومن أهم وأبدع الفقرات في كتاب الأيام، تلك التي تضمنت بعض الإشارات إلى بداياته في التعلم على يد سيدنا مدرس القرآن الكريم (في المكتب): وكان يرى نفسه مرة أخرى جالساً لا على الأرض ولا بين النعال، بل عن يمين سيدنا على دكة أخرى طويلة وسيدنا يقرئه: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون). وأكبر الظن أنه كان قد أتم القرآن بدءاً وأخذ يعيده. وليس غريباً أن ينسى صاحبنا كيف حفظ القرآن، فقد أتم حفظه ولمّا يتم التاسعة من عمره. وهو يذكر في وضوح وجلاء ذلك اليوم الذي ختم فيه القرآن.
ولم يخلُ الكتاب من النكتة واللقطات الظريفة والسخرية اللاذعة بالمدرس الذي كان يقرأ الشعر غلطاً، ويفسر بعض المفردات القرآنية خطأً، ومن ذلك تفسيره لمفردة أطوار التي شرحها المعلم بأنها تعني أنوار، وكذلك تحريف بيت أبي فراس الحمداني في قصيدته المعروفة (أراك عصي الدمع)، (على أن داراً لست من أهلها قفر)، فقد حرفها المعلم على النحو الآتي: (على أن دار الست من أهلها قفر)، وكان هذا الشرح يرضي عواطف الطلاب ويثير مشاعرهم. لم يترك طه حسين شاردة ولا واردة عن حياة المكتب ومعلمه الشيخ، الذي احتفل بنجاحه في ختمه القرآن الكريم، وأصبح ملقباً بالشيخ طه، وصار من حقه أن يلتحق بالأزهر الشريف مع أخويه اللذين سبقاه إلى ذلك.
وهناك في الأزهر بدأ حياة جديدة، واكتشف عوالم المشايخ، وأفاد من معارفهم القليلة قبل أن يلتحق بالجامعة المصرية في أول ظهورها، ويدرس في رحابها اللغة الفرنسية التي أهّلته للسفر إلى باريس والدراسة في سوربونها الشهير، والحصول على درجة الدكتوراه والعودة إلى مصر للعمل أستاذاً وعميداً لكلية الآداب، التي لم يبق فيها سوى فترة قصيرة ثم تآمر عليه المتخلفون وأبعدوه عن الجامعة، وفي هذه الظروف الملائمة، كتب الجزء الأول من الأيام، ليلفت اهتمام قرائه إلى ما يتمتع به من صلابة وقدرة في مواجهة الأحداث، والخروج منها سليماً معافى.
ولعل من أجمل وأبدع ما تضمنه الجزء الأول من كتاب الأيام، ذلك الحديث الحزين والممتع الذي توجه به طه حسين إلى ابنته، يشرح لها فيه أشكالاً من معاناته وعذابه في دراسته الأولى. وفي هذا الجزء وهو الأخير في الكتاب، يتحدث إلى ابنته عن دور أمها في مساندته ومساعدته على تحقيق أحلامه، فقد سماها بالملاك، ومما جاء في حديثه عنها: (لقد حنا يا ابنتي هذا الملاك على أبيك فبدله من البؤس نعيماً، ومن اليأس أملاً، ومن الفقر غنى، ومن الشقاء سعادة وصفواً).
* نُشر في مجلة الشارقة الثقافية
ويذكر أن قصب هذا السياج كان مقترباً، كأنما كان متلاصقاً، فلم يكن يستطيع أن ينسل من ثناياه. ويذكر أن قصب هذا السياج كان يمتد من شماله إلى حيث لا يعلم له نهاية، وكان يمتد عن يمينه إلى آخر الدنيا من هذه الناحية. وكان آخر الدنيا من هذه الناحية قريباً، فقد كانت تنتهي إلى فتاة عرفها حيث تقدمت به السن، وكان لها في حياته، أو قل في خياله، تأثير عظيم. سحرني أسلوب هذه الفقرة الطويلة المنشورة في المجلة، وبدأت أبحث باهتمام عن كتاب الأيام الذي لم أعثر عليه إلاّ بعد عامين أو أكثر، عندما رجوت أحد التجار الذين يكثرون السفر إلى عدن للبحث عن نسخة من الكتاب في المكتبة الوحيدة المشهورة هناك، والتي تعمل على استيراد الكتب الحديثة من مصر، وقد تحقق لي ذلك، واقتنيت الكتاب، وتوقفت عند جزئه الأول المكتوب بلغة وجدانية بديعة. ولم تكن كذلك بقية الأجزاء التي كتبها طه حسين في وقت متأخر، ورصد فيها تطورات حياته، وما استجد بها من هموم وقضايا معرفية. ولا أظن أن هذا هو موقفه وحده من كتاب الأيام، فإنما هو موقف كثير من قرائه الذين توقفوا باهتمام وإعجاب عند الجزء الأول، وأبهرهم هذا الأسلوب المشوق، والذي لا يخلو من شعرية كامنة في ثنايا السطور.
كان لأبي العلاء المعري أثر واضح في شخصية طه حسين، فقد تأثر بمستوى حياته، كما تأثر بشعره ونثره، وصار من أشد المحبين والمعجبين بذلك الشاعر العظيم، وكتب عنه أكثر من كتاب تناول فيه مراحل من حياته مع دراسات عميقة لشعره وأفكاره التي لاتزال جيدة ومعاصرة في أثرها ومعانيها.
لقد وجد في أبي العلاء شبيهاً مؤثراً، لا سيما في بداية حياته، بما سماه المعري بالسجون الثلاثة، التي عاشها في إطار حياته، وكما حددها في: فقدانه بصره، ولزوم منزله، وكما قال: في كون روحه في الجسم الخبيث.
لقد تناول عدد من الكتاب المعاصرين حياة المعري وتوقفوا عند أفكاره وعمق نظراته إلى الحياة والناس، لكن أحداً من هؤلاء لم يتعمق في تلك الحياة ولا في تلك الأفكار، كما تعمق فيها طه حسين. ولا ننسى أن رسالته للدكتوراه الأولى، وكانت في الجامعة المصرية، كانت بعنوان (ذكرى أبي العلاء). من هنا فقد كان المعري شغل طه حسين الشاغل، يتناوله في دراسته الطويلة وفي كتاباته الصحافية، فارتبط اسمه بذلك الشاعر الجليل كما لم يرتبط باسمٍ آخر من القدماء والمعاصرين. وقد ظل حتى بعد سفره إلى باريس ودراسته في السوربون وفياً لمثاله الأعلى يفاخر به ويحاضر عنه ويدعو تلاميذه إلى الاقتراب منه والإفادة من معارفه اللغوية والفكرية، ومن أهم وأبدع الفقرات في كتاب الأيام، تلك التي تضمنت بعض الإشارات إلى بداياته في التعلم على يد سيدنا مدرس القرآن الكريم (في المكتب): وكان يرى نفسه مرة أخرى جالساً لا على الأرض ولا بين النعال، بل عن يمين سيدنا على دكة أخرى طويلة وسيدنا يقرئه: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون). وأكبر الظن أنه كان قد أتم القرآن بدءاً وأخذ يعيده. وليس غريباً أن ينسى صاحبنا كيف حفظ القرآن، فقد أتم حفظه ولمّا يتم التاسعة من عمره. وهو يذكر في وضوح وجلاء ذلك اليوم الذي ختم فيه القرآن.
ولم يخلُ الكتاب من النكتة واللقطات الظريفة والسخرية اللاذعة بالمدرس الذي كان يقرأ الشعر غلطاً، ويفسر بعض المفردات القرآنية خطأً، ومن ذلك تفسيره لمفردة أطوار التي شرحها المعلم بأنها تعني أنوار، وكذلك تحريف بيت أبي فراس الحمداني في قصيدته المعروفة (أراك عصي الدمع)، (على أن داراً لست من أهلها قفر)، فقد حرفها المعلم على النحو الآتي: (على أن دار الست من أهلها قفر)، وكان هذا الشرح يرضي عواطف الطلاب ويثير مشاعرهم. لم يترك طه حسين شاردة ولا واردة عن حياة المكتب ومعلمه الشيخ، الذي احتفل بنجاحه في ختمه القرآن الكريم، وأصبح ملقباً بالشيخ طه، وصار من حقه أن يلتحق بالأزهر الشريف مع أخويه اللذين سبقاه إلى ذلك.
وهناك في الأزهر بدأ حياة جديدة، واكتشف عوالم المشايخ، وأفاد من معارفهم القليلة قبل أن يلتحق بالجامعة المصرية في أول ظهورها، ويدرس في رحابها اللغة الفرنسية التي أهّلته للسفر إلى باريس والدراسة في سوربونها الشهير، والحصول على درجة الدكتوراه والعودة إلى مصر للعمل أستاذاً وعميداً لكلية الآداب، التي لم يبق فيها سوى فترة قصيرة ثم تآمر عليه المتخلفون وأبعدوه عن الجامعة، وفي هذه الظروف الملائمة، كتب الجزء الأول من الأيام، ليلفت اهتمام قرائه إلى ما يتمتع به من صلابة وقدرة في مواجهة الأحداث، والخروج منها سليماً معافى.
ولعل من أجمل وأبدع ما تضمنه الجزء الأول من كتاب الأيام، ذلك الحديث الحزين والممتع الذي توجه به طه حسين إلى ابنته، يشرح لها فيه أشكالاً من معاناته وعذابه في دراسته الأولى. وفي هذا الجزء وهو الأخير في الكتاب، يتحدث إلى ابنته عن دور أمها في مساندته ومساعدته على تحقيق أحلامه، فقد سماها بالملاك، ومما جاء في حديثه عنها: (لقد حنا يا ابنتي هذا الملاك على أبيك فبدله من البؤس نعيماً، ومن اليأس أملاً، ومن الفقر غنى، ومن الشقاء سعادة وصفواً).
* نُشر في مجلة الشارقة الثقافية