كان الوقت صباحاً في قمة الجبل الذي نقطنه. وبما أن الشمس لم يكن قد اشتدّ ساعدها بعد لطرد فلول البرد، كنتَ تراني أُحكم عليّ غطائي حتى وأنا بجوار أمي قرب الموقد، هناك حيث بدأتْ هي في إعداد طعام الإفطار. كان الموقد يقع إلى يسار الداخل قرب زير الماء ببطنه الكبيرة وقريباً من الباب. وهو عبارة عن حفرة صغيرة وُضعت حولها ثلاثة أحجار متباعدة (أثافٍ) رُفع عليها قدرُ الطهي. وكانت النار قوية جداً بحث أن الدفء الذي كان ينبعث منها أوشك أن يعيدني إلى النوم كَرّةً أخرى. كانت أختي التي تصغرني بثمانية أعوام بين النوم والصحو في حجْر أمي. وكلّما تحرك جذع أمي الجالسة على الأرض وهي تدفع بالمزيد من الحطب في الموقد أفتح عيني لأرى إن كانت قد انتهت من إعداد الطعام!
كان البخار قد بدأ بالتصاعد من الإناء الذي أوشك ماؤه على الغليان. وفي لحظةٍ شعرت بجسد أمي ينخضّ ويهتزّ في مكانه كمن رُمي بالرصاص! كانت تحاول النهوض، ولكن يبدو أن المفاجأة التي واجهتها قوية بحيث قيّدتها لثوانٍ في مكانها. في لحظاتٍ رميتُ عني الغطاء ووقفت على قدمي دون أن أعرف ما الذي يجري. وأخيراً رأيتُ مصدر الفزع الذي كاد يقتل أمي. كان جرذاً صغيراً يهرب من ثعبان سامّ يندفع خلفه ليجعل منه وجبته الصباحية. لقد مرّ الجرذ تحت أقدامنا التي جعلتنا لحظتها نشبه من يلعبون «قفز الحبل» لكثرة ما هبطتْ وارتفعت.. لقد فهم الجرذ بطريقةٍ ما أنه لن ينجو من ناب خصمه إلا بالدوران هنا حول الموقد وحول هذه الأقدام التي ترقص من الخوف! هنا أصبح دور أمي مثل دور «المايسترو» أو أكثر تعقيداً. كان عليها متابعتة هذين المخلوقين اللذين لا تحبهما مطلقاً.
فهي مثلها مثل كثير من نساء الأرض، ترعبها إطلالة الجرذان المفاجئة. ولطالما سمعتُ صرخاتها الكثيرة كلما انسلّ جرذٌ من المسارب التي أحدثته الجرذان في سور القصب الذي يحيط بمنزلنا. أما الثعابين وخاصة إذا كانت سامة، فلا أحد يحبّ أن تلتفّ على ساقه العارية، حيث تحب الكثير من الثعابين اللدغ وهي «مرتاحة»، أي في وضعية الالتفاف حول ساق الضحية.
كان على أمي هنا أن تحكم تثبيت طفلتها إلى صدرها وأن ترشدني متى أقفز من هنا، وأين أضع بالضبط قدميّ. كما كان عليها أن تحمي نفسها هي أيضاً. وأخيراً أن تمنع بكل السبل هذين المخلوقين اللذين لا تتمنى رؤيتهما من اقتحام نار الموقد والموت احتراقاً. كانت تمسك بيدها عوداً طويلاً تناولته من كومة حطب الطهي الموضوعة بالجوار وتُبعد بها كل مرة أحد المخلوقين عن النار. كان الثعبان أكثر من أوشك على اقتحام الموقد، ونجحت أمي في حرف مساره، كما أنقذت ذلك الجرذ السريع الذي خرج الآن عبر الباب وأصبح في الفناء الخارجي، مرتين من الجحيم الذي كان ينتظره.
شاهد الثعبان خروج فريسته من الباب وكاد الياسُ يصيب أمي بعد أن فشلت في حَرْفِه عن مساره الذاهب إلى النار. ولكنها في اللحظة الأخيرة قررت قلبَ ماء الإناء فوق نار الموقد بسرعة، ثم كسر زير الماء الفخاري الذي يشمخ ببطنه الكبيرة، فتدفق سيل الماء على النار التي انطفأت فوراً. وتمكنت أمي من إبعاد الثعبان بواسطة العود وهي تحاول الرؤية بين الدخان والبخار وسحابة الرماد، فغادر بجسده الطويل والثخين ورأسه الدقيق المخيف عبر الباب إلى الخارج مقتفياً أثر الجرذ الذي أصبح الآن في مأمن على ما يبدو.
* قاص وروائي من أريتريا.
* المصدر / الرأي الأردنية بتاريخ اليوم 7 يناير2017
كان البخار قد بدأ بالتصاعد من الإناء الذي أوشك ماؤه على الغليان. وفي لحظةٍ شعرت بجسد أمي ينخضّ ويهتزّ في مكانه كمن رُمي بالرصاص! كانت تحاول النهوض، ولكن يبدو أن المفاجأة التي واجهتها قوية بحيث قيّدتها لثوانٍ في مكانها. في لحظاتٍ رميتُ عني الغطاء ووقفت على قدمي دون أن أعرف ما الذي يجري. وأخيراً رأيتُ مصدر الفزع الذي كاد يقتل أمي. كان جرذاً صغيراً يهرب من ثعبان سامّ يندفع خلفه ليجعل منه وجبته الصباحية. لقد مرّ الجرذ تحت أقدامنا التي جعلتنا لحظتها نشبه من يلعبون «قفز الحبل» لكثرة ما هبطتْ وارتفعت.. لقد فهم الجرذ بطريقةٍ ما أنه لن ينجو من ناب خصمه إلا بالدوران هنا حول الموقد وحول هذه الأقدام التي ترقص من الخوف! هنا أصبح دور أمي مثل دور «المايسترو» أو أكثر تعقيداً. كان عليها متابعتة هذين المخلوقين اللذين لا تحبهما مطلقاً.
فهي مثلها مثل كثير من نساء الأرض، ترعبها إطلالة الجرذان المفاجئة. ولطالما سمعتُ صرخاتها الكثيرة كلما انسلّ جرذٌ من المسارب التي أحدثته الجرذان في سور القصب الذي يحيط بمنزلنا. أما الثعابين وخاصة إذا كانت سامة، فلا أحد يحبّ أن تلتفّ على ساقه العارية، حيث تحب الكثير من الثعابين اللدغ وهي «مرتاحة»، أي في وضعية الالتفاف حول ساق الضحية.
كان على أمي هنا أن تحكم تثبيت طفلتها إلى صدرها وأن ترشدني متى أقفز من هنا، وأين أضع بالضبط قدميّ. كما كان عليها أن تحمي نفسها هي أيضاً. وأخيراً أن تمنع بكل السبل هذين المخلوقين اللذين لا تتمنى رؤيتهما من اقتحام نار الموقد والموت احتراقاً. كانت تمسك بيدها عوداً طويلاً تناولته من كومة حطب الطهي الموضوعة بالجوار وتُبعد بها كل مرة أحد المخلوقين عن النار. كان الثعبان أكثر من أوشك على اقتحام الموقد، ونجحت أمي في حرف مساره، كما أنقذت ذلك الجرذ السريع الذي خرج الآن عبر الباب وأصبح في الفناء الخارجي، مرتين من الجحيم الذي كان ينتظره.
شاهد الثعبان خروج فريسته من الباب وكاد الياسُ يصيب أمي بعد أن فشلت في حَرْفِه عن مساره الذاهب إلى النار. ولكنها في اللحظة الأخيرة قررت قلبَ ماء الإناء فوق نار الموقد بسرعة، ثم كسر زير الماء الفخاري الذي يشمخ ببطنه الكبيرة، فتدفق سيل الماء على النار التي انطفأت فوراً. وتمكنت أمي من إبعاد الثعبان بواسطة العود وهي تحاول الرؤية بين الدخان والبخار وسحابة الرماد، فغادر بجسده الطويل والثخين ورأسه الدقيق المخيف عبر الباب إلى الخارج مقتفياً أثر الجرذ الذي أصبح الآن في مأمن على ما يبدو.
* قاص وروائي من أريتريا.
* المصدر / الرأي الأردنية بتاريخ اليوم 7 يناير2017