خصّ المفكّر الفرنسي “دنيس ديدرو” العميان بكتيّب نشره في عام 1749، وكان في السادسة والثلاثين من عمره، بعنوان “رسالة عن العميان في خدمة المبصرين” وظهر بصورة خطاب موجّه إلى السيدة “دي بويسييه”،
هي إحدى خليلاته، فنهج فيه نهج التأليف بالرسائل كما اعتمد بذلك في كتابه “رسالة عن الصمّ والبُكم في خدمة السامعين والناطقين”، وروايته “الراهبة”، وهو أسلوب شاع في الكتابة خلال القرن الثامن عشر، لجأ إليه كثير من الكتّاب، وفيه اختار أن يصف حال الأعمى في سلوكه وعاداته وخبراته ليبيّن أثر الحواس في كشف الحقائق. والكتاب وصف استطرادي لزيارة افتراضية قام بها “ديدرو” لفلاح ضرير أثار عجبه بدقته، وتنظيم شؤون حياته، واستخدام حاسة اللمس بدل حاسة البصر التي فقدها بعد سنة من ولادته، فكان يتولّى ترتيب بيته على خير ما ينبغي أن يكون الترتيب، وتطوّرت خبراته عن نفسه وعن العالم بدرجة تفوق ما لدى المبصرين؛ لأنه أقام علاقته مع الأشياء بواسطة اللمس وليس البصر، فأجرى تبادلاً في وظائف حواسه بتنمية ما لديه منها على حساب ما فقد، وإلى ذلك انتهى ذلك الفلاح الضرير إلى مفاهيم خاصة عن الجمال، والإيمان، والمُلكية، والحشمة، اعتماداً على عمل الحواس، وليس خبرات العقل.
لم يكن غريباً أن يهتم “ديدرو” بموضوع العميان، فقد خصّ الصمّ والبكم، بكتاب آخر، فيما بعد، ذلك أنه مفكّر متنوع الاهتمامات، ظهر في الحقبة التي بدأت تلوح فيها معالم نقد الميتافزيقيا في الثقافة الغربية، وإحلال الخبرات الحسية في شؤون الحياة محلّ الفرضيات العقلية التي رسختها الفلسفة المثالية، وقد مزج “ديدرو” بين القضايا الفكرية العامة، والملاحظات الشخصية العملية، وهجّن موقفا دنيويا يتيح له معالجة الظواهر الاجتماعية والثقافية من منظور يتجلّى فيه سياق عصره، ورأيه، وخبراته، وهو يربأ بجعل مشاهداته الحسية قاعدة نهائية لأفكاره، ولا يسلّم بالفرضيات العقلية الموروثة الراسخة منذ الحقبة اليونانية، إنما يهذّب من الأمرين خبرة عملية تفيد المجتمع الذي يعيش فيه، فنزعته الفكرية ذات بعد تاريخي خلخلت ركائز الميتافيزيقا الغربية بأن قيّدتها بموضوعات خاصة بها، وأفرغتها من جموحها الديني، حينما جعلت من الاستنارة العقلية طريقة لفهم العالم، والمشاركة في تغييره.
نظر “ديدرو” إلى الطبيعة باعتبارها “قوة نصف عمياء ونصف ذكية، تؤثر في المادة وتبعث فيها الحياة، وتهيئ للحياة مليون شكل تجريبي، وتدخل التحسين على هذا العضو، وتنبذ ذاك العضو، تحيي وتميت بشكل مبدع. وفي هذا المعمل الكوني ظهرت واختفت آلاف الأنواع” لأنها كما قال علّل “ديورانت” ذلك “عمياء تدمّر الفلاسفة والحمقى على حد سواء”. فلا غرابة أن تحضر مفاهيم العمى والإبصار في سياق يقصد به الجهل والمعرفة، وهي مفاهيم نسبية، فكل جهل يمكن أن يصبح معرفة، وكل معرفة يمكن أن تؤول إلى جهل، إذا ما أساء المرء استخدام خبراته الحسية، وملكاته العقلية، وقد غمز “ديدرو” على أولئك القائلين بأن بصرهم قادهم إلى لمس جوهر الظواهر الدينية والفكرية والاجتماعية، فكتب عن العميان لكن رسالته موجّهة إلى المبصرين، الذين خدعوا بالدعاوى العقلية التي أعمت بصيرتهم.
نُشرت رسالة العميان غفلا عن اسم مؤلفها، ومع ذلك دفع “ديدرو” ثمن موقفه فيها؛ فأودع السجن لخوضه جدلا حسيا حول عدم إدراك الأعمى لله، وتعرّض للمهانة في المعتقل، وأُجبر لأن يعترف بأنه تمادى في الجراءة على الأخلاق الدينية، فأمضى تعهّدا بالأ ينشر، بعد الآن، شيئا ما “من شأنه أن يكون مخالفا للدين والأخلاق”، فأطلق سراحه. وأول ما قام به هو نقض العهد الذي أمضاه مجبرا بعدم المساس بالأخلاق الدينية، لكنه راح يضمر أفكاره، ويخفيها، ليكون في “مأمن من السجن ومن النفي».
جاء اعتقاله على خلفية من موقف السلطات الفرنسية من المفكّرين الجدد المنادين بالحسّية، والذين ناصبوا الكنيسة العداء، فقد بدأت ترتسم ملامح الانقسام بين الديني والدنيوي في فرنسا خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر. ولهذا فحينما نشر كتابه الآخر «رسالة عن الصمّ والبكم في خدمة السامعين والناطقين» وارب في التصريح بآرائه، ولم يجاهر بها كما حصل في كتابه عن العميان، فلم يلفت انتباه أحد من خصومه، ولكنه كما سعى إلى جعل الخبرات الحسية وسيلة للمعرفة في الرسالة الأولى، جعل العلامات وسيلة لتعليم اللغة في الرسالة الثانية، فألقى «الضوء على منشأ اللغة عن طريق الإشارات والإيماءات»، فثمة نقض للنظرية اللاهوتية عن أصل اللغة، إنما هي تجميع رمزي للعلامات التي تواطأ على دلالتها المستخدمون. على أن «ديدرو»، فضلا عما كان يثيره من شكوك في «الأخلاقيات الدينية»، وهو ما كان يغضب الكنيسة، وعموم المجتمع الديني، فإن الطبقة المهيمنة في المجتمع الفرنسي آنذاك كانت تتوجس شرا من المفكرين الجدد الذين انتظموا حول «الموسوعة» واصطلح عليهم لاحقا ب»الموسوعيين» وعلى رأسهم «ديدرو»، محرّر الموسوعة.
لم يفِ “ديدرو” بما وعد به صاغرا، وهو معتقل في قلعة “فنسان” قرب باريس، إذ انخرط، ما أن غادرها، في الجدل نصيرا للأفكار الجديدة القائلة بتنظيم الطبيعة، ورد ذلك في كتابه “الأفكار الفلسفية” بعد أن مهّد لها بكتابه عن العميان، وكما خلص “جان فارلوت” في تقديمه للكتاب، فإن ما جاء فيه “يكفي ليجعلنا نرى ديدرو باحثا متقصّيا شديد الدقّة، وعالما نفسانيا نافذ البصر، ومجدّدا عبقريا. لقد أدرك بسرعة خاطفة كيف تستطيع الحواس أن يحلّ بعضها محلّ البعض الاخر، وكيف تتطور بفعل التركيز والتدريب”. فلم يقتصر على وصف حال الأعمى، وقدرته الادراكية، إنما أوضح “فكرته حول مسألة المعرفة”. وقد مثلت رسالة العميان القول الفصل في كشف “نسبية الحواس والأعضاء” وفيها ألحّ “ديدرو” على “ضرورة مراقبة بعضها من قبل البعض الآخر” وهي فكرة واصل العمل عليها لاحقا ليثبت أن معرفة الإنسان لا تنجم عن أحاسيس سلبية، وإنما عن نشاط عملي، وعن “طريق الجهد لمعرفة العالم، وعبر التبادل الذي يقوم به الناس حول انطباعاتهم عن طريق اللغة، تبلغ المعرفة صعيدها المتقدّم، وتصبح واقعا اجتماعيا».
أبدى «ديورانت» إعجابه برسالة العميان، وقرّظها في كتابه الكبير «قصة الحضارة» بقوله «إن رسالة العميان من أعظم وأروع ما كتب في عصر الاستنارة في فرنسا. إنه كتاب جميل ساحر من حيث السرد والقصص، كما أنه يتميز بدقة الملاحظة والتبصّر البارع العطوف بوصفه بحثا في علم النفس، كما يتميز بخيال مثير بوصفه بحثا في الفلسفة».
هي إحدى خليلاته، فنهج فيه نهج التأليف بالرسائل كما اعتمد بذلك في كتابه “رسالة عن الصمّ والبُكم في خدمة السامعين والناطقين”، وروايته “الراهبة”، وهو أسلوب شاع في الكتابة خلال القرن الثامن عشر، لجأ إليه كثير من الكتّاب، وفيه اختار أن يصف حال الأعمى في سلوكه وعاداته وخبراته ليبيّن أثر الحواس في كشف الحقائق. والكتاب وصف استطرادي لزيارة افتراضية قام بها “ديدرو” لفلاح ضرير أثار عجبه بدقته، وتنظيم شؤون حياته، واستخدام حاسة اللمس بدل حاسة البصر التي فقدها بعد سنة من ولادته، فكان يتولّى ترتيب بيته على خير ما ينبغي أن يكون الترتيب، وتطوّرت خبراته عن نفسه وعن العالم بدرجة تفوق ما لدى المبصرين؛ لأنه أقام علاقته مع الأشياء بواسطة اللمس وليس البصر، فأجرى تبادلاً في وظائف حواسه بتنمية ما لديه منها على حساب ما فقد، وإلى ذلك انتهى ذلك الفلاح الضرير إلى مفاهيم خاصة عن الجمال، والإيمان، والمُلكية، والحشمة، اعتماداً على عمل الحواس، وليس خبرات العقل.
لم يكن غريباً أن يهتم “ديدرو” بموضوع العميان، فقد خصّ الصمّ والبكم، بكتاب آخر، فيما بعد، ذلك أنه مفكّر متنوع الاهتمامات، ظهر في الحقبة التي بدأت تلوح فيها معالم نقد الميتافزيقيا في الثقافة الغربية، وإحلال الخبرات الحسية في شؤون الحياة محلّ الفرضيات العقلية التي رسختها الفلسفة المثالية، وقد مزج “ديدرو” بين القضايا الفكرية العامة، والملاحظات الشخصية العملية، وهجّن موقفا دنيويا يتيح له معالجة الظواهر الاجتماعية والثقافية من منظور يتجلّى فيه سياق عصره، ورأيه، وخبراته، وهو يربأ بجعل مشاهداته الحسية قاعدة نهائية لأفكاره، ولا يسلّم بالفرضيات العقلية الموروثة الراسخة منذ الحقبة اليونانية، إنما يهذّب من الأمرين خبرة عملية تفيد المجتمع الذي يعيش فيه، فنزعته الفكرية ذات بعد تاريخي خلخلت ركائز الميتافيزيقا الغربية بأن قيّدتها بموضوعات خاصة بها، وأفرغتها من جموحها الديني، حينما جعلت من الاستنارة العقلية طريقة لفهم العالم، والمشاركة في تغييره.
نظر “ديدرو” إلى الطبيعة باعتبارها “قوة نصف عمياء ونصف ذكية، تؤثر في المادة وتبعث فيها الحياة، وتهيئ للحياة مليون شكل تجريبي، وتدخل التحسين على هذا العضو، وتنبذ ذاك العضو، تحيي وتميت بشكل مبدع. وفي هذا المعمل الكوني ظهرت واختفت آلاف الأنواع” لأنها كما قال علّل “ديورانت” ذلك “عمياء تدمّر الفلاسفة والحمقى على حد سواء”. فلا غرابة أن تحضر مفاهيم العمى والإبصار في سياق يقصد به الجهل والمعرفة، وهي مفاهيم نسبية، فكل جهل يمكن أن يصبح معرفة، وكل معرفة يمكن أن تؤول إلى جهل، إذا ما أساء المرء استخدام خبراته الحسية، وملكاته العقلية، وقد غمز “ديدرو” على أولئك القائلين بأن بصرهم قادهم إلى لمس جوهر الظواهر الدينية والفكرية والاجتماعية، فكتب عن العميان لكن رسالته موجّهة إلى المبصرين، الذين خدعوا بالدعاوى العقلية التي أعمت بصيرتهم.
نُشرت رسالة العميان غفلا عن اسم مؤلفها، ومع ذلك دفع “ديدرو” ثمن موقفه فيها؛ فأودع السجن لخوضه جدلا حسيا حول عدم إدراك الأعمى لله، وتعرّض للمهانة في المعتقل، وأُجبر لأن يعترف بأنه تمادى في الجراءة على الأخلاق الدينية، فأمضى تعهّدا بالأ ينشر، بعد الآن، شيئا ما “من شأنه أن يكون مخالفا للدين والأخلاق”، فأطلق سراحه. وأول ما قام به هو نقض العهد الذي أمضاه مجبرا بعدم المساس بالأخلاق الدينية، لكنه راح يضمر أفكاره، ويخفيها، ليكون في “مأمن من السجن ومن النفي».
جاء اعتقاله على خلفية من موقف السلطات الفرنسية من المفكّرين الجدد المنادين بالحسّية، والذين ناصبوا الكنيسة العداء، فقد بدأت ترتسم ملامح الانقسام بين الديني والدنيوي في فرنسا خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر. ولهذا فحينما نشر كتابه الآخر «رسالة عن الصمّ والبكم في خدمة السامعين والناطقين» وارب في التصريح بآرائه، ولم يجاهر بها كما حصل في كتابه عن العميان، فلم يلفت انتباه أحد من خصومه، ولكنه كما سعى إلى جعل الخبرات الحسية وسيلة للمعرفة في الرسالة الأولى، جعل العلامات وسيلة لتعليم اللغة في الرسالة الثانية، فألقى «الضوء على منشأ اللغة عن طريق الإشارات والإيماءات»، فثمة نقض للنظرية اللاهوتية عن أصل اللغة، إنما هي تجميع رمزي للعلامات التي تواطأ على دلالتها المستخدمون. على أن «ديدرو»، فضلا عما كان يثيره من شكوك في «الأخلاقيات الدينية»، وهو ما كان يغضب الكنيسة، وعموم المجتمع الديني، فإن الطبقة المهيمنة في المجتمع الفرنسي آنذاك كانت تتوجس شرا من المفكرين الجدد الذين انتظموا حول «الموسوعة» واصطلح عليهم لاحقا ب»الموسوعيين» وعلى رأسهم «ديدرو»، محرّر الموسوعة.
لم يفِ “ديدرو” بما وعد به صاغرا، وهو معتقل في قلعة “فنسان” قرب باريس، إذ انخرط، ما أن غادرها، في الجدل نصيرا للأفكار الجديدة القائلة بتنظيم الطبيعة، ورد ذلك في كتابه “الأفكار الفلسفية” بعد أن مهّد لها بكتابه عن العميان، وكما خلص “جان فارلوت” في تقديمه للكتاب، فإن ما جاء فيه “يكفي ليجعلنا نرى ديدرو باحثا متقصّيا شديد الدقّة، وعالما نفسانيا نافذ البصر، ومجدّدا عبقريا. لقد أدرك بسرعة خاطفة كيف تستطيع الحواس أن يحلّ بعضها محلّ البعض الاخر، وكيف تتطور بفعل التركيز والتدريب”. فلم يقتصر على وصف حال الأعمى، وقدرته الادراكية، إنما أوضح “فكرته حول مسألة المعرفة”. وقد مثلت رسالة العميان القول الفصل في كشف “نسبية الحواس والأعضاء” وفيها ألحّ “ديدرو” على “ضرورة مراقبة بعضها من قبل البعض الآخر” وهي فكرة واصل العمل عليها لاحقا ليثبت أن معرفة الإنسان لا تنجم عن أحاسيس سلبية، وإنما عن نشاط عملي، وعن “طريق الجهد لمعرفة العالم، وعبر التبادل الذي يقوم به الناس حول انطباعاتهم عن طريق اللغة، تبلغ المعرفة صعيدها المتقدّم، وتصبح واقعا اجتماعيا».
أبدى «ديورانت» إعجابه برسالة العميان، وقرّظها في كتابه الكبير «قصة الحضارة» بقوله «إن رسالة العميان من أعظم وأروع ما كتب في عصر الاستنارة في فرنسا. إنه كتاب جميل ساحر من حيث السرد والقصص، كما أنه يتميز بدقة الملاحظة والتبصّر البارع العطوف بوصفه بحثا في علم النفس، كما يتميز بخيال مثير بوصفه بحثا في الفلسفة».