بعد نهاية المقابلة الأولى التي أجراها المغرب، وتعادل فيها مع كرواتيا، وجدتني أستعيد حزيران (يونيو) 1986. كنت وقتها منشغلا بالبحث في تحليل الخطاب الروائي، وكانت تصلني أصداء المقابلة وأطوارها، من المقهى، فأتبين أجواء الفرحة الغامرة، وأنا منشغل عن متابعة المباراة. هذا هو الإحساس الذي كان يراودني، وأنا في سطح البيت أتابع مقابلات الفريق الوطني من خلال ما يتناهى إلى مسامعي من الصرخات المهولة، من المقاهي المجاورة، فأتبين من خلالها الفوز الذي يحققه المنتخب على نظرائه من الفرق التي تقابل معها، فأنزل إلى الطابق الأرضي كي لا تفوتني الفرحة بالتعادل، أو الإصابات المسجلة، أو نهاية ركلات الترجيح. فأشارك الأهل فرحتهم. وكلما خفت تلك الأصداء، أجدني متوجسا مما لا تحمد عقباه. لا أخفي أنني لا أستطيع مشاهدة الفريق الوطني في أي مقابلة حاسمة. لكن كل أحاسيسي تظل معلقة بالمباريات التي يلعبها.
خرجت من البيت بعد ركلات الترجيح الموفقة للفريق الوطني رغم أنني أتوجس منها، وجدت شارع عبد الكريم الخطابي غاصا بالمواطنين من كل الأعمار، والفئات. كان الكل في فرح لا نظير له بحيث لا يستطيع التعبير اللغوي نقله بالقياس إلى ما تفعله الصورة، وهي توثقه بالصوت الذي لا يمكن نقله مهما كانت دقة الوصف: كانت الزغاريد بكل الأصوات، وأبواق السيارات، والطبول تملأ الفضاءات الخاصة والساحات العامة. أوحت لي صورة الجماهير في عفويتها وفرحها اللامحدود، وهي تصرخ، وتغني، وترفع الراية المغربية، بالكثير من الملاحظات، وجعلتني أطرح الكثير من الأسئلة. كان كل من يلقاني، يحييني، تعلوه ابتسامة عريضة نفتقدها في الأيام العادية التي ترى فيها من يريد تجاوزك بسيارته يكشر في وجهك لأنك حلت بينه وبين السرعة التي كان يقود بها. وحتى نادل المقهى التي لم تنقل المباراة، بالأحضان، والضغط، يعانقني، وكأنه حقق حلما ظل يحمله منذ أزمان. إنه الفرح الشعبي العميق والصادق.
ذكرتني الحشود بمظاهر الاحتجاجات التي لم تكن تخلو منها ساحة البرلمان، في أي وقت، وهي ترفع مطالبها العادلة، ولكنها لم تكن في مستوى هذه الفرحة العارمة والعفوية. لم تدع إلى الخروج الشعبي الجماعي نقابة، ولا حزب، ولا مقدم أو شيخ. لم تساهم وسائل التواصل الاجتماعي في النفير إلى الخروج لإعلان الفرح. بل لم يتردد ملك البلاد، وأفراد من أسرته عن الخروج والانخراط وسط الجماهير وإعلان مشاركته فرحة الشعب. إنه الالتحام التاريخي بين العرش والشعب في كل ما يخص قضايا الوطن والمواطنين. وإن الحدث عظيم.
لا يمكننا إلا أن نتساءل لماذا كل هذه الزغاريد والأبواق بعد تأهل المغرب على حساب إسبانيا؟ لماذا لا نتحدث عن مباراة في كرة القدم بضمير الغائب العائد على المنتخب الذي يبذل أقصى ما في جهده لتحقيق التقدم على الفريق الخصم في لعبة؟ فنقول، مثلا: فاز المنتخب المغربي بضربات الترجيح على نظيره المنتخب الإسباني. ولماذا نستعمل ضمير المتكلم الجمعي الذي يتعدى الوطن إلى الأمة؟ ولماذا لا نتحدث عن الفوز، ونستعمل بدله النصر، وكأننا لا نعيش مباراة في كرة القدم، ولكن نشارك في معركة «حقيقية» بين دولتين، أو بين معسكرين؟ ولماذا نعتبر هذا الفوز، وتأهل المنتخب المغربي فخرا للأمة العربية جمعاء، وننظر في انتصار المغرب رفعا لرأس العرب وترى فيه كل الشعوب العربية، والإسلامية، وبعض الدول الأفريقية نصرا مؤزرا في محفل دولي؟
كرة القدم ليست مثل أي لعبة أخرى، سواء كان فردية أو جماعية؟ إنها لعبة شعبية وجماهيرية، ولا يمكن لأي فرد من أفراد أي مجتمع حديث ألا يكون قد مارسها في شطر من حياته. إن جماهيريتها وشعبيتها أكسبتها بعدا شموليا وكليا جعلها تختزل كل المجالات الحيوية في المجتمعات. فإذا بالفني والتقني، يتداخل فيها بما هو جمالي ولعبي، وبما هو سياسي واقتصادي واجتماعي. لذلك كانت ممارستها ذات طابع «وجودي»، ولا سيما حين تتخذ بعدا عالميا مثل «كأس العالم» الذي تتنافس للتأهل على خوض مبارياته كل الشعوب. ولما كانت كل مباريات التأهيل للنهائيات دائما من نصيب الدول الاستعمارية سابقا، أو المتطورة «كرويا»، مثل البرازيل والأرجنتين، كان تأهل فريق عربي، أو آسيوي، أو أفريقي للدور الثاني انزياحا على قاعدة «الهيمنة» التي تفرضها الدول الغربية. لذلك كنا نجد التضامن والمساندة من لدن الشعوب التي لم تكن قادرة على فرض وجودها في «المنافسة» مع الغرب المسيطر.
إن للشعوب ذاكراتها التي لا تنسى القديم ولا الحديث. وما استعمال ضمير المتكلم الجماعي، ومشاركة الفرح العفوي، والمساندة التي تتعدى العرق، والفروقات اللغوية والثقافية، وحتى المناوشات المجانية، والصراعات المفتعلة، إبان انتصار المغرب على إسبانيا، من لدن الشعوب المقهورة قاطبة، سوى تعبير عن لا شعور جمعي يؤكد إمكان ممارسة المغالبة، والانتصار على الخصم التاريخي العنيد، وكل ما خلفه من آثار سلبية مستدامة. وما استحضار التاريخ القديم، والحديث في الرسومات الكاريكاتورية، ومختلف الخطابات التي أنتجت في مختلف الوسائط، سوى تذكير بأن زمن الوصاية والهيمنة قابل لأن يتحقق ولو من خلال لعبة كروية، بل وإلى تأكيد أن ما يتحقق في مجال الكرة قابل لأن يتحقق في مستويات أخرى اقتصادية، وسياسية إذا ما تم تجاوز كل معيقات وإكراهات ممارسة المغالبة بوعي مختلف يتجاوز الذهنيات المنغلقة والمتخلفة.
كان الفرح العفوي، عربيا وأفريقيا، تعبيرا عن رفض تاريخ من المغالبة مع الغرب الذي فرض نفسه علينا منذ أكثر من قرنين من الزمان. وكان تعبيرا عن رفض أنظمة تسوم شعوبها الذل والهوان، وهي تتغنى بأمجاد وهمية، وتغسل أدمغة شعوبها بشعارات لا قيمة لها. وبعض من يستكثر على الشعوب فرحتها، هم من يفرقون بينها، ويزرعون العداوة، وينشرون الكراهية، بادعاءات إيديولوجية لا ترى الأمور إلا بمنظورات عدمية وطفولية.
إن ما يمكن استخلاصه من مونديال قطر 2022 يتجلى في خلاصتين اثنتين. الخلاصة الأولى: لقد أبان التنظيم للعالم أجمع أن دولة عربية قادرة على رفع التحدي، وتنظيم تظاهرة عالمية بمواصفات استثنائية، سواء على مستوى التنظيم، أو على مستوى خلق الأجواء الإنسانية الرائعة لمتابعة المباريات في مناخ طبيعي وصحي، من جهة. ومن جهة أخرى، أبانت للعالم الغربي خاصة أن قيمهم وثقافتهم مختلفة جذريا عن ثقافة وقيم الأمة العربية والإسلامية، وعليهم أن يمارسوا قيمهم في فضاءاتهم، ويحترموا قيم ومبادئ البلد المضيف كما يفعلون عندما يفرضون على غيرهم التقيد بأخلاقهم. لقد أبانت قطر على أنها بإرادتها، وقدرتها، وجرأتها أن تكون في مستوى يليق بأمة ذات تاريخ وأمجاد وتمارس الفرح العربي بامتياز.
أما الخلاصة الثانية فتبرز من خلال منجزات المنتخب الوطني المغربي. لقد أيقظ الحس العربي العميق والمشترك، والذي ساهم في تغييبه وطمسه كل من عملوا على نشر الطائفية، والعرقية، والظلم والعسف، وعلى تقسيم أوصال الوطن العربي، وإدامة الفرقة واستدامة العداوة بين الشعوب العربية، أن هذه الشعوب، وإن فرقتها الأنظمة الغاشمة تحمل حلما واحدا، يبدو في جسد واحد، يفرح لما يفرح له غيره. أما من يقولون إنهم: لا يفرحون لما يفرح له الأعداء فلا علاقة لهم بالشعب العربي، ولا بالفرح العربي الممكن، لأنهم سبب الحزن الشعبي العربي العميق.
د سعيد يقطين / المغرب
خرجت من البيت بعد ركلات الترجيح الموفقة للفريق الوطني رغم أنني أتوجس منها، وجدت شارع عبد الكريم الخطابي غاصا بالمواطنين من كل الأعمار، والفئات. كان الكل في فرح لا نظير له بحيث لا يستطيع التعبير اللغوي نقله بالقياس إلى ما تفعله الصورة، وهي توثقه بالصوت الذي لا يمكن نقله مهما كانت دقة الوصف: كانت الزغاريد بكل الأصوات، وأبواق السيارات، والطبول تملأ الفضاءات الخاصة والساحات العامة. أوحت لي صورة الجماهير في عفويتها وفرحها اللامحدود، وهي تصرخ، وتغني، وترفع الراية المغربية، بالكثير من الملاحظات، وجعلتني أطرح الكثير من الأسئلة. كان كل من يلقاني، يحييني، تعلوه ابتسامة عريضة نفتقدها في الأيام العادية التي ترى فيها من يريد تجاوزك بسيارته يكشر في وجهك لأنك حلت بينه وبين السرعة التي كان يقود بها. وحتى نادل المقهى التي لم تنقل المباراة، بالأحضان، والضغط، يعانقني، وكأنه حقق حلما ظل يحمله منذ أزمان. إنه الفرح الشعبي العميق والصادق.
ذكرتني الحشود بمظاهر الاحتجاجات التي لم تكن تخلو منها ساحة البرلمان، في أي وقت، وهي ترفع مطالبها العادلة، ولكنها لم تكن في مستوى هذه الفرحة العارمة والعفوية. لم تدع إلى الخروج الشعبي الجماعي نقابة، ولا حزب، ولا مقدم أو شيخ. لم تساهم وسائل التواصل الاجتماعي في النفير إلى الخروج لإعلان الفرح. بل لم يتردد ملك البلاد، وأفراد من أسرته عن الخروج والانخراط وسط الجماهير وإعلان مشاركته فرحة الشعب. إنه الالتحام التاريخي بين العرش والشعب في كل ما يخص قضايا الوطن والمواطنين. وإن الحدث عظيم.
لا يمكننا إلا أن نتساءل لماذا كل هذه الزغاريد والأبواق بعد تأهل المغرب على حساب إسبانيا؟ لماذا لا نتحدث عن مباراة في كرة القدم بضمير الغائب العائد على المنتخب الذي يبذل أقصى ما في جهده لتحقيق التقدم على الفريق الخصم في لعبة؟ فنقول، مثلا: فاز المنتخب المغربي بضربات الترجيح على نظيره المنتخب الإسباني. ولماذا نستعمل ضمير المتكلم الجمعي الذي يتعدى الوطن إلى الأمة؟ ولماذا لا نتحدث عن الفوز، ونستعمل بدله النصر، وكأننا لا نعيش مباراة في كرة القدم، ولكن نشارك في معركة «حقيقية» بين دولتين، أو بين معسكرين؟ ولماذا نعتبر هذا الفوز، وتأهل المنتخب المغربي فخرا للأمة العربية جمعاء، وننظر في انتصار المغرب رفعا لرأس العرب وترى فيه كل الشعوب العربية، والإسلامية، وبعض الدول الأفريقية نصرا مؤزرا في محفل دولي؟
كرة القدم ليست مثل أي لعبة أخرى، سواء كان فردية أو جماعية؟ إنها لعبة شعبية وجماهيرية، ولا يمكن لأي فرد من أفراد أي مجتمع حديث ألا يكون قد مارسها في شطر من حياته. إن جماهيريتها وشعبيتها أكسبتها بعدا شموليا وكليا جعلها تختزل كل المجالات الحيوية في المجتمعات. فإذا بالفني والتقني، يتداخل فيها بما هو جمالي ولعبي، وبما هو سياسي واقتصادي واجتماعي. لذلك كانت ممارستها ذات طابع «وجودي»، ولا سيما حين تتخذ بعدا عالميا مثل «كأس العالم» الذي تتنافس للتأهل على خوض مبارياته كل الشعوب. ولما كانت كل مباريات التأهيل للنهائيات دائما من نصيب الدول الاستعمارية سابقا، أو المتطورة «كرويا»، مثل البرازيل والأرجنتين، كان تأهل فريق عربي، أو آسيوي، أو أفريقي للدور الثاني انزياحا على قاعدة «الهيمنة» التي تفرضها الدول الغربية. لذلك كنا نجد التضامن والمساندة من لدن الشعوب التي لم تكن قادرة على فرض وجودها في «المنافسة» مع الغرب المسيطر.
إن للشعوب ذاكراتها التي لا تنسى القديم ولا الحديث. وما استعمال ضمير المتكلم الجماعي، ومشاركة الفرح العفوي، والمساندة التي تتعدى العرق، والفروقات اللغوية والثقافية، وحتى المناوشات المجانية، والصراعات المفتعلة، إبان انتصار المغرب على إسبانيا، من لدن الشعوب المقهورة قاطبة، سوى تعبير عن لا شعور جمعي يؤكد إمكان ممارسة المغالبة، والانتصار على الخصم التاريخي العنيد، وكل ما خلفه من آثار سلبية مستدامة. وما استحضار التاريخ القديم، والحديث في الرسومات الكاريكاتورية، ومختلف الخطابات التي أنتجت في مختلف الوسائط، سوى تذكير بأن زمن الوصاية والهيمنة قابل لأن يتحقق ولو من خلال لعبة كروية، بل وإلى تأكيد أن ما يتحقق في مجال الكرة قابل لأن يتحقق في مستويات أخرى اقتصادية، وسياسية إذا ما تم تجاوز كل معيقات وإكراهات ممارسة المغالبة بوعي مختلف يتجاوز الذهنيات المنغلقة والمتخلفة.
كان الفرح العفوي، عربيا وأفريقيا، تعبيرا عن رفض تاريخ من المغالبة مع الغرب الذي فرض نفسه علينا منذ أكثر من قرنين من الزمان. وكان تعبيرا عن رفض أنظمة تسوم شعوبها الذل والهوان، وهي تتغنى بأمجاد وهمية، وتغسل أدمغة شعوبها بشعارات لا قيمة لها. وبعض من يستكثر على الشعوب فرحتها، هم من يفرقون بينها، ويزرعون العداوة، وينشرون الكراهية، بادعاءات إيديولوجية لا ترى الأمور إلا بمنظورات عدمية وطفولية.
إن ما يمكن استخلاصه من مونديال قطر 2022 يتجلى في خلاصتين اثنتين. الخلاصة الأولى: لقد أبان التنظيم للعالم أجمع أن دولة عربية قادرة على رفع التحدي، وتنظيم تظاهرة عالمية بمواصفات استثنائية، سواء على مستوى التنظيم، أو على مستوى خلق الأجواء الإنسانية الرائعة لمتابعة المباريات في مناخ طبيعي وصحي، من جهة. ومن جهة أخرى، أبانت للعالم الغربي خاصة أن قيمهم وثقافتهم مختلفة جذريا عن ثقافة وقيم الأمة العربية والإسلامية، وعليهم أن يمارسوا قيمهم في فضاءاتهم، ويحترموا قيم ومبادئ البلد المضيف كما يفعلون عندما يفرضون على غيرهم التقيد بأخلاقهم. لقد أبانت قطر على أنها بإرادتها، وقدرتها، وجرأتها أن تكون في مستوى يليق بأمة ذات تاريخ وأمجاد وتمارس الفرح العربي بامتياز.
أما الخلاصة الثانية فتبرز من خلال منجزات المنتخب الوطني المغربي. لقد أيقظ الحس العربي العميق والمشترك، والذي ساهم في تغييبه وطمسه كل من عملوا على نشر الطائفية، والعرقية، والظلم والعسف، وعلى تقسيم أوصال الوطن العربي، وإدامة الفرقة واستدامة العداوة بين الشعوب العربية، أن هذه الشعوب، وإن فرقتها الأنظمة الغاشمة تحمل حلما واحدا، يبدو في جسد واحد، يفرح لما يفرح له غيره. أما من يقولون إنهم: لا يفرحون لما يفرح له الأعداء فلا علاقة لهم بالشعب العربي، ولا بالفرح العربي الممكن، لأنهم سبب الحزن الشعبي العربي العميق.
د سعيد يقطين / المغرب