توقف فجأةً عندما مرَّ قربَ دكّان البالة، فقد لفتَ انتباههُ ذلك الحذاءُ الجميل المُعلَّق بحبلٍ في مقدمةِ الدّكان، والذي في الحقيقة لم يكن جميلاً أبداً بل على العكس، كان كريهاً وبالياً كبقيةِ الأحذيةِ الموجودة، لكن بهاءَ الدين كان مُعدماً وفقيراً جداً، ولأنه لا يملك من المالِ إلاّ ما يكفي بالكادِ قوتَ يومه، فمن الاستحالةِ إذن أن يشتري واحداً جديداً، لذلك زرعَ فكرةً في رأسهِ بأن هذا الحذاءَ هو أأنقُ وأجملُ حذاءٍ قد وقعت عليهِ عيناهُ يوماً، اقتربَ من صاحبِ الدُّكان وقلبهُ يزدادُ خفقاناً مع كلِّ خطوة، كان خائفاً من أن يكون ثمنهُ أكثر ممّا هو موجودٌ من مالٍ في جيبه، سألَ صاحبَ الدُّكان بارتباكٍ واضح:
- بكم هذا الحذاء؟
- بثلاثةِ آلافِ دينار، لكن إن كنتَ تنوي الشراءَ حقاً فسأبيعكَ إيّاهُ بألفين ونصف.
لم يكد يصدّقُ ما سمعتهُ أذناه توّاً، وشعرَ بفرحٍ كبيرٍ يجتاحه، بدأتْْ قدماهُ تَحُكّانهِ بشدة، وكأنّ جورباهُ يريدان التخلُّصَ من عفونةِ الحذاءِ القديم، أخرجَ كلَّ نقودهِ سريعاً من دون أن يعدَّها وأعطاها للبائع:
- شكراً لك.
- مبروكٌ عليك، فقد وصلني توّاً وأنتَ أولُ من يراه.
أفرحتهُ كثيراً الكلماتُ الأخيرةُ للبائع، وأشعرتهُ للحظاتٍ بأنهُ مثل الناس لن أقول الأغنياءَ منهم، لكن من ذوي الإمكانيةِ العادية، الذين يستطيعون شراءَ أشياءَ أخرى غيرِ الطعام، بين فترات متفاوتة.
حَمَلَ حذائهُ الجديدَ بكلتا يديهِ وحثَّ خُطاهُ سريعاً مبتعداً عن البائع لئلاّ يرجِعَ عن بيعه، فالحذاءُ في اعتقادهِ يساوي مبلغاً أكبرَ ممّا اشتراهُ بكثير. وصلَ بيتهُ وكان منهوكَ القوى، ولكن لشدةِ فرحهِ بالحذاءِ الجديد(القديم حقيقةً)، قرّرَ أن يُنظِّفهُ أولاً حتى يكون مهيّئاً لاحتذائهِ غداٌ.
احضرَ قِطعةَ قماشٍ قديمةٍ وبلّلها بقليلٍ من الماء، ثم جَلَسَ ووضعَ يدهُ داخلَ الحذاء، وفي أولِ مسحةٍ أخذَ الحذاءُ يتزلزلُ في يدهِ، ومن شدّةِ هلَعِهِ رماهُ بعيداً عنهُ وهو لا يزالُ يتأرجح، وسقطَ مُرتمياً على الأرضِ كأنه يُريدُ أن يحتمي بأوساخها، بدأ دُخانٌ ذو رائحةٍ كريهةٍ كرائحةِ الحذاءِ النتنِ، التي كانت بالنسبةِ لهُ أطيبَ من رائحةِ الياسمين، تعلو من الحذاءِ وتَتَشكَّلُ على شكلِ جوربٍ كبير، كان شكلُ الجوربِ مضحكاً ومخيفاً في آنٍ واحد، فكَّرَ في البدايةِ في أنهُ قد يكون عفريتاً! لكنهُ تذكّرَ سريعاً بأن العفريتَ في المصباحِ وليس في الحذاء.
- شبيك لبيك، أطلبْ وتمنى خادمكَ بين يديك.
هكذا بادرَ العفريتُ الجوربُ بالقول، الّلكنةُ الغريبةُ في لهجةِ العفريتِ الجورب، أوحت لهُ بأنهُ قد لا يكون من هذه البلاد، تسلّلَ الخوفُ إلى كلِّ أنحاءِ جسمهِ، لكنه ما لبثَ أن تمالك نفسه، فها هي فرصةُ العمرِ الذهبية، التي ستخرجهُ من هذا الفقرِ والتشرّدِ اللذان يعيشهما، تساؤلاتٌ كثيرةٌ اشتبكتْ في ذهنهِ لوهلة، مسحَ أنفهُ بِكَمِّ مِعطفهِ المُمزّق، خاطبَ العفريتَ وأسنانهُ تَصطَكُّ ببعضها من الخوف:
- من أين أنت أيها الـ......؟.
لم يعرف بِمَ يُسمّيهِ ولذلك قرّرَ أن يسكتْ.
- أنا من بلادِ الواق واق.
فعدَّلَ من جلستهِ وقالَ مُتعَجّباً:
- بلادُ الواق واق!!! لم أسمَعْ بها من قبل، لكن قُل لي، من الذي سَجَنكَ بهذا الحذاء؟
- قصتي طويلة وعجيبة، منذُ زمنٍ لمْ أعُدْ حتى أستطيعُ أن أقدِّرَه، بدأ البشرُ حرباً في بلادي لم يحدُثْ مثلها في التاريخ، حتى وَصَلَتْ دمائُهم إلى منازلنا تحتَ الأرض، وطالَ الأمرُ كثيراً، خفنا من أن نُرْغَمَ على الدخولِ فيها، فقرّرْنا الهروبَ من هناك إلى مكانٍ نأمنُ فيهِ على أنفسنا.
خرجنا جميعاً تاركينَ بلادنا مُكرهين، كانتِ الفوضى كبيرةً جداً فوقنا، فأصابنا الهَلَع ممّا رأينا وتاهَ بعضُنا عن بعض، كلُّ واحدٍ منّا هَرَبَ إلى مكانٍ يتوارى فيهِ من الرصاصِ والشظايا، رأيتُ الكثيرين من أهلي وأقربائي يموتون أمامي، فرميتُ نفسي بهذا الحذاءِ النّتن، بعد أن أخرجت إحدى السيقانِ المقطوعةِ منه، وهكذا استطعتُ أن أنجوَ بنفسي من الموت، لكني أصبحتُ أسيرَ الحذاء.
بهاءُ الدينِ كان يُصغي بانتباهٍ وصمتٍ إلى حكايةِ العفريتِ الجوربْ، سألَ بصوتٍ خفيض:
- يا لها من قصةٍ عجيبة، ولكن ما الذي حلَّ ببلادِكم؟ وكيف وصلَ الحذاءُ إلى هنا؟
- لا أعرفُ شيئاً عن بلادي، أتذكّرُ فقط أنهُ قبلَ دخولي الحذاءْ، حدَثَتْ هزَّةٌ أرضيةٌ هائلة, وبدأت الأرضُ تَتَشقّقُ مبتلعةً الكثيرَ ممّا على سطحها، أمّا كيفَ وصلتُ إلى هنا، فلا أعرفْ، ولكني أشكُرُكَ لأنك حرّرْتني من أسري.
صَمَتَ العفريتُ وهو يَتَفرَّسُ وجهَ بهاءَ الدين بعناية، قالَ مُحدّثاً نفسهُ (إن هذا الإنسيَّ يبدو غبيّاً جداً، سوف يرهقني ويُزعجني إذا ما لم أستطعْ التخلُّصَ منهُ سريعاً)، قرّرَ أن يقومَ بخدعةٍ صغيرة وأن لا يُخبرهُ بأنهُ سيكون مملوكاً لهُ إلى الأبدْ أو حتى يشاءَ هو أن يُحرِّره.
فكَّرَ العفريتُ الجوربُ مع نفسهِ قليلاً، ثمَّ قالَ له:
- وبما أنك حرّرْتني من الحذاء، فلكَ عندي ثلاثُ أمنيات، سألبّيها لكَ أيّاً كانت، عندما أنتهي، عليك أن تُعفيني من خدمتك، حاذِر في اختيارِ أمنياتك، وابدأ إذا شئتَ الآن.
سَكَتَ بهاءُ الدين وراحَ يَذرَعُ غرفتهُ الصغيرةَ جيئةً وذهاباً، يتأملُ ما يمكن أن يطلبه.
لم يَخطُرْ في بالهِ يوماً أن تُلبّى رغباتهُ وأمنياتهُ هكذا، دون أيِّ عناء، بل إنهُ لم يتمنَّ شيئاً أبداً، حتى في قرارةِ نفسه. فجأةً خطرَتْ في بالهِ فكرةٌ بلهاء، ماذا يمكنهُ أن يطلبَ أفضلَ من الخلود؟ فإذا ما هوَ مَلَكَ كلَّ شيءٍ على وجهِ الأرض من مالٍ وجاهٍ وسلطة، فإنهُ لابُدَّ أنْ يموتَ يوماً، عندئذٍ لن يَنفَعَهُ أيُّ شيء.
- أريدكَ أن تجعلني خالداً، أي، أن لا أموتَ أبداً.
ضَحكَ العفريتُ الجورب وقالَ متأكداً من سذاجةِ بهاء الدين:
- هل أنتَ أحمق؟ اطلبْ شيئاً آخرَ أيُّها الإنسي، فهذا الذي طَلَبْتَهُ لا أستطيعُ فِعْلَهُ لنفسي فكيف أفعلهُ لك؟
- لمَ لا تستطيعْ؟ أها، لقد نسيتْ، أنتَ لستَ عفريتاً، ما أنتَ إلاّ جوربٌ عاديٌّ آخر، ماذا تَتَوقّعُ مني أن أطلُبَ منكَ أهمَّ من هذا؟ هلْ تَتوقّعُ مثلاً أيُّها الجورب أن أطلُبَ منكَ شَريطَ حذاءٍ مثلاً؟
غَضَبَ العفريتُ الجوربُ وفاحتْ منهُ رائحةٌ كريهة جداً، اضطَرَّ بهاءُ الدينِ إلى وَضْعِ جوربهِ على أنفه.
- أنا لستُ جورباً، أنا عفريتٌ حقيقي، لكن الحربَ التي نَشَبتْ بين البشرِ الحمقى من أمثالك، أدَّتْ إلى مكوثي في هذا الحذاءِ لفترةٍ طويلة، فتحولتُ إلى هذا الشّكْلِ البغيضِ وذلك حَسَبَ نظريّةٍ فيزيائيةٍ لا يفهمها أمثالك، على كُلِّ حال، يبدو لي أنك لا تَعْرُِف ما تريدهُ أصلاً، لذلك خَطَرَ في بالك أن تَطْلُبَ الشيءَ الوحيدَ المستحيلَ عَلَيّ، سأساعِدُكَ قليلاً بإطلاعِكَ على سِرٍّ مُهمٍ لا يعرِفُهُ أحدٌ من جنسك، علَّكَ تُفكِّرُ جيداً في طلباتك، بمعنى آخر أن تطلب أشياءً تُفيدك في المستقبل، ولكن بالمُقابل عليكَ أن تطلُبَ أمنياتِكَ الثلاثَ بسرعة.
أثارتْ أقوالُ العفريتِ الجورب فضولَ بهاءَ الدين، فقالَ من دون حتى أن يُفكر:
- أنا موافق، فما هو سُرِّك؟
- إن الأيامَ القادمةَ تَحْمِلُ لكم مصيراً أدهى وأمرَّ ممّا حَصَلَ لنا، الخطرُ قادمٌ إليكُم من مكانٍ بعيد، قد يكونُ المرّيخيّونَ هم من يستعدّون لِغَزوِكُم هذهِ المرّة، عليك أن تَثِقَ بي، هل تُصَدِّقُ ما أقوله لك أم لا؟
سَكَتَ بهاءُ الدين مُطرِقاً رأسهُ وهو يُفَكِّرُ بما يسمعه، المريخيّون؟ لابُدَّ أنهُ يَقصِدُ التهديدَ الذي وَصَلَ المريخيّين من المَجرّةِ الأخرى، أجل، هذا هو ما يعنيه، لأن المريخيّين قد غَزَوا بلادنا منذُ أمدٍ بعيد، لكنه لم يكن يريدُ أن يُثير النقاشَ طويلاً، فهذا ليسَ وقتاً ملائماً لذلك:
- أصدقك، ولكن ما العمل الآن؟ لقد أخفتني حقاً.
- فَكِّر كيفَ يُمكنك أن تُنقِذَ نفسك، وانتهزْ فرصةَ وجودي معك.
راحَ يدورُ في أرجاءِ الغُرفةِ وهو يُفَكِّرُ بما أطلعَهُ عليهِ العفريتُ الجورب، ثم قالَ له:
- حسناً، بما أن الأمورَ ستؤولُ إلى ذلك الوضعِ السيئ.
ثم سَكَتَ ثانيةً وعادَ إلى التفكير، كأنه تراجعَ عن القرارِ الذي اتخذَه، فَرِحَ العفريتُ الجوربُ باقتناعِ بهاءِ الدين، سوف يتحرّرُ من ملكيةِ هذا الأحمقِ قريباً، بعد أن يُلبّي لهُ أمنياتهِ الثلاث، أمّا بهاء وبعدَ كلِّ هذا، لازال فَرِحاً بحذائه، لذلك قرّرَ أن لا يتخلّى عنه، لَمَعَتْ فكرةٌ في رأسهِ بأن هذا الحذاءَ قادرٌ على حمايتهِ إذا ما صدَقَ العفريتُ في حكايةِ الحربِ القادمةِ كما حمى العفريتَ نفسه.
- أولُ أمنيةٍ لي، أن تُدخِلَني جوفَ هذا الحذاء.
فَرِحَ العفريتُ الجورَب، وقالَ مع نفسهِ بأن هذا فعلاً أغبى إنسيّ قد قابلهُ يوماً.
- هذا أمرٌ بسيط، ولكن عليكَ أن تطلُبَ الطلبين الآخرين، حتى أستطيعَ أن أنَـفّـذَها لك قبلَ دخولك، أطلبِ الثاني.
- سوف تُلبّي أيَّ شيءٍ كما وعدتني، أليس كذلك؟
- طبعاً، فما دُمْتُ في خدمتك فلكَ أن تأمرني بأيِّ شيء.
- أمنيتي الثانية أن تُخفي الحذاءَ في قاعِ المحيط، حتى لا يَجِدَنا المريخيَون (كما أسمَيتَهُم أنت) ويقتلونا.
- بَقِيَتْ لك أمنيةٌ واحدة.
فقالَ بهاءٌ بنبرةٍ لا تخلو من سخريةٍ وخبثٍ ظاهرين:
- الثالثة أن تَدْخُلَ معي إلى جوفِ الحذاء، كي نتسلّى مع بعضنا ولا أكون وحيداً.
صُدِمَ العفريتُ الجورب، تَمْتَمَ بكلماتٍ غيرِ مفهومةٍ من هولِ ما سَمِع:
- ولكن.. هذا..
لم يستطعْ العفريتُ أن يرفُضَ الامتثالَ لأوامرِ سيّدِهِ طبعاً، ودخلا الحذاءَ لتنقطِعَ أخبارُهم عنّا، الغريبُ في الأمر، أن ما تنبأ بهِ العفريتُ الجورب قد تحقَّق، عدا أن الغزاةََ الجُدُد، كانوا أفضلَ من اسبقيهم المريخيّين، لأنهم لم يقتلوا أحداً، بل اكتفوا بِطرْدِ المريخيّين من الكوكب، ولا أعلمُ أيضاً هل أن صَديقنا الإنسيّ على علمٍ بهذا أم لا؟!!!..
عمار يحيى/ الموصل
- بكم هذا الحذاء؟
- بثلاثةِ آلافِ دينار، لكن إن كنتَ تنوي الشراءَ حقاً فسأبيعكَ إيّاهُ بألفين ونصف.
لم يكد يصدّقُ ما سمعتهُ أذناه توّاً، وشعرَ بفرحٍ كبيرٍ يجتاحه، بدأتْْ قدماهُ تَحُكّانهِ بشدة، وكأنّ جورباهُ يريدان التخلُّصَ من عفونةِ الحذاءِ القديم، أخرجَ كلَّ نقودهِ سريعاً من دون أن يعدَّها وأعطاها للبائع:
- شكراً لك.
- مبروكٌ عليك، فقد وصلني توّاً وأنتَ أولُ من يراه.
أفرحتهُ كثيراً الكلماتُ الأخيرةُ للبائع، وأشعرتهُ للحظاتٍ بأنهُ مثل الناس لن أقول الأغنياءَ منهم، لكن من ذوي الإمكانيةِ العادية، الذين يستطيعون شراءَ أشياءَ أخرى غيرِ الطعام، بين فترات متفاوتة.
حَمَلَ حذائهُ الجديدَ بكلتا يديهِ وحثَّ خُطاهُ سريعاً مبتعداً عن البائع لئلاّ يرجِعَ عن بيعه، فالحذاءُ في اعتقادهِ يساوي مبلغاً أكبرَ ممّا اشتراهُ بكثير. وصلَ بيتهُ وكان منهوكَ القوى، ولكن لشدةِ فرحهِ بالحذاءِ الجديد(القديم حقيقةً)، قرّرَ أن يُنظِّفهُ أولاً حتى يكون مهيّئاً لاحتذائهِ غداٌ.
احضرَ قِطعةَ قماشٍ قديمةٍ وبلّلها بقليلٍ من الماء، ثم جَلَسَ ووضعَ يدهُ داخلَ الحذاء، وفي أولِ مسحةٍ أخذَ الحذاءُ يتزلزلُ في يدهِ، ومن شدّةِ هلَعِهِ رماهُ بعيداً عنهُ وهو لا يزالُ يتأرجح، وسقطَ مُرتمياً على الأرضِ كأنه يُريدُ أن يحتمي بأوساخها، بدأ دُخانٌ ذو رائحةٍ كريهةٍ كرائحةِ الحذاءِ النتنِ، التي كانت بالنسبةِ لهُ أطيبَ من رائحةِ الياسمين، تعلو من الحذاءِ وتَتَشكَّلُ على شكلِ جوربٍ كبير، كان شكلُ الجوربِ مضحكاً ومخيفاً في آنٍ واحد، فكَّرَ في البدايةِ في أنهُ قد يكون عفريتاً! لكنهُ تذكّرَ سريعاً بأن العفريتَ في المصباحِ وليس في الحذاء.
- شبيك لبيك، أطلبْ وتمنى خادمكَ بين يديك.
هكذا بادرَ العفريتُ الجوربُ بالقول، الّلكنةُ الغريبةُ في لهجةِ العفريتِ الجورب، أوحت لهُ بأنهُ قد لا يكون من هذه البلاد، تسلّلَ الخوفُ إلى كلِّ أنحاءِ جسمهِ، لكنه ما لبثَ أن تمالك نفسه، فها هي فرصةُ العمرِ الذهبية، التي ستخرجهُ من هذا الفقرِ والتشرّدِ اللذان يعيشهما، تساؤلاتٌ كثيرةٌ اشتبكتْ في ذهنهِ لوهلة، مسحَ أنفهُ بِكَمِّ مِعطفهِ المُمزّق، خاطبَ العفريتَ وأسنانهُ تَصطَكُّ ببعضها من الخوف:
- من أين أنت أيها الـ......؟.
لم يعرف بِمَ يُسمّيهِ ولذلك قرّرَ أن يسكتْ.
- أنا من بلادِ الواق واق.
فعدَّلَ من جلستهِ وقالَ مُتعَجّباً:
- بلادُ الواق واق!!! لم أسمَعْ بها من قبل، لكن قُل لي، من الذي سَجَنكَ بهذا الحذاء؟
- قصتي طويلة وعجيبة، منذُ زمنٍ لمْ أعُدْ حتى أستطيعُ أن أقدِّرَه، بدأ البشرُ حرباً في بلادي لم يحدُثْ مثلها في التاريخ، حتى وَصَلَتْ دمائُهم إلى منازلنا تحتَ الأرض، وطالَ الأمرُ كثيراً، خفنا من أن نُرْغَمَ على الدخولِ فيها، فقرّرْنا الهروبَ من هناك إلى مكانٍ نأمنُ فيهِ على أنفسنا.
خرجنا جميعاً تاركينَ بلادنا مُكرهين، كانتِ الفوضى كبيرةً جداً فوقنا، فأصابنا الهَلَع ممّا رأينا وتاهَ بعضُنا عن بعض، كلُّ واحدٍ منّا هَرَبَ إلى مكانٍ يتوارى فيهِ من الرصاصِ والشظايا، رأيتُ الكثيرين من أهلي وأقربائي يموتون أمامي، فرميتُ نفسي بهذا الحذاءِ النّتن، بعد أن أخرجت إحدى السيقانِ المقطوعةِ منه، وهكذا استطعتُ أن أنجوَ بنفسي من الموت، لكني أصبحتُ أسيرَ الحذاء.
بهاءُ الدينِ كان يُصغي بانتباهٍ وصمتٍ إلى حكايةِ العفريتِ الجوربْ، سألَ بصوتٍ خفيض:
- يا لها من قصةٍ عجيبة، ولكن ما الذي حلَّ ببلادِكم؟ وكيف وصلَ الحذاءُ إلى هنا؟
- لا أعرفُ شيئاً عن بلادي، أتذكّرُ فقط أنهُ قبلَ دخولي الحذاءْ، حدَثَتْ هزَّةٌ أرضيةٌ هائلة, وبدأت الأرضُ تَتَشقّقُ مبتلعةً الكثيرَ ممّا على سطحها، أمّا كيفَ وصلتُ إلى هنا، فلا أعرفْ، ولكني أشكُرُكَ لأنك حرّرْتني من أسري.
صَمَتَ العفريتُ وهو يَتَفرَّسُ وجهَ بهاءَ الدين بعناية، قالَ مُحدّثاً نفسهُ (إن هذا الإنسيَّ يبدو غبيّاً جداً، سوف يرهقني ويُزعجني إذا ما لم أستطعْ التخلُّصَ منهُ سريعاً)، قرّرَ أن يقومَ بخدعةٍ صغيرة وأن لا يُخبرهُ بأنهُ سيكون مملوكاً لهُ إلى الأبدْ أو حتى يشاءَ هو أن يُحرِّره.
فكَّرَ العفريتُ الجوربُ مع نفسهِ قليلاً، ثمَّ قالَ له:
- وبما أنك حرّرْتني من الحذاء، فلكَ عندي ثلاثُ أمنيات، سألبّيها لكَ أيّاً كانت، عندما أنتهي، عليك أن تُعفيني من خدمتك، حاذِر في اختيارِ أمنياتك، وابدأ إذا شئتَ الآن.
سَكَتَ بهاءُ الدين وراحَ يَذرَعُ غرفتهُ الصغيرةَ جيئةً وذهاباً، يتأملُ ما يمكن أن يطلبه.
لم يَخطُرْ في بالهِ يوماً أن تُلبّى رغباتهُ وأمنياتهُ هكذا، دون أيِّ عناء، بل إنهُ لم يتمنَّ شيئاً أبداً، حتى في قرارةِ نفسه. فجأةً خطرَتْ في بالهِ فكرةٌ بلهاء، ماذا يمكنهُ أن يطلبَ أفضلَ من الخلود؟ فإذا ما هوَ مَلَكَ كلَّ شيءٍ على وجهِ الأرض من مالٍ وجاهٍ وسلطة، فإنهُ لابُدَّ أنْ يموتَ يوماً، عندئذٍ لن يَنفَعَهُ أيُّ شيء.
- أريدكَ أن تجعلني خالداً، أي، أن لا أموتَ أبداً.
ضَحكَ العفريتُ الجورب وقالَ متأكداً من سذاجةِ بهاء الدين:
- هل أنتَ أحمق؟ اطلبْ شيئاً آخرَ أيُّها الإنسي، فهذا الذي طَلَبْتَهُ لا أستطيعُ فِعْلَهُ لنفسي فكيف أفعلهُ لك؟
- لمَ لا تستطيعْ؟ أها، لقد نسيتْ، أنتَ لستَ عفريتاً، ما أنتَ إلاّ جوربٌ عاديٌّ آخر، ماذا تَتَوقّعُ مني أن أطلُبَ منكَ أهمَّ من هذا؟ هلْ تَتوقّعُ مثلاً أيُّها الجورب أن أطلُبَ منكَ شَريطَ حذاءٍ مثلاً؟
غَضَبَ العفريتُ الجوربُ وفاحتْ منهُ رائحةٌ كريهة جداً، اضطَرَّ بهاءُ الدينِ إلى وَضْعِ جوربهِ على أنفه.
- أنا لستُ جورباً، أنا عفريتٌ حقيقي، لكن الحربَ التي نَشَبتْ بين البشرِ الحمقى من أمثالك، أدَّتْ إلى مكوثي في هذا الحذاءِ لفترةٍ طويلة، فتحولتُ إلى هذا الشّكْلِ البغيضِ وذلك حَسَبَ نظريّةٍ فيزيائيةٍ لا يفهمها أمثالك، على كُلِّ حال، يبدو لي أنك لا تَعْرُِف ما تريدهُ أصلاً، لذلك خَطَرَ في بالك أن تَطْلُبَ الشيءَ الوحيدَ المستحيلَ عَلَيّ، سأساعِدُكَ قليلاً بإطلاعِكَ على سِرٍّ مُهمٍ لا يعرِفُهُ أحدٌ من جنسك، علَّكَ تُفكِّرُ جيداً في طلباتك، بمعنى آخر أن تطلب أشياءً تُفيدك في المستقبل، ولكن بالمُقابل عليكَ أن تطلُبَ أمنياتِكَ الثلاثَ بسرعة.
أثارتْ أقوالُ العفريتِ الجورب فضولَ بهاءَ الدين، فقالَ من دون حتى أن يُفكر:
- أنا موافق، فما هو سُرِّك؟
- إن الأيامَ القادمةَ تَحْمِلُ لكم مصيراً أدهى وأمرَّ ممّا حَصَلَ لنا، الخطرُ قادمٌ إليكُم من مكانٍ بعيد، قد يكونُ المرّيخيّونَ هم من يستعدّون لِغَزوِكُم هذهِ المرّة، عليك أن تَثِقَ بي، هل تُصَدِّقُ ما أقوله لك أم لا؟
سَكَتَ بهاءُ الدين مُطرِقاً رأسهُ وهو يُفَكِّرُ بما يسمعه، المريخيّون؟ لابُدَّ أنهُ يَقصِدُ التهديدَ الذي وَصَلَ المريخيّين من المَجرّةِ الأخرى، أجل، هذا هو ما يعنيه، لأن المريخيّين قد غَزَوا بلادنا منذُ أمدٍ بعيد، لكنه لم يكن يريدُ أن يُثير النقاشَ طويلاً، فهذا ليسَ وقتاً ملائماً لذلك:
- أصدقك، ولكن ما العمل الآن؟ لقد أخفتني حقاً.
- فَكِّر كيفَ يُمكنك أن تُنقِذَ نفسك، وانتهزْ فرصةَ وجودي معك.
راحَ يدورُ في أرجاءِ الغُرفةِ وهو يُفَكِّرُ بما أطلعَهُ عليهِ العفريتُ الجورب، ثم قالَ له:
- حسناً، بما أن الأمورَ ستؤولُ إلى ذلك الوضعِ السيئ.
ثم سَكَتَ ثانيةً وعادَ إلى التفكير، كأنه تراجعَ عن القرارِ الذي اتخذَه، فَرِحَ العفريتُ الجوربُ باقتناعِ بهاءِ الدين، سوف يتحرّرُ من ملكيةِ هذا الأحمقِ قريباً، بعد أن يُلبّي لهُ أمنياتهِ الثلاث، أمّا بهاء وبعدَ كلِّ هذا، لازال فَرِحاً بحذائه، لذلك قرّرَ أن لا يتخلّى عنه، لَمَعَتْ فكرةٌ في رأسهِ بأن هذا الحذاءَ قادرٌ على حمايتهِ إذا ما صدَقَ العفريتُ في حكايةِ الحربِ القادمةِ كما حمى العفريتَ نفسه.
- أولُ أمنيةٍ لي، أن تُدخِلَني جوفَ هذا الحذاء.
فَرِحَ العفريتُ الجورَب، وقالَ مع نفسهِ بأن هذا فعلاً أغبى إنسيّ قد قابلهُ يوماً.
- هذا أمرٌ بسيط، ولكن عليكَ أن تطلُبَ الطلبين الآخرين، حتى أستطيعَ أن أنَـفّـذَها لك قبلَ دخولك، أطلبِ الثاني.
- سوف تُلبّي أيَّ شيءٍ كما وعدتني، أليس كذلك؟
- طبعاً، فما دُمْتُ في خدمتك فلكَ أن تأمرني بأيِّ شيء.
- أمنيتي الثانية أن تُخفي الحذاءَ في قاعِ المحيط، حتى لا يَجِدَنا المريخيَون (كما أسمَيتَهُم أنت) ويقتلونا.
- بَقِيَتْ لك أمنيةٌ واحدة.
فقالَ بهاءٌ بنبرةٍ لا تخلو من سخريةٍ وخبثٍ ظاهرين:
- الثالثة أن تَدْخُلَ معي إلى جوفِ الحذاء، كي نتسلّى مع بعضنا ولا أكون وحيداً.
صُدِمَ العفريتُ الجورب، تَمْتَمَ بكلماتٍ غيرِ مفهومةٍ من هولِ ما سَمِع:
- ولكن.. هذا..
لم يستطعْ العفريتُ أن يرفُضَ الامتثالَ لأوامرِ سيّدِهِ طبعاً، ودخلا الحذاءَ لتنقطِعَ أخبارُهم عنّا، الغريبُ في الأمر، أن ما تنبأ بهِ العفريتُ الجورب قد تحقَّق، عدا أن الغزاةََ الجُدُد، كانوا أفضلَ من اسبقيهم المريخيّين، لأنهم لم يقتلوا أحداً، بل اكتفوا بِطرْدِ المريخيّين من الكوكب، ولا أعلمُ أيضاً هل أن صَديقنا الإنسيّ على علمٍ بهذا أم لا؟!!!..
عمار يحيى/ الموصل